الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المكان الذي تنتظر فيه الشياطين -عليّ السوريّ- الجزء الثاني 11

لمى محمد
كاتبة، طبيبة نفسية أخصائية طب نفسي جسدي-طب نفسي تجميلي، ناشطة حقوق إنسان

(Lama Muhammad)

2019 / 1 / 19
الادب والفن


خرج عمّار و هو لا يعرف إلى أين يذهب.. قلبه يبكي فيما يصرّ على منع عينيه من البكاء.. الناس في الطرقات الغريبة مسرعون جداً، و هو مازال يجرّ عربة قلبه جراً...

شخصه الطبيب بالاكتئاب.. ضحك ببلاهة: يعني أنا مجنون..
قال الطبيب: هذا كلام قديم، الاكتئاب سببه نقص السيروتونين...
-السيرو؟ ما قلت.. ؟ هل تعني أنه يجب عليّ المسير؟
-الطبيب ابتسم، بينما عمّار من يومها و هو يمشي.. قطع المدينة كلها :
مرّ بدكان السمّان أبو مازن، أدار وجهه حتى لا يسلّم عليه، سمع صوته.. أستاذ عمّار كل عام و أنت ( تذكرنا)...
حساب أبو مازن خمسون ألفاً.. هل تعرفون ما معنى الخمسين ألف؟
-خمسون ألف غصة في اللقمة و قد غمسها الذل...

مرّ بمنزل سعاد، و سعاد التي كررت قصص ( الولايا) و الحريم و تركته من أجل صديق حميم.. غادرت المنزل، على أطلالها سكنت بهيّة الراقصة التي رمت له بخلخالها مع رسالة حمراء.. المهم هو لم يدنس المكان.. هذا ما قاله لنفسه...
مرّ بسيارة مديره، و رآه فيها يقبّل إحدى الموظفات.. لم تكن السكرتيرة-قال في نفسه- بعض الناس لا يقبّلون السكرتيرة!

وصل إلى منعطف طريق، و فيه شاهد على إحدى الجهات جسراً موحياً بفكرة دميمة تدور في خاطره منذ زمن، فكرة بشعة بشعة.. كافرة..مجرمة و قاتلة لمن حوله.. فكرة مهزومة وسامّة.. أجل فكر بالانتحار…
قال في نفسه: لمَ لا؟
ثمّ قرر أن يأخذ الجهة الثانية ليفكر في الأمر أكثر…
بدأت خطواته تتسارع في الجهة المعاكسة، يسأل نفسه: لماذا وجودي في هذي الحياة؟ كيف أتأقلم، لماذا تركتني تلك، لماذا غدرني ذاك.. لماذا فشلت.. لماذا لحقني الفشل كظلّ مصباح كهربائي استخدم في التعذيب.. لماذا لم تحبني هبة و داست قلبي عببر..

عزم أنه ما من حلّ آخر.. الجسر الأبيض معلقٌ في ذاكرته كوطن الآن.. قدماه تستعدان للعودة إليه.. فيما يد صغيرة تسحبه من معطفه البنيّ..
-أريد ماما…
طفلة في الرابعة من عمرها، وجهها أسمر عراقي أصيل يختلط عسل جماله بعسل العينين البريئتين الخائفتين.. ملابسها قديمة لكنها نظيفة…
-أين أمك يا صغيرة؟
-في البيت.. ثم بدأت بالبكاء…

حمل عمّار الطفلة : - لا تخافي أيتها الصغيرة، سنجد ماما اليوم…
************


عندما قالوا ل “ علي” أن المناطق كلها (تعفشت) لم يعرف ماذا يعني هذا، كان في قلبه قليل الأمل حول غد لا يخنق الحقد مستقبل أطفاله..
لكن بعد ما حدث من سرقة بيوت (تعفيش) من قبل المحسوبين على الموالاة و خطف سبايا (غنائم حرب) من قبل المحسوبين على المعارضة.. لم يعد من مجال للشك بأن البلد فتحت باب جهنم الأرضيّة…
جهنم هذه لا تشبه النار في شيء.. بل تقتلك دون أن تمسَّك: تقتل مستقبل أطفالك، تقتل أمان أحلامك.. تقتل قدرتك و جارك على مشاركة الوجع، و من لا تشارك معه الوجع يصبح في أحسن الأحوال عدوّاً.

كانت سوريا بالنسبة ل “ علي” أمه و أبوه، كتب لي في ذلك اليوم:
“ الوطن أغلى في قلب اليتامى، لذلك نقبر أحبتنا في أرضه.. أحس أنني يتيم جداً و بلا وطن” .
-متى ترجع؟
-حتى أُحضر ياسمين.. المسكينة تنتقل بين بيت و آخر، لم يبقَ لها أحد..
-ومتى تحضرها؟
-حتى أدخل حدود إمارة “ أبو ثعلبة التغلبي” …
-تمزح بالاسم ها؟
-لا هذا اسمه، أصله أردني، لكن قرر الجهاد من هنا و تخليص الأمة الإسلاميّة…
-إذاً تمزح في محاولتك دخول إمارته..ها..
-لا لا أمزح أربي لحيتي و قريباً سأظهر لك “ أبو قهّار الأدلبي” …
-ماهذا الاسم، بالله تتكم جد؟
-طبعاً و هل تتخيلين أن أدخل باسم نيتشه أو حتى علي؟
-لا أريدك أن تدخل الإمارة أبداً، هل تعرف ماذا يعني أن يمسكوك؟
-ههه.. لا أريد أن أعرف..
ثم أرسل لي وجه ضاحك…
-أنتِ خففتِ من هجومك على المسلمين، هل هددوكِ؟
-تقصد هجومي على المتأسلمين و نقدي للمسلمين؟
-ماالفرق؟
-كبير.. النقد هو تسليط الضوء الواعي على الأخطاء، لكونك تريد التغيير للأفضل.. الهجوم هو سلاحنا في مواجهة الذئاب إذا ما هاجمتنا.. وأنت تعلم أنه ما من عقلٍ لها.
عندما يهاجم المثقف المولود في بيئة مسلمة الإسلام ككل، و يعتبر المسلمين كلهم إرهابيين، فلماذا يكتب؟
-لم أفهمكِ؟
-أقصد إن كنت أنت كمثقف مولود في بيئة مسلمة، تهاجم كل المسلمين، فأنت تهمل من يشبهك بين المسلمين أولاً، ثانياً: كيف سيكون كلامك مسموعاً بينهم و أنت تدمغهم بما ليس فيهم.. إن أردت التغيير فالموعظة و الكلمة الحسنى.
-سآخذك معي إلى اإمارة “ التغلبي” .. حجتك بالغة…
**********


قالت له الطفلة أنّ اسمها: توتة.. و لم تعرف أكثر..
حملها عمّار إلى قسم الشرطة في المنطقة.. قالوا له: اتركها -يعطيك العافية- نحن نتكفل بالأمر، لكنه لم يقبل.. انتظر معها ست ساعات..اشترى لها (سندويشة جبنة) و سكاكر..أطعمها و لم يتركها و لو ثانية…
ثم انتظر ساعتين، وكان على وشك الجدال مع الشرطة حول تركها معهم.. أراد أن يأخذها إلى بيت هبة.. عندما حضرت “ بغداد” : امرأة في الثلاثينيات، نحيلة و شاحبة.. و برغم جمالها يشع الحزن من وجهها كأمنية محققة.. شعرها أسود كثيف و مضفور… عيناها باكيتان.. فستانها أسود طويل، و في قدميها حذاءٌ قديم ذكوريِّ الجلد و التصميم…
احتضنت الطفلة و غرقتا معاً في البكاء…

-شكراً لك لإنقاذك “توتة”.. تيماء طفلتي.. سحبوها من يدي في سوق الخضار، بحثت كالمجنونة كل اليوم.. لقد أنقذتني كنت أفكر في القفز عن الجسر الأبيض اللليلة..
الجسر الأبيض؟ الليلة…
توقف قلب و عقل عمّار لأجزاء الثانيّة.. لا يمكن أن يكون ما يحدث حقيقة.. هذا يشبه فلماً هندياً أو عربياً سيء الإخراج.. كان قد فقد إيمانه بالغيبيات و الأرواح من زمن.. وقف مندهشاً فاغراً فاه لدرجة أن “ بغداد “ ظنته “على البركة”…

-الله يوفقك.. الله يعطيك حتى يرضيك..لقد أنقذت روحيَن توتة و أنا.. أعطني يدك أبوسها.. جميلك على رأسي من فوق.. الله يحميك…
-لقد حماني…

“نحن موجودون في هذا المكان و هذه الساعة لغاية ما.. مهما فشلنا، ومهما كان لنا من قدرنا صفعاتٌ و خيبات.. فما خُلِقنا من أجله قادمٌ و لن يكون بسيطاً مهما اعتقدناه كذلك.. اليوم هو يوم ميلادي الذي اخترته: كل عام و أنا بخير.”.

كتب عمّار هذي الرسالة ل “هبة” من فوق الجسر الأبيض.. فيما سمح لعينيه أخيراً بالبكاء…


يتبع…








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا