الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنص ريال عسل ف الكوز

حمدى عبد العزيز

2019 / 1 / 22
سيرة ذاتية


لا ادري لماذا استيقظت في الصباح المبكر جداً ، وأنا أردد مطلع أغنية كنت قد نسختها بالصدفة علي فلاشة السيارة منذ ثلاث سنوات واستمعت إليها عشرات المرات من كثرة إعجابي بها ، وبالرغم من ان العلاقة الآن بيني وبين سيارتي منذ مايقرب من العام لاتعدو عن كوني أقوم بتشغيلها لمرة واحدة كل اسبوع أو علي أكثر تقدير استعملها فقط عند الانتقال مابين مقر إقامتي القديم في البحيرة ومقر إقامتي الجديد في الأسكندرية لضمان عدم تلف البطارية بعد أن تعودت أن اقضي كل مشاويري علي قدمي ، بعد أن اصبحت السيارة عبئاً أقتصادياً لايتناسب مع دخلي الذي أصبح محدوداً بحكم تداعيات تعويم العملة المحلية وتفاقم التضخم وارتفاع اسعار كل شئ وخروجي إلي المعاش ليصبح دخلي لايتجاوز العشرين بالمائة من دخلي قبل الإحالة علي المعاش ..

ليست السيارة التي يبدو أنني سأتخلص منها قريباً نتيجة عدم القدرة علي شراء وقودها أو إجراء مايلزمها من صيانات دورية هي الموضوع ..

، ولا المعاش ولا الشكوي من صعوبة الحياة هي الموضوع ، في ظل مصادفتي يومياً في طريقي لقضاء احتياجاتي اليومية لعشرات البشر الذين اتعامل معهم فيشتكون مر الشكوي من صعوبة الحياة والأسعار وسوء الخدمات وصعوبة الحصول عليها ، فتتقازم أوجاعي الخاصة مقابل أوجاع هؤلاء الناس الذين أقابلهم في أسواق الخضروات أو محلات البقالة أو في المخبز الذي تأخذ فيه أوجاع الجميع دورها في الطابور ..

ليس كل ذلك هو الموضوع ..

الموضوع هو قيامي في هذا الصباح وأنا أردد دون توقف وبشكل قد أجل من نهوضي إلي الحمام لأكثر من ساعة

(عم يابقال ورا الجامع
هات بنص ريال .. عسل ف الكوز )

مع أنها في الأصل كما يغنيها المغني الذي لااعرفه :
( حزني يابقال ورا الجامع
هات بنص ريال .. عسل ف الكوز )

شئ ما داخلي رفض أن يردد (حزني يابقال) التي يغنيها ذلك المغني الذي لااعرفه ، وأصر أن يرددها (عمي يابقال) ..

والحق أقول لكم
تعمدت ألا اتدخل مع نفسي لتصحيح نفسي التي تركتها تنشد ماتشاء وماتري ..

(عمي يابقال ورا الجامع
هات بنص ريال .. عسل ف الكوز)

ربما كان هذا الطفل اللحوح المشاغب داخلي هو الذي نهض هذا الصباح علي صورة عم همام البقال الذي كان وراء أو جوار الجامع الذي كانت أمي ترسلني إليه بالكوز في يد والنصف ريال الذي كان يعني عشرين قرشاً في يد ، ليتناولهما عم همام البقال ، ويقوم بغرف العسل الأسود بكوزه هو الصغير في كوزنا الذي أرجع به في لتفرغه أمي في طبق لنا أنا واشقائي إلي جوار أرغفة الخبز الأسمر في المساء لنتعشي ونذاكر دروسنا ، وننام ، في حين تحتفظ لنفسها ولأبي بمناب إلي أن يرجع في الساعات الأخيرة في الليل من وردية العمل ..

كان الكوز الذي هو عبارة عن إناء مصنوع من الألمنيوم أو الصفيح أحد أعمدة بيتنا ..

فهو الذي كانت أمي تناوله مملؤاً بالماء لمن ينهض ليلاً من العطش أو من الأحلام المفزعة التي تظهر فيها لي أمنا الغولة بردائها الأسود وعينيها الحمراويتين وشعرها الشهابي اللون والكثيف المرسل (المنكوش)

أو حلم حجرة الفئران المغلقة الباب في المدرسة والتي دائماَ ماكان مدرس اللغة العربية يحدثنا محذراً عنها وهو يشير بعصاته الكبيرة نحو خارج الفصل وهو الذي أقسم بخالق الخلق أنه سيأخذ كل من يتكلم أو يصدر صوت بدون إذن إليها حيث سيتم دهان من يضبطه مذنباً بالعسل الأسود الذي تحبه الفئران التي تمتلئ بها هذه الحجرة والتي ستتولي لحس العسل من علي جسد المذنب إلي أن تأكل لحمه مغمسا بالعسل ..

هو قال ذلك والله العظيم
وأنا صدقته وصرت مرعوبا من الوقوع في هذا المصير لدرجة أنه كان حلمي المفزع الذي لم اتخلص منه إلا بعد أن، عرفت عندما تركت المدرسة الإبتدائي إلي المدرسة الإعدادي أنها كانت مخزن الأدوات الموسيقية بالمدرسة ..

وكان ذلك الحلم الذي أري فيه معطف والدي الأسود يترك مكانه علي تلك الشماعة المثبتتة علي أعلي باب غرفتنا ويتجول علي الحائط إلي أن يخطو بخطوات بطيئة ومميتة ومفزعة ليقترب من وجهي أنا الصبي الصغير الذي أنهض صارخاً
ـ مااااماااااا.
لتأخذني أمي في صدرها وتضع حرف كوزنا الحنون علي شفتي لأرتشف منه ماتيسر لي أن أشرب من ماء قبل تدفس هي رأسي في صدرها الذي كفيلاً هو وهدهدات كفها بطمئنتي وتهدئتي وإعادتي إلي النوم ..

والكوز كان يخرج من شراعة الباب في الصباح لبائع اللبن الذي كان يأتي بمجرد أن تنتهي صلاة الفجر ليملؤه لنا اللبان باللبن الذي سنشربه مخلوطاً بالشاي قبل أن نذهب إلي المدرسة في أيام الإمتحانات أو أثناء المذاكرة الليلية ..

والكوز هو الذي كان يملؤه لي عم حماد الذي كان يأتي تحت نافذتنا زاعقاً
ـ الفووووووووول
وثم ينده
ـ فوووول يربي العقووووووول ..

وبغض النظر عن أننا كنا أنا والأولاد أشقياء الشارع نقلده فنجعلها
ـ فووووول يربي العجوووول
كان إيقاع مغرفة عم حماد بديعاً ، وهي تضع الفول في الكوز وفي كيزان وأطباق البنات والصبيان المتحلقين حول عربته المحملة بقدرتي الفول الكبيرتين المدفوستين في القش ..

، وكوزنا العظيم نفسه هو الكوز الذي كانت أمي تدلق به الماء الساخن علي جسدي العاري من الماجور (ذلك الإناء المعدني الضخم الذي كان يرقد فوق شعلة وابور الجاز ممتلأ بالمياه للإستحمام) ، وذلك في نهاية نهار يوم الجمعة بعد أن أكون قد عدت إلي البيت من الشارع منتهياً من لعب "الكرة الشراب" المصنوعة من الإسفنج الملفوف داخل جورب تمت خياطته علي تكوره تحت وطأة لفات الخيط المشدودة بعناية قصوي

، فأعود وقد علق تراب الشارع بجسدي لتبدأ علقة الإستحمام الساخن علي يد أمي التي كنت استغيث صارخا لها تارة من تسلل الماء المختلط بالصابون إلي عيني ، وتارة أخري متزمرا من خشونة خربشات اللوفة علي جلد جسدي اثناء عملية "الدعك" التي كانت تصاحب الماء الساخن الذي كان يصبه كوزنا العظيم علي جسدي ، والذي ستجففه أمي بالفوطة قبل أن تلبسني ثيابي النظيفة وتضعني علي "كنبتنا" التي كانت في الصالة محذرة أياي من الإقتراب من البلكونة المغلقة أو محاولة فتح أبوابها الزجاجية

هو الكوز العظيم الذي لايزال معلقاً علي رف ذاكرتي ، ولا يظهر إلا وقت أن ينهض هذا الصبي الذي حدثتكم كثيراً عن أنه يقبع في داخلي ويغافلني كل حين - علي غفلة مني - ليعبث بماعلقته علي رفوف الذاكرة ..

مع الإعتذار للمغني الذي لاأعرف اسمه حتي الان ، وكذلك كاتب كلمات تلك الأغنية - الجميلة التي استقرت في وجداني سريعاً - وذلك عن قام هذا الصبي في هذا الصباح الباكر من استبدال لعبارة (حزني يابقال ورا الجامع) ..
بعبارة (عم يابقال ورا الجامع) ..
ــــــــــــــــــــــ
حمدى عبد العزيز
20 يناير 2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام