الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجاز فن المعاني الصادقة

حسن عجمي

2019 / 1 / 21
الادب والفن


بذلك لا يختلف المجاز عن الواقع المتكوِّن من معانٍ صادقة. فالواقع مجاز صادق. المجازات الصادقة تُشكِّل عالَمنا الواقعي بينما المجازات الممكنة (أي التي من الممكن أن تكون صادقة) تُشكِّل الأكوان الممكنة. لا عقل و لا لغة بلا مجازات لأنَّ المجازات فنون إيصالنا إلى المعرفة المعتمدة على المعاني الصادقة. لغة بلا مجاز لغة فارغة من مضامينها.

من الممكن أن تكون العبارة المجازية صادقة بصدق ما تتضمن من معانٍ تماماً كالعبارة غير المجازية. مثل ذلك أنَّ العبارة المجازية "أنتِ الماء و الهواء بالنسبة لي" قد تصدق بما تتضمن من معانٍ صادقة كمعنى أني أحتاج إليكِ كاحتياجي إلى الماء و الهواء. لكن إن كان من الممكن أن تكون العبارة المجازية صادقة بصدق ما تحتوي من معانٍ فحينئذٍ المجاز فن المعاني الصادقة. و بذلك لا يختلف المجاز عن اللامجاز لكونهما قد يُعبِّران عن معانٍ صادقة. فالمجازات تتضمن عبارات لامجازية (كما في المثل السابق) و بذلك يتحد المجاز مع اللامجاز و يختلف عنه في آن.

تحليل المجاز على أنه فن المعاني الصادقة يمتلك قدرة تفسيرية ناجحة ما يدلّ على صدقه. فمثلاً , بما أنَّ المجاز فن المعاني الصادقة و بذلك المجازات تتضمن معانٍ صادقة , إذن المجازات لها معانٍ رغم أنها تجمع ما لا يجتمع من مفاهيم (كجمع المحبوب و الشمس في مجاز "أنتِ الشمس" الذي يملك معانٍ عديدة منها أنكِ مهمة كأهمية الشمس و محبوبة و مرغوبة كالشمس). هكذا ينجح هذا التحليل للمجاز في تفسير لماذا للمجازات معانٍ (رغم جمعها لِما لا يجتمع من مفاهيم) بفضل اعتباره أنَّ المجازات فنون المعاني الصادقة.

كما بما أنَّ المجاز فن المعاني الصادقة , و علماً بأنَّ الحقول المعرفية و الإبداعية المختلفة كالأدب و الدين و العِلم هي بمثابة تعابير متنوّعة عن معانٍ صادقة أو أنها تسعى إلى التعبير عن معانٍ صادقة , إذن من الطبيعي أن تعتمد كل الحقول المعرفية و الإبداعية على المجاز في عملية تقديم و شرح معانيها. هكذا ينجح هذا التحليل للمجاز في تفسير لماذا الحقول المعرفية و الإبداعية المختلفة تعتمد على المجاز في طرح نظرياتها و صياغة إبداعاتها.

يعتمد الأدب على المجاز لأنَّ المجاز فن المعاني الصادقة بينما الأدب يسعى إلى التعبير عن معانٍ صادقة في عالَمنا الواقعي أو في أكوان ممكنة أخرى مختلفة عن واقعنا. فمثلاً , عبارة شكسبير "جوليت هي الشمس" في مسرحيته الشِعرية "روميو و جوليت" هي عبارة مجازية لكونها تعبِّر عن معانٍ صادقة في الواقع أو في أكوان ممكنة منها معنى استحالة أن يحيا روميو قائل تلك العبارة المجازية بلا جوليت تماماً كما أنَّ الإنسان لا يتمكّن من أن يحيا بلا شمس. و إن لم يصدق هذا المعنى في عالَمنا الواقعي فمن الممكن أن يصدق في أكوان ممكنة أخرى (فكل الممكنات صادقة في الأكوان الممكنة). هكذا المجاز يتضمن معانٍ صادقة في عالَمنا أو في عوالم ممكنة ما يؤكِّد على أنَّ المجازات فنون المعاني الصادقة.

من المنطلق نفسه , يعتمد الدين على المجاز لأنَّ المجاز فن المعاني الصادقة بينما الدين يُعبِّر أو يسعى إلى التعبير عن معانٍ صادقة إما في عالَمنا الواقعي و إما في عوالم ممكنة أخرى. فمثلاً , الآية القرآنية "و النجم و الشجر يسجدان" هي عبارة مجازية لأنها تتضمن معانٍ صادقة منها معنى أنَّ النجوم و الأشجار (و بذلك كل الظواهر الطبيعية) محكومة بنظام الكون و قوانينه ما يحتِّم أنها مطيعة للنظام الكوني (و هذا ما تمّ التعبير عنه بالسجود أي الطاعة). الآن , بما أنَّ "و النجم و الشجر يسجدان" عبارة مجازية لكنها تحتوي على معانٍ صادقة (كالمعنى المشار إليه سابقاً) في الواقع أو في أكوان ممكنة , إذن المجاز فن المعاني الصادقة.

العِلم أيضاً يعتمد على المجاز. هذا لأنَّ المجاز فن المعاني الصادقة ما يجعله ناجحاً في التعبير عن معانٍ صادقة في العلوم المختلفة. فمثلاً , قول أينشتاين "إنَّ الله لا يلعب بالنرد" هو قول مجازي لكنه يتضمن معانٍ صادقة في نموذج أينشتاين العلمي كمعنى أنَّ الكون محكوم بقوانين حتمية و ليست احتمالية على نقيض مما يحدث حين نلعب بالنرد. هذا ما يوافق النظرية النسبية لأينشتاين و قوانينها الحتمية و يعارض نظرية ميكانيكا الكمّ و قوانينها الاحتمالية ما يتضمن بدوره أنَّ مجاز أينشتاين تعبير عن معنى آخر ألا و هو أنَّ ميكانيكا الكمّ خاطئة لكونها تصوّر قوانين الكون على أنها احتمالية بدلاً من حتمية. هكذا استخدم أينشتاين القول المجازي "إنَّ الله لا يلعب بالنرد" لكي يعبِّر عن معنى أنَّ قوانين الكون حتمية و بذلك نظرية ميكانيكا الكمّ ليست على صواب. الآن , بما أنَّ عبارة "الله لا يلعب بالنرد" عبارة مجازية لكنها تتضمن معانٍ علمية صادقة (فإن لم تصدق في عالَمنا الواقعي صدقت في عوالم ممكنة أخرى محكومة بقوانين طبيعية أخرى) , إذن المجاز فن المعاني الصادقة.

مثل آخر هو التالي : قول الفيزيائي آلن غوث "الوجود موجود لأنه عدم" هو قول مجازي لكنه يحتوي على معانٍ صادقة منها أنَّ طاقة الكون الإيجابية مساوية لطاقته السلبية و بذلك إذا جمعنا طاقات الكون الإيجابية و السلبية ستكون النتيجة صفراً. و هذه النتيجة صفر هي العدم نفسه ما يدلّ على أنَّ العدم يتشكّل من طاقات متعارضة تختزل بعضها البعض ما يجعل من الممكن أن ينشأ الكون من العدم من جراء إمكانية أن تفلت طاقة معينة من العدم و لا يتم اختزالها. هكذا يوجد الوجود بفضل العدم. كل هذا يرينا أنَّ عبارة "الوجود موجود لأنه عدم" تتضمن معانٍ علمية صادقة و تنتجها لكنها عبارة مجازية. من هنا المجاز فن التعبير عن معانٍ صادقة و فن إنتاجها.

إن كانت لغاتنا عبارة عن مجازات (كما يقول الفيلسوف دريدا) فما تزال لغاتنا ناجحة في التعبير عن الحقائق الواقعية و الممكنة رغم أنها تتكوّن من مجازات لأنَّ المجاز يتضمن المعاني الصادقة المطابقة للحقائق الواقعية أو الممكنة لكونه فن المعاني الصادقة. فرغم عدم ارتباط المجاز بالواقع بشكل مباشر لكونه لا يُعبِّر تعبيراً حرفياً و مباشراً عن الواقع و الممكنات تبقى المجازات فنون إيصالنا إلى المعاني الصادقة فإلى المعرفة الحقة لكونها فنون المعاني الصادقة في عالَمنا الواقعي أو الصادقة في الأكوان الممكنة التي من المفيد علمياً معرفتها أيضاً. هكذا المجاز على أنه فن المعاني الصادقة ينقذنا من اعتبار لغاتنا مخادعة كلياً و من اعتبار أنَّ المعرفة مستحيلة.

إن لم تكن المجازات فنون المعاني الصادقة و بذلك إن لم تكن المجازات ناجحة في التعبير عن المعاني الصادقة فحينئذٍ سوف نفشل في التواصل و التفاهم فيما بيننا من خلال لغاتنا المعتمدة على المجازات. لكننا ننجح في التواصل و التفاهم فيما بيننا من خلال لغاتنا المجازية و إلا ما كنا نجحنا في البقاء أحياء بفضل تواصلنا و تفاهمنا. من هنا نستنتج بحق بأنَّ المجازات فنون المعاني الصادقة. لا وقائع صادقة بلا مجازات فالواقع مجموع كل المجازات. كونٌ بلا مجازات كونٌ بلا وقائع صادقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي