الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف بين الوعي التاريخي ويقين السلطة

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 1 / 20
مواضيع وابحاث سياسية



تُثير قضية"المثقف والسلطة"العديد من الأسئلة التي يتمحور جُلُّها حول تعريف المثقف نفسه،وما يضطلع به من أدوار،في ظل التحديات التي تواجه مجتمعنا العربي في التنمية المستقلة والتطور الديمقراطي وبناء دولة الحق والقانون،وإرساء اقتصاد قومي؛بما يُعيننا على إنجاز مشروعنا النهضوي.هنا تتبدى أهمية المثقف على الصعيد الفكري والنقدي برؤاه العلمية الوطنية،ووعيه التاريخي الذي يتبلور به فهمه الجدلي للذات وللآخر،وإبداعه الموسوم بظاهرة الطليعية كمجلى سوسيولوجي يتجاوز كل البنى التقليدية،لاسيما مع اشتداد وتائر القمع الفكري،وتفاقم هيمنة الإيديولوجيات المحافظة والسلطويةوأجنحتها الحاكمة فحسب،بل تمتد لتشمل الحزب والرأي العام والنص الديني.وقد اضطهدت أحزاب ستالينية عدة طائفة ليست بالقليلة من قيادييها الذين رفضوا ذيليتها للاتحاد السوفيتي السابق،وموقفه من تقسيم فلسطين ؛فجرت تصفيتهم كما حدث مع الشهيد فرج الله الحلو"الرفيق سالم"الذي تمَّ إنزاله من القيادة؛ليصبح عامل مطبعة!بَيْدَ أن مَهَمَّة المثقف لا تعني بحالٍ فرض وصايته الفكرية والسياسية على المجتمع،ولا تقديم نفسه بوصفه الناطق الرسمي باسم الحقيقة والعدالة،أو "باعتباره الممثل الطبيعي والعفوي للأمة البديلة أو المتجددة"بتعبير د.برهان غليون،بل تتحدد مسئوليته في الشك في القيم الأخلاقية والسياسية المطلقة،وطرح الأسئلة على السياسة،بدلًا من إعادة طرحها في إطار عقيدة سياسية ما؛بوصفها الأساس الوحيد المناسب للتفكير والحوار.لهذا بات إيمان المثقف بالتعددية؛هو ما يُتيح نشوء حوار خلَّاق ومتكافئ بين الجميع،متحرِّر من وطأة المقدَّس،ونزعة تمجيد الذات،ينحو به إلى تغيير آليات إنتاج الحقيقة،وأن يعيش علاقة مع العالم طابعها الحلم والخيال والعفوية والوعي،بما ينعكس على لغته رفضًا للجمود وللرتابة،وسعيًا إلى التحول والتغير الكيفييْن،عبر شرائط محيطه الخارجي الموضوعية،في راهنيتها وخصوبة وشائجها الحية بالتطور الإنساني،لا بحسبانها موضوعًا للإرادوية أو الاعتباطية.وبذلك تنفرد شخصية المثقف بقدرتها على التفلُّت من السائد في مواصفاته الاجتماعية التقليدية،مجترحة صيغًا جديدة للفعل الجمعي تُجاه الفردية الليبرالية.لكن المثقفين الذين يُشكِّلون أفقًا للتجاوز أو للتفكير النقدي يعانون من عقبات كأداء تحول بينهم وبين التواصل أو الحوار المجتمعي؛بفضل عوامل عديدة؛ سياسية..اقتصادية..اجتماعية..ثقافية،يأتي في مقدمتها،بروز ظاهرة التهميش،واستفحال حدة التناقضات الاجتماعية،وغياب أرضية حقيقية للنضال الاجتماعي..فالطبقات الاجتماعية المُهمَّشة لا تستطيع القيام بعملية فرز جاد للكيانات السياسية المُعبِّرة عنها؛ومن ثَمَّ تُرحَّل المعركة من أرضية النضال الاقتصادي والسياسي،إلى أرضيات وهمية ثقافية أو دينية.غير أن تهميش المنطقة العربية في الخرائط الأميركية،عمد في جانب منه،إلى إنشاء دكتاتوريات سلفية،تستطيع أن تكسب نوعًا من المشروعية على أساس ديني،مُعوِّضة تقاعسها عن النهوض بدورها التنموي،بالنفاق الديني.كما أنه مع النصف الثاني للقرن العشرين،امَّحت الطبقة الوسطى التي كانت تُنعت بأمِّ النهضة أو حاملة النهضة؛وذلك بتأثير البترودولار وانتقال العالم العربي إلى طوْر رأسمالي مُشوَّه ذي وعي كومبرادوري ،وأيلولة قطاعات من الطبقة الوسطى إلى محض فئات طفيلية وبيروقراطية غير منتجة؛مما أفضى إلى انتشار الإيديولوجيات الشعبوية والعنصرية اليمينية؛الأمر الذي وضع المثقف بين مِطرقة الدولة الريعية بقيمها الترفيَّة الاستهلاكية،فاقدة الحسِّ الاجتماعي،وتبعيتها الكاملة لرأس المال العالمي..وبين سندان الإسلاموية السياسية بلغتها الشمولية الأحادية المتعالية،ونرجسيتها الجماعية التي تحول بينها وبين الانفتاح على الآخر والاعتراف به،فضلًا عن الدور الذي تلعبه الدولة الرخوة في تعميق التردي المعرفي والثقافي،ومحاربة الفكرالعقلاني،وتشجيع الفكر الإيديولوجي والأصولي المحافظ؛بحجة الدفاع عن التراث،أو استرجاع الهُوية..إلخ.وبذلك أصبح العقل الفلسفي مستهدفًا؛مما أفضى إلى فصل الدكتور صادق جلال العظم مؤلف كتاب"نقد الفكر الديني"من عمله أكاديميًّا مرموقًا في الجامعة الأميركية ببيروت،وحوكمَ وناشره د.بشير الداعوق صاحب دار الطليعة اللبنانية؛ليكون هذا"جزاء من يتصدى في هذا المناخ لفضح مسرحية تغطية العجز المادي والعقلي عن مواجهة تحديات المعركة الحاضرة تحت ستار التدين،وربط الهزيمة والنصر بقوى غيبية خارجة عن نطاق القدرة البشرية"بتعبير د.العظم، وأضحى الصدام حتميًّا بين المثقف النقدي من ناحية،وبين الجنرال المتحالف مع الشيخ من ناحية أخرى،ورفعت دعاوى الحسبة"دعاوى التفريق والتطليق"على المفكرين،كما حدث مع د.نصر حامد أبو زيد وزوجه د.ابتهال يونس،وأضحى القتل وسيلة التخلُّص من الكُتَّاب والفنانين والقادة السياسيين،كما حدث مع شهدي عطية الشافعي ومحمد عثمان وفريد حدَّاد ولويس إسحق ود.فرج فودة المصريين،وعبد القادر علولة الجزائري،وغسان كنفاني وكمال ناصر وسمير قصيرالفلسطينيين،ود.حسين مروة ود.مهدي عامل وسهيل الطويلة والشيخ صبحي الصالح وجورج حاوي اللبنانيين وسواهم،وظلت علاقة المثقف الثوري مع السلطة الجائرة متوترة طوال الوقت؛بسبب مواقفه المناوئة للدكتاتورية السياسية والدينية؛ودفاعه عن العقلانية والحرية؛فدخل السجن ابن حنبل وابن رشد وابن سينا وابن عربي،وقُتل سقراط وعبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب وجهم بن صفوان وصالح بن عبد القدوس وبشار بن برد ودعبل الخزاعي وابن الرومي والحلَّاج ولسان الدين الخطيب وابن هانئ الأندلسي وابن عمَّار وبشير بن الليث وتوماس مور وأنطون كوندرسيد وبابلو نيرودا،وأُحرق سافونا رولا وجوردانو برونو،ونُفيَ أوفيد وفولتير،وهرب جان جاك روسو ورينيه ديكارت،واضطهد سبينوزا،وجُلد الإمامان مالك بن أنس وأبوحنيفة النعمان؛الأول لأنه أفتى بعدم شرعية البيعة للمنصور الذي أخذها بالإكراه،والآخر لأنه رفض العمل في ديوان والي العراق الأموي عُمر بن هُبيرة،وقُطّعت جثة الشهيد فرج الله الحلو وأذيبت بحمض الأسيد على يد زبانية عبد الحميد السرَّاج في دمشق،ووصلت كراهية الحاكم للمثقف حدَّ قيام المعتمد بن عبَّاد صاحب إشبيلية،بتشييد حديقة في قصره لغرس الرءوس المقطوعة!لكن المثقف لم يفقد قدرته على الحركة والمبادأة والمغامرة،وواصل طريقه الذي اختطه لنفسه،فكان غيلان بن مسلم الدمشقي والجعد بن درهم من جُملة من قالوا ب"القدرية"نفيًا لجبرية الأُمويين؛وترسيخًا لما ذهب إليه المعتزِلة من أن الإنسان خالق لأفعاله،مسئول عنها،وأنه مُخيَّر لا مُسيَّر.وكان عمر بن عبد العزيز قد أوكل إلى غيلان الدمشقي مسئولية بيع أموال الأمويين المُصادَرة،فوقف ينادي عليها مُندِّدًا بها:تعالوْا إلى متاع الظَّلمة..تعالوْا إلى متاع الخونة.فأعدمه هشام بن عبد الملك،كما أعدم خالد القسري الجعد بن درهم.وقتل البيت الأموي أحد القدريين ويُدعى عمرو المقصوص؛بسبب تأثرالخليفة الأُموي الثالث معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية به؛مما دعاه إلى اعتزال الخلافة،ومهاجمة والده وجَدِّه،واتهامهما بافتقاد الشرعية،وبناء حكمهما على المُلك العضود والقوة.وبذلك وضعت السلطة المثقف أمام خيارات أربعة:إما أن يُذعن ويمتثل ويُهادن ويصل إلى تسويات وتنازلات تنتهي به إلى الاستقالة من دوره المنوط به في تقويض الأنساق الفكرية والإيديولوجية المغلقة وتفكيك المقولات المتحجرة على نحوٍ علمي وتاريخي..وإما أن يلجأ إلى العمل من خلف ستار؛ويفعل ما فعله الفيلسوفان رينيه ديكارت حين أصدر كتابه"مقال في المنهج"من دون توقيع،وسبينوزا عندما نشر كتابه"مقالات في اللاهوت والسياسة"غُفْلًا من اسمه واسم ناشره،وصكَّ ديكارت مفهوم"الفيلسوف المُقنَّع"،أي الفيلسوف الذي يمارس دوره من خلال قناع يُخفي شخصيته الحقيقية إيثارًا للسلامة؛وتجنّبًا للمتاعب والمشكلات..وإما أن يحرق كتبه،كما صنع أبو حيان التوحيدي"علي بن محمد بن العباس"في آخر عمره بعد أن أمسى"غريب الحال،غريب اللفظ،غريب النِّحلة،غريب الخلق،مستأنسًا بالوحشة قانعًا بالوحدة،معتادًا للصمت،ملازمًا للحيرة،متحملًا للأذى،يائسًا من جميع من أرى".أو يرفع عقيرته بالصياح مع ستيفن ديدالوس في نهاية رواية"صورة الفنان شابًّا":سأخبركم بما سأفعله،وبما لن أفعله..وسأحاول التعبير عن نفسي،مستخدمًا الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها:الصمت..المنفى..البراعة"..وإما أن يتمسك بأفكاره ومبادئه؛فيصطدم بالسلطة وأزلامها؛مُعرِّضًا نفسه للتصفية الجسدية،كما طالعناه في سيرة زيد بن علي زين العابدين بن الحسين الذي رفع السلاح في وجه الأمويين؛بحسبانه من شروط الإمامة الشارطة،داعيًا لنفسه بالخلافة،وأيَّده أبوحنيفة بالفتوى والمال؛فقتله يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك على الكوفة،مُبقيًا على جثته مصلوبة حتى مقتل ولده يحيى في خلافة الوليد الثاني،عندئذ أمر بإنزالها وإحراقها!أو كما نجده في تاريخ أرنستو شي جيفارا النضالي العظيم بعد أن غادر مهنته طبيبًا،والتحق بالثوار قائدَ منطقة ورتل وأمسي مع راؤول كاسترو وكاميلو سيانفوغوس وخوان المييدا من أفضل مساعدي فيدل كاسترو،ليتركه لاحقًا قائلًا له في رسالة وداعية مؤرَّخة في الأول من إبريل عام 1965:"إنني أتخلى عن مَهَمَّاتي في إدارة الحزب ووظيفتي وزيرًا ورتبتي رائدًا وصفتي كوبيًّا..لقد حلَّت ساعة الفراق،ويجب أن يعرف الجميع أنني أقوم بهذا العمل بمزيج من الفرح والألم..إنني أترك هنا أكثر الآمال البنَّاءة صفاء،وأعزّ ما لديَّ من الأشخاص الذين أحبهم..ولا أترك شيئًا لأولادي وزوجتي،ولكنني غير نادم على ذلك..بل إن ذلك يُسعدني.."،وذهب إلى جبهات أُخَر ليبدأ منها حرب العصابات أو حرب التحرير ضد الإمبريالية الأميركية وأعوانها،مؤمنًا أن تحقيق النصر لن يتأتى من دون تشكيل جيش شعبي،حتى استشهد.
غير أن علاقة المثقف مع السلطة في العهد الناصري قامت على التأييد المطلق للرئيس جمال عبد الناصر،والدفاع عنه ظالمًا أو مظلومًا،على نحو ما يرويه د.ثروت عكاشة في مذكراته ص 398،طبعة دار الشروق:"لم يكن قد مضى على تعييني وزيرًا أكثر من شهريْن،اتصل بي سكرتير رئيس الجمهورية يدعوني إلى لقاء عاجل مع الرئيس،الذي ما إن لقيته حتى طلب مني الاستماع إلى شريط صوتي مسجَّل لمجموعة من الأشخاص انهالوا على شخص الرئيس بالشتائم البذيئة ناعتين إياه بأحط النعوت.وسألته مندهشًا عمن يكونون،فذكر لي اسم أحد الوزراء واسم أديب رائد مرموق،وأنه استغنى عن خدمات الوزير وأمر باعتقال الأديب الشيخ.ولما سألته عن الغرض من دعوتي للاستماع إلى ذلك التسجيل،قال: إن يحيى حقي رئيس مصلحة الفنون كان متواجدًا معهما ويتعين إحالته على المعاش،فبادرته بقولي:لكن من الواضح من الشريط الصوتي أنه لم يُشارك في هذا السُّباب،فقال:ولكنه كان موجودًا معهم ولم يعترض وهذا يكفي.فناشدته أن يترك الأمر لي لأعالجه بأسلوب مناسب؛فوافق مقتنعًا بعد إلحاح".وكان الأسلوب المناسب الذي عالج به ثروت عكاشة الموضوع،هو نقل الأستاذ يحيى حقي من مصلحة الفنون تلبية لرغبة عبد الناصركما يروي هو،مُسندًا إليه رئاسة مركز تدريب العاملين المنقولين من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة،بالإضافة إلى"منصب ملحوظ بدار الكتب،ثم رئاسة تحرير مجلة"المجلة"؛حتى لا يشعر بغربة عن عالمه في مجال الفكر والأدب والفن،فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهودة"على حد قوله.ولم يتوانَ عبد الناصرعن فصل ستة وثلاثين كاتبًا وصحفيًّا في مقدمتهم عميد الأدب العربي د.طه حسين؛لأنهم وقَّعوا على بيان 5,25مارس الذي طالب بالديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته،فضلًا عن تصفية كل القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية،وخنق أي مبادرة شعبية مستقلة،وإلغاء الأحزاب،وبناء الأجهزة القمعية،وإخضاع العمل الثقافي لمتطلبات الإعلام والسياسات اليومية،حتى إن وزير الثقافة د.ثروت عكاشة لم يتحمل استمرار عرض مسرحية"العرضحالجي"للكاتب الراحل ميخائيل رومان؛بعد أن وصل إلى مسامعه أنها تنتقد الأوضاع المتردية التي أدت إلى كارثة الخامس من يونية عام 1967؛فأوقف عرضها.وأعلن الزعيم المُلهم في 23ديسمبر عام 1958أن المعركة مع الاستعمار قد انتهت،والآن بدأت المعركة مع الشيوعية،مساويًا بينهما بشكل خطي بسيط!وألقى القبض في ليلة واحدة على 370يساريًّا ما بين صحفي وكاتب وأكاديمي وقائد نقابي وناشر ومحامٍ وفلاح وطالب،وأودعهم جميعًا معتقلات قنا والسجن الحربي والقلعة والعزب بالفيوم وأوردي ليمان أبي زعبل والمحاريق بالواحات الخارجة،وقدَّمهم للمحكمة العسكرية العليا،وسَامهم كل فنون التعذيب والقتل؛الأمر الذي دفع الأساتذة:أبو سيف يوسف الكاتب وعضو نقابة الصحفيين،وإسماعيل المهدوي الكاتب والمحرر في جريدة المساء،وأحمد سالم وكيل نقابة عمال النسيج بشبرا الخيمة،إلى إصدار بيان حمل اسم"اتحدوا لوقف هذه المجزرة الرهيبة..بيان عن معسكر التعذيب"ليمان أبو زعبل"،سردوا فيه مراسيم الاستقبال الجهنمية التي يبدأ بها المعتقلون حياتهم اليومية،وعمليات القتل البطيء والممنهج التي"يذهب ضحيتها المعتقلون السياسيون؛هؤلاء الذين عرفتهم معركة التحرير الوطني مناضلين أشدَّاء ضد الاستعمار والحكم الملكي البائد،واليوم وبعد أن استقلت بلادنا يكون جزاؤهم سفك دمائهم وتعذيبهم بصورة لم تعرفها من قبل حياتنا السياسية المعاصرة."،مُضيفين:"لقد قُتل حتى الآن:محمد عثمان،فريد حدَّاد،شوقي عبد الرحمن،شهدي عطية الشافعي،محمد رشدي خليل،وكان آخر القتلى كمال حسام الدين عامل النسيج بالإسكندرية الذي تُوفيَ في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر 1960.ومات من المرض وانعدام الرعاية الصحية كلٌّ من:عبد التواب جبريل وعلي الديب من عمال النسيج"،ثم تابعوا بيانهم بقولهم:"أيها الكُتَّاب ورجال الفكر في مصر:مهما يكن حكمكم على آراء السياسيين،وقد تختلفون معهم على المذاهب السياسية والاجتماعية..إلا أن هذا لا يُعفيكم من المسئولية؛مسئولية أنه في النصف الثاني من القرن العشرين تُستباح آدمية المواطنين ويُقتلون في الظلام وهم عزل لا يملكون أي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس،فارفعوا أصواتكم لوقف هذه المذبحة".وظل عبد الناصر يمارس ضغوطاته على الشيوعيين لحل حزبهم،رابطًا بينه وبين الإفراج عنهم،حتى أصدرت اللجنة المركزية المُوسَّعة للحزب الشيوعي المصري في 4إبريل عام 1965وثيقتها القاضية ب"إنهاء الشكل المستقل للحزب الشيوعي المصري،وتكليف كافة أعضائه بالتقدم- كأفراد- لطلب عضوية الاتحاد الاشتراكي العربي،والنضال من أجل تكوين حزب اشتراكي واحد يضمّ كل القوى الثورية في بلادنا".والتحقت أعداد كبيرة من الشيوعيين ب"التنظيم الطليعي"وهم معزولون سياسيًّا،وكان "كل فرع منه له قيادة،وتجتمع هذه القيادات مع شعراوي جمعة الذي كان ممسكًا به"على حد قول د.فخري لبيب في كتابه"الشيوعيون وعبد الناصر"،ج2.وأصبح العمل والسفر وحياة الإنسان مرتبطة كلها بعضوية الاتحاد الاشتراكي العربي؛التنظيم السياسي الوحيد في البلاد،ورضا الأجهزة الأمنية القمعية عنه.وبلغ من صلف الرئيس ومعاداته للديمقراطية،أنه في عام 1968أثناء لقاء له بمجلة"الطليعة"التي مثَّلت اليسار الرسمي،قال:إن الحركة الشيوعية كلها كلَّفته عشرة آلاف جنيه،جملة المرتبات والمجلات والوظائف التي تولاها الشيوعيون،ثم سأل:من منكم رشَّح نفسه لعضوية مجلس الشعب؟فرفع يده من رفع،فقال:من لم يُرشِّح نفسه أفضل ممن رشَّح نفسه؛فعلت الدهشة وجوه الحاضرين،وأبلغوه أن ترشحهم جاء إيمانًا به وبثورته،فأخبرهم بوضوح وحدَّة:لقد تركتكم تُبشِّرون بالاشتراكية كما بشَّر القديس بطرس بالمسيحية،أمَّا أن تصلوا إلى السلطة على أكتاف الجماهير فهذا ما لا أسمح به- راجع التنظيم الحزبي في مصر،للأستاذ محمد سيد أحمد.ثم جاءت العهود التالية له أسوأ منه وأشدّ كارثية؛حيث تحوَّل الأصدقاء إلى أعداء،والأعداء إلى أصدقاء وحلفاء،وأُعليت قيم المجتمع الانفتاحي بكل جرائمها المادية والأخلاقية،وزُيِّف التاريخ،وسادت علاقة الاستتباع الذليل بين المثقف والسلطة،وجرى تحييد مصر الرسمية بين العرب والصهاينة الإسرائيليين،وبرز إلى الوجود"مشروع التحالف الدولي من أجل السلام"،المعروف باسم"وثيقة كوبنهاجن"،التي تزعمها"المرحوم لطفي الخولي مع هربرت بونديك أحد أكبر رءوس اللوبي المؤيد لإسرائيل في إسكندنافيا،ومهندس اتفاق أوسلو مع مائير هيرشفيلد،جاعلة من مثقفين عرب مراقبين محايدين يناشدون الأطراف المختلفة الصلح،ويُساوون فيما بين الضحية والجلاد.وأمسى دور المثقف هنا دور المفاوض الذي يقوم بالتغطية على تسويات سياسية هدفها الاعتراف بالعدو الصهيوني،وشرعنة اغتصابه لفلسطين العربية وللجولان السورية ولمزارع شبعا اللبنانية.وقد نجحت النيوليبرالية في ترويض العلماء والمثقفين؛فظهر المثقف التقني الذي قطع ما بين المجتمع والعلم من علائق،وراجت بوتيكات حقوق الإنسان التي تولاها مثقفون يساريون سابقون لتُركِّز على مفهوم شكلي للديمقراطية السياسية دون محتوى اجتماعي جدي؛بغية الحفاظ على آليات التداخل والاندماج العضوي لاتجاهات رأس المال الكوزموبوليتي،وما يترتب عليه من تجريف للتربة الاقتصادية والاجتماعية.وبذلك تحالفت هذه الظروف مع حقبة النفط وثروتها على تخريب استقلالية الثقافة،وتراجع إنتاج المعرفة المستقلة نسبيًّا.
على المثقف إذن أن يعمل على بناء موقف نقدي مستقل من مجمل المواضعات السائدة،والانفتاح على الواقع بكل تنوعه،وتعدد مرجعياته ورؤاه،مُسهمًا في تحديث العقل العربي،وبناء منظومة ثقافية وفلسفية تستوعب الحاضر وتتجاوزه نحو فسحة مستقبلية تُشكِّل قطيعة معرفية مع الأحكام الجاهزة والممارسات الذاتية المتعالية،طامحًا إلى تحرير الإنسان من ربقة شرطه الوجودي المستلب؛توطئة للانتقال من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.من هنا ينطلق المثقف النقدي من وعيه بطبيعة المأزق الذي نعيشه،ويُلقي بظلاله الكثيفة على الجميع،أي من قراءته العلمية للواقع وكيفية التعامل معه،من خلال تقديم البديل البرنامجي للنهوض والتغيير الجِذرييْن،ومعرفة الشروط التاريخية التي أفضت إلى غياب التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية القادرة على إرساء الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية بمحتواهما الطبقي.الأمر الذي من شأنه أن يضع يده على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تراجع جاذبية العمل السياسي لدى البعض،وانسحاب نفر ثانٍ إلى الداخل،وانتقال قسم ثالث إلى مواقع ديمقراطية إصلاحية،وهجرة شريحة رابعة إلى"الماضي المجيد"؛ملتمسة في التراث الترياق الشافي لكل معضلات حياتنا،مُجترَّة المقولات الفقهية القديمة على مدار القرون،مُعمِّقة التناقض بين النص الديني والتطورات العلمية والفلسفية والسياسية التي أتى بها العصر الجديد.لذلك رأى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي،أن تأثير أي كتلة اجتماعية يتخذ شكليْن اثنيْن هما:الإتاوة التاريخية أي الكُلفة التاريخية الباهظة التي دفعتها البشرية ثمنًا للتقدم والتطور،والتطهير؛بحيث يصبح التطهيرأي الانتقال من المرحلة الاقتصادية المحضة إلى المرحلة الأخلاقية والثقافية"نقطة الانطلاق لكل فلسفة براكسيسية،على أن تنطلق عملية التطهير من سلسلة من التراكيب التي يؤدي إليها التطور الجدلي"،وبما يُفضي إلى القضاء على"تزييف الفكر والواقع في التاريخ"،والتخلُّص من"ضياع الإنسان وتشييئه بمختلف الصور التي تتجلى في سيطرة المنتوج على المنتج،أوفي سيطرة الظروف الكلية القدرة على الفرد العاجز"حسب غرامشي.وهنا يلعب المجتمع المدني دورًا حيويًّا في توليد مبادرات خلَّاقة بمنأى عن الدولة واستبداديتها.لذا يحرص المثقف النقدي على حيوية تمييز مشروعه عن الدولة ومصالحها الفئوية الضيقة،في مواجهة مثقف السلطة الذي لا يني يُروِّج لمقولة مُفادها:لا نجاحَ ممكنًا لمشروع فكري أو ثقافي بعيدًا عن الدولة ودعمها!ولا أدري كيف يمكن أن يتأتى ذلك بعد الأشواط التي قطعتها الجبهة الكومبرادورية المصرية والدولة المُكرَّسة لخدمتها على طريق معاداة المصالح التاريخية للشعب المصري.ألم يقلْ عميد الاحتلال البريطاني في مصر اللورد كرومر:قلْ ما شئت،ولكن لا تطعن الاحتلال؟!أليست حداثة التفككيين المصريين حداثة ملتبسة،وتنويرًا مغلوطًا؛مما دفع أحدهم إلى القول:"مسئولية المثقف تتجاوز حدود المواقف العارضة القابلة للتصنيف مع هذا الفريق أو ذاك،أو مع هذا الجناح السلطوي أو سواه"؛مما يخترع له تسمية بديلة هي"الدولة"أو"الحكومة"،وليس"السلطة"؛هربًا ربما من قسوة التحديد وتبعاته الموجِعة؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل شخص وجرح آخرين جراء قصف استهدف موقعا لقوات الحشد الشعبي


.. فايز الدويري: الهجوم رسالة إسرائيلية أنها تستطيع الوصول إلى




.. عبوة ناسفة تباغت آلية للاحتلال في مخيم نور شمس


.. صحيفة لوموند: نتيجة التصويت بمجلس الأمن تعكس حجم الدعم لإقام




.. جزر المالديف تمنع دخول الإسرائيليين احتجاجًا على العدوان على