الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[52]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 21
الادب والفن


صبر ي يوسف

52. مع مطلع هذا العام الجديد (2018)، أصدرتِ الجزء الأول من كتابكِ الموسوعيّ (كواكب على درب التبّانة / مقاربات نقدية)، هل يمكنكِ أن تحدّثي السّادة القرّاء والمتتبّعين لتجربتكِ الإبداعية عن تفاصيل ولادة هذا الإصدار وكيف أصبح بهذا الحجم، لا سيما وأنه قد سبق لكِ أن أعلنت أيضاً عن عملك الحاليّ على دراسات ومقالات الجزء الثّانيّ منه؟

أسماء غريب

بداية أتقدّم بأجمل التّهاني والأمنيات الطيّبات لكلّ القراء والمتتبّعين لتجربتي الإبداعيّة في العالم قاطبة، راجية من المولى عزّ وجلّ أن يجعل عامهم هذا عام أمن وأمان، وسلم وسلام ومحبّة ورخاء وازدهار في كلّ مجالات الحياة الصّغيرة والكبيرة. أمّا فيما يتعلّق بـ (كواكب على درب التبّانة)، فقد صدر حديثاً في العراق عن دار الفرات للثقافة والإعلام، وهو عمل موسوعيّ حقّاً يتكون في جزئه الأول من 634 صفحة من الحجم الوزيري، وقد انشغلت به لما يزيد عن سبع سنوات قضيتها وأنا منهمكة في حياكة مقالاته ودراساته ومراجعتها وتنقيحها وتدقيقها الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن بالأمر الهيّن بتاتاً الحرص على إصدار هذا الجزء منه مع مطلع هذه السّنة الجديدة كهديّة منِّي إلى كلّ السّيّدات والسّادة المبدعين والأدباء الَّذين تناولتُ تجربتهم الإبداعيّة بالقراءة والتّحليل.
ولقد كانت قراءاتي هذه سواء في مجال الشّعر أو الرِّواية أو الفنّ التّشكيلي أو المسرح أو الكتابات التُّراثيّة، نابعةً من درس علّمتني إياه في طفولتي سيّدةٌ كانت تعمل في بيتنا، تساعدُ والدتي رحمها الله في بعض الأعمال والشُّؤون المنزليّة. أذكر أنّني آنذاك كنت أبلغ من العمر عشر سنوات، وكانت هذه السَّيَّدة قد اتفقت مع والدتي على العمل عندنا على أن تذهبَ مرّة في كلّ شهر أو شهرين لزيارة بيتها المتواجد بضواحي مدينة بني ملال من أجل الاطلاع على أحواله وتنظيفه وترتيبه، وكنت أرافقها في سفرها الشَّهريّ ذاك تعبيراً منّي على محبّتي واحترامي لها، وأعتقدُ أنّ هذا الأمر كان يزيدُ من سعادتها هي أيضاً، فلقد كانت امرأة أرملة وحيدة ولم تنجب في حياتها ابناً أو ابنة قطّ يؤنسان وحدتها ووحشة أيامها. ومن زياراتنا تلك أذكرُ أنّها كانت تأخذني معها بعد صلاة العصر في جولة إلى غابة خضراء كبيرة مجاورة لبيتها كنتُ أقضيها في الرّكض خلف الفراشات واليمام البرّي، أمّا هي فكانت تمضيها في التقاط الكثير من ثمار الصّنوبر والبلّوط، نأخذها معا بعد انتهاء الفسحة في كيس كبير إلى بيتها الصّغير حيث تقوم بتنظيفها لتنتقي منها قبل الخلود إلى النّوم وبعناية شديدة حبّات خاصّة ومميّزة. وفي الصّباح الباكر جدّاً كنّا نخرج سوية ونقصد الغابة من جديد لتزرع هي ما انتقته من حبّات في الأرض بالقرب من بعض الأشجار وبطريقة عجيبة لا أحد يعرفها سواها. كان كلّ شيء تقوم به في الغابة عملاً مدهشاً بالنّسبة إليّ، وكنت أقف إلى جانبها منبهرةً بها وأنا أعطيها الحبّات من الكيس الواحدة تلو الأخرى دون أن يفوتني أن أسألها قائلة:
- "راحتي" (وكان هذا هو الاسم الذي كنت أحبّ أن أناديها به): ما دمتِ أنت سيّدة ثريّة وتملكين كلّ هذه الغابة الشّاسعة من الأشجار الخضراء بكلّ ما فيها من طيور من كلّ شكل ولون، فلماذا تتعبين نفسكِ وتأتين للعمل عندنا؟
- ابنتي العزيزة، أنا لست بسيّدة ثريّة ولا أيّ شيء ممّا قد يدور بخلدك، وهذه الغابة ليست ملكي، وإن كنت أنا من زرعت معظم أشجارها منذ شبابي إلى بدايات شيخوختي، كلّ ما في الأمر أنّ هذه القطعة الأرضيّة الكبيرة كانت فارغة فيما مضى وأحببت أن أجعلها خضراء هديّة منِّي إلى النّاس لتنظّف الهواء الّذي يستنشقونه، وتدفأ ليالي شتاءاتهم القارسة بما سيحطبونه فيها من الخشب، ولتصبح فضاءً مريحاً ومؤنساً يلعب فيه الأطفال مثلك، ويستريح فيه الكبار من عناء العمل في أيّام الصَّيف الحارقة، ولتبني فوقه الطُّيور أعشاشها، وتتفجّر فيه الحياة على مدار فصول السَّنة.
- على هذا فالكلّ هنا يحبّك كثيراً، لأنّك أنت من زرعت لهم كلّ هذه الأشجار الباسقة؟!
- لا يعلم النّاسُ هنا من الأمر شيئاً، بل لا يعنيهم في شيء لمن تكون الغابة، وليس مهمّاً بالنّسبة لي أن يعرفوا بعملي هذا أبداً، كلّ ما يهمُّني أنَّ هذه الأشجار ستعيش بعدي لسنوات عدّة، ونفعها سيمتدُّ ويدوم إلى ما شاء الرّحمن.
ظلّت كلماتها تلك ترنُّ في قلبي كالجرس بشدّة، وعدنا إلى بيتنا في المدينة، ولم أخبر أحداً من أهلي بشأن غابة "راحتي" أو سيّدتي السَّوداء، نعم، فلقد كانت "راحتي" امرأة ذات بشرة سوداء. وأذكر أنّه حينما كبرتُ فيما بعد بسنوات قليلة، كنت أجيب مُدَرّساتي في المدرسة حينما كنّ يسألنني "ماذا تريدين أن تصبحين في المستقبل يا أسماء؟": "زارعة أشجار وصانعة غابات!". كنت أقول وبين عينيّ تتلألأ صورة "راحتي".
وكبرتُ بالفعل، ونفّذتُ كلمتي ووعدي وأصبحتُ زارعةَ بذور الحرف والكلمة والعمل الطّيّب الحسن بين النّاس، وبظهور شبكة الإنترنيت في حياتي العمليّة والعلميّة الأكاديميّة والأدبيّة، أحببتُ أن أطبّق نظريّتي عن العمل وخدمة النّاس بأن أجعل هذه الأرض الرّقمية غابة الزّرع المثمر الصّالح، فبدأتُ بنثر أولى البذور، وأسستُ سنة 2006 مجلّة نوستالجيا، والّتي كان يكتب فيها آنذاك العديد من الأدباء والكتّاب من العراق وسوريا والمغرب وغيرها من المناطق الأخرى، وهُمُ الّذين بهمُ شكّلتُ الخميرة الأمَّ الأولى لـ (كواكب على درب التّبّانة)، ثمّ بعد نوستالجيا أسّستُ مجلّة أخرى في سنة 2014 وأسميتها بتمّوز كرمز للخصب والعطاء والخير، وعملت فيها بمعول التّرجمة ومنها ظهرتْ في هذه المرحلة أسماء أخرى لأدباء وشعراء وكتّاب آخرين، وبدأتْ رقعة الغابة تتّسع شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت هذا الكتاب بكلّ ما قدّمتُ فيه من قراءات لتجارب إبداعيّة، كنت أنتقيها بعناية شديدة وفقاً لمبدأ الزّراعة الرُّوحيّة الحقّة عبر فصول سنوات عشر شذّبتُ فيها الكثير، وحينما اكتمل الجزءُ الأوَّل بدا لي أن أتحوَّل من مفهوم الغابة إلى مفهوم طريق اللبّانة، لأنّه يعني العمل بشكل أعمق على دواخل الحرف الإبداعي وجوّانيّاته الخاصّة بكلِّ اسم اخترته، ولم يكن يعنيني في الاختيار أن يكون الأديب أو المبدع ذا شهرة طنّانة، أو ذا كرسي أكاديميّ برّاق، لأنّ من يعمل في درب التّبانة يعرف جيّداً أن ما كلّ ما يبرق كوكباً أو نجماً حقيقيّاً، فلربّما يكون مجرّد شظيّة متنقلة في فضاء الفكر وسماواته وليس لها من البريق سوى لهب الاحتراق ورائحة الشّواظ والنّحاس، ويعرفُ أيضاً أنّه لا يُشترطُ في نجاح العمل النّقديّ أن يهتمّ النّاقدُ بالنّصوص الجماهيريّة طمعاً منه هو الآخر في بلوغ أعلى مراتب الشّهرة والجماهيريّة أيضاً، إذ لا ينتهج هذا الأسلوب إلّا أصحاب العقول الوصوليّة، أمّا أصحاب النّفوس السّامية العالية فيعلمون جيّداً أنه ليس بالضّروري أن يكون النّصّ المدروس قد حظي بعناية أعلى نسبة من القرّاء في شتّى أنحاء المعمورة ليكون النّقد هو الآخر جماهيريّا، وبالتَّالي يخضع لميكانيزمات القراءات الثّقافيّة، لأنّ الجماهيريّة تعني قبل كلّ شيء انفتاح النّصّ المدروس على الهمّ الجماهيريّ وابتعاده عن خطاب النّخبة والجهات الرّسميّة الّذي عادة ما يكون خطابا للاستهلاك الثّقافي والظّهور التّلفزيونيّ وما إلى ذلك، وهذا ما يفسّرُ اهتمامي أيضاً في الجزء الثّاني من هذا الإصدار بأسماء منها من لم يسبق لها أن طبعت أو نشرت ورقيّاً أيّ ديوان أو رواية، وذلك لما لمست في خطابها من ولوج في عمق الألم الإنساني عبر تجارب شعريّة خاصّة.
لم يفتني أيضاً أن أنجز لوحة خاصّة بغلاف هذا الإصدار وقد أسميتها بدرب التّبَّانة، وحرصت فيها على أن أشير إلى مفهوم البذور والزِّراعة بأن جعلت من طريق اللبّانة منعرجاً كرأس المحراث، وكذا إلى مفهوم الزّمن الذَّائب الَّذي قضيته في العمل بين صلوات كلّ يوم عبر ساعات ورديّة اللّون لتذكّرني بسكاكر الطّفولة الَّتي كان يهديني إيّاها شيخ الحيّ وعطّاره الأنيق المغربيّ ليعلّمني معنى المتعة واللّذّة في الانشغال بالحرف وأهله، وهو المفهوم الذي سبق وأشرتُ إليه في كتابي ((تمثُّلاتُ السّادة الملائكة الكروبيّين في تجربة صبري يوسف الإبداعيّة (من الأدب إلى الفنّ التّشكيليّ): دراسة عرفانيّة)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة