الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ف 1 : النشر فى جريدة الأهالى اليسارية المصرية .من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

أحمد صبحى منصور

2019 / 1 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


( فيليب جلاب ) وجريدة الأهالى
1 ـ قليلون يعجبنى أسلوبهم فى الكتابة ، منهم فرج فودة وصلاح حافظ وأنيس منصور وصلاح عيسى وفيليب جلاب ، ومن الجيل التالى عادل حمودة وابراهيم عيسى وبلال فضل وخالد منتصر . يعجبنى فى كتاباتهم خفة الظل ورشاقة العبارة وسهولة التعبير بما يسمى ( السهل الممتنع ) . ونظرا لتخصصى فى الأصوليات ( تاريخ المسلمين وتراثهم الصوفى والسنى والتشريعى ) فقد واجهت التحدى بأن أكتب فى هذا التخصص بأسلوب صحفى مقروء يستلزم نوعا من ترجمته من اللغة الأصولية العتيقة الى لغة عصرية مفهومة. لم ألق صلاح حافظ وأنيس منصور، ولكن تعرفت بالأساتذة صلاح عيسى وصرت صديقا للراحل فرج فودة والراحل فيليب جلاب .
2 ـ فيليب جلاب ، رأس تحرير جريدة "الأهالي " أواخر سنة 1989، وظل رئيس التحرير حتى وفاته فى عام 1990 على ما أتذكر ،وكان يكتب في جريدة الأهالى عمودا بعنوان ( دبوس) . كتاباته كانت نقدية جريئة ، ولكن كالدبوس ، تنبّه ولا تؤلم . فى ليلة رأيت فى المنام أننى قابلته ، فى صباح اليوم التالى ذهبت الى مكتب صديقى فرج فودة ، ففوجئت به هناك . قصصت الرؤيا ، وكان وقتا ممتعا . بعدها إتصل بى وقال إنه اصبح رئيس تحرير جريدة الأهالى وعرض أن أكتب فيها ، فحقق لى حُلما طالما سعيت اليه . وبدأت الأهالى من وقتها تنشر لى ، ونشرت لى الكثير حتى بعد وفاته . ومعظم ما نشرته لى الأهالى أعدت نشره هنا .
3 ـ أذكر أن صديقى الاستاذ الجامعى اليسارى الراحل محمد أبو الاسعاد عرض على رئيس تحرير سابق للأهالى أن ينشر لى مقالا بعنوان ( أهمية أن تكون طبالا ) . كان مقالا ساخرا عن أحد زعماء الارهابيين الوهابيين وقتها كان حديث الاعلام ، كان ( إسمه جابر ) على ما أتذكر . بدأ حياته طبّالا ، ثم فى عدة أيام أطلق لحيته وتديّن بالوهابية فاصبح زعيما فى منطقة إمبابة الشعبية فى القاهرة ، وسيطر عليها ، وتحدى السُّلطة وتصارع معها حتى تخلصت منه . فحوى المقال أن الشيخ جابر ليس الطبّال الوحيد، خطيئته أنه طبّال ( يطبّل ) خارج السّرب ، ولكن هناك ( طبالون ) آخرون يطبّلون للنظام من قادة الشيوخ وقادة الإعلاميين ، وهؤلاء الطبالون هم الذين صنعوا شهرة جابر الطبّال حاكم إمبابة . رفض رئيس تحرير الأهالى وقتها نشره . من أسف أننى لم أكن أحتفظ بصورة من مقالاتى . لذا ضاع الأصل الذى أوصله صديقى الراحل الى رئيس تحرير الأهالى وقتها ـ والذى نسيت إسمه .
4 ـ لم تنقطع محاولاتى فى الكتابة فى الأهالى . الاستاذ لطفى واكد هو احد الضباط الأحرار، وثانى إثنين من مؤسسى الأهالى ( مع الاستاذ خالد محيى الدين الذى شرفت بلقائه كثيرا )، ومن مؤسسى حزب التجمع . الاستاذ لطفى واكد من نفس دائرة كفرصقر التى أنتمى اليها . وكنت أؤيده فى إنتخابات مجلس الشعب ضد مرشح من قريتنا صاحب نفوذ هائل فى محافظة الشرقية وفى الحزب الوطنى الحاكم لأنه كان شيخا صوفيا مشهورا . كان لطفى واكد صديقا عزيزا برغم فارق السّن بيننا . وقد طلبت منه أن يمنحنى فرصة الكتابة فى الأهالى فإعتذر ، لأنه كان فى حزب التجمع إثنان صاحبا نفوذ ، أحدهما شيخ معمم ، والآخر شيخ صوفى إسكندرانى أظن أن إسمه السماك . وهما يكتبان فى الأهالى ، وتحرص الأهالى على التنويه بهما لإستقطاب الشارع . وواضح أن كتابتى فى الأهالى لن تعجبهما ، ثم هناك أيضا خليل عبد الكريم الكاتب اليسارى ، وكانت لى خصومة معه هو الذى بدأها فى الأهالى وفى مجلة القاهرة ، وقد رددت عليه ردا موجعا جعله يصدر كتابا يهجونى . إعتذر الاستاذ لطفى واكد حتى لا تسبب كتاباتى إحراجا له،على أساس أننى بلدياته وسيكون مسئولا عن ( تجاوزاتى ) أمام الحزب ، وسأحمل الى الحزب أوزارا من خصوماتى مع الوهابيين ، وهم فى غنى عنها ، وأنا فى كتاباتى لا أضع حدودا ولا قيودا .
5 ـ حين تولى رئاسة تحرير ( الأهالى ) ( جلبنى ) (فيليب جلاب ) الى الكتابة فى الأهالى . أذكر أن الاستاذ لطفى واكد زار قريتنا ( ابو حريز ) وحرصت على أن أكون هناك لاستقباله . وفيما يشبه المؤتمر الصحفى تكلم الاستاذ لطفى واكد يجيب على أسئلة الحاضرين . وسأله ابن عم للشيخ الصوفى ـ وبينى وبينهم عداء ـ لماذا تسمح جريدة الأهالى بأن تنشر لى ؟ وقال الاستاذ لطفى واكد إن الأهالى تتشرف بأن تنشر لى . وبهذا ألقم ذلك السائل حجرا .!
6 ـ الحياة الثقافية والسياسية فى عصر السادات ومبارك كانت فى إتجاهين : العلمانى والوهابى . الاتجاهات العلمانية توزعت بين الوفد اليمينى واليسار . تسلل الاخوان والوهابيون الى معظم دوائر الحكم ماعدا وزارة الثقافة ، كما تسللوا الى معظم منظمات المجتمع المدنى ـ ما عدا مركز ابن خلدون . تسربت الوهابية الى حزب الوفد وجريدته ، وفى حزب الأحرار وجريدة الأحرار . أما حزب التجمع اليسارى وجريدته ( الأهالى ) فقد إتخذ موقفا مبدئيا وصلبا ضد الاخوان والوهابية . هذا فى الأغلب ، لأن الاتجاه الناصرى والقومى داخل التجمع وخارجه كان يميل أحيانا الى التحالف مع الاخوان ، وظهر هذا فى فصيل يمثله حمدين صباحى . صمود الأهالى وأغلبية حزب التجمع فى الوقفة ضد الوهابية أثار إعجابى وإحترامى للأهالى وقادة حزب التجمع .
7 ـ أصبح النشر فى جريدة الأهالى منفذا لى الى دوائر اليسار ، ومنها تعرفت بقيادات يسارية أعتزّ بها . وبعد إغتيال فرج فودة تشاركنا فى تأسيس الجمعية المصرية للتنوير فى مكتبه بمدينة نصر ، وفى الاحتفال السنوى الذى كنا نقيمه فى ذكراه بمساعدة اليسار . وبالتحالف مع قيادات اليسار ورموزه تأسست ( الجبهة الشعبية لمواجهة الارهاب ) وصار لنا وجود فى المنظمة المصرية لحقوق الانسان . وقد دٌعيت للترشح لمجلس أُمنائها للتحالف مع اليسار ضد مرشح الوهابيين د محمد سليم العوا . وأذكر أننى لم أحضر يوم الاقتراع فقد كنت فى زفاف أختى ، ومع هذا نجحت بأغلبية ضمن مجموعة من اليسار والناصريين الحقوقيين .
8 ـ كان واضحا أن العلمانيين من اليسار المصرى واليمين المصرى الصامدين ضد الوهابية يحتاجوننى بقدر حاجتى لهم . تحالفى معهم ينبع من إيمانى بأن الاسلام دين علمانى ، لا مكان فيه لمؤسسة دينية أو خلط للدين بالسياسة أو كهنوت من دجالين يزعمون أنهم واسطة بين الناس ورب الناس . تتابعت مقالاتى فى الاهالى ، وحرصت فيها على توضيح العدالة الاجتماعية فى الاسلام بالاضافة الى الاطار العام وهو توضيح التناقض بين الاسلام والوهابية ، وتحطيم تقديس الآلهة السنية الوهابية . وأُعيد هنا نشر بعض المقالات :
( 1 ) أول مقال نشرته الأهالي فى 7فبراير 1990م.
كان على منوال (مقامات بديع الدين الهمذانى ) المتوفى عام 1007 ، و( مقامات الحريرى ) المتوفى عام 1112 . وبهذا الاسلوب نشرت عدة مقالات ساخرة من الوهابيين فى الأحرار والأهالى. وكان طبيعيا إستعمال السجع والاسلوب التراثى الأصولى لدى المؤرخين والفقهاء . وكان عنوان المقال : ( صفحات من كتاب : "العظات والعبر في أخبار القرن الخامس عشر.. الهجري") ووضعت عنونا جانبيا يقول : ( ملاحظة "نرجو ألا يأتي الوقت الذي تعيش أبناؤنا في الأجيال القادمة ذلك التاريخ..") . يقول المقال :
( وأشرف على الإنتهاء ذلك العام على خير ما يرام . وجموع الشباب ، يقودهم الأمير حمزة دياب، يلاحقون فلول العسكر يقتلون ويأسرون ، وبعضهم استسلم لكي يفوز بالأمان، فأصبح في خبر كان.. وكانت مقتلة عظيمة، وهزيمة للعسكر أليمة، لم تسمع بها الركبان في سالف الزمان، وهرب كثير من أعيان العسكر من الموت الزؤام إلى بلاد الشام. بعضهم شد الرحال، إلى بلاد الفرنجة في الشمال ، أما أصحاب المناصب والوزارات والمصالح الإدارات فقد إمتلأت بهم الطرقات في مباني المعسكرات،ويتحكم فيهم أصحاب الشارات من زعماء الشباب أصحاب اللحى والجلباب والذين أصبحوا يسيرون الأمور في البلاد ويتحكمون في رقاب العباد. أما الأولاد والبنات الذين عاشوا في تبات ونبات في دولة العسكر فقد هرب أباؤهم وتركوهم، ومن هول الموقف نسوهم ، فعاش الأطفال المساكين بين عويل وأنين ، يأكلون الفتات في الأزقة والحارات ، بعد أن إمتلأت الملاجيء والمستشفيات والمدارس والعيادات ، بأطفال آخرين من الأيتام، لقى آباؤهم الموت الزؤام ، وقت الفر والكر بين الشباب ودولة العسكر .
وجرت أمور شنيعة وحوادث فظيعة في معسكرات الإعتقال السكوت عنها أجمل ، والتغاضي عن ذكرها أفضل، واللبيب يعرف العبارة ويفهم بالإشارة، ويقرأ ما هو مستور بين السطور، نعوذ بالله سوء المآل وسواد الحال. وقد انتشرت اشاعة بين أكثر من جماعة وجماعة، بأن أحد الصالحين قد رأى الإمام الشافعي في المنام، يبكي حزناً على أحوال الأنام ، وما يحدث من قتل في الظلام، حيث يتم قتل المساجين بلا فتوى ولاأحكام، وانتشرت الأقاويل والهمسات عن فظاعة الشباب، ذوي اللحية والجلباب، في التعدي على عموم الناس،من المدير إلى الكناس ، بحجة أنهم مارقون عن الدين، قد تنكبوا الطريق المستقيم . وقيل أن أحد مقدمي الشباب، وهو مشهور بالفصاحة في الخطاب، قد اشتدت نقمته على رجل من المستورين، لأن الرجل المسكين، رفص أن يزوجه إبنته بلا مهر، فأقام عليه الشاب حد الردة في عز الظهر، بعد أن استحضر الشهود، من أبناء عمه في أبنود ، فشهدوا أن الرجل قد أساء للإسلام فاستحق الموت الزؤام.
وتناقل الناس، بكل مرارة الإحساس، ما حدث للإستاذ الكاتب رأفت محيي الدين،وهو من اعيان الأدباء المتحررين،وليس من أتباع اليسار واليمين ، ولكن الشباب كانوا عليه ناقمين، لأنه اعتزل السياسة في دولة العسكر ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر، فاتهمه الشباب بالإفساد في الأرض، بالطول وبالعرض، فيما كتبه من روايات وأقاصيص ومقالات، تحث على الفجور، أو تضيق منها الصدور، وحوكم الأستاذ في الخفاء، في معسكر الجلاء، وفي ليلة ليلاء، أقاموا عليه حد الردة في الحال، بلا إرجاء أو إمهال. وانتشر بالإشاعة ، في أقل من ساعة، بأن الأستاذ محيي الدين، قد انتحر بسكين، واستحق بذلك الخلود في سجين. ولكن الناس المساكين ، خصوصا من يحب الأستاذ محيي الدين، لم يصدقوا هذا الكلام، وصرح بعضهم بأنه يناقض العقول والإفهام ، ولا يستقيم مع سماحة الإسلام. ووصل الهمس إلى الخليفة العادل أمير المؤمنين، وحامي حمى الإسلام والمسلمين ـ حماه الله من كبير الكافرين ـ ومع أنه رضىّ الله عنه كان في فترة الستر وعدم الظهور ولا يعرف شخصيته الحقيقية إلا النفر القليل ـ ومع ذلك فإنه أمر قاضي القضاة الذي ينوب عنه في الظهور بأن يعين نائبا للقضاء، في كل سجن وفناء ، لمراقبة أحكام الشباب، وليقلل من تسلطهم على الرقاب، ولكن إحتج الشيخ حمزة دياب ، أمير الشباب، على ذلك القرار،لأنه يتيح الفرصة للكفاروالفجار، المنافقين والعلمانيين، في محاربة الدين .وانفض الإجتماع بين قاضي القضاة وأمير الشباب، الشيخ حمزة دياب، على توجيه بعض العتاب،لمقدمي الشباب، القائمين على معسكر الجلاء لأنهم تركوا الأستاذ محيي الدين، ينتحر بالسكين، ويفعل ذلك بلا توبة أو تلقين. وأصدر قاضي القضاء مرسوماً بأن يكون تعيين القضاة في المعسكرات والجهات، من بين الشباب الذين حصلوا على أرفع الدرجات، في حفظ دلائل الخيرات، وأن يكون ذلك بترشيح من أمير الشباب، الشيخ حمزة دياب، الذي سيتولى بنفسه عقد الاختبار، للصالحين من الشباب الأخيار ، كي يعم العدل والقسطاس سائر طبقات الناس . وصدرت الصحف الصباحية ، بهذه الأخبار الندية ، فارتفعت الهتافات مدوية ، للخليفة أمير المؤمنين ، بطول العمر والنصرعلى الكفار والملحدين.
