الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[51]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 21
الادب والفن


صبري يوسف

51. بمناسبة حديثكِ عن صقلّيةَ في أجوبتكِ السّابقة، لاحظتُ أنّكِ ناديتِها بالأمّ الرّؤوم المعطاءة، وأطلقتِ عليها كذلك لقب جزيرة الشَّمسِ، هل لكِ أن تحدّثي قرّاءك ومتتبّعيكِ عن هذه العلاقة الرّوحيّة الّتي تجمعكِ بها، وعن سرّ هذه المحبّة العارمة بينكما؟!

د. أسماء غريب

اعلمْ يا أيّدَكَ اللهُ بنورهِ ومحبّتهِ أنّكَ إذا دخلتَ صقلِّيةَ فلا بدّ أنْ تُخْتَطَفَ كما اختُطِفَتْ ذات نزهةٍ بِرْسيفوني في مدينة إينّا بالقرب من بحيرة بيرغوزا، واعلمْ أنّ الإلهَ هايديس الخفيّ سيجذِبُكَ معهُ إلى عالم الموت والأموات، هناكَ حيثُ ستأكلُ من رمّانة المعرفة ستَّ حبّاتٍ تسمحُ لكَ بالصّعود مرّةً إلى الأرض لستّة أشهر، ومرّة أخرى بالغوص في العوالم الجوفيّة لستّة أشهرٍ ثانيةٍ ما دامتْ قدماكَ قد وطِأتَا أرضَ اللّقاء والعناق، وعيادة الشِّفاء من كلّ علّة وداء.
واعلمْ أيّها العاشقُ المتعلّقُ بأهدابِ حانةِ الحاء ومحراب الباء، أنّه ليس لكَ أيّة طريقة للنّجاة ممّا أنتَ فيه سوى أن تعرفَ للعُمْقِ معنى أن تكون بصحبة برسيفوني وزوجِها هاديس، وإذ تطلبُ الإيضاحَ أكثرَ فأكثر فإنّي أقولُ: أيْ نعم، برسيفوني هي رفيقة الغرباء والمغتربين أينما كانوا وحلّوا، لكنّها تصبحُ أمَّهم الحنون المعطاءة الرّؤوم إذا كان هؤلاء الغرباء من أهل الخاصّة المقيمين مباشرةً على أرضها ومملكتها. وإذ تسألني كيف ذلك؟ أقُولُ لكَ: لأنّني أقيمُ بصقليّة عرفتُها ورأيتُ بعين قلبي هاديسَ الخفيَّ صاحبَ الجاه والسّلطان وحقول الذّهب والياقوت والرّمان. ستقول؛ وهل ثمّة من يقوى على الدّخول إلى عالم الموت والموتى وإلى قلب الجحيم؟ وسأجيبكَ؛ نعم، ما من أحدٍ إلّا وله عالمه السّفلي، وما من أحد إلّا ولهُ جحيمُه مصداقاً لقول صاحب المُلكِ والملكوت: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) (مريم: 71). وما عالمُ الموتى سوى ذاك المكانُ من لاوعيكَ الباطن الّذي تختزنُ فيه الذّكريات والآلام والآهات، والأحلام الصّغيرة والكبيرة، والدّموع والأمنيات، والرّغبات الدّفينة وغيرها من الآمال المكبوتة أو المقهورة، وأمّا الجحيمُ فهي اللّاوعي الجمعيّ للإنسانيّة بأسرها هناك حيث تختزن الآثام والنّقائص والجرائر والجرائم الّتي ارتكبها ومازال يرتكبها لليوم وسيرتكبها الإنسان على مرّ العصور والأزمان. ولا أعرف لليوم كيف ثمّة من يُفكّر أو يرغب في إلغائها مِنَ الفلاسفة ورجال اللّاهوت بدعوى أنّ الله محبّة، وأن وجود الجحيم يتنافى مع فكرة المحبّة والسَّلام نفسها.
