الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[38]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 19
الادب والفن


صبري يوسف

38. أعددت دراسة نقديّة مفصّلة بعنوان: تمَثَّلاتُ السّادةِ الملائكة الكروبيّين في تجربة صبري يوسف الإبداعيّة من الأدب إلى الفنّ التَّشكيلي، ما الَّذي قادكِ إلى كلِّ هذا الغوص في فضاءات صبري يوسف؟

د. أسماء غريب

هذا الكتابُ ثمرة سنتين أو أكثر من الانتظار والصّبر، أقول هذا لأنّ مضمونه كان محفوراً في فكري منذ زمن وكنتُ أنتظر فقط أن أحوّله من فكرة إلى أحرف مرقونة فوق ملفّ رقميّ، لا سيّما أنَّني كنتُ في تلك الفترة ملتزمة بالعمل على كتب أخرى أذكر منها ترجمة ديوانيْ (من مذكَّرات طفل الحرب)، و(السَّلام أعمق من البحار)، ثمَّ رواية (عشق سرّي) وكتب أخرى صدرت ما بين عامَيْ 2015 و2016.
وفعل النّقل لكلّ ما اختمرَ بذاكرة الرّوح عن تجربة هذا الأديب الإبداعيّة، يستدعي وبدون أدنى شكّ من المتلقّي أن يتعلّم كيف يقضمُ الوقتَ بأسنانهِ، أقولُ هذا لأنّ صبري يوسف نفسه قارض كبير للزّمن؛ يكتبُ بلا هوادة، والحرفُ يركضُ بين أنامله كشلّالٍ هادرٍ يجرفُ عقاربَ السّاعة ودقائقَها وثوانيها ويحوّلُها إلى قصص وروايات وأشعار ولوحات لا تتحدَّثُ إلّا باسْمِ المحبّة والسّلام، والصّداقة والحكمة، والدّروس الَّتي أفادها من رحلة حياته الطَّويلة القصيرة. ورُبّ سائلٍ يقول، وهل يُقرضُ الوقتُ، أو الزّمن؟ أَوَلَيْسَ الزَّمن من يقرضُ النّاسَ وأعمالَهم ويواريهم تحت التُّراب بدون شفقة ولا رحمة؟ أليسَ الزّمنُ هو من ينخُر عظامَنا وخلايانا وكلَّ ذرّة تراب وماء فينا؟ فمن ذا الَّذي يقدرُ عليهِ يا تُرى؟ من ذا الّذي يستطيعُ أن يهْزِمَ الوقتَ؟ ولهُ أقولُ ألّا أقْدَرَ على الزّمن من الأدباء والمبدعين، ومن العُمّال أهل الصّنعة والحرفة في كلّ ميادين الحياة، ومن العلماءِ أهل الحرف والرّقم، أهلَ النُّون والقلم وما يسْطُرون، هؤلاء وحدهم كالأنبياء يعرفونَ كيف يجعلون من الزّمن حبراً أسوَد على ورقٍ، وَكَيّاً محفوراً في القلب بسيف اللّهب، وعملاً يُؤرِّخُ ويوثِّقُ على مرور السّنين والقرون لحضارة الإنسان، منْ ألِفِ الكونِ إلى يائِهِ، ومن قِدْرِهِ الحمراء الكبيرة إلى كأسِه الحبلى والثَّملى بخمرة الخَلْق والتّخليق. وكلُّ من لا يضعُ الزَّمنَ في فمه، ويقرضُه بين أسنانه، فإنَّهُ يبقى ولا ريبَ خارج الحدود، وخارج الحرف واللّغة والوجود والانوجاد، لأنّه وحده منْ يُصاحبُ الزّمنَ، تُطوى له مسافات القُرب بينه وبين خالقه، ويُصبحُ ابنَ وقته.
نعم أيُّها القارئ النّهم، أنا أيضاً ابنةُ وقتي، تعلَّمْتُ كيف أضعُ الزّمن في فمي، مُذْ سنوات طفولتي الأولى، حينما كنتُ لم أتجاوز بعد أعوامي التّسعة. أذكرُ آنذاك، أنّ والدتي كانت تُرسلني لشراء خصلاتِ الزّعفران الأصيلِ من عطّار الحيّ لتُنَسِّم به أطباقها وتزيدَها لذّةً وتعطيها نكهة خاصّة بها وحدها، نكهةً كأنّها توقيع أو بصمة ختاميّة لا يجيدُها أحدٌ سواها. وكنتُ كلّما دخلتُ دكّان هذا العطّار، انتابني شعور بأنَّني دخلتُ غرفةَ زمنٍ آخر غير الزّمن الَّذي أنا فيه، فقد كان الرّجلُ يُبهرني بلباسه المغربيّ التَّقليديّ الأنيق جدّاً، وبعِطْرِ المِسك الأخّاذ الَّذي كانَ ينبعثُ منهُ كلّما تحرّك وسط الدّكان، عاداك عن وجهه الطّيّب السّموح ولحيته البيضاء الخفيفة لرجلٍ بلغَ منَ العُمْرِ ما يناهزُ السّبعين عاماً؛ رجلٌ هو فقيه مُتبصّر وكذا عطّار، أيْ أنَّه يعرفُ سرّ الحرفِ وسرّ الزّرع، وسرّ الزّمن وكُنْهَ الأشياء، أيْ نُسْغَها وعطرها، وإلّا لما كانَ عطّاراً. وكانَ هو كلّما رآني، قام من مكانه، وابتسمَ لي بفمه الصّغير وأسنانه النّاصعة البياض والمصطفّة بعناية عجيبة كأسنان المشط، واتّجهَ صوبَ ميزان صغير جدّاً، كان يضعهُ فوق أحدِ رفوف دكّانه الكبيرة، وبدأ في وزن خصلات الزّعفران، ولفِّها داخلَ ورق أبيض شفّاف، ليقدّمها لي بكلِّ عناية وحرصٍ، كأنّما كانَ يُسلّمني جدائل من الذّهب الخالص. وقبل المغادرة كان يأخذُ من برطمان زجاجيّ كبيرٍ، حفنةً من السّكاكر ويهديها لي وهو يقول بفيهٍ باسمٍ وعينيْن صغيرتَيْن ضاحكتَيْن: «كُلِي الزّمنَ، والْتَهِميه التهاماً، فلا أحد يستطيع أن يفعل هذا مثلكِ». كنتُ آخذ حبّات السّكاكر، وأطلقُ ساقيَّ للرّيح جذلى بهديّة العطّار، أعْطِي الزّعفران لوالدتي، وأدخلُ إلى غرفتي كيْ أستمتع بأكل "سكاكر السّاعة"، وأنا أنظرُ بشغفٍ إلى ألوانها البِيض والصُّفر، والورديّة والبرتقاليّة، وإلى عقاربِ الوقت وإشارات الدّقائق والسّاعات المرسومة فوقها، وأستلذُّ بطعمها وهي تذوبُ في فمي حلوةً ليس للذّتها مثيل. والآنَ وقد مرّت على تلك اللّحظات عشرات السّنينِ عرفتُ أنّ أوَّل درس عن الزّمن أعطانيه دونما أن أشعُرَ بذلكَ، رجلٌ عطّار فقيه. لقد كان يقولُ لِي ألّا شيء في الوجود أجملَ من استمتاع المرء بقضاء وقته في الأشياء الَّتي يُحبُّ، ومنذ ذاك الحين وأنا أحرصُ على ألّا أعمل سوى الأشياء الَّتي تجلبُ لي السّعادة، وأقصدُ بالسّعادة هنا، سعادة الرّوح والقلب بالعمل الطَّيّب الطّاهر النَّقيّ عبر الخدمة والعبادة في محراب الحرفِ، لأنّ الحرفَ نفسُه هو الزّمن، وهو السّاعة الآتية الَّتي يكادُ يُخْفِيهَا الخالقُ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا سعتْ إليهِ من العمل المُثمر الصّالح. ومن هذا المنطلق بدأتُ في قضم سكاكر الوقت داخل محراب هذا الأديب والتّشكيليّ السُّوريّ صبري يوسف، والاستمتاع بقراءة حرفه، وتشفيرِ رمزه، وتقديمه لغيري من البحّاثة والدَّارسين بلباسٍ جديد، خِطْتُهُ بإبرة الصّبر وخيطِ المحبّة، فجاء هذا الكتاب صلاةً، كنتُ أقيمها في وقتِها، وأجيبُ من خلالها نداءَ السّماء، وأمسحُ بهَا عن الرّوح كلَّ عناء، وأكتشفُ بنورها أسرارَ البهاءِ والضّياءِ.
ولأنّ العملَ عبادة، كان من الواجب عليّ تحديدُ وقتُ القيام بهِ، حتّى أتمكّنَ والقارئ بعدي من امتلاك البوصلة، ذلكَ أنَّ السّفر بدون دليلٍ مهلكة كبرى، وهدر للطّاقة، وخسران للهمّة وروح اليقين. والوقتُ في مقامنا هذا لا يُمكن تحديدُه مالم يتمّ تعيينُ المكان، والمكانُ هنا مكانان؛ مكانُ انطلاقٍ ومكان وصولٍ. وأمّا المكانُ الأوّلُ فيتفرّعُ إلى أماكنَ عدّة؛ أوّلها السّويد، وثانيها سورية، وثالثها إيطاليا، في حين يبقى مكان الوصول واحداً؛ قلبُ كلُّ متلقٍّ أينما كانَ وحيثما وُجدَ، ونحنُ جميعاً مَن نُكَوّنُه: باحثةً، وأديباً مدروساً وقارئاً، لأنَّنا كلُّنا ننتمي إلى روح عالم الحرف الَّذي نفخَ فيه اللّهُ إلى أنْ ظهرَ سرُّهُ، وتوهّجَ نورُه، وانتهتْ ظلمته. فنحنُ الخلفاء، وبنا تدورُ الأفلاك وتتحرّكُ الرّوحانيَّات والأملاكُ، وعليه وجبَ النّظرُ في أيّام الظُّهور وفلكها، علّنا بذلك نستطيعُ معاً أن نحدِّدَ يوماً أو يوميْن ندخلُ فيهما مرّة أو مرّتيْن في كلّ أسبوع إلى محراب صبري يوسف الإبداعي، وليكونَا يومَيِ الثّلاثاء والأربعاء.
لماذا هذان اليومان بالضّبط دوناً عن غيرهما من أيّام الأسبوع؟ الجواب بسيط للغاية: في يوم الثّلاثاء وُلد صبري يوسف، وفي يوم الأربعاء وُلدْتُ أنا، هو في الثّامن من أيار، وأنا في الثّامن من آذار. والثّلاثاء يحكمُه كوكب المرّيخ، والأربعاء يحكمُه عطارد وكوكب الشّمس. وكلانا؛ أديباً مدروساً وباحثةً ناقدةً، يحكمُنَا كوكبُ السّلام والمحبّة المعروف باسم الزّهرة، أو فينوس آلهة الجمال.
ومن ضمنِ السّاعاتِ الَّتي تُكَوّنُ لنا يوم الثّلاثاء، هناك إحدى عشر ساعات ليليّة؛ ثمان منها مستمدّةٌ من يوم السّبت والاثنين، وثلاث من الأحد، وفي السّاعة السَّادسة من ليلة هذا اليوم، وأعني بهِ الثّلاثاء تكتملُ كلّ السّاعات في ليلةٍ من أيّام التَّكوير. وأمّا يوم الأربعاء، فتجتمعُ فيه ساعاتٌ من أيَّام الخميس والجمعة والسَّبت، وتكتملُ ختاماً بالشّأنِ الكُلِيّ، لذا فما بَقِي عِلمٌ إلّا وأظهرهُ اللهُ في هذا اليوم الشَّريفِ، وبناءً على هذا الشَّأن الفلكيّ الرّوحي، فإنّه أصبحَ منَ المُهِمّ للغايةِ تفرُّغِي الكاملِ في هذين اليومين من كلّ أسبوع للكتابة عن صبري يوسف بحبر أهلِ بُرْج الثّور وبُرج الحوت، حيث تجتمعُ مَلَكَةُ الخيال الخصب بالحركة الاندفاعيّة، وتتحكَّمُ الصّورة الدّاخليّة في كلا البُرجين، وتتجدّدُ الطّاقة من أجل مواجهة صعوبات الحياة، ويعظُمُ الشّغَفُ بالعلوم والدّراسة والمطالعة، ويقوى العطاء في مجالَيِ الأدب والفنون.
من هذين اليومين كانت رحلتي الَّتي ركبتُ فيها منطادَ النّون السّريع لينقلني إلى ديريك، مسقط رأس صبري يوسف، هناك حيث تعرّفتُ عليه بفكري، واكتشفت عن قرب تلك الطّينة الخام الَّتي منها تكوّنت عجينتُهُ، وأعطتنا بمرور الزّمن هذا الإنسان الصّلصاليّ المعتّق الرّوح والفكر، فكان هذا الكتاب الَّذي هو دراسة نقديّة عرفانيّة خُطّت بمداد الدّعاء والمناجاة، وقدْ كتبَ عنه الأديبُ صبري نفسُه مقدّمة على قدرٍ عالٍ من الأهمّيّة تجدها أيُّها القارئ العزيز في الجزء الخاصّ بالملاحق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .