الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حجرة الفئران-... قصة قصيرة

فهمي عبد السلام

2019 / 1 / 24
الادب والفن


حجرة الفئران
- 1-
لم يكن أمامي من سبيل آخر، فقد كنت مضطرا للتفاهم مع معذبي وجلادي، إنه حارس غرفة حيوانات التجارب في كليتنا، ولأن حياتي واحلامي وكل طموحاتي، كانت كلها تتوقف على الفئران البيضاء التي كنت أجري عليها الأبحاث العلمية، لذا كنت مضطرا لرشوة الوغد شمس، لكي أحمي فئراني ومستقبلي الأكاديمي من شمس ومن ألاعيب شمس.
كنت واثقا أن شمس يختلس طعام الفئران كي يأكله، حيث يلتهم الخس العطن، ويسرب لبن الأكياس الصغير ويأكل الخبز المخصص لهم، سيأكل شمس طعام الفئران، شئت ام أبيت وفي جميع الأحوال، لذا كنت أدفع له بسخاء كي يأكل وكى يترك للفئران شيئاَ تأكله، بخلاف تلك الاختلاسات اليومية والتي كنت اتغاضى عنها، متظاهرا بأنني لا أراها، وذلك ليأسي الشديد من قدرتي على منعها، بخلاف ذلك كنت أجد نفسي مضطرا لتقديم الرشاوي إلى معذبي وجلادي الوغد شمس.
إعتدت أن أذعن لطغيان شمس، وأن أرشوه بين الحين والآخر، وذلك بأن أطلب منه ان يفصل لي زوجا من الاحذية، فمهنة معذبي وجلادي الأصلية هى صناعة الأحذية، وهو بالمناسبة إسكافي ريفي بدائي ردئ الصنعة إلى أقصى درجة. صحيح أن شمس كان يفصل أحذية متينة جداً، أحذية غاية في المتانة، أحذية لا تفنى إذا ما أردنا الدقة، لكن المشكلة أن تلك الأحذية المتينة، كانت لها سحنة شمس المقبضو المظلمة.
إعتدت تقديم تلك الرشاوي إلى شمس بين الحين والآخر، إنقاذا لفئراني ومستقبلي الأكاديمي، ماذاوإلا سيلعب شمس ألاعيبه معي، أقلها أن يتعمد شمس ترك الفئران يومي الخميس والجمعة بلا طعام وبلا شراب، ولو تصادف وكان الجو حارا، أو لو زادت الإجازة عدة أيام، سأعود لأجد فأراَ او أكثر قد نفقَ جوعا وعطشاً، كنت أنظر إلى الفئران النافقة، وأحملها إلى صندوق القمامة القذر، وأشعر بأنني أدفن مستقبلي كله وأضعه في صندوق الزبالة، وكنت أتحاشى نظرات شمس الصفيقة وهى تقول لي" أعلى ما في خيلك أركبه "، فأشعر بالقهر والضغينة، واستأنف العمل متظاهرا باللامبالة، وأغرق في أحزاني، وأتلفت حولي وأنظر إلى قذارة الغرفة التي حولها شمس إلى مزبلة وإلى فئراني النافقة وأتساءل عن علاقة كل هذا بالبحث العلمي.
في بداية علاقتي بشمس، كانت تنتابني نوبات من التمرد على جلادي ومعذبي الأكبر، فأقول في نفسي لن أسمح لهذه الحشرة المسماة شمس بإبتزازي وقهري عيني عينك هكذا،فأشحذ عزيمتي، وأقرر ان لا استسلم لذلك المجرم، فأتولى العمل كله بنفسي، فأحضر خصيصا أيام الخميس والجمعة وفي العطلات الرسمية، لإطعام الفئران وسقايتهم وتنظيف الأقفاص.... إلى آخره. حينئذ يفيقني شمس من أوهامي بضربة انتقامية مروعة، أنت تسقيهم تسقيهم وتطعمهم وتنظفهم...حسناً، سيجعلني شمس أغادر الكلية، وما ان يطمئن إلى انصرافي، ساعتها يسدد لي شمس ضربته، سيفتح ابواب الأقفاص، وسيقوم بتهريب مجموعة من الفئران، ساعتها أشعر بأن شمس سلبني أعز ما املك، فأنظر إلى القفص الحديدي الفارغ، وادرك فداحة المصيبة وخسارتي الكبيرة، فما حدث معناه تعطيل جديد لمستقبلي المعطل أصلاً، معناه شراء فئران جديدة وعذاب جديد وحقن للفئران من جديد، وغلب جديد ويأس جديد.
أشكو شمس؟، كان غيري أشظر، فقد تحول شمس بالشراسة وبالإحران وباللؤم وبالبلطجة إلى مركز من مراكز القوى، وهناك اوضاع كثيرة من هذا النوع في بالدنا، وسيقول لك اهل الخبرة" إتفاهم معاه احسن لك "، في النهاية ها أنا أجد نفسي مضطرا للدخول في مفاوضات بذيئة مع شمس، الذي يبتسم ابتسامة الظفر الكريهة وهو يقول:" سأفصل لسيادتك جوز أنقح من اللي فات".

-2-

هذا ما يتعلق بطعام وبإعاشة الفئران، أما العمل نفسه فهو لا يقل بذاءة عما سبق، إذ تبدأ طقوس العمل بتحرك مزكب الباحث الذي هو أنا، وذلك الموكب مكون مني ومن صباح، وهى فراشة القسم الذي أعمل به ومساعدتي.
ما أن ترى الفئران موكبنا البائس، حتى تشهد الأقفاص خالةً من الترقب والقلق، لماذا؟ ، لأن ظهوري ارتبط عند الفئران بالإمساك بها عنوة، وغرز حقنة مؤلمة فظيعة في بطنها ( هكذا كانت التجربة )، ثم تخديرها عنوة وغدرا، فتفيق الفئران على آلام ودماء وهى مثخنة بالجراح، لهذا كانت الفئران تفضل أن ترى عزرائيل الموت ولا تراني.
ما أن نفتح باب القفص الحديدي، حتى تبتعد إلى أقصى ركن، تمتد يدي وقد ارتديت قفقازا جلديا سميكاً، لحماية يدى من عضات الفئران بأنيابها الحادة المدببة كأنها المسامير، واقبض على الفأرفي قوة وحسم، فما ان احكم قبضتي عليه، ويتأكد الفأر أن لا خلاص له مني، سيبول الفأر على نفسه من شدة الرعب، وسوف يتقبل مذعناً أى شئ أفعله به، وقد لاحظت أن هناك مجموعة من الفئران مسالمة إلى أقصى درجة، لينة العريكة إلى ما لانهاية،فهم وديعون ولا يبدون أدنى مقاومة، فما ان أفتح باب القفص عليها، حتى تجد الفأر قد رقد على الأرض على الفور، وبال على نفسه، مستسلما لمصيره، وبخصوص هذا، فهناك فأر مازلت أتذكره ختى هذه اللحظة.
لم أر مثل ذلك الفأر( وقد خبرت منها ومن طبائعها الكثير ) في حياتي، لم أر متمردا عضيا على الانصياع مثل صاحبنا، كان الإمساك به بمثابة معركةٍ. وهذه المعركة تبدأ قبل أن نفتح القفص، فما ان يرانا حتى يهب واقفاً على طرفيه الخلفيتين وكانه يقول" يا أهلاً بالمعارك "، فلن يهرب ولن يفر إلى أقصى القفص كما يحدث عادة، إذ يهب واقفاً متحفزاً تتراقص شواربه، أستجمع شجاعتي واهجم عليه بيدي المقفزة الوجلى، فيهجم على هو الآخر بأنيابه مصدراً صوتاً حاداً كريهاً مخيفاً، أبتعد بيدى وانا ألعن البحث العلمي وسنين البحث العلمي، فلو عضني سيكون الجزاء من جنس العمل، فإذا كنت أحقن الفئران في بطنها، فجزائي لو نجح هذا المتمرد في عضي، أن اتلقى 21 حقنة في بطني شحصياً، وإلا ساعوي مثل كلب ضال، واموت من حمى ستصيب نافوخي.
أشعر بالخوف الشديد من هذا المصير الأسود، لكنني سرعان نا أستجمع شجاعتي، واحاول مرة ثانية، فيهجم عليَّ كي يهبش وينهش في ضراوة لا تتناسب مع حجمه الضئيل، هما سيرتفع صوت نسائي مبحوح من خلفي قائلاً:
- عنك أنت...
هذا الصوت هو صوت مساعدتي صباح.

-3-

مساعدتي صباح؟ إنها باختصار شمس في صورة امرأة، امرأو أربعينية متينة البنيان وبلا حواجب قوية الشكيمة قادرة عل ترويع الفراشين والسعاة وصغار الموظفين، وقهرهم وسحقهم واليسطرة عليهم سيطرة كاملة، وجعلهم أطوع من الخاتم في إصبعها، وكثيرا ما تاتي إلى العمل وهالة زرقاء كبيرة داكنة تحيط بعينها، وحينما نسألها عن سبب هذه الكدمة الكبيرة، تحاول صباح أن تتقمص شخصية المرأة المسكينة السيئة الحظ فتقول في كهن وفي مسكنة:
- أصل الأتوبيس خبطني
- لا نكتم الضحك وأقول لها في وجهها:
- - يعني الأتوبيس دا كله ساب كل جسمك وما ضربش غير عينك... دا اتوبيس غريب جدا
- لم يكن ذلك الأتوبيس سوى زوجها" زهران "، زوج صباج وضحيتها رقم واحد.
بقلب من حديد تمسك صباح بالفوطة، وتنقض على الفأر المتمرد العصي على الانصياع دونا عن بقية الفئران، فينقض الفأر عليها يخمشها وينهشها، تصرخ صباح وهي تنبهني كي لا يفر
" آه يا بتاع الكلب... إمسك كويس أحسن يهرب"
يتكرر هجوم صباح، ويتكرر الكر والفر، وتتمكن صباح من الامساك به عنوة، ومن قفاه، حيث يفقد الفأر القدرة على استحدام أنيابه، فيضرب بأقدامه ويستدير بكل جسده وتستحثني صباح أن أغرز الحقنة في بطنه قائلة:
" ياللا بسرعة...آه يا بتاع الكلب... ياللا أحسن كان حا يعضني إبن الجزمة ده"
أغرز الحقنة في بطن صاحبنا، لا يبول على نفسه، ويتلقى الوخزة المؤلمة في شجاعة، وينقض على يد صباح، التي تلقي به بعنف إلى أقصى القفص قائلة: " غور في ستين داهية ".
كل يوم ندخل مع صاحبنا تلك المعركة، واعتدنا أن نجعله آلاخر فأر حتى نكون قد فرغنا له، وفي يوم ماطر كئيب، وكنت معتكر المزاج كالعادة، هرب ذلك المتمرد حينما خمش يدي بأنيابه، وكنت بلا قفاز، فاضطربت واستغل صاحبنا اضطرابي، فكوّركل جسده ولاذ بالفرار، واختفى بين الأقفاص التيلا تسمح بالقبض عليه ولا حتى برؤيته.
تسلحنا أنا وصباح وشمس بالمقشات وبالعصي، ووزعنا أنفسنا بين الأقفاص، نضرب ضربات عشوائية كي يغادر مخبأه فنطارده ونمسك به، وظللنا عدة أسابيع نقضى اكثر من ساعة كل يوم،نفتش ونحاصرويظهر ونضيق عليه الخناق فيهرب، وشمس يردد في تشف" ما كان في إيدينا..نقوم نسيبه يجري علشان نجري وراه؟ فازيد من سخائي معه، وصورة الفأر الهارب تستفزني، حتى قبضنا عليه.
لكن قبل أن نعيده، ووأثناء نشوة النصر، أفلت ثانية،وكان الوضع رثاً إلى أقصى درجة، فقد نجحت صباح في أن تتشبث بذيل الفأر، بكل قوتها، والفأر العنيد كان من ناحية قد تشبث بيديه وبرأسه وبكل جسده، وراح الفأر يجذب نفسه للأمام ليفلت، وراحت صباح تجذبه من ذيله إلى الخلف، ومن شدة الصراع ومن ضراوة الجذب المتبادل،تمزق زيل الفأر، ولم تجد صباح في يدها سوى بقايا الذيل، ام صاحبنا فقد اختفى بسرعة الريح.
بعد هذه الواقعة تحولت المسألة بالنسبة لى وبالنسبة لصباح مسألة أشبه بالثأر، كيف يفلت منا، وكيف يمزق ذيله عناداً وإصراراً، كيف تعلو إرادته على إرادتي، والاهم منهذا كله مستقبلي الأكاديمي الذي كنت أراه يتمزق من أمامي كما تمزق الذيل.
لم أتوقف عن مطاردة ذلك المتمرد العنيد لأكثر من شهر، العصي والمقشات وغمزات شمس والجري هنا وهناك، حتى وقع في يدي، وقبضت عليه بكل غل وبيدي الإثنتين، وكان موعد قتله قد لأخذ العينات من جسده قد حان، فقررت قتله على الفور، وانا أشعر بالزهو لأنني ظفرت به وانتصرت عليه.
وضعت الفأر تحت الناقوس الزجاجي الضخم، وجلست وحدي بعد أن غادرني شمس، كان الفأر راقدا بلا حراك تحت تأثير هواء الناقوس المشبع بغاز الكلورفورم المخدر والذي لو استمر قليلا سيقتله كالعادة، وكنت قد رتبت الأمر، ورحت أرقب بوز الفأر الذي كان مخموشا، وكانت الدماء قد تجلطت عند الذيل المقطوع، وبدا لى الذيل المقطوع بمثابة رمزاً للبسالة ولرفض الإذعان والانصياع، وتذكرت حياتي التي رأيتها إذعاناً طويلاً وإذعاناً أبدياً.
فجأة وجدت نفسي أرفع الناقوس الزجاجي قبل أن يقتله الكلوروفورم، ومرت دقائق كان ذلك الفأر الشجاع الباسل قد بدأ يسترد وعيه ويتحرك في بطئ، ولم تمر سوى عدة دقائق حتى رأيته يسير ويقفز من فوق الطاولة، ويختفي بين الأقفاص مقطوع الذيل، مثخناً بالجراح، وشعرت بالارتياح وغادرت الغرفة، وصورة شمس بوجهه الزنيم تتراقص في عقلي وهو يقول لي:
" حأفصل لسيادتك جوز أنقح من اللي فات "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في