اعلمْ أيّها المتبرقع بالبهاء وآياتِ السّناءِ، أنّ اللهَ من بابِ المحبّةِ جعلَ الجحيمَ من ضروريّات الوجود الإنسانيّ، ومن أهمِّ الرّكائز الّتي بها تتطوّرُ الإنسانيّة ويتقدّمُ الفكر البشريّ نحو الأفضل والأرقى. إنّها ليست بمكان للعذاب والعقاب، وإنّما هي مكان للتطهُّر والانصهار والتّحوّلِ من حال إلى آخر أفضل منه، ومن لا يعتقدُ في الجحيم، فإنّه يُفرغُ التّجربةَ الإنسانيّة على الأرض من معناها، هكذا علّمتني برسيفوني حينما التقتني بباب جزيرة الشّمس، صقليّة أرض الخيرات والبركات، وأرض اللِّقاء والحوار، وتثاقف الشُّعوب والحضارات.
وما اختطافُ هاديس لبرسيفوني إلّا إعلان عن لحظة الوعي الدّاخلي، واليقظة الرُّوحيّة الَّتي تدفع بالإنسان دفعاً إلى عوالمه الدّاخليّة ليغوص فيها ويتعرّفَ على صُورها وأحلامها، ويتعلّم كيفيّة قراءة رموزها ورسائلها، فإمّا يخرجُ منها سالماً معافى، وإمّا يبقى سجيناً بداخلها إلى الأبد، يتعثّرُ في الحياة ويفشل في كلّ شيء ويصبح غير قادر على التّفاعل والإنجاز والمشاركة في مسار التَّطوُّر التّاريخي والحضاري للإنسانيّة جمعاء. وأن تصبح مثل برسيفوني مَلِكاً متوّجاً في العوالم الباطنيّة، فهذا يعني أن تصبح عارفاً بنفسكَ وبكلِّ تفاصيلها وتلويناتها ودرجاتها المتأرجحة بين النّفس الأمّارة والنّفس اللّوَّامة ثمَّ النفس المطمئنّة، حتّى تتمكَّن من التَّحكُّم فيها وتصبح في الختام سيّدَ نفسكَ لا عبداً لها.
واعلمْ أيّها النّاظر إلى شجرة البوح أنّكَ ابنُ الوقتِ والمكانِ، وليس فيهما أحد غيركَ، وانّكَ إذا دخلتَ جزيرة الشَّمس ستنفتحُ عينُ قلبكَ بشكلٍ كامل ومكتمل وستبدأ في رؤية هذه الجزيرة كما هي؛ بشموسها وأقمارها، ونجومها وكواكبها، لأنّ برسيفوني الرّوح هي من ستصبح دليلكَ في عوالم هذا المكان الآسر المفعم بالأسرار.
نعم، فصقليّة جزيرة الأسرار، وليس ثمّة من مكانٍ فيها إلّا وبهِ سرّ، لذا فهي مسرح عرفانيّ مفتوح على كلِّ الجهات وفي كلّ ساعة من ساعات اللّيل والنّهار، وكيف لا تكون كذلك وقد قصدها عرفاء العرب وعلماء المسلمين منذ زمن بعيد باحثين عن أسرارها قارئين سماءها ونجومها، ساعين إليها بالمحبّة والتّقدير والإجلال، كابن الفحّام شيخ القرّاء نزيل الإسكندرية ومؤلِّف (التّجريد في بغية المريد) وكتاب (مفردات يعقوب)، وكذلك حجّة الدِّين وبرهان الإسلام أبو عبد الله بن أبي محمّد صاحب (سلوان المطاع في عدوان الطِّباع)، وهو من النَّوع الأدبيّ المعروف بمرايا الأمراء وهو شبيه بكتاب كليلة ودمنة، وكذا الشّيخ العارف الّذي قصد صقليّة في منتصف القرن التّاسع عشر، وسكن في بيت جعل منه مقاماً للذكر والصّلاة لم يكتشف الصّقلِّيون وجوده إلّا سنة 2003، ولم يعلنوا عنه بشكل رسميّ إلّا سنة 2014، وأطلقوا عليه اسم غرفة العجائب، الّتي بات يأتي لزيارتها البحّاثة والمؤرِّخون من كلّ جامعات العالم، ليعاينوا عن قربٍ ألوانها وزخارفها البديعة، والكتابات المنقوشة على الجدران الّتي يتكرَّر فيها اسمُ الجلالة إلى ما لانهاية جامعة بين اللُّغتين العربيّة والسِّريانيّة .
وكوني أعطيتُ صقليةَ صفة المسرح العرفانيّ، فذلك لأنّني ما كنت في مكان أو مدينة منها إلّا ورأيتهما يخاطباني بلغة أهل المحبّة والعرفان، فهذه حدائقها الغنّاءة تكلّمني، وتلك أسوارها العتيقة وأقواسها العجيبة تروي لي عن حضارات كانت هنا ومضت، وتلك كنائسها ذات الهندسة والمعمار العربيّ - النّورمانيّ البديع وكذا مساجدها الضَّخمة الّتي تشهد على تاريخ العرب بها منذ أن دخلها ثالث أمراء الأغالبة زيادة الله الأوَّل وقاضي القيروان أسد بن الفرات، إلى أن سقطت بلرم عاصمة العرب في أيدي المغيرين النّورمان سنة 1072م.
وبلرم هذه أو باليرمو هي حقّاً مدينة العجائب الّتي لا يوجد مثلها في البلاد وقد نشأت وترعرعت بين أحضان نهريْ كْريمُونيا وبابيريتُو. ولها من العيون والينابيع والآبار ما لا يعدُّ ولا يُحصى، وقد كان العربُ هُمْ أوّل مَن أوْلى اهتماماً متميّزاً وعناية خاصّة بثروات المدينة المائيّة فأنشأوا لها القنوات والأحواض والأبراج وحدّدوا خريطة كبرى لكيفيّة توزيع الماء على المدينة وعلى كل المناطق المجاورة لها.
وبعد الحرب العالميّة الأولى تمّ تدعيم استهلاك الماء عبر اللّجوء إلى الاحتياطي من الثّروة المائيّة والبدء في استخدام عيون أخرى كعين الملاك جبريل وعين القدِّيس (تشيرو ـ البحر العذب). ويبقى هناك نبع بعينه له مكانة خاصّة بالمدينة وقد ظلّ اسمه هكذا على صيغته العربيّة القديمة (نبع الغربال). ويتكوّنُ من أربع عيون: عين كوبا (أي عين القُبّة)، وعين الملاك جبريل، وعين كابوفْرانكو ثمَّ عين نيكْسيو.
وفي الحديث عن الماء حديث عن الحضارات الَّتي تنشأُ بالقرب من الأنهار، ويبني النّاسُ حولَها من المعالم ما يبقى شاهداً على وجودوهم ورقيّهم، وفي باليرمو توجد آثار تشهد على ما عاشته صقليّة من رخاء وتحضّر وتمدُّن مثلاً الأديرة ذات القباب الحُمر، وأخصُّ بالذّكر منها دير القدِّيس سان جوفانّي دَيّي إيرميتي؛ الّذي بُنيَ بأمر من الملك النّورماني الصّقلِّي (رودجيرو) الثّاني (22 كانون الأوَّل 1095 – 26 شباط 1154)، وهو في هندسته المعماريّة يجمعُ بين الأسلوب العربيّ الإسلاميّ والهندسة النُّورمانيّة المسيحيّة، ذلك أنّ الدّير بُنيَ على بقايا كنيسة قديمة حوّلها العرب إلى مسجد إبّان حكمهم بصقلية، وقد طلبَ (رودجيرو الثَّاني) من مهندسه أن يعيدها إلى أصلها الأوَّل ويجعلَ منها كنيسة جديدة مع الحفاظ على المعالم الإسلاميّة كاملةً ويبني إلى جانبها ديراً خاصّاً بمستشاره الأب (سانت إيرميت) ويكون مُهدى للقديس يوحنّا المعمداني. وقد أعيد ترميم هذه الكنيسة ــ المسجد سنة 1882.
وغير بعيد عن هذا الدّيرِ توجدُ مَعْلمة أخرى هي من أجمل معالم المدينة وتسمّى بثُماني الشَّمس وذلك نسبة لشكلها الهندسي الّذي يجمع أطراف أهمّ شارعيْن في المدينة وأعني بهما (شارع ماكْويدا، وشارع القصر أو روما). كما تسمّى المَعْلمة أيضا بمسرح الشّمس وذلك لأنَّ الشَّمس تتحرّكُ فوق كلّ ركن من أركان الثُماني وتستقرُّ عليه لفترة معيّنة من النّهار.
تمّ إنشاؤها ما بين 1609 و1620 وقد زُيّنت بالعديد من المنحوتات الباذخة الجمال، إذ هناك نافورات تمثّلُ أنهار المدينة العتيقة وهي نهر أوريتُو، ونهر كيمُونيا، ثمَّ نهريْ بانّاريا وبابيريتو، وقد تمّ تجسيد هذه النّافورات عبر أوجه منحوته ترمزُ إلى آلهة إغريقيّة وأخرى رومانيّة هي كالآتي: إيولّو إله الرِّيح، فينوس إلهة الحبِّ والجمال والخصب، سيرس إله الزِّراعة، ثمَّ باخوس إله الخمر.
ولا شكّ أنّ حديثنا عن مسرح الشَّمس وتماثيله الرّائعة سيجرّنا إلى الحديث أيضاً عن المسرح بشكل عامّ في صقلية وخاصّة بالجزء الشَّرقيّ منها الّذي لمعتْ فيه نجوم من رواد المسرح الإيطاليّ وكتّابِه مثلاً لويدجي بيراندلّو الّذي بلغت شهرته عنان السّماء بعد أن حقّق نصُّه المسرحيّ (الرّاحل ماتيا باسكال) نجاحاً ساحقاً وكان قد عالج فيه إشكاليةَ التّناقض بين الظّاهرِ والحقيقة، والشَّكل والواقع. وماتيا باسكال هو الإنسان الّذي بفقدانه لهويّته يفقد أيضاً إمكانيّة العيش في هذا العالم.
بيراندلّو هو ابن الفوضى: كان والده رجل صناعة وثراء وبذخ، يملكُ منجماً سرعان ما دمّره الفيضان فأصبحت حياته وحياة أسرته محكومة بالضّياع والتّشتُّت والفقر.
وفي سنة 1924 أصدر لويدجي رواية (واحد، لا أحد، ومئة ألف)، وقد اعتبرها النّقادُ آنذاك العملَ الأكثر مرارة وسوداويّة ضمن أعماله السَّابقة، بل الأكثر معالجة لإشكاليّة تفكُّك الحياة واضطرابها المستمر.
وقد راكم لويدجي في حياته العديد من الأعمال المسرحيّة والقصص العالميّة الّتي أضحت علامة فارقة في الأدب الإيطاليّ والعالمي برمّته ممّا جعله يحصل سنة 1934 على جائزة نوبل للآداب.
كان لويدجي يشبه إلى حدٍّ ما ليو تولستوي، الأديب الثَّري الَّذي كتب عن الفقراء والمعوزين، إلّا أن لويدجي كان رائد الواقعيّة في الحياة بدون منازع لما كان لنصوصه من عميق الأثر في حياة الجماهير عبر تبنّيهِ لتقنيّة المسرح داخل المسرح من خلال شخصيّاته الّتي تقتحمُ بشكل مفاجئ الخشبة وتتحرّكُ بطريقة هذيانيّة عجيبة، وكل واحدة منها منهمكة في تقديم نفسها، إمّا عبر الحديث المباشر، أو عبر تقنيّة الاسترجاع الفنِّي (flashback)، أو عبر الارتجال الّذي أعني به هنا الارتجال الوهمي الّذي من خلاله كان بيراندلّو يقدّم واقعاً قد يبدو في نصوصه محدود المعالم ولكنّه في الحقيقة واقع تتغيّر معانيه باختلاف وجهات النّظر، وذلك لتأثّره بمسرح النّسبيّة والتّكعيبيّة على حدٍّ سواء، لأنّ فنّهُ يهتمُّ بعلاقة المسرح بحركة المجتمع، وعلاقة الوهم المسرحيّ بالجمهور، الشَّيء الّذي يخلق لدى هذا الأخير نوعاً من الحيرة فلا يعرف أين تبدأ الحقيقة وأين ينتهي الوهم المسرحيّ.
ويوجد في العاصمة باليرمو أكبر مسرح في أوروبا وهو مسرح (ماسّيمُو فيكتور إيمانويله) أمّا بالنّسبة للسينما فهناك أسماء لامعة في هذا المجال عديدة لكنِّي أفضّلُ التَّركيزَ على اسم معين وأقصدُ به: (دجُوزيبّه تورناتوره) وهو مخرج إيطالي من صقلّية له أفلام ملتزمة، وخاصّة تلك الّتي تحكي عن الهجرة الصّقلية إلى أمريكا، اشتهر أيضاً بإخراجه للفيلم الرّائع: أسطورة 1900: أو (La Légende du pianiste sur l océan)، وله أفلام أخرى كرجل النُّجوم، والمرأة المجهولة وباغيريّا، وسينما الجنّة
في صقلّية شدّني أيضاً هذا الاهتمام بالموت الّذي تجده في كلّ مكان كرمز للحياة نفسها، والعبور من مقام إلى مقام، وهذا يعني أنّني أينما وجّهتُ بصري كنتُ أجدها حاضرة؛ برسيفوني الفاتنة، الكاهنة والملكة الّتي تملك مفاتيح العلوم وتعرف خبايا الأرض وأقبيتها السّاحرة، فهي موجودة حول الطّاولات عند احتفال الصّقلّيين بأعياد الموتى، وهي حاضرة أيضاً في ذاك المتحف الكبير الّذي أنشأه سكّان مدينة باليرمو وخصّصوه فقط للموت وأهل القبور وقد سبق لي أن زرتُه أكثر من مرّة وفي كلّ مرّة كانت تصلني منه إشاراتٌ عن الحياة وأهلها، وفي أحايين أخرى لطائفٌ عن الموت ومعانيها.
يوجد هذا المتحف بالقرب من كنيسة الرُّهبان أصحاب الجلابيب والأقباب (I capuccini) أو كنيسة مريم سيّدة السَّلام وهذا اسمها الثَّاني. وقد تأسَّست هذه الكنيسة بمدينة باليرمو سنة 1565 من طرف رهبان من نظام الرَّهبنة الكبوتشيّة الّذي كان في البداية ينتمي إلى حركة إصلاحيّة كان يقودها القدِّيس الإيطالي الشَّهير سان فرانتشيسكو ثمَّ استقلَّت عنها سنة 1619.
ويوجد بهذه الكنيسة فضاءات ودهاليز مختلفة كان يخصّصها الرُّهبانُ عادة لدفن موتاهم إلى أن طرأت ذات يوم واقعة غريبة: فأثناء عمليّة حفر داخل أحد الأقبية من أجل توسيع المكان حتّى يضمّ أكبر عدد ممكن من أجداث موتاهم، وجد أحدُ الرّهبان داخل هذا القبو أكثر من جثّة لم ينل منها الموت بديدانه شيئاً، وإن مرّت سنوات عدّة على دفنها، فخطرت لهم فكرة إنشاء مكان آخر يكون قريباً من الكنيسة يخصُّصونه لدفن الموتى سواء كانوا من الرّهبان أو من غيرهم من سكّان المدينة، على أن يكون حفظ الموتى به حسب تقنيات جديدة تعتمد على التَّحنيط بهدف صيانة الجثت كما هي. وهكذا ظهر إلى الوجود منذ بدايات القرن السَّادس عشر ما يسمى اليوم بمتحف الموت والموتى. إذ أنَّ النّاس كانوا يحملون إليه موتاهم ويؤدّون مقابل التّحنيط أجراً معيَّناً وكلَّما كانت عمليّة صيانة الجثّة كاملة ومتكاملة ودقيقة وجيدة ارتفع السِّعر.
وتضمُّ هذه المقبرة إلى اليوم ما يقارب ثمانيةَ ألفِ جسد محنّط، بين أسياد ووجهاء ونبلاء، وموظِّفي دولة من أصحاب الرّتب العليا سواء في الجيش الإيطالي أو جهاز العدالة والقضاء أو أسماء أخرى من رجال الطُّبّ والمال والأعمال والخدمات الدِّيبلوماسيّة والسّياسيّة وغيرِهُم من أناس آخرين من الطّبقات العاملة والمزارعين والنّاس البسطاء. ومن بين الأسماء الّتي بقيت عالقة بذاكرتي أذكر على سبيل المثال لا الحصر الكولونيل (راغونا) والكولونيل (دي جوليانو) وهما معاً من رجال الجيش الإيطالي البوربوني. ثمَّ نائب القنصل الأمريكي الَّذي كان يعمل هنا بباليرمو سنة 1910، والطّفلة الأعجوبة (روزاليا لومباردو) الّتي توفِّيت سنة 1920 وبقيت جثَّتُها إلى اليوم كما لو أنّها دفنت بالأمس. وهذه الطّفلة الّتي لم يتجاوز عمرها السّنتيْن، يعتبرها الإيطاليون من الكنوز الأركيولوجية النَّادرة لأنّها تحوي سرّ عمليّة التّحنيط الّتي قام بها الدّكتور (سالافيا) دون أن يكشفه لأحد. ولليوم لم يزل العلماء في بحث مستمر علّهم يتوصَّلون إلى هذا النَّوع من عمليَّات التَّحنيط ذات الجودة والدّقّة العالية.
أمّا عن أول من حُنّط بهذه المقبرة فكان الطِّفل (فرانشيسكو دافولو Francesco d’Avolo) سنة 1570 وقد كان ابن نائب الملك ماركيز بيسكارا، ثمَّ السَّيِّد (Giacomo lo tignoso دجاكومو لوتينيوزو) وهذا الأخير لم يكُنْ من وجهاء القوم أو من نبلاء الطَّبقة الحاكمة بل إنساناً بسيطاً لكن لا يُعرف سبب تحنيطه ووجودِه داخل المدفن في الجزء المخصّص للنبلاء إلى اليوم.
سؤال آخر يلحُّ على الفكر وقد حان وقت طرحه: لماذا كان يصرُّ أهل مدينة باليرمو على تحنيط موتاهم؟
حينما كنتُ أتجوَّل بين أروقة هذه المقبرة أو المتحف كما تسمّى اليوم، بدت لي الجثث المحنّطة وكأنّها في صالة عرض أركيولوجي، وأضع خطّاً عريضاً هنا تحت مُصطلح أركيولوجي، إذ الأمر ليس فيه أبداً من عبثيّة ولا أي نوع من المبالغة، فبعيداً عن المشاعر المتناقضة الّتي من الممكن أن يصاب بها الزّائر وهو يجول بين الموتى وجماجمهم ومنظرهم المخيف، إلّا أنَّ هذا الظّاهر ثمّة شيء وراءه بل أشياء ومعلومات لا يمكن التَّغاضي أبداً عن قيمتها العلميّة والتّاريخيّة العالية والشّديدة الأهمِّيّة.
فأوّلُ شيء لاحظته هو رطوبة المكان وهذا مردّه إلى كونه يوجد في قبو تحت الأرض تصل إليه عبر نزول عدد معيَّن من الأدراج ثمَّ عبور زقاق طويل يأخذك مباشرة إلى بهو كبير جدّاً مقسّم إلى عدد من الصّالات المفتوح بعضها على بعض. أما داخل الجدران فقد فُتحت رفوف من الحجر صفّت فوقها أجساد الموتى المحنّطة إمّا بشكل أفقي أو عمودي. وثاني شيء شدّني ما إن وقفتُ أمام بعض الأجساد المحنّطة هو هذه الرّائحة القوية الّتي لا علاقة لها أبداً برائحة الموت أو التَّحلل، ولكن فيها إشارة على الموادّ الَّتي كانت تُستعمل آنذاك في التَّحنيط، هذا من النّاحية العلميّة الطّبِّية، أمّا وإذ اقتربتُ أكثر فأكثر من الأجساد، فإنّني وجدتني أمام كتاب الموت الكبير الّذي كُتبَ فيه كلّ شيء يكفي فقط أن يعرف الزّائر كيفيّة قراءته: فشكل الجمجمة فيه تاريخ الانحدار وجنسه، وشكل الأسنان فيه نوعيّة المعيشة، وشكل عظام اليدين حرفة الميت، وملابسه أيضا فيها إشارة للحقبة الّتي كان يعيش فيها، من غطاء الرّأس إلى جوارب القدمين. وقد حرصَ المُحنِّطون على أن يحتفظوا لكلّ جسد بلباسه، لأنَّ أهل باليرمو آنذاك حينما كانوا يصرّون على تحنيط موتاهم ففي ذلك تمسُّكهم بموتاهم لأنّهم كانوا يأتون لزيارتهم وكأنّهم أحياء يرزقون، بل منهم من كان يأتي مع بقيّة أفراد الأسرة ويحمل الأكلَ معه وينصبون الموائد أمام الميت ويأكلون أمامه حتّى يشعرون به وكأنّه مازال بين ظهرانيهم، وبعضهم الآخر كان يأتي لمجرَّد الحديث مع الميت أو طلب مشورة أو نصيحة، كلّ حسب اعتقاده واستعداده النّفسي والرُّوحي. هو نوع من الوهم الّذي كان يعيش عليه النّاس، وهم الانتصار على الموت والتَّمسّك بالحياة. وعلى ذكر الانتصار على الموت يحضرني مشهد كان يحدث أمام عيني في زياراتي الثّلاث لهذا المكان في سنين مختلفة من عمري: ففي كلّ مرّة كنتُ أتجوَّل فيها بين أروقته الفسيحة كنت أصادف العديد من السُّيَّاح من مختلف مناطق العالم بعضهم كانت تظهر عليه ملامح الدَّهشة وبعضهم الآخر علامات الخوف والقلق وبعضهم الثَّالث كان يفرّ من المكان لا يلوي على شيء. لكن في كلّ زيارة كان يتكرَّر أمامي مشهد بعينه: وأعني به مشهد رجل شابّ وهو يحضن ويقبّل حبيبته أمام الأجساد الميتة: في زيارتي الأولى كان العاشقان من انكلترا وفي الزِّيارة الثَّانية كانا من أمريكا وفي الزّيارة الثّالثة كانا إيطاليَّيْن. وفي كل مرّة كنتُ أتساءل عن معنى هذا المشهد الَّذي كان يتكرَّر أمامي بشكل عفويّ من العاشقين ولا أثر فيه للتصنع: هل كان فيه رمزيّة لانتصار الحبِّ على الموت؟ كنتُ أحاول في جوابي أن أكون متفائلة وأوهم نفسي كغيري بأنَّ الأمر كذلك وبأنَّ الحياة والرّغبة في العيش بكل قوة وعنفوان وبهجة هي الرّمز والدَّرس الحقيقي لهذا المشهد، لكن هيهات هيهات فالحياة نفسها من علَّمتني أن أثبِّتَ قدميّ على الأرض وأنظر إلى الأشياء بعين البصيرة الَّتي تحملك إلى أبعاد أخرى غير الّتي اِعتاد عليها الآخرون: إنّ منظر القُبلة والاحتضان كان فيه خطاب صريح من الموت نفسه؛ أو من برسيفوني وزوجها هاديس، سيّدا المواقف كلّها في هذا المكان: "الموت أقوى من الحياة" الموت هو الحقيقة الكبرى أو بوَّابة الإنسان إلى حقيقة الحقائق. وإذ هو كذلك فإنّه يخلق لدى الزّائر نوعاً من الارتباك، فتختلط في قلبه وعقله المواقف وتأسره الرّهبة والخوف، ولكي يضبط ويعيد التَّوازن إلى نفسه وما يحدث بداخلها وسط هذا الكمّ الهائل من الهياكل العظميّة، فإنّه يسارع إلى تقبيل حبيبته أو تسارع هي إلى تقبيل حبيبها لا فرق، لكن هيهات هيهات، لو كان التَّقبيل فقط هو الّذي يعيد للإنسان توازنه لهان الأمر، لكن ما من مفرّ فقد خُلق الإنسان ضعيفاً أمام موقفين قويَّين في هذه الدُّنيا: موقف الموتِ وموقفُ الحُبّ، فكلاهما موقفان يبثَّان الخوف والرُّعب في الإنسان لأنّه لا يستطيع السَّيطرة عليهما ولا يقدر التَّحكم فيهما فالموت سرّ عظيم والحبُّ سرّ أعظم، لذا تجد الإنسان دائماً يركض وراء وهم الخلود، فهل يا ترى لو توصّل الإنسان على سبيل الافتراض إلى هذا السرّ، عرفَ المعنى الحقيقي للحبّ؟
وختاما عزيزي القارئ المتوّج بإكليلِ المحبّة أتركك مع (سوناتا الموت والحياة)
أو القصيدة التي نظمها الشاعرُ فيرديناندو ميرايّا تيرميني سنة 1867 بمناسبة عيد الموت والموتى وألقاها في كنيسة السَّيّدة العذراء، سيّدة السّلام وهي اليوم محفوظة هنا في هذا المتحف وهذا نصُّها:
تَعَالَ يا أخِي لا تخْشَ المَوْتَ،
تَعَاَل وَتَعَلّمْ كَيْفَ تتأمّلِ الحَيَاةَ
الدّوقُ القائد العَسْكريّ، والأميرُ
وأصحابُ الرُّتبِ والألقابِ والأقويَاء الشّجْعان
كلّ ألقاب هؤلاء، تصبحُ هنا مجرّدَ كذبة لا غير
أنتَ أيضاً ستلقى يوماً ما نفسَ المصير.
تعال وتأمّل فحتّى جمالُ الشَّكل هنا يختفي
وعبثاً وسطَ هذه الأقبية المظلمة يطلبُ الميتُ
العفوَ من إله الموت آيْتا.
وإذ تُمعنِ النَّظرَ في المرمر الفريد الصَّافي
تقل: عبثٌ هو ثراء الإنسان الفاني
ذهبٌ لا قيمة له وترانيمٌ ومرثيات باذخة
تداركْ إذن يا أخي أخطاء الماضي
وتُبْ عن المعاصِي
وأمعنِ البصرَ في كلّ شيء ثُمّ عُد لتحكيَ لي
كم من الأشياءِ يتعلمُها الإنسان من هذه الأجداث الصّامتة.
*
2 تشرين الثاني 1867
فيرديناندو ميرايّا تيرميني.
*هنا أضع رابط فيديو يوتيوب به مجموعة من الصُّور لمعظم المعالم الَّتي جاء ذكرها في هذا الجواب:
https://www.youtube.com/watch?v=BpZ8zHvKKnY








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب