الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطوة الى الامام أم خطوتان الى الوراء؟

جورج حداد

2019 / 1 / 21
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


(كتب هذا المقال ردا على "البحث" المنشور في مجلة "الحرية" في 9-9-1968، وبعتبر هذا "البحث" نقطة استقلال وانطلاق "الجبهة الدمقراطية لتحرير فلسطين" بقيادة الرفيق نايف حواتمة)
كنتم قد نشرتم (المقصود مجلة "الحرية") في العدد 429 الصادر في 9-9-1968 بحثا بقلم "بعض الاوساط التقدمية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بعنوان "ازمة العمل الفدائي: فقدان النظرية الثورية". ويعرض البحث سلسلة من المواقف يخترقها بالاجمال خط الانحراف اليساري، الذي يرفض الواقع رفضا مثاليا ميكانيكيا ـ لا ماديا ديالكتيكيا كما يحاول الظهور. نقول هذا مع الاشارة الى ان الانحراف اليساري في حالة المد الثوري الجماهيري يأتي بالدرجة الثانية من الخطورة في مقابل الانتهازية اليمينية التي تأتي بالدرجة الاولى. الا ان هذا لا يقلل من ضرورة كشف الانحراف اليساري وتصليحه في الوقت المناسب، لانه، اولا، يعمل على ايجاد بلبلة ضارة لا لزوم لها في صفوف الجماهير المناضلة حتى في ظروف المد الثوري، ولانه، ثانيا وبالاخص، لا يوجد سوى حاجز ورقي بين الانحراف اليساري والانتهازية اليمينية. فبين التعالي على الجماهير، والتخلي عن قضيتها، يوجد خطوة واحدة. بل ان التعالي على الجماهير، في حال استمراره، هو الطريق نحو التخلي عن قضيتها. وهذه هي خلاصة التجربة الستالينية,
ويؤكد هذا الاستنتاج المجرب، ان اصحاب البحث المنوه به يلتقون مع الانتهازيين اليمينيين ـ من جهتين متقابلتين في الظاهر ـ في اكثر من موقف اساسي، وخاصة في مهاجمة العمل الفدائي.
ونحاول فيما يلي لفت النظر الى المآخذ التي تعاني منها، في رأينا، المواقف المعروضة في البحث، مع التنويه بأن هذه المآخذ تترابط بعضها ببعض، وينتج بعضها عن بعض، بسبب ترابط المواقف ذاتها:
ـ1ـ لا يوضح البحث امام اي ازمة يقف العمل الفدائي، أأزمة تطور ام ازمة تقهقر، بل يقول: "ان العمل الثوري الفلسطيني على مفترق طرق، فهو اما ان يخدم الثورة او ينحرف، عن وعي او غير وعي، الى خدمة الثورة المضادة".
هكذا اذن: العمل الثوري... يخدم الثورة المضادة.
ان عدم فهم طبيعة الازمة التي اراد البحث مناقشتها، جعلته يقع في هذا الاختلاط الرهيب الذي يناقض ليس فقط المنطق الديالكتيكي، بل حتى المنطق الارسطوي البسيط. ونقدم فقط الملاحظتين التاليتين:
اولا ـ ان الجميع ضعفوا او "انكشفوا" في "5 حزيران" الا العمل الفدائي.
ثانيا ـ ان الازدواجية الاعتباطية في تفسير و"تخريج" الاشياء هي بالضبط السلاح "الفكري" الرئيسي في يد الستالينية ضد معارضيها. ودور هذه الازدواجية: إعداد القاعدة لتقبل اي موقف او تدبير تجاه الآخرين، من جهة، واطلاق يد القيادة ـ تبعا لذلك ـ في القيام بالتطبيقات الفوقية من خلف ظهر القاعدة، من جهة ثانية. فاذا تمت التطبيقات كان به، والا فإن كل شيء يكون مبررا سلفا.
ـ2ـ ويمتد الاختلاط الى ناحية جد مهمة، وهي عدم التمييز بين الضرورتيين المستقلتين، انما المتفاعلتين، اللتين طرحهما العمل الثوري الفلسطيني وهما:
أ ـ ضرورة تكوين التنظيم الثوري الجماهيري ضد العدو الوطني، كالفيتنكونغ حاليا او جبهة التحرير الوطني الجزائرية او الجبهة القومية في اليمن الخ... اثناء حرب التحرير...
ب ـ ضرورة تكوين الفصيلة الكفاحية الطليعية، المسلحة بالوعي الثوري العلمي.
والا، فما معنى اشتراط الماركسية ـ اللينينية و"المادية الديالكتيكية!" كأساس لتوحيد التنظييمات الفدائية، وهذا ما لا تفعله جبهة التحرير الفيتنامية ذاتها؟
ان الجماهير تقوم بالثورة دون ان يكون استيعاب الوعي الثوري العلمي شرطا مسبقا لذلك، لان حياتها ذاتها تدفعها للثورة. فالصراع الطبقي كان موجودا قبل ان يكتشف ماركس وانجلز المادية التاريخية. هنا، نحن امام مفهومتين متمايزتين هما:
ـ1ـ الضرورة.
ـ2ـ فهم الضرورة.
لقد كانت 95% من الجماهير الجزائرية أمية لا تعرف القراءة وطبعا تجهل الديالكتيك جهلا تاما. ولكن هذا لم يمنعها من الثورة والانخراط في جبهة التحرير، ليس باعتبارها حزبا ماركسيا ـ لينينيا، بل بوصفها جيشا شعبيا ثوريا. فماذا يعني اشتراط المادية الديالكتيكية، في مثل هذه الحالات، غير التعبير عن الانزعاج او العجز عنن قيادة وتوجيه المبادرة الثورية لدى الجماهير؟
ـ3ـ يعارض البحث بين الحرب النظامية والحرب الشعبية. ولكن بمراجعة تاريخ الثورات الكبرى والحروب التحريرية الطويلة، نجد ان الثورة كانت دائما تصنع جيوشها النظامية التي تشكل القسم الرئيسي او القوة الضاربة الرئيسية، في الجيش الشعبي الثوري، ولا تمتنع عن خوض جميع اشكال القتال، حسبما تفترض الظروف ونسبة القوى. وهذه عظمة الحرب الشعبية. هكذا كان في روسيا، وفي الصين، وفي فيتنام حاليا. ونظن ان السبب في هذه الصيغة المبتسرة للحرب الشعبية، التي تقصرها على حرب العصابات، هو عدم الثقة بامكان تكوين جيوش نظامية ثورية، بوجود الجيوش الحالية التي يعتبرها البحث "جهازا فعالا في يد البورجوازية لقمع الحركة الوطنية".
ولا عجب ان يقف البحث من الجيوش النظامية المحترفة هذا الموقف النظري المتشدد، طالما انه يقف مثله ـ مبدئيا ـ من العمل الفدائي، كما اسلفنا.
وبتشديده على سلبيات العسكرية المحترفة ينسى البحث ان العلامة المميزة للجيوش العربية هي انها كانت، بصورة عامة، احتياطيا للحركة الوطنية العربية، بل انها سدت فراغ عجز القيادات الحزبية والسياسية، في تغيير او تحريك الاوضاع في اكثر من بلد عربي. ونحن على ثقة بأن تصاعد العمل الثوري الفلسطيني والعربي، سيجد صداه الايجابي في صفوف الكتلة البشرية الاساسية للجيوش العربية.
هنا ايضا نجدنا امام نوع من عدم الثقة بالنفس الذي يتجلى في النظرة وحيدة الجانب واللاموضوعية في الموقف من الجيوش العربية خاصة، والمسألة الحربية عامة، أخطر المسائل التي تواجه حركة الثورة العربية.
ـ4ـ يصف البحث حرب التحرير بأنها "حرب طبقية توجهها ايديولوجية البروليتاريا"...
ومن اجل ارغامنا على القبول بهذه المعادلة التي نسمع بها لاول مرة يتدرج البحث بالشكل التالي:
أ ـ يتجاهل تجاهلا تاما ـ بل يبدي استغرابه في اكثر من موضع ـ من المسالة القومية، مسألة وجود الامة وحق الامم في تقرير مصيرها.
ب ـ يبسّط المفهوم التاريخي للوطن (شعب، حضارة، ارض...) الى درجة التحريف فيقول ان"النضال الوطني هو قتال من اجل الارض. والذين يقاتلون من اجل الارض هم الفلاحون الذين شردوا من ارضهم".
الوطن، اذن، هو الارض المزروعة، لا الصحراء او الشواطئ الرملية مثلا، ولا الصناعة والتجارة والثقافة. والمسألة الوطنية هي المسألة الزراعية، لا اكثر ولا اقل، وليست خاصة المسألة العمالية لان العمال "لا وطن لهم"!!!
ج ـ بهذا المفهوم المبسط للوطن، ينتقل البحث الى نفي وجود اي تناقض بين البورجوازية المحلية والامبريالية، دون محاولة التمييز بين القطاعات البورجوازية، ويتهمها كلها بأنها لا تفعل سوى قمع الحركة الوطنية وترويضها ومساومة الامبريالية والصهيونية. فمع لفت النظر الى عدم واقعية، وبالتالي ضرر، مثل هذه المواجهة، فإن اخطر ما فيها هو الهجوم الصاعق على البورجوازية الصغيرة. وهنا يقع البحث في تناقض غير مفهوم: كيف يهاجم البورجوازية الصغيرة، وكيف يتبنى الفلاحين (المنتجين الصغار والمرتبطين بالسوق) الذين هم الجمهوور الاساسي للبورجوازية الصغيرة في بلادنا؟
د ـ لا يجد البحث من الضروري ـ وربما لم يجد المستند لذلك ـ الاشارة الى اي دور مميز خاص تقوم به الطبقة العاملة عندنا (ككتلة بشرية) في الحركة الوطنية. ولذلك يستخدم صيغة "الجماهير الكادحة" بدل: البروليتاريا او الطبقة العاملة. مع العلم ان هذه الصيغة لا تعني البروليتاريا وحدها ولا الفلاحين وحدهم، بل تشمل جميع من يعمل ليعيش، اي كذلك الحرفيين وقسما كبيرا من الموظفين والمثقفين، اي القسم الاكبر من البورجوازية الصغيرة.
هـ ـ يذكر البحث "الاساس الطبقي الحقيقي للصهيونية" ليقول "ان مواجهة اسرائيل هي مواجهة طبقية جماهيرية بالدرجة الاولى".
ان هذه الصيغة "الطبقية" المشوهة وغير المفهومة لحرب التحرير هي خلط اعتباطي ـ وليست ربطا ديالكتيكيا ـ بين الثورة الوطنية والثورة الاشتراكية، مع سوء فهم او تشويه متعمد للثورتين معا. ونعتقد ان هذا الطرح الاعجازي للثورة الوطنية هو ناتج عن العجز الخاص في تسلم قيادة الثورة وتوجيهها.
ولا يفيد هنا اشهار ايديولوجية البروليتاريا كسيف ذي حدين: اما تستير العجز واخذ الثقة بالنفس من خلال النظرية المجردة، واما تبرير العجز واتهام الجميع بالعجز النظري. "فالجماهير الكادحة" بأكثريتها الساحقة ليست ـ في واقع حياتها لا على الورق ـ في وضع يسمح لها بإبداع او باستيعاب ايديولوجية البروليتاريا، التي هي مجموعة علوم بالدرجة الاولى.
فللوصول الى هذه "الثورة الثقافية" يجب المرور بالثورتين الوطنية والاجتماعية. والثورة السياسية لا ترتبط ميكانيكيا بالايديولوجية الثورية والمستوى الثقافي والفكري للجماهير، بل انه كثيرا ما تثور الجماهير بدون تبني ايديولوجية محددة، وحتى مع تبني ايديولوجيية رجعية. فحتى تصبح ايديولوجية البروليتاريا هي الموجه لحرب التحرير الوطنية، يجب فهم طبيعة الثورة وظروفها بعمق، وطرح الشعارات والخطط الملائمة للوضع، والنضال بدأب لتحقيقها، من اجل لف الجماهير وكسب ثقتها والارتفاع بمستوى كفاحيتها ـ على هذا الاساس. اما تشويه الواقع والانعزال عن الجماهير المناضلة، باسم ايديولوجية البروليتاريا، فإنه يبعدنا ولا يقربنا من هذه الغاية.
وانه لمما يثير العجب ان تطرح صيغة "الحرب الطبقية" ضد استعمار استيطاني كما هي اسرائيل. (وهنا يوجد باب سري خلفي للالتقاء مع الانتهازيين اليمينيين في الاعتراف باسرائيل باسم مناهضة الصهيونية "البورجوازية"!).
والاعجب ان يوافق على هذه الصيغة اعضاء من حركة القوميين العرب. ونقول "يوافق" لان هذه الصيغة هي بالاساس من صنع الانتهازيين اليمينيين الذين يعترفون باسرائيل باسم "الوحدة الاممية" المزيفة للبروليتاريا.
أليس في هذا الانتقال السريع من التطرف القومي الى التطرف "الطبقي" شيء من السطحية، وعدم الاصالة في الموقفين؟
ـ5ـ لا يظهر من البحث كله انه يعير اهتماما لما يعنيه كون اسرائيل استعمارا اسكانيا. وبالمستطاع تلمس هذا النقص من اكثر من زاوية نظر واحدة. الا ان اهم ما يجب الاشارة اليه هو وجهة النظر المعروضة حول العمل الفدائي من "الداخل" ومن "الخارج". ففي حين يركز البحث على اهمية "الداخل"، يقلل من اهمية "الخارج" لدرجة انه يعارض امتلاك الفدائيين لمدفعية مضادة للطيران حتى لا ينتهي بهم الامر الى التمركز في الخارج. ليس من اختصاصنا مناقشة مدى الارتباط التكنيكي بين حيازة مدفعية مضادة للطيران، وبين التمركز الموضعي. الا اننا نعلم ان ثوار الفيتكونغ يملكون هذا السلاح بكثرة. وهذا لا يمنعهم من مرونة الحركة بل يساعدهم فيها، لانه يساهم في شل فعالية الطيران في تجميد حركتهم.
ونحن نعتقد ان هذا التقسيم هو مصطنع وغير واقعي، لانه ينظر الى اسرائيل وكأنها استعمار تقليدي كما كان الامر في اليمن الجنوبي الخ... ومع التنويه بالاهمية القصوى لدور السكان في الارض المحتلة، في الاعمال الفدائية، فلا بد من تقديم الملاحظات التالية:
أ ـ في رأس استراتيجية الاسكان الاسرائيلية، الابقاء على العرب كأقلية في الاراضي المحتلة. وبذلك توفق اسرائيل بين ثلاثة اهداف هي:
1 ـ توفير الامن الداخلي.
2 ـ تغطية طبيعة اسرائيل القائمة على التمييز الطائفي والعنصري، امام الرأي العام الديموقراطي العالمي.
3 ـ الابقاء على شكل ما من "التعايش السلمي" العربي ـ الاسرائيلي (وليس العربي ـ اليهودي، لان الدين اليهودي موجود منذ زمن بعيد بين العرب)، كطعم للصلح الاستعبادي الذي تسعى اسرائيل والامبريالية لفرضه.
ومن الطبيعي ان امكانية تحقيق هذه الاهداف تتطلب شيئا رئيسيا هو ترويض الاقلية العربية التي يتم الاحتفاظ بها، فإذا ما فقدت امكانية لجم الاقلية العربية وترويضها، فلا يكاد يحتاج الى دليل ان اسرائيل ليست على درجة من "حسن النية" انها تحتفظ "بسيرك بشري" يقض مضجعها، لاسباب دعائية لا تعود واردة. ان لدى اسرائيل جوابا بسيطا على المقاومة الداخلية: النسف بالدناميت!
فأيا كان وضع الاقلية العربية في الاراضي المحتلة، فإن هناك حدودا للمقاومة "الداخلية". وهذا ما يجب ادراكه جيدا من قبل جميع المعنيين.
ب ـ ان الرد الفعال الاساسي، جوابا على استراتيجية الاسكان الاسرائيلية، واقامة المجتمع الاسرائيلي المصطنع، بقوة السلاح، على حساب المجتمع العربي الواقعي المكون تاريخيا، هو في تطويق اسرائيل بحزام مسلح من المشردين من ابناء الارض المحتلة، واعتماد استراتيجية التسلل الدائم، من كل الجهات، والضرب في كل مكان، لمنع الاستقرار عن "المجتمع" الاسرائييلي، وكشف حقيقته كثكنة عسكرية كبيرة، والتمهيد لتقويضه نهائيا. وهذا وحده هو الذي يرفع من مستوى مقاومة الاقلية العربية في الداخل، لانه يجعل اسرائيل تتردد اكثر في سياسة التهجير، دون ان تمنعها كليا بالطبع.
والتفريق المصطنع بين فدائيي "الداخل" وفدائيي "الخارج" هو ضريبة عالية جدا تدفع للدعاية الاسرائيلية. ولا نظن انه يوجد فدائي واحد يؤمن بشرعية اسرائيل، ولو كانت عضوا كامل الحقوق في هيئة امم نيويورك المتحدة.
ج ـ ان اسرائيل كلها، بأربع زواياها وايا كانت "حدودها": حدود "التقسيم" او "الهدنة" او "وقف اطلاق النار" او حدود الاله الفاشستي "يهوه" الذي حلل لبني يعقوب دماء واعراض جميع الاقوام بين الفرات والنيل، ان اسرائيل كلها هذه هي "داخل" بالنسبة للوطن العربي الذي غرزت فيه عنوة من الخارج. اننا لسنا من الذين يرتعبون امام فكرة التوسع الجغرافي لاسرائيل كي نوافق على سياسة الخوف والتبرؤ من الاعمال "العدوانية!" ضدها، بل نؤمن ان التوسع سيضعف مناعة اسرائيل ويضاعف فاعلية المقاومة العربية، في معادلة رياضية متعاكسة. ومع ذلك فإنه من السذاجة المتناهية النصح "بادخال" الوطن العربي او جزء "كاف" منه في اسرائيل لتفجيرها من "الداخل". ونقول هذا لتيقننا من ان اسرائيل ستشدد في تهجير السكان العرب مع اشتداد المقاومة وازدياد الرقعة المحتلة على السواء.
وبعد، فإن امكانات المقاومة لدى المشردين الذين فقدوا كل شيء تقريبا والذين اصبحوا خارج نطاق المراقبة الاسرائيلية هي اكبر منها لدى جماهير "الداخل". كما ان عدد المشردين هو اكبر من عدد المقيمين. والاستنتاج هو: ان مركز الثقل في المقاومة، هو لدى المشردين.
وسيزداد هذا الدور مع ارتفاع مستوى المعركة. وهذا لا يعني البتة تحويل العمل الفدائي الى معارك دوريات ونقاط حدود فقط. فهذا تحريف ساذج للحرب الشعبية، لا يعادله سذاجة الا التحريف القائل بالتركيز على عمليات سكان "الداخل"، اي ـ عمليا ـ قصر الحرب الشعبية على العمليات الارهابية الصغيرة وشبه الفردية التي ـ في حدود معينة "تسمح" بها اسرائيل، اي لا تستعمل ضدها التشريد واسع النطاق ـ لا تشكل خطرا وجوديا على اسرائيل، ويكون جل مفعولها معنوي لا اكثر.
فأي معنى يكون اذن لقسمة الجماهير المعتدى عليها، ولرفع "الداخل" وخفض "الخارج" غير الشك بالقدرة الذاتية على استقطاب الجماهير المناضلة؟
ـ6ـ يطرح البحث بحدة مسألة موقف الحركة الفدائية الفلسطينية من الاوضاع الداخلية في البلدان العربية. وهذه من اكثر مسائل العمل الفدائي حساسية، ان لم تكن اكثرها. وليست بنا حاجة لذكر وجهة نظر البحث، لانها معروفة جيدا ويمكن استنتاجها قياسا على بقية المواقف.
وحول هذا الموضوع يمكن قول الكثير: عن التركيز على العدو الرئيسي في الظرف المعين، وعن التحالفات والتسويات التي تخدم الثورة والاستفادة من جميع التناقضات الثانوية او المؤجلة (راجعوا لينين)، وعن تخلف الحركة الثورية او تخبطها في الصعوبات الداخلية في هذا البلد العربي وذاك، وعن الهاء العمل الفدائي الفلسطيني بتحميله مهمات ليست له بل لغيره من القطاعات الثورية العربية، وعن محاولة اجهاض العمل الفدائي بدفعه الى مواقف سابقة لاوانها تكون لهذا السبب يائسة وانتحارية، الخ... الا ان هناك ملاحظة اساسية لا يمكن اغفالها ابدا وهي:
ـ لم توجد حتى الان الاداة الثورية العربية الواحدة التي يفعل ويتفاعل معها الجميع، دون عقد التبعية والوصاية.
وقد فشلت الاحزاب والحركات ذات الامتداد الافقي في ان تكون هذه الاداة. وعوّض جزئيا عن هذا النقص، التعاضد والدعم المتبادل بين الحركات الثورية العربية. ولكن في بعض الاحيان مورست الوصاية "الثورية"، فكانت لها نتائج مفجعة. ونحن في لبنان ذقنا حى الثمالة مرارة هذه التجربة. الا انه كان يوجد من هو أسوأ حالا بكثير: الفلسطينيون، الذين أكرهوا اكراها على قبول جميع انواع الوصاية، ومن قبل الجميع. واسهمت جميع الاحزاب والعديد من الجماعات الانتهازية الفلسطينية في تكريس هذه الوصاية. وهكذا احيلت الجماهير الفلسطينية ذات التاريخ الكفاحي العريق، الى الاستيداع لمدة طويلة من الزمن الثمين. وجاء العمل الفدائي الفلسطيني يضرب معوله في جدار الوصاية العربية ليفتح ثغرة تزداد اتساعا وتنطلق منها المبادرة الثورية الجماهيرية. ودفع الفدائيون الاوائل، من دمهم الذي لطخ بعض الايدي العربية، ثمنا لانتزاع شرعيتهم الثورية. وحينذاك كانت جميع الاحزاب الفلسطينية لا تزال تؤيد الوصاية، بهذه الدرجة او تلك، بهذا الشكل او ذاك. وحتى الامس القريب ـ قبل بضعة شهور فقط ـ كانت القضية المركزية بالنسبة للعمل الثوري الفلسطيني هي لجم الوصاية العربية. وربما اصبح الان بالامكان القول ان هذا الهدف قد تحقق الى حد كبير.
والان، وبكل هذه العجلة والالحاح، يطلبون من العمل الفدائي ان يقف ديانا ليس لدايان فقط، بل ولجميع الاوضاع والانظمة والاحزاب والحركات العربية غير الفلسطينية. ولكن هذه ـ وأيا كانت النوايا ـ هي لعبة مكشوفة بسيف ذي حدين. انها دعوة صريحة للتدخل في شؤون العمل الفدائي، واعادة فرض الوصاية العربية على الجماهير الفلسطينية، كجزء من مساعي الحل "السلمي" الجارية امام وخلف الستارة. فإذا ما اقدم الفلسطينيون انفسهم على التدخل في شؤون البلدان العربية، قدموا بذلك الذرائع المطلوبة و"المرجوة" للتدخل العربي في شؤونهم. وبسبب اوضاعهم الحياتية الصعبة وتوزعهم الجغرافي، فسيكونون الطرف الاضعف، بكل تأكيد، في هذه اللعبة. وهم حينذاك لن يقدموا خدمة للحركة الثورية العربية، غير توسيع سوق الثرثرة.
وللذين يحرصون على الترابط بين قطاعات الثورة العربية نقول: لا تقطعوا اي رباط وانتم تشدونه اكثر من اللزوم. وبالنسبة للعمل الفدائي الفلسطيني، فإن وجوده بحد ذاته، هو اكبر "تدخل" (من النوع الذي تريدون) في الشؤون الداخلية العربية، لانه يمثل ـ موضوعيا ـ دور "الكاشف الكيماوي" تجاه جميع الاوضاع والانظمة والاحزاب والحركات السياسية غير الفلسطينية، ودور "الخميرة" الثورية في قلب الجماهير العربية.
... والى ان توجد الاداة التنظيمية الثورية العربية الواحدة.
ان الانتهازيين اليمينيين، الذين لا يجدون غضاضة في الكشف عن وجوههم مباشرة، ويسمون العمل الفدائي اتجاها عاطفيا مغامرا خطرا تدعو اليه عناصر من البرجوازية الصغيرة (يا للمصادفات العجيبة!) يقولون بصراحة متعمدين تشويه شعار استقلالية العمل الفدائي: "ليس صحيحا ما يدعو اليه بعض انصار الاتجاه المغامر... عزل القضية الفلسطينية عن حركة التحرر الوطني العربي ككل، وبالتالي ليست صحيحة الشعارات القائلة بحصر المعركة بالفلسطينيين وحدهم (من قال هذا؟)، بحجة "استقلالية" الحركات الفلسطينية ورفض "الوصاية" عليها. فالقضية الفلسطينية، وان كانت تهم عرب فلسطين بالدرجة الاولى، فهي تهم ايضا جميع الشعوب العربية" (انظر البيان الطويل "المهمات الملحة..." المنشور يوم الاحد 4 اب 1968، في العدد 2908 من جريدة "النداء" التي تصدر في بيروت).
ومن الواضح تماما ان هدف الانتهازيين هو اجهاض المبادرة الثورية الجماهيرية الفلسطينية ـ وبالتالي العربية ـ قبل ان يشتد ساعدها لدرجة يتعذر معها التحكم بها... والعودة الى ربط الحصان خلف العربة.
ولكن اذا صعب انتزاع الاعتراف "بالقصور" وطلب الوصاية، من الحركة الثورية الفلسطينية، أفلا يوجد بعض من يأمل بأن التوريط قد يقوم بالمطلوب؟
اننا نحاول بصعوبة ان نطرد من ذهننا الشك بوجود رغبة لدى بعض كتبة البحث، في العودة الى مواقعهم العملية الخاصة لما قبل 5 حزيران. اما الاغطية الايديولوجية فقد بليت من كثرة الاستخدام.
ـ7ـ سمعنا حتى الان اكثر من حديث حالم، ومن اكثر من جهة، عما يسمونه "هانوي عربية". اما هذه المرة، فإن البحث يعرض شبه برنامج عمل لتحويل الضفة الشرقية الى "هانوي" العتيدة (النقطة الثامنة من البحث). وهو يناقض نفسه بشكل عجيب، حيث سبق ان خصص النقطة السادسة للحديث عن: "اغوار الاردن حصار للعمل الفدائي". وما يجعلنا نتغاضى عن هذا التناقض كون البحث يمتلئ بالافكار المتناقضة مما يجعله بعيدا عن ان يسهم في حل "ازمة العمل الفدائئي"، بل يلقي عليها ستارا من التشويش. وننتقل للرد على الفكرة بالذات:
أ ـ ان فكرة "هانوي عربية" هي صيغة مجازية، ومعربة على عجل، لنظرية الجوار والامتداد الجغرافي للثورة. وهذه النظرية هي، بالاساس، فكرة استعمارية لتبرير التدخل المعادي للثورة. ولو كانت هذه النظرية ثورية حقا وصحيحة، فكيف قامت ثورة اكتوبر الاشتراكية الروسية، وعلى اي "هانوي" اعتمدت في الحرب الاهلية وحرب التدخل الاجنبي ضد السوفيات؟ وكيف قامت الثورة الصينية ضد ارادة ستالين الذي كان يؤيد حكم الكيومنتانغ؟ الخ...
وقد وجدت هذه النظرية سوقا رائجة لها داخل البلدان الاشتراكية والحركة الشيوعية العالمية، إبان العهد الستاليني، كشكل من اشكال تبرير "المركزية الاممية" التي تسترت وراءها القيادة الستالينية، لفرض ارادتها الاعتباطية على الشعوب الاشتراكية وعلى الحركة التقدمية والوطنية في العالم بأسره. وبموجب هذه النظرية صارت الثورة امتدادا توسعيا للسلطة السوفياتية، وصارت البلدان الاشتراكية مدى حيويا للسلطة السوفياتية.
ومعلوم كم جرّت وتجر هذه النظرية المزيفة من ويلات على الحركة الثورية العالمية، ان من جهة تشويه العلاقات بين الدول الاشتراكية، او من جهة حشر الحركة الشيوعية العالمية في قمقم وصاية موسكو الستالينية.
وجاءت الثورة في الجزيرة الكوبية المعزولة، والكثير من الثورات والحركات الوطنية والتقدمية في العالم، لتدحض نهائيا هذه النظرية. ولكن يبدو ان بعض الثوريين، وفي غمرة حماسهم للثورة الكوبية، ينسون الاستفادة من الدرس الاول والاهم الذي اعطته وهو: ان الثورة هي، اولا وقبل كل شيء، حركة اجتماعية ذاتية تظهر وتتطور وتنتصر في قلب وبظروف المجتمع المعين. ولا يدخل العامل الخارجي الا كعنصر ثانوي، مساعد او معيق، ولكن ليس كعامل رئيسي.
والذين يأخذون هانوي كما هي الان نسألهم:
ـ هل فكروا كيف خاضت الهند الصينية حربها التحررية ضد اليابانيين، ثم ضد الفرنسيين، يوم كانت مستعمرة، ويوم لم تكن توجد بعد الصين الشعبية؟
ب ـ ان "نقل الثورات" هو غير نقل الصيغ والنصوص. وليس واردا اصلا الحديث عن "فيتنام شمالية" عربية، لانه ليس واردا اصلا الحديث عن "فيتنام جنوبية" فلسطينية. فطرد شعب فيتنام الجنوبية هو اخر ما يفكر به الاميركيون، لانهم حينذاك يكونوا قد طردوا انفسهم. اما طرد الفلسطينيين فهو اول ما فعلته وتفعله اسرائيل ـ التي هي استعمار اسكاني كما قلنا آنفا ـ على اثر كل عدوان. وفي فيتنام، الشمال هو المثال الذي يناضل لاجله الجنوب، وهو الحاضر الذي يرى ابناء الجنوب مستقبلهم فيه. اما بالنسبة للمعركة مع اسرائيل فالمسألة معكوسة تماما. فإن ابناء "الشمال" العربي هم الذين يرون مستقبلهم الذي تريده لهم الامبريالية واسرائيل، في حاضر ابناء فلسطين. ومن جهة اخرى، فإن أبناء فلسطين والاراضي المحتلة يناضلون ليس من اجل "مستقبلهم" بل من اجل "ماضيهم"، وهم ليسوا في حاجة لأي مثال كي يناضلوا ضد الامبريالية واسرائييل من اجل استرداد وطنهم. هذه حقيقة بسيطة جدا لا تحتاج الى المادية الديالكتيكية لمعرفتها، كما لا تحتاج معرفة ان الشمس تغيب في المساء وتشرق في الصباح، الى دراسة علم الفلك.
ولهواة اللعب بالديالكتيك نقول: ان المعنى القاموسي المباشر للماضي والمستقبل لا يؤدي كل المقصود باستعمال العبارتين هنا.
لقد جرب في السابق اسلوب الانقاذ العربي، والاستعداد العربي، والنجدة العربية، والفلسطينيون في خيام وكالة الشحاذة الدولية ينتظرون ما يأتي ولا يأتي. وها هي النتائج!!! والاسلوب المشار اليه، بجميع اشكاله، هو "موديل غربي قديم" لنظرية "هانوي العربية" التي يحاولون الان إلباسها زيا عصريا يماشي الذوق الجاري.
والان، وامام دهشة او غيظ الخوري الذي لا يعرف ان يقرأ الا في نسخة الانجيل الخاصة به والتي نسيها بعيدا، بدأ العمل الفدائي دون وجود تلك الهانوي العربية الخيالية. واننا نرى كيف انه يستقطب لنفسه الدعم والتأييد المادي والمعنوي من الجماهير العربية قاطبة، وكيف انه يتوطد ويتقوى على حساب معارضيه، وعلى حساب اعدائه السابقين والحاليين، من العرب. وكيف انه ـ اخيرا لا آخر ـ يحرك الاوضاع العربية كلها ويدفعها دفعا الى الامام في المعركة الكبرى ضد الامبريالية واسرائيل والرجعية العربية الخائنة. واذا كان بعض الفدائيين ـ الى أي تنظيم انتسبوا ـ لا يعون هذه الحقيقة، فهذا لا ينتقص من قدر عملهم. فالذي اكتشف البخار هو ذاته لم يكن يدرك ان اكتشافه سيكون منطلقا للثورة الصناعية. ذلك ان احلام وتصورات الانسان هي عادة ادنى بكثير من ابعاد عمله.
ج ـ تتأكد لاواقعية هذه الصيغة في شقها العملي المقترح، اي في اقتراح تحويل الضفة الشرقية الى هانوي المطلوبة.
انه لتواضع جم حقا تبسيط معركتنا مع اسرائيل الى هذه الدرجة. ولكن المصيبة ان لاسرائيل "وجهة نظر" اخرى. فلا نعتقد انها على درجة من "الروح الرياضية" تسمح لها بأن تكون الطرف الاخر في "لعبة فيتنامية" مبتذلة. فاذا كانت هذه هي هانوي التي بالخلاص منها ينتهي كل شيء، فلا مانع لدى اسرائيل، ولا رادع لدى "هانوي العربية" من ابتلاعها في 24 ساعة. ويبقى حينذاك ان يستكمل البحاثة الجغرافيون ابحاثهم الجيو ـ ثورية.
ان الوطن العربي كله هو الفيتنام، او الصين، او روسيا الخ... ولكن بظروفه هو وعلى طريقته الخاصة. والتواضع المنوه به ينم ظاهريا، عن عدم ادراك كاف لطبيعة المعركة الضارية بين الامة العربية وبين الامبريالية واسرائيل، هذه المعركة التي غيبت وراءها سنين طويلة ولا زالت في اشد احتدامها.
ولكنه ليس بدون هدف، هذا التواضع. فالحقيقة ان مثال الفيتنام يستخدم من قبل البعض كحجة للتهرب من مسؤوليات المعركة القائمة فعلا، باسم التحضير للمعركة القادمة الحاسمة (!) بعد انشاء هانوي الوهمية.
وبالاضافة الى ذلك، وهذا ما نريد التأكيد عليه بصورة خاصة، فإن مثال الفيتنام يستخدم كوسيلة لاغراء التنظيمات الفدائية بالتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، بصورة عامة، وبالقفز الى السلطة في الاردن، بصورة خاصة. ومن يضمن حينذاك ان هذه "الشحمة" لن تكون طعما في مصيدة "الوصاية" العربية. وبالطبع انه ليس من شأن العمل الفدائي حماية اي نظام حكم عربي. واذا كان بعض الحزبيين يرغبون في اختصار الطريق الى السلطة خارج فلسطين، فلا شك انهم لن يجدوا معارضة من الفدائيين. ولكن، ليتركوا العمل الفدائي وشأنه، كي ينصرف بكليته للكفاح ضد العدو الرئيسي.
اما ان يحاولوا استدراج الحركة الفدائية لدعمهم في الوصول الى الحكم، مقابل دعمها في المعركة ضد اسرائيل، فتلك هي الانتهازية بعينها، وهي "مقايضة" من ابشع "مقايضات البورجوازية".
ـ8ـ ان البحث بمجمله هو بمثابة تلاوة فعل ايمان بالماركسية ـ اللينينية. وهو يقول: "ان القضية المركزية التي تكمن وراء عوامل الضعف في العمل الفدائي هي غياب الايديولوجية الثورية" وان "المنظمات الفدائية كافة غير محصنة عقائديا وبالتالي طبقيا" (اي انه لا يستثني اي تنظيم فدائي، بما فيه "الجبهة الشعبية"، وكان في اعتقادنا غير ذلك قبلا). وواضحة هي نية الاتجاه نحو التحول الى تكوين الحزب الماركسي ـ اللينيني، وهذه ـ مع غيرها ـ هي احد اشكال الظاهرة الايجابية، ظاهرة تقدم البورجوازية الصغيرة العربية، التي كثر الطامحون الى سلخ جلدها هذه الايام، نحو تبني الايديولوجية البروليتارية، طردا مع تقدم حركة الثورة العربية واحتدام المعركة مع الامبريالية واسرائيل والرجعية.
ولكن شدة الاعجاب بالنفس، نتيجة القدرة على اكتشاف وجود الماركسية ـ اللينينية، لا يجوز ان تكون سببا لنسيان الشيء الجوهري في هذا الصدد، وهو ان الماركسية ـ اللينينية هي، اولا وقبل اي شيء، الطريقة الانتقادية الموضوعية، الثورية والعلمية، في البحث والتحليل والاستنتاج. وما سوى ذلك هو "ترانيم بلا معنى" و"جثة بلا روح".
فكيف يريد كتبة البحث ان يؤمن الاخرون بأصالة ايمانهم بالماركسية ـ اللينينية وهم:
اولا ـ يتناسون ذكر اي شيء، وأي كلمة، عن اخطائهم ونواقصهم الخاصة، كأنما هم لا يخطئون في قول او عمل، او كأنهم لم يكونوا حتى البارحة فقط من معارضي العمل الفدائي، والماركسية ـ اللينينية على السواء. فماذا يمنع اذن، ان يتخلوا غدا عن هذه او ذاك، او عن الاثنين معا، دونما حاجة لاي تفسير علمي مقنع. ان هذه ليست علامة بروليتارية، بل علامة سوقية، نسبة للبرجوازية التجارية التي تبيع دائما "اجود الاصناف"!! وليست علامة ماركسية ـ لينينية، بل علامة "شيوعية"، نسبة الى قياداتـ"ــنـا" الشيوعية التي تتقلب في مواقفها باتجاهات الرياح الاربع، وهي دائما على "صواب"!!
ثانيا ـ يتناسون ايضا، وهم يدعون الى تشكيل حزب ماركسي ـ لينيني جدبد، وجود حزب قديم يسمي نفسه كذلك. وهذا الحزب ينقسم ـ لضرورات تقتضيها "مادية" العمل و"ديالكتيك" السوق ـ الى قسمين هما : الحزب الشيوعي الاسرائيلي، والحزب الشيوعي الاردني. اجل، وداعا يا فلسطين، وداعا ايتها الثورة، ومرحبا يا تجارة الاوطان والمبادئ!
واذا كانت التنظيمات الفدائية كافة ـ كما بقول البحث ـ غير محصنة عقائديا، وبالتالي طبقيا، فليس الذنب ذنب المناضلين الشعبيين الاميين او المؤمنين بالله، ربما، وانما الشرفاء الصادقين والمتفانين لاجل الثورة، بل هو ذنب مشعوذي الديالكتيك ورافعي العلم الاسرائيلي.
ولن تكون الحال افضل بالنسبة لعملية التحصين العقائدي الضرورية، والواجبة على كل ثوري واع، اذا جاءت فئة جديدة تصرخ بالمناضليين الشعبيين: "قفوا، لا تطلقوا النار. ادرسوا اولا المادية الديالكتيكية!".
وكان الأولى بكتبة البحث، اذا كانوا جادبن في ماركسيتهم، ان يقولوا رأيهم في الحزب "الماركسي" ذي الوجهين الحالي، لان السكوت هو اسهام غير مباشر في تشويه الماركسية، ولان من يسكت سيوصم حتماا بأنه من الصنف ذاته...
اما ان تحاكم الضحية بمثل هذه الصرامة "العقائدية"، ويترك الجاني دون ازعاج خاطره بكلمة، فذلكم ما لن يفهمه احد، ولن يأخذ اصحابه على محمل الجد.
واما اذا كان لدى البعض رغبة في تقديم رأس يوحنا المعمدان لارضاء الراقصة صالومي، فذلك اضغاث احلام. لان المبادرة الثورية الجماهيرية ليست، كيوحنا، اسيرة لاحد. وان كان الانتهازببون اليمينيون أسوأ من صالومي.
XXX
وبعد، انا واحد من الكثيرين الذين استبشروا باتجاه حركة القوميين العرب نجو الماركسية، دون نسيان الماضي الانتهازي لقادة "الحركة". واعتقد ـ ما زلت ـ بأن ذلك سيساعد عملية التفاعل بين المبادرة الثورية الجماهيرية والفكر الثوري العالمي، لبلورة ولادة الطليعة المناضلة الواعية، من قلب الحركة الجماهيريية الثورية. ولكننا نرى كبف ان امثال المواقف المنحرفة التي ناقشناها، تعرقل هذه العملية، وتستخدم الماركسية ـ اللينينية ليس كسلاح في يد الجماهير المناضلة، بل كسلاح ضدها، وليس كوسيلة توعية، بل كستار للانتهازيين والفراريين، وكذريعة "لتطفيش" الفدائيين وتشويه حقيقتهم وخلق جو معاد لهم. وكواحدة من ثمار هذه السياسة غير المسؤولة والمشبوهة، لم أر ـ مثلا ـ "قوميا عربيا" يصدق انه يوجد بين فدائيي "فتح" او غيرها ماركسيون حقيقيون. وهذا افتئات صارخ وتشويه متعمد للواقع. فاكتشاف الماركسية ـ اللينينية لم ولن يكون وقفا على قيادة "الحركة". ولكن مجرد هذا الاكتشاف ليس كافيا لاي كان، كي يتصدر مركز "الطليعة" وينصاع له الاخرون اوتوماتيكيا.
واذا كنا كتبنا هذه الملاحظات، بمثل هذه الصراجة "الجذرية" ـ كما ارادت "الحرية ـ فلأننا نجل كل الاجلال أولئك المناضلين من "الحركة" المنضوين تحت علم الفداء، والذين تعمدوا بالدم. ولاننا نتمنى ان يكون تبني الماركسية ـ اللينينية بمثابة خطوة اخرى الى الامام، نحو الالتحام بجماهير المناضلين، وليس خطوتين واكثر الى الوراء، نحو "الشيوعية الانتهازية"!
(كتب في ايلول ـ تشرين الاول 1968)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.