ومات في هذا العام شهيدا الحاج حسن عباس الأسمر، وكان في بدايته شيخ منسر، ثم رأى في المنام هاتفا يدعوه للتوبة والمشيخة فأطلق لحيته، وأمسك سبحته ، وأرخى عذبته، وترك مهنته، وأصبح شيخاً مهاب الجانب وتكاثر أتباعه من كل جانب ، وتحول اللصوص على يديه إلى مريدين صالحين، فانضم بهم للدعوة الدينية وأصبح من فرسانها المعدودين.. وأحد القلائل الذين يعرفون أمير المؤمنين، في فترة الستر وبداية التكوين، وقد كان الشيخ حسن عباس الأسمر، قائد معركة الجبل الأصفر فأصابته طعنة حادة ، أوقعته من على الدابة. وقد عالجه أتباعه بأيديهم فسقوه بعض الشيح والسفوف، والتفوا حوله في صفوف ، وهم يقرأون الأوراد ويقيمون الأذكار، ولكن الجرح انفتح فلم يعد ينفع الكي أو تجدي الرقية فمات الشيخ شهيداً ..عليه سحائب الرحمة والرضوان ..
وماتت في هذا العام الفنانة السابقة "ست الحسن" ، وكانت إحدى جميلات العالم، وقد أتتها الدنيا تسعى في دولة العسكر فنالت الكثير من الجوائز في الداخل والخارج، واستمتعت بحب الجماهير من الوزير حتى الغفير . ثم زالت دولة العسكر فزال معها مجد"ست الحسن" فاعتكفت خلف الباب ترتدي النقاب ، وتتحسر على الحظ الهباب ولاتسكت على الانتحاب، وظلت هكذا كل يوم حتى جاءها الأجل المحتوم . ويقال أن الأمير حمزة دياب قد تزوجها سراً وكتب عليها الكتاب، ثم في ليلة الزفاف سقاها السم الزعاف ،ويقال أن دماءها غطت قميصها الشفاف ، وانتشرت روايات غير أمينة في مقتل تلك المسكينة ، التي قضى حظها الهباب ان تعيش آخر عمرها مع حمزة دياب.
وانتشر الغلاء، وعم البلاء، وتساوى في المعاناة الكبار والصغار ، خارج أولو الأمر والحظوة الذين أصبحوا من أصحاب الخطوة. وتمنى كثير من الناس لو استمرت دولة العسكر، وتمنى آخرون لو انتهت حياتهم وقت الحروب. وأصدر قاضي القضاة مرسوماً يحث الناس على الصبر والزهد وألا يأملوا في التمتع بالحياة الدنيا والإغراق في ملذاتها ، وأنه بتقديم النذور للأولياء سينقشع البلاء وسينجح الناس في الابتلاء. أ .هـ وذلك بلا شك كلام جميل قد يستحسنه اللسان ، ولكن ينكره البطن الجوعان.
ورأى بعض الصالحين في المنام رؤيا أذاعتها أجهزة الإعلام ، مفادها أن الشيخ فلان الفلاني كان يأكل الثريد مع الشيخ عبدالقادر الجيلاني ، فسمع هاتفاً يقول : " إن الخير قادمً في العام القادم ، وأن البركة ستحل على عموم الوادي على كل رائح وغادي ، وأن الأرز والقمح والفول وكل أنواع البقول ، ستتوافر بسعر معقول، وستكون في متناول كل جوعان من الاسكندرية إلى أسوان. فكان استهلال العام الجديد بهذا الفال السعيد الذي اعتبرته أجهزة الإعلام أكبر نصر للإسلام .. وتكاثرت الأحلام والمنامات بين كبار رجال الدين وكلها تبشر بانفراج أزمة التموين واقتراب الفرج للفقراء والمساكين الذين أصبحوا الأغلبية بين المصريين..
وحدثت في نهاية هذا العام كائنة غريبة نادرة عجيبة، إذا كانت دولة العسكر قبل سقوطها قد أقامت مصانع الأدوات الهندسية، وعند تمام التأسيس اعتبرها الشباب من أدوات إبليس ، وحولوا المصنع لإنتاج المسابح والمساويك . فاحتج مدير المصنع على القرار بل وحاول الفرار ، ولكن اعتقلوه عند طلوع النهار ، وأدخلوه غرفة التأديب حيث لقى أسوأ التعذيب، وبعدها أدخلوه مختلف السجون ثم خرج في النهاية بعد أدعى الجنون، وهام على وجهه في الشوارع والطرقات يتسول من الناس الفتات، ثم انتهى به الحال إلى أن أصبح يبيع المكاحل والمسابيح والمساويك على قارعة الطريق، وقد اعتبر أولو العلم ذلك كرامة لأمير المؤمنين خليفة المسلمين الذي لا تفارقه مكحلته ولا مسواكه ولا مشطه ولا مرآته .ومن اعتراض على ذلك فمصيره بئس المصير.
والعاقل من اتعظ بغيره وبحث لنفسه عن السلامة التي أصبحت في هذه الأيام أعز من الحصول على لبن العصفور .. وسبحان القائل " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.. "
( 2 ) الفقير لا جنسية له
الفقير هو المحتاج والغني هو المستغني عن الحاجة لغيره ، نفهم هذا من قوله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " ( فاطر : 15) فالله تعالى هو وحده الغني الذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد . فكلنا فقير إلى الله أي محتاج إليه . إذن فالفقير معناه في القرآن هو المحتاج من الناس ، وموسى عليه السلام حين وصل إلى مدين هاربا لا يملك شيئا استلقى إلى جانب شجرة ودعا ربه قائلا " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " ( القصص :24 ) يعني محتاج إلى أي خير ترزقني به .
وليس في امكان البشر توزيع الرزق ، ولا يستطيع كل إنسان تحقيق أمنيته ليصبح اغني رجل في العالم ، وإلا ما كان هناك فقير في الدنيا .. كلنا يتمني أن يحصل على أكبر قدر من الثروة ، ولكن الثروة كالسراب يتنقل من هذا إلى ذاك ، وليس بإمكان مخلوق أن يضمن الثراء لنفسه أو للآخرين ، لأن توزيع الرزق بيد المولى تعالى ، وهو الذي شاء أن يختبر الناس بذلك التفاوت في الرزق " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ : النحل: 71 " فالله يختبرنا بالثروة إذا أعطاها لنا وحين ينزعها منا وحين يحرمنا إياها .
والله تعالى ضمن الرزق لكل دابة في الأرض " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا : هود : 6 " وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ" العنكبوت :60 . وكل إنسان هو سبب الرزق لأخيه الإنسان ، صاحب العمل هو سبب في رزق العمال ، ورزق صاحب العمل متوقف على عمل العمال ، والأب سبب في رزق أولاده ، والأولاد سبب في رزق أبيهم ، لذلك يقول تعالى في النهي عن قتل الأبناء مخافة الرزق "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ : الأنعام 151" . ويقول " وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ : الإسراء :31 " .قال للآباء عن الأولاد " نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ " و" نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ " فرزق الأولاد متوقف على الآباء ورزق الآباء متوقف على الأبناء والفضل لله وحده وهو الرزاق المتين .
وكذلك أيضا فالفقير المحتاج جعل الله له حقا في مال الغني ليختبر ذلك الغني ، وإذا أعطى الفقير حقه أوسع الله له في الرزق ، فرزق الفقير في جيب الغني ، ورزق الغني يتوقف على الفقير يقول تعالى " قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ :سبأ 39 " .
وتوزيع الرزق من الله لا يرتبط بالإيمان أو الصلاح ، وإبراهيم عليه السلام حين دعا ربه أن يرزق نسله حول الحرم قال " رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ " أي قصر دعوته بالرزق على المؤمنين فقط ولكن الله قال " قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ.. البقرة 126." فالرزق في الدنيا من الله للجميع ، ولكن الجنة في الآخرة لمن يسعى سعيها وهو مؤمن .
وهكذا فإن إعطاء المحتاج الفقير حقه المفروض لا يتوقف على إيمانه أو صلاحه ، فالذي يعطي الصدقة لفقير ليس مسئولا عن هدايته ، وإنما هو مسئول أمام الله عن إعطائه حقه في الصدقة ، وهو أن أعطي الفقير حقه فقد أرضى به , يقول تعالى " لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ . البقرة : 271 " . فليس عليك هداية الفقير فالهداية من الله , ولكن الذي عليك أن تعطيه حقه في مالك .
والمسلم يدفع الزكاة الرسمية ولها مستحقون معينون أوضحتهم آية الصدقة " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ . التوبة : 60 " . فالذين يستحقون الصدقة الرسمية أصناف ثمانية هم : الفقراء , المساكين , جامعو الصدقات والزكاة , . والذين تستميلهم الدولة ، وعتق الرقيق والذي يغرم ماله في ضمان مدين معسر ، وابن السبيل الغريب , ثم في الجهاد في سبيل الله ، وفيما عدا المجاهدين في سبيل الله الذين لابد أن يكونوا بالضرورة مسلمين ، فإن الأصناف السبعة السابقين لا يشترط أن يكونوا مسلمين . فالفقير له حق في الصدقة الرسمية بغض النظر عن دينه مسلما أو نصرانيا أو يهوديا أو ملحدا .. وكذلك المسكين وابن السبيل إلى أخر الأصناف السبعة .
والمسلم إلى جانب الزكاة يدفع صدقة تطوعية وهو يجعل لها قدرا معلوما من دخله , فإذا سأله سائل محتاج أعطاه ، وبالزكاة الرسمية والصدقة الفردية تغطي الصدقة والزكاة احتياجات الفقراء يقول تعالى " وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ . الذاريات 19 ." وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ . المعارج 24 : 25 " .
فالمسلم قلبه لله إذا رأى محروما لا يسأل عن دينه ومعتقده وصلاحه وإنما يبادر بإعطاء ذلك المحروم حقه الذي فرضه الله له في مال المسلم . والمؤمن حق الإيمان إذا سأله محتاج لا يستجوبه في دينه أو مذهبه ، ولا يأخذه بسلوكه ليتخذ من ذلك حجة في حرمانه من حقه المعلوم الذي أوجبه الله .
إن المحروم لا جنسية له . والفقير له حقه في مال الله الذي أعطاه للأغنياء وينبغي أن يأخذ حقه بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه , فيكفي أنه فقير ليأخذ حقه . ولم يرد في القرآن مطلقا اشتراط أن يكون الفقير مسلما أو مهتديا ليستحق الصدقة ، بل نهى رب العزة عن ربط الهداية بإعطاء الصدقة فقال " لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ " . وحتى في عتق الرقيق لم يشترط أن يكون الرقيق مؤمنا إلا في حالة واحدة : إذا كان القتيل مؤمنا فعلى القاتل الذي اخطأ أن يدفع دية المقتول المؤمن وان يحرر رقبة مؤمنة " وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ . النساء : 92 " وفي حالة التزويج فقط رغب القرآن في تزويج الفقراء الصالحين الأبرار ووعد بأن يوسع في رزقهم " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . النور : 32 " وهو ترغيب للفقراء من ذكور وإناث في أن يكونوا صالحين ليثق بهم من يريد تزويجهم أو الزواج منهم ثم هو ترغيب للجميع بالتوسعة في الرزق .

( 3 ) حتى يحول الحول . فى 28 / 3 / 1990
سداد الزكاة يوم الإيراد
1 ـ في أوائل الثمانينات حدثني أحد كبار التجار من ذوي اللحي والمسواك عن طريقته في إدارة تجارته وسألته عن حق الله في زكاة أمواله ، وفوجئت به يفتخر بأن له عشر سنوات ما أخرج الزكاة .. وقبل أن ابتلع دهشتي قال : كما تعلم فإن الزكاة لا تحب إلا كل حول ( أي بعد مرور عام ) وأنا قبل أن يكتمل الحول أجعل أرباح العام تدخل في رأس المال . حتى إذا حال الحول كان مكسبي صفرا فلا ادفع زكاة المال . وهكذا طيلة السنوات العشر الماضية . ودخلت معه في جدل ولكنه تمسك بأحاديث يحفظها ، وبأن دورة رأس المال ينتج عنها في النهابة رخاء المجتمع فيستفيد منه مستحقو الصدقة . وانصرفنا وقد قرر كل منا أن يقطع علاقته بالآخر . وأحسبه الآن قد أصبح في عشرات الملايين وهو يحرص كل عام على أن تكون أرباحه صفرا حين تدخل في رأسماله ، وينجو من دفع الصدقة والزكاة ، بينما يتضور الفقراء حوله جوعا . ولازلت أتذكر فحوى الحوار الذي دار بيننا .
2 ـ قلت فعلا .. هناك حديث أبي داود ." وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول .." وهناك قول ابن عمر " من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول الحول .." وهناك رواية مالك في الموطا " لا تجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " . ولكن الحديث هنا عن الزكاة التي يجمعها الحاكم المسلم في توقيت سنوي محدد لجميع الممولين أو يجمعها سنويا حسب حالة كل ممول : وقد كانت الزكاة في عصور الخلفاء تقترب من مفهوم الضريبة في عصرنا الراهن ، وإلى جانب الفريضة التي يقدرها الخليفة كانت تجمع الصدقات التطوعية وتقوم الدولة بتوزيعها على الفقراء والمساكين والموظفين العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم الذين تريد الدولة استمالتهم وفي عتق الرقاب وتحرير الرقيق وفي مساعدة الغارمين وفي ضيافة ابن السبيل وفي الجهاد في سبيل الله .
3 ـ ومع ذلك فلابد أن يبقي محتاجون .. وأولئك المحتاجون تغطي الصدقات احتياجاتهم .. فهناك زكاة رسمية يدفعها للدولة ، وهناك صدقة يقوم المسلم بإنفاقها بنفسه كل يوم. وقد يكون للزكاة الرسمية موعد سنوي ولكن الصدقة التطوعية كل يوم وفي كل الظروف .. وكما حدد القرآن مستحقي الزكاة الرسمية في آية " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها " فإنه حدد مستحقي الصدقة الفردية التطوعية في قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ : البقرة 215 "
4 ـ الدولة الإسلامية تتعامل مع شرائح وسجلات رسمية في توزيع الزكاة ، قد تقيم دورا لإيواء العجزة وكفالة الأرامل واستضافة أبناء السبيل ورعاية المرضي . ولكن السجلات الرسمية وبيوت الخير لا يمكن أن تستوعب كل المستحقين خصوصا أن هناك من يدخل دائرة الحرمان كل يوم فماذا يكون مصير أولئك ؟ هنا يكون دور الصدقة الفردية وأبوابها مفتوحة كل يوم لتشمل أفرادا يعرفهم المسلم الذي يتصدق بماله وهو أعرف بالمستحقين وأولهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل .. وهنا لا يكون التوقيت سنويا .. بل في كل يوم وفي كل الظروف .. إذا مرض الوالدان هل تقول لهما : سوف أعالجكما حين يحول الحول ؟
5 ـ ويقول تعالى عن الصدقة الفردية التطوعية " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ : البقرة 274 " إذن هو إنفاق مستمر ليل نهار ولا ينتظر حتى يحول الحول . ولأنه مستمر ليلا ونهارا فلا يهتم صاحبه إذا كان ذلك سرا أو علانية المهم أن يرضي ربه ، لذا فلا خوف عليه ولا يحزن .. ويقول تعالى " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ : آل عمران 134 " إذن هو إنفاق في الغنى والفقر ، في العسر واليسر ، في الربح والخسارة في السراء والضراء ، وليس مثل صاحب اللحية والمسواك والجلباب والملايين يكتنز الأموال عاما بعد عام وهو يخدع الناس بمعسول الكلام والحوقلة والبسملة ، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ : التوبة 34 .
6 ـ إن السائل – أو المحتاج الذي يسأل المعونة – له حق ، وللمحروم حق ، وحين يأتي الإيراد شهريا أو يوميا فلابد من إخراج ذلك الحق " َآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ : الأنعام 141 " والمسكين الجائع يحتاج ثلاث وجبات يوميا ، وابن السبيل قد يأتي في أي يوم ، والأقارب قد يحتاجون في أي وقت ولابد لكل منهم أن يحصل على حقه " وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ: الإسراء 26 " " فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الروم 38 " .
7 ـ والمؤمن المتصدق ينسى عبارة " حتى يحول الحول .. "

( 4 )
حقوق الفقراء في القرآن : 7/3/1990
( ولو كان بهم خصاصة !! )
• عناية القرآن بحق الفقير أفردت له نصيبا مفروضا في الزكاة والصدقة والغنائم والفيء . بل إن إيراد الفيء كان مقصورا على الفقراء بأصنافهم ، والفيء هي الغنائم التي تأتي للمسلمين بدون حرب يقول تعالى " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب " الحشر 7
• إن الهدف من تقسيم الفيء على الفقراء دون الأغنياء هو عدم تركيز الثروة وتكديسها في أيدي طبقة الأغنياء أو بالتعبير القرآني " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " وفي ذلك العصر كان معظم الأغنياء في المدينة من المنافقين – وقد نهى الله ورسوله عن أن يعجب بأموالهم وأولادهم – وأولئك المنافقون كانوا مع ثرائهم يطمعون في أن يؤتيهم النبي من الفيء والغنائم ، بل كانوا يلمزون النبي إذا حرمهم من هذه الأموال لذا يقول تعالى عنهم " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين .. الخ الآية 60 من التوبة ."
• وحتى لا يعترض أولئك الأغنياء من حرمانهم من الفيء فإن الله يقول لهم " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب " أي عليكم أن ترضوا بما يعطيه لكم الرسول من الفيء إذا كنتم من المستحقين له ، وعليكم أن تنتهوا عن طمعكم فيما ليس حقا لكم . ثم توضح الآيتان التاليتان مستحقي الفيء من الفقراء من المهاجرين والأنصار فتقول" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا .. " ثم تقول " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " الحشر 7: 9" . المهاجرون تركوا أرضهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله ، والأنصار الفقراء آثروا إخوانهم المهاجرين مع ما بهم من خصاصة . أما الأغنياء المنافقون فقد بخلوا بأموالهم وطمعوا فيما ليس حقا لهم ..
• لقد انتصر الإسلام للمستضعفين فكانوا في مقدمة أتباعه بينما وقف المترفون في مكة وفي المدينة يكيدون للإسلام حرصا منهم على امتيازاتهم الطبقية والاجتماعية أو بالتعبير القرآني عنهم " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " الواقعة 82. إلا أن الحال اختلف بعد أن انتصر المسلمون على الفرس والروم وورثوا كنوزهم ومستعمراتهم وأشرفوا على مباهج الدنيا في الشام والعراق ومصر وإيران .
• كان (عمر) في خلافته حريصا على ألا يفتتن المسلمون بهذه الدنيا إلا أن " عثمان" ترك لهم الحبل على الغارب فغرقوا في النعيم ثم اختلفوا ثم قتلوا الخليفة ثم اقتتلوا فيما بينهم – ولا يزالون!! في الفتنة الكبرى نري من أعلامها من الصحابة : عبدالله بن الزبير وطلحة بن عبدالله وعمرو بن العاص .. ومن خلال كتب التراث نتعرف على ثرواتهم التي تفوق الخيال بمقياس عصرنا . يذكر ابن سعد في الطبقات عن الزبير بن العوام ترك عند وفاته ما قيمته (52 مليون دينارا) بالإضافة إلى سيولة مالية قدرها(35) مليون دينار و(200 ألف دينار) وأنه ترك خططا – أي عمائر – بمصر والإسكندرية والكوفة والبصرة وإحدى عشر دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة .. أما طلحة بن عبيد الله – الذي كان يتحلى بخاتم من ذهب فيه ياقوتة حمراء – فقد ترك سيولة مالية قدرها(2ر2 مليون درهم) وقيمة ما تركه (30 مليون درهم) ومائة ( بهار) وفي كل بهار ( ثلاث قناطير من ذهب ) و ( البهار) مكيال يساوي أردبين أي (200أردب) من الذهب .!! ( طبقات ابن سعد 3، 1 ، 77، 157: 158) وعمرو بن العاص الذي افتتح مصر أكل خيرها ترك عند وفاته سبعين بهارا من الدنانير ،أي (140 أردبا) من الذهب .. !! خطط المقريزي( 1- 564 ) . لذا لا نستغرب أن يكونوا زعماء للفتنة الكبرى ، ويصدق عليهم قول مسروق الزاهد"هذه الدنيا أكلوها فأفنوها ،لبسوها فأبلوها ،ركبوها فأنضوها ، سفكوا فيها دماءهم ، واستحلوا فيها محارمهم ، وقطعوا فيها أرحامهم " وبسبب هؤلاء السادة وغيرهم قتل من المسلمين أكثر من مائة ألف في حروب الجمل وصفين والنهروان ..
• نسي أولئك أن للفقراء حقا ، ولو أعطوهم حقهم لما بقيت لديهم تلك الملايين المكنوزة والتي تركوها خلفهم . ونسوا أنهم لو أعطوا الفقراء حقهم كما قال القرآن ما أصبح المال دولة ببين الأغنياء، أو بتعبير عصرنا ما تكونت طبقة من الأثرياء التي تسيطر على معظم الثروة بينما تقاسي الأغلبية من الحرمان .
لقد جاء الإسلام لينقذ الفقراء من ظلم الأغنياء في الشام والعراق ومصر وإيران ، ولكن الذي حدث أن الزعماء الجدد ورثوا كنوز الأكاسرة والقياصرة ولم يلتفتوا لإصلاح حال الشعوب ، بل عوملت الشعوب المفتوحة في عصر الأمويين بالتعسف والظلم حتي من أسلم منهم كان يدفع الجزية ..!! والمفجع أن ذلك " السلف الصالح " عاش مع النبي تلك الفترة الذهبية التي كان الفقراء فيها يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ..
وبعض المسلمين كان يتذكر تلك الفترة الذهبية وينظر حوله حيث المتاع والمال فيبكي .. كان خباب بن الأرت يقول في آخر حياته " هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئا ،منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه.. " وكان خباب يقول " لقد رأيتني مع رسول الله لا أملك دينارا ولا درهما ، وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف..ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ".
• إن صمام الأمن في أي مجتمع هو إعطاء الفقراء حقهم .. وإذا أكل الأغنياء حقوق الفقراء فإنما يحفرون قبورهم بأيديهم .حتى لو كان أؤلئك الأغنياء من "السلف الصالح " .
• وكثيرون من أعيان عصرنا في حاجة لفهم هذا الدرس من تاريخنا الإسلامي .

(5 )
لا حياء في الدين : 3/8/1994
* ارتفع صوت الواعظ في أحد المساجد في حي شعبي وهو يلقي درسا لمجموعة من السيدات والآنسات ، هن بالطبع من خيرة الحي إذ تعودن على الصلاة وارتياد المسجد ، ولكن كان يبدو عليهن السخط والغضب مع الاشمئزاز والحياء والخجل ، لأن فضيلة الواعظ كان يعطي لهن درسا في " الجماع" أو ممارسة الجنس في الزواج ، ويأتي بتعبيرات وألفاظ مستهجنة أقلها إنزال الرجل وإنزال المرأة واحتلام الرجل واحتلام المرأة هذا غير الوصف التفصيلي " للحوار " العملي بين الأعضاء التناسلية عند الجماع وما يستوجب ذلك من الغسل .. وتسللت بعضهن من فرط الحياء والخجل ، وأحس الواعظ بالاستنكار فصاح فيهن : معايا ولا لا .. فصرخت فيه سيدة مسنة : نحن مع الله ولسنا معك ، ونحن في بيت الله ولا يصح أن نسمع فيه هذا الكلام .. وصرخ فيها الشيخ : لا حياء في الدين ..
" وفي إحدى القرى في محافظة الشرقية استطاع أحدهم ببعض مما جمع من أموال المحسنين في الخارج أن ينشيء مسجدا له شخصيا ، يمارس فيه هوايته في التطاول على خصومه في الرأي والعقيدة ، واعتاد أن يعطي درسا للنساء عن آداب قضاء الحاجة والاستنجاء ، وأنواعه بالحجر أو بالماء . وكيفيته في البول وفي غيره .. وتخرج النساء يتضاحكن عليه .. فلما عرف بالسخرية منه قال لهن إنه يدرس لهن المذكور في كتب الفقه المقررة على الأزهر ، وكرر أمامهن العبارة المأثورة : لا حياء في الدين..
" واعظ آخر في خطبة الجمعة استعرض مهارته الفقهية من خلال حفظه لكتب الفقه الصفراء فأخذ يشرح للناس العقوبات الشرعية على رجل زنى بأمه في نهار رمضان في جوف الكعبة .. فلما اعترض عليه بعض المصلين أخرج له كتاب " القناع في حل ألفاظ أبي شجاع " .. وأكد حجته بالقول المشهور : لا حياء في الدين..
* تلك بعض النماذج التي جاءني بها أحد الغيورين على الإسلام .. وتكاثرت أسئلته ، وكان أبرزها سؤالين هل الإسلام يرضى عن هذا التدني في الخطاب ؟ وما صحة ذلك القول بأنه لا حياء في الدين؟..
وقلت له إن الإسلام شيء والفقه شيء آخر ، الإسلام هو القرآن العظيم وأعظم تطبيق له كان في سنة النبي ، وذلك لا شأن له بآراء الفقهاء الذين عاشوا في عصور مختلفة وتأثرت آراؤهم بعصرهم ، وكان العصر العثماني والعصر الملوكي هما أحط العصور عقليا وفكريا وخلقيا ودينيا أقول ذلك من واقع التخصص العلمي في الدكتوراه ، وانعكس ذلك على المؤلفات الفقهية وغيرها ، ومن أسف فإن مؤلفات هذين العصرين هما الأساس في الدراسة الأزهرية ، وهما أساس ما يعرف بالصحوة الدينية الآن ، وتلك الكتب الصفراء كنا نخجل من دراستها ونحن طلبة في الثانوي الأزهري , ولكن في عصرنا أصبحت أكثر بياضا وأكثر انتشارا ، والأمر يستدعي اجتهادا فقهيا يواكب ذوق عصرنا ويكون أكثر ارتباطا بالقرآن العظيم وأكثر اقترابا من الإسلام .. ولكن الاجتهاد معناه الخصومة مع الشيوخ ، ومعناه الاضطهاد والاتهام بالردة، وتلك الأسلحة يشهرها القاعدون عن الاجتهاد حتى لا يفقدوا مناصبهم وجاههم..
وقلت له إن الدين الحق هو الحياء .. لأنه هو الإيمان وهو الطاعة لله تعالى وهو ألا تعصى الله تعالى خوفا وحياء منه . وهو أن تتجنب البذاءة والفحش وأن تقول للناس حسنا . وذلك هو الدين أو هو الحياء .. وقد يقال لا حياء في قول الحق إذا كنت مطالبا بشهادة حق ، فتقول الشهادة بصراحة ، ولكن تلك الصراحة لا تعني أن تقع في الإسفاف والبذاءة والفحش .. وقد يقال لا حياء في العلم ، ولكن للعلم ألفاظه ومصطلحاته التي تختلف بالقطع عن ألفاظ الشوارع والمستهجن من الأوصاف والموضوعات ..
وقلت له : إن الله تعالى وصف النبي بأنه كان مثلا أعلى في الحياء حتي كان يستحي من تنبيه الثقلاء في بيته الذين يأتون إليه بدون استئذان ويأكلون ويمكثون الساعات فقال تعالى: " إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق " الأحزاب 53.
وتشريعات القرآن لم تتعرض لموضوع الاستنجاء لأنه من البديهي أن يحرص كل إنسان راق على نظافته الشخصية ، لذلك وردت إشارة ضمنية ضيئلة في قوله تعالى عن الوضوء والغسل " أو جاء أحد منكم من الغائط " ولكن " الاستنجاء " استغرق عشرات الألوف من الصفحات في التراث الفقهي وبتفصيلات مقززة .!!
ولم تتعرض تشريعات القرآن للعلاقة الجنسية بين الزوجين إلا بالألفاظ الراقية مثل " الرفث " " ولا تقربوهن " " لامستم " " تباشروهن " " يتماسا" وليس في القرآن تلك الأوصاف المخزية التي حفلت بها أبواب الفقه في عصور الانحطاط ..
وليس مثل الإسلام دين ظلمه أصحابه والمنتسبون إليه .. ونحن أحوج ما نكون إلى إصلاح ديني قبل الإصلاح السياسي أو الاقتصادي ، وبالإصلاح الديني يمكن أن نبريء الإسلام من التطرف ومن التخلف .

( 6 ) بتاريخ 6 مارس 1994. ، نشرت لى الأهالى هذا البحث التاريخى ( على غير عادتها ) والذى قمت بتبسيطه فى صورة قصة تصلح لعمل درامى ، يسلط الضوء على ناحية مجهولة من التاريخ العباسى ، عاش فيها أئمة السنيين المقدسين ينصاعون لحكم جوارى القصر : قصر الخليفة العباسى . نعيد نشر هذا البحث :
(فكر ودراسات : في ظل الخلافة العباسية : الجارية جعلوها قاضياً للقضاة!! . قصة الوصيفة" ثمل "التي أمرتها "شغب" ببحث مظالم الناس!! )
1 ـ هذا هو عنوان الخبر الذي تصدر أحداث سنة 306هـ في بغداد عاصمة الخلافة العباسية وموجز الخبر يقول" أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بثمل ، أن تجلس في الرصافة للمظالم ، وتنظر في رقاع الناس في كل جمعة، فجلست وأحضرت القاضي أبا الحسين بن الأشنائي، وخرجت التوقيعات على السداد ".
وشرح هذا الخبر يعنى أن السيدة (شغب) أم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" قد أصدرت قراراً بتعيين (قهرمانتها) أي وصيفتها(ثمل) قاضياً للقضاة، فجلست الوصيفة في مجلس الحكم والقضاء وأخذت تنظر في الشكاوي ـ أو الرقاع ـ التي يكتبها الناس، وكان موعد جلوسها في الرصافة كل يوم جمعة، وكان يحضر معها القاضي أبو الحسين بن الأشنائي، وكانت توقيعات قاضي القضاة الجديد تخرج بسرعة للنفاذ والسداد.. وورد الخبر السابق في صورة موجزة يرويه ابن الجوزي في تاريخه يقول : ( قعدت ثمل القهرمانة في أيام المقتدر للمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء. ) . وعن الخبر السابق يقول السيوطي في" تاريخ الخلفاء" "وفيها صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الآمر إلى أن أمرت أم المقتدر بثمل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعه، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها.!!
2 ـ والمستفاد من النصوص التاريخية السابقة أن الخلافة العباسية قد ارتضت أن تقوم جارية بمنصب قاضي القضاة، وأن فقهاء الشرع العباسي لم يروا في ذلك بأساً ولم يرتفع صوت أحدهم بالإنكار وهو يجلس تحت قيادة الجارية " ثمل" قاضي القضاة الجديد بكل ما فيها وما في اسمها ثمل من معان لا تتفق وجلال القضاء واحترامه...
3 ـ ولكن كيف وصلت تلك الجارية إلى ذلك المنصب؟ وما الذي جعل السيدة " شغب" أم الخليفة المقتدر تصدر قرارها الغريب بتعيينها قاضياً لقضاة الشرع؟ .
4 ـ إن تفاصيل هذا الخبر وجذوره تجعلنا ندخل في خفايا الخلافة العباسية ودهاليز قصورها التي وردت ثناياها بين سطور التاريخ، وهى في النهاية. تعطي صدمة للأبرار الحالمين بعودة الخلافة وأثارها الجانبية!!
شغب وثمل وفتنة
1 ـ تبدأ القصة بالخليفة المعتضد والد الخليفة المقتدر الذي كان ذواقة للنساء والذي مات متأثراً بإفراطه في حياته الجنسية، وقد رأى ذلك الخليفة المعتضد جارية نحيفة ذهبية اللون فأحس بأنها مختلفة عن أطنان اللحم الأبيض في مئات الجواري اللائي يحتفظ بهن في قصره،وسأل عنها فقيل اسمها" ناعم" وإنها جارية تملكها أم القاسم بنت محمد، فاشتراها منها المعتضد وقضى معها ليلة، وبعد أن "عرفها " هجرها وانشغل عنها بباقي الحسناوات، وحملت " ناعم" وولدت للخليفة ولداً أصبح أسمه المقتدر " .
2 ـ على أن " ناعم" أم المقتدر لم تطق أن يهجرها سيدها الخليفة المعتضد ، فأثارت المشاكل ، وأقامت القصر العباسي وأقعدته في " شغب" مستمر،فأهانها الخليفة المعتضد وضربها وأطلق عليها اللقب الذي حملته إلى نهاية عمرها وهو لقب " شغب" . وألزمها بأن تعكف على رعاية ابنها الرضيع المقتدر ، وخصص لها بيتاً في القصر جعله لها سجناً إجبارياً .
3 ـ وفي ذلك السجن عرفت شغب صديقتها الجارية " ثمل" التي كانت تزورها وتنقل إليها الأخبار، ومنها عرفت أن الخليفة المعتضد قد انشغل بجارية جديدة أطلق عليها لقب "فتنة" وبعد أن حملت" فتنة " ازداد لها حباً ولم يهجرها كما فعل مع شغب، فازدادت شغب حقداً على" فتنة " ثم جاءتها " ثمل" بخبر آخر يفيد بأن "فتنة" قد ولدت للمعتضد ابناً آخر سماه محمداً (وهو الذي تولى الخلافة باسم "القاهر") . وقد طار به المعتضد فرحاً. وازدادت شغب حقداً على المعتضد وجاريته الجديدة وابنها محمد، خصوصاً وأن المعتضد ثار ثورة عنيفة على ابنه " المقتدر" وهم بأن يقتله وهو صبى صغير إذ رآه يوزع على أترابه من لأطفال ـ أطفال الخدمة ـ أنفس الطعام الذي يأكل منه وبالتساوي، فأحس بأن أسلوب شغب في تربية ابنه قد يجعل من ذلك الطفل خطراً على الخلافة العباسية إذا تولاها وهو يحمل تلك المفاهيم " الاشتراكية "
4 ـ واستعطفته " شغب" بكل ما تملك من دموع حتى عفا عنه وعنها.. وحين تستعرض شغب موقف المعتضد من ابنها ( المقتدر ) وابن غريمتها( القاهر) تزداد حقداً على حقد .. وفي كلمة الحقد تآمرت " شغب" وصديقتها " ثمل" على التخلص من " فتنة" . وماتت فتنة وتركت ابنها الرضيع الذي تسمى باسم ( القاهر) ، ومرت الجريمة بهدوء وعهد الخليفة المعتضد بابنه الرضيع الذي فقد أمه إلى "شغب" لتربيه مع ابنها "المقتدر" فازدادت شغب حقداً على المعتضد وهى تراه لا يعتبرها إلا مجرد بقرة حلوب لإرضاع أولاده ورعايتهم.. فقط
دريرة في البحيرة
1 ـ ثم جاءت ثمل إلى صديقتها " شغب" بنبأ جديد زاد مواجعها، وهو أن الخليفة المعتضد انشغل بمحظية جديدة اسمها " دريرة" وأنه قد بني لها داخل القصر بستاناً وفيه حمام سباحة، واعتاد أن يجلس مع محبوبته "دريرة" في ذلك البستان الذي سماه "البحيرة" ومعها الجواري والمغنيات والعازفات.. وكانت أصوات الغناء والعزف تصل إلى "شغب" في إقامتها الإجبارية فيزداد لهيب غيرتها، فاتفقت مع صديقتها "ثمل" على أن تصل أنباء القصر إلى الشاعر ابن بسام المشهور بمجونه وطول لسانه وشهرته . وآتت تلك المكيدة ثمرتها، إذ سرعان ما تراقص أهالي بغداد على أشعار ابن بسام وهو يسخر من الخليفة المعتضد قائلاً:ـ
ترك الناس في حيرة
وتخلى في البحيرة
قاعداً يضرب الطبل
على (...) دريرة..
وعلم المعتضد بالشعر،وكان المعتضد مشهوراً بالقسوة والهيبة فهو الذي جدد ملك بني العباس، وكان مع إسرافه في المجون مع جواريه شديد التسلط على القادة والناس، ولذلك فإنه خشي أن ينال شعر ابن بسام من مهابته فأمر بهدم البستان وحمام السباحة، ونجحت" شغب" و"ثمل" وسكت الطبل والزمر..
2 ـ إلا أن المعتضد ازداد التصاقاً بدريرة فأصبح لا يأنس إلا بها . وشعرت " شغب" أنها السبب في ذلك ورأت أنه لا وسيلة إلا بقتل "دريرة" بالسم حسبما كان سائداً في العصور العباسية،" وماتت دريرة في نفس الظروف الغامضة التي ماتت فيها " فتنة " من قبل، ولكن كانت هناك دلائل تشير إلى تورط "شغب" في هذه الجريمة فضربها المعتضد وكان على وشك أن يقطع أنفها ويشوه وجهها، ولكنه رجع عن ذلك ربما لأن الدلائل لم تكن حاسمة وربما حرصاً على مشاعر ابنه المقتدر، وربما لأنها ترعى ابنيه المقتدر والقاهر وخاف أن تنتقم من ابنه القاهر..
3 ـ وانكفأ المعتضد على أجساد جواريه يبحث فيهن عن حبيبته "دريرة" التي نطق من أجلها شعراً يرثيها فيه، ولكن الإفراط في الجنس في تلك الحالة السوداوية أدى به للمرض فالموت ..
موت مفاجئ
1 ـ ومات المعتضد بعد حبيبته دريرة بأشهر، أي سنة 289 ، وحين مات كان أكبر أولاده( المكتفى) قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره فتولى الخلافة، وكان ابنه (المقتدر ) ابن" شغب" في السادسة من عمره، بينما كان (القاهر) في عامه الثاني فقط..
2 ـ وخرجت شغب من سجنها بعد موت غريمها المعتضد وازدادت صلتها توثقاً بصديقتها" ثمل" فجعلتها " شغب" قهرمانة خاصة بها، والقهرمانة تعني الوصيفة أو كبيرة الخدم، وفي خلافة (المكتفى) بن (المعتضد) أتيح لشغب أن تخطط للتخلص من (المكتفى) ليتولى ابنها (المقتدر) في الوقت المناسب (للمقتدر) ..
3 ـ وتسكت المصادر عن ذلك التخطيط ولكن نجاح "شغب" في تدبيرها يحتل عناوين التاريخ العباسي، فالخليفة الشاب (المكتفى بالله) يموت فجأة سنة295 بعد أن حكم أقل من ست سنوات، وحين مات كان (المقتدر) ابن "شغب" هو المرشح لتولى الخلافة، وتذيع دوائر القصر العباسي أن" المقتدر" بلغ الحلم و"أحتلم" وأصبح رجلاً، رغم أنه كان في الثالثة عشرة من عمره ولكن ذلك التوقيت لم تصنعه الصدفة وإنما صنعته" شغب" مع صديقتها "ثمل" و به أصبح المقتدر أول خليفة يتولى الحكم في هذه السن بعد الموت المفاجئ لأخيه الشاب ..
4 ـ وقد عاش المقتدر طفولته مع أمه في سجنها الإجباري فأصبح شديد الالتصاق بها وقد ظل ملتصقاً بها لا يتحرك إلا بإرادتها، ولذلك كانت هي التي تباشر السلطة بنفسها ومنذ تولى أبنها الخلافة أصبح محرماً أن يتلفظ أحد باسمها "شغب" بل صار لقبها الرسمي"السيدة" وبهذا اللقب حكمت الدولة العباسية خمسة وعشرين عاماً إلى مقتل ابنها المقتدر سنة320.
غريقة في الفرات
1 ـ وحين أدارت شغب أمور الدولة العباسية في خلافة ابنها " المقتدر" فإنها لم تنس الانتقام من أعدائها في القصر ، فكثر عزل الوزراء وتوليهم ومصادرة أموالهم، وفي داخل القصر أمرت شغب سنة299 بعزل فاطمة قهرمانة القصر العباسي ومصادرة أموالها، ووجدوها غريقة في الفرات ولم يعرفوا الجاني ولا نحن نعرف بالطبع!!
2 ـ وفي المقابل فإن "ثمل" صديقة الأيام السوداء أصبح لها شأن عظيم، حتى لقد كانت تولى الوزراء وتعزلهم ويخشاها الجميع، لأن الطريق إلى "السيدة" يمر عبر " ثمل" . وجدير بالذكر أن " ثمل" أصبح لها لقب رسمي محترم هو أم موسى القهرمانة.. وحدث سنة 304 ما يعرف بنكبة الوزير ابن الجراح فقد خشي الوزير من تسلط القهرمانة ثمل فقدم استقالته، لم تشفع له من غضب القهرمانة وسيدتها،فأصدرت السيدة قراراً بمصادرة أتباع الوزير، ولم ينج الوزير المسكين من مصادرة أمواله إلا بتمرغه على أقدام الخليفة المقتدر.. فأنقذ حياته وأمواله إلى حين ..!!
3 ـ ثم في تصعيد آخر لنفوذ القهرمانة ثمل أصدرت أم المقتدر قرارها بأن تتولى ثمل منصب قاضي القضاة رسمياً.. فكانت سابقة خطيرة في تاريخ الخلافة والخلفاء ..
وتبقى لنا بعض ملاحظات
1- أننا في حاجة لإعادة قراءة التاريخ الأموي والعباسي والفاطمي ، ليعرف الناس الفجوة بين الشعارات والحقائق التاريخية .. إننا إذا أردنا أن نلخص التاريخ العباسي في سطر واحد فيمكن أن نقول أنه عصر تحكم فيه الجواري من محظيات الخلفاء وأمهاتهم منذ الخليفة المهدي العباسي، الذي تحكمت فيه جاريته الخيزران واستمرت تتحكم حتى عصر ابنها الرشيد، ثم توالت عصور الجواري، وعلى سبيل المثال نجد الجارية " قبيحة " تسيطر على الخليفة المتوكل ثم على ابنها الخليفة المعتز، وفي خلافة المستكفى كانت قهرمانة دارة واسمها علم الشيرازية هي التي سعت في توليته الخلافة فأطلق يدها في إدارة الأمور وحين احتج بعضهم عليه قال كلمته المأثورة: وجدتكم في الرخاء ووجدتها في الشدة ..!! فالتاريخ الحقيقي شيء آخر . والتاريخ المزيف بالشعارات شيء.
2- إننا في عصر التليفزيون أحوج ما نكون إلى أعمال درامية تحول حقائق التاريخ الأموي والعباسي والفاطمي إلى مسلسلات حية تنطق بما كانوا عليه وفق ما هو مكتوب في التراث، وهو أعجب من الخيال، وهنا يقوم التليفزيون بمهمة إعلامية علمية تاريخية سياسية تكون البداية الحقيقية لتفهم تاريخنا على حقيقته ولنبنى حاضرنا ومستقبلنا على أسس من النضج الفكري، إذ ليس معقولاً أن يتقدم العالم حولنا في كل دقيقة ونحن نجتر بعض الشعارات عن الماضي .. ومن أسف فإننا مع كثرة معايشتنا للماضي فإننا لا نعرف عنه إلا مجرد عناوين زائفة وأقاويل ظاهرية أشبه بالخطب المنبرية ..
3- إنه في العصور التي تحكمت فيها الجواري عاش الأئمة العظام في الفقه والحديث والتفسير كالبخاري ومسلم وابن حنبل والشافعي والطبري وغيرهم .. ولم نعرف أن أحدهم كتب يستنكر أن تتحكم الجواري في مقاليد الخلافة "الإسلامية" أو أن يعيش الخلفاء (ظل الله في الأرض) في مجالس الخمر والشذوذ والجنون..
4 ـ وقد آن الأوان لأن نتعامل مع أولئك ألأئمة على أساس أنهم بشر عاشوا في عصر عرف كل الموبقات وتأثروا بها، وكان أتقاهم هو من أنكر ما يحدث في قلبه فقط ، أما أغلبهم فكان من فقهاء السلطة يخترع لها الأحاديث والفتاوى ويأخذ منها الفتات..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا