الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)

ناصر بن رجب

2019 / 1 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يستمرّ المأثور الإسلامي في تضخيم دور عبد المطلب وجعله حلقة أساسيّة من حلقات نقل "نور محمّد" منذ آدم. يقدِّم لنا صاحب كتاب "شرف المصطفى" رواية اختصّ بها وحده إذ لا نجد لها أثرا في بقيّة كتب السّيرة، على الأقلّ في أقدم نسخها، عند ابن إسحاق-ابن هشام، والزّهري-مَعْمر وغيرهم. وهذا الخبر، وهو خبر مهمّ جدّا، لم يأت ذكره أبدا في جميع الرّوايات التي سُقناها سابقا في هذه السّلسلة من المقالات والمقالات التي سبقتها حول تفسير سورة الفيل. تعود أحداث الرّواية إلى زمن هجوم أبرهة الحبشي على مكّة. يقول الخركوشي في حديث مسنود إلى أبو سعد أنّ عبد المطلب رأى: "من نور محمّد عَجَبًا عَجيبًا يوم قدم أبرهة بن الصباح لهدم بيت الله الحرام". ثمّ بعد أن يُذكِّرنا بما قام به أبرهة باستياقه "أربعمائة ناقة لعبد المطلب"، يُخبِرنا بأنّ هذا الأخير: "ركب في نفر من قريش، فلمّا صار إلى جبل ثبير، استَدَارَت غُرَّةُ رَسولِ الله على جَبِينه كالهلال ورَدَّتْ شُعَاعَها على بيت الله الحرام مثل السّراج إذا وقع على الجدار". كان من المفروض أن تكون ردّة فعل عبد المطلب في مستوى خطورة مثل هذا المشهد المهيب والنّور يَغْمر فيه الأرض والسّماء، كأن يسقط على الأرض مغشيّا عليه، أو يخرّ ساجدا، أو يرفع يديْه إلى السّماء...إلخ؛ أبدا، لا شيء من كلّ هذا! بالعكس نراه يتعاطى مع هذه الظّاهرة وكأنّها ظاهرة عاديّة تحدث له كلّ يوم، أو هو على علم بهذا "النّور النّبوي" منذ زمن بعيد. فيضيف الخركوشي: "فلمّا نظر عبد المطلب إلى ذلك النُّورِ، قال: معاشر قريش ارجعوا فقد كَفَيْتم، فوالله ما استدار هذا النُّورُ مِنِّي قطّ إلاّ كان الظَّفَر، ولا وقع على شيء كما وقع على هذا البيت إلاّ منع الضّيم". وبالمقابل، نرى ردّة فعل أبرهة تنسجم تماما مع ردّة فعلِ كائن بشري سويّ أمام ظاهرة خارقة للعادة. يُصوِّر لنا الخركوشي حالة أبرهة تصويرا دراميّا دقيقا عندما دَخَل عليه عبد المطلب، قال: "فلمّا دخل (أي عبد المطلب)، نظر إلى وجهه فتلَجْلَج لسانُه، وخرَّ مغشيًّا عليه وخار كما يخور الثّور عند ذبحه، فلمّا افاقَ خرّ ساجدا لعبد المطلب، فقال: أشهد أنّك سيِّدَ قريش حقًّا". (شرف المصطفى، ص 181-182)
ثمّ يردُّ عبد المطّلب، بصورة عاديّة جدّا وبكلّ بساطة، على أبرهة عندما طرح عليه السّؤال: "هل كان في آبائك مَن كان له مثل هذا النّور والجمال؟"، قائلا: "نعم، كلّ آبائي كان لهم هذا النّور والبهاء". (شرف المصطفى، ص 182)
والأغرب أنّ الفيل محمود، الذي لم يكن يسجد للملك أبرهة كما كانت تفعل الفِيَلة الأخرى: "خرّ ساجدا" لمّا نظر إلى وجه عبد المطلب: "ونادى بلسان الآدميّين: السّلام عليك أيّها النّور الذي في ظَهْرِك يا عبد المطلب، معك العزّ والشرف، لن تذلّ ولن تُغلَب (...) فغضب أبرهة وبعث إلى كلّ ساحر في مملكته فجمعهم وقال: الويل لكم، حدّثوني عن هذا الفيل، لِمَ سجد لعبد المطلب؟ قالوا: إنّه لم يسجد له، وإنّما سجد لنورٍ يخرج من ظهره في آخر الزمان يقال له محمّد يملك الدّنيا ويذل ملوك الأرض ويدين بدين صاحب هذا البيت -إله إبراهيم- ومُلكُه أعظم من ملك أهل الدنيا، فَائْذَن لنا أن نُقبِّل يديْه ورجليْه، فأذِن لهم، فقامت السّحَرة فقبّلوا يَديْ عبد المطلب ورجليه، وقام الملك وحيدا متواضعا فقبّل رأس عبد المطلب..." (شرف المصطفى، ص 185)
ويبدو أنّ هذه الظّاهرة كانت تتكرّر مع كلّ شخص يدخل مكّة ويعترض في طريقه عبد المطلب. فالحديث الذي أورده مُصنِّف "إثبات الوصيّة" يؤكِّد لنا ذلك، إذ يقول: "وكان لا يدخل مكّة أحَدٌ وينظر إلى وجه عبد المطّلب إلاّ خرَّ له ساجدًا إكراما من الله جلّ وعزّ لنبيِّه محمّد...". (إثبات الوصيّة، ص 114)
ونرى هنا التدرّج في الحُبكَة القصصيّة التي تُصعِّد الحدث إلى بلوغ ذروته عندما يتحوّل عبد المطّلب من مجرّد "سيّد قريش"، إلى شخصيّة كونيّة -شبه أزليّة- تحمل في "صلبها" مَن سيُغِّر مصير الدّنيا بأسرها. فالمأثور الإسلامي يضع عبد المطلب في منزلة الأنبياء حتّى وإن لم يُفصِح عن ذلك بصورة مباشرة. بل نراه يتضارب مع نفسه ويتناقض كالعادة وكأنّنا به ينسى اليوم كلّ ما قاله بالأمس، أو كأنّنا به يتكيّف مع كلّ موقف ومناسبة؛ وإلاّ كيف نفسِّر الأحاديث التي يؤكِّد فيها النبيّ أنّ عبد المطلب من أهل النّار؟ أو أنّه كان، كما أجمع علماء المسلمين على ذلك: "مِن أهل الفَترة"، أي مات قبل البِعثة، ولذلك لا يصحّ أن يُعتَبر مسلِما حتّى وإن كان العلماء قد وجدوا لذلك مخرجا مفاده أنّ أهل الفترة هؤلاء سيمتحنون ويجيبون يوم القيامة بما يُدْخل بعضَهم الجنة وبعضهم النار ويكون آباء النبيّ من جملة الناس الذين لن يجيبوا بتوحيد الله لذلك سيدخلون النار، كما أخبرنا بذلك ابن كثير. ويبدو أنّ هذا الحديث، كانت له وظيفة معيّنة، سواء زمن النبيّ أو بعد وفاته، تتمثّل في القول للنّاس أنّه لا مفرّ لهم من اعتناق الإسلام، وذلك مهما كانت مكانتهم وخصالهم ودرجة قرابتهم من النبيّ، إذا أرادوا النّجاة من النّار ودخول الجنّة.
الهدف هو إبراز كيف أنّ التّقليد الإسلامي، من خلال النُّسَخ المختلفة للأخبار التي تتعلّق "بأحداث" خاصّة، ينتهي به الأمر في نهاية المطاف بنقل ليس ما كان قد حدث فعلا بقدر ما هو حريص على نقل الصّورة التي تريد الأمّة أن تعطيها عن نفسها. ولكن لا نفهم هنا الإشارة إلى خروج محمّد "في آخر الزّمان"، إلاّ إذا ربطناها بما بشّر به النبيّ محمّد نفسه، وهو أحد أسس رسالة الله إلى خلقه، أي قُرْب "قدوم السّاعة"، كما بشّر بذلك يسوع من قبله عندما كان يُبشِّر أتباعه بمجيء "مَلكوت الرّب".
6- "تقلُّب" يسوع ومحمّد في الأصلاب
لقد سبق وذكرنا بأنّ فكرة "تقلُّب" محمّد في أصلاب الأطهار والأنبياء ليست فكرة جاء بها القرآن، بل نجد أصداء لها في النّصوص اليهوديّة والمسيحيّة التي، كما هو معلوم اليوم لدى الجميع، كان قد استقى منها مبادئه الاساسيّة وعبّ من نَبْع أقاصيصها وأساطيرها ونَهَل حتّى الثّمالة. وكما هو معلوم جدّا أيضا هو أنّ المبدأ الذي يُؤسِّس لمفهوم النبوّة في المذهب المَانَوي كان قد طوّره من قبل الأبيونيّون الذين كانوا يعتبرون يسوع هو ذاك النبيّ الذي أعلَن عنه موسى في سفر التّثنيّة 18: 5: "لأنّه هُوَ الكاهِنُ الذي اختارَهُ الرَّبُّ إِلهُكَ من بين جميع الأسباط لكي يَقِفَ في حضرة الرّبّ ويَخْدِمَ باسمِه، هو وبَنُوهُ، كُلَّ يَوِم". وكان الأبيونيون يُطلِقون على يسوع النّبيّ "الحَقّ"، أو "الوحيد"، وحتّى "نبيّ الحقيقة الوحيد". إلاّ أنّ يسوع، في هذا المفهوم، لم يكن يُعتَبَر إلاّ بمثابة آخِر تجسُّد لهذا النبيّ الحقيقيّ، من خلال تنقّلِه عبر الأحقاب، كامنا من جيل إلى جيل منذ آدم. وقد سبق وأشار المستشرق غولدتسيهر إلى بعض المقاطع من الكتابات الكليمنتيّة التي تتحدّث عن أسبقيّة وجود روح نبويّة وأنّ "النبيّ الحقّ" موجود منذ بداية الخلق وهو يتنقَّل (في الأصلاب) من جيل إلى جيل إلى حين مجيء "المُعلِّم" (يسوع). في الحقيقة، إنّ فكرة وجود بعض الكيانات وجودا مسبقا في العقل الإلهي أو في السّماء لها تاريخ طويل في التّوراة والتقليد اليهودي القديم، إذ بإمكاننا أن نتتبّع أثرها حيث نجدها في نصّ يهودي رؤيوي وَرد في سِفْر الحكمة 7: 27: "وبما أنّها وحيدة، فَهِي (أي الحِكمة = النّفس الكليّة عند المتصوِّفة) قادرة على كلّ شيء، وبدون أن تَخرُج من ذاتها، فهي تُجدِّد الكون. وهي تتنقَّل من جيل إلى جيل في الأرواح الطّاهِرة فيولد منها أنبياء وأحبّاء للرّبّ". ويبدو أنّ هذا الضّرب من التّعبير، بخصوص أجيال من الأنبياء تحمل نفس الحكمة سابقة الوجود، هو الذي يكمن وراء ما جاء في رسالة بُطرس الأولى أين نجد أنّ روح المسيح سَكَنت في الأنبياء لِتَشْهَد مسبقا من خلالهم على الأحداث التي ستعترضه في حياته: "الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ، وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا" (بطرس، 1: 10-11). ونجد هذه الفكرة أيضا في إنجيل يوحنا بمناسبة الجدل بين يسوع واليهود بخصوص وقوعهم في الخطيئة لعدم تمسُّكهم بسنّة إبراهيم إذ يدور بينه وبينهم الحوار التّالي: "فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ مَسًّا من الشَيْطَان ["إنَّكَ لَمجْنُون" (الحجر، آية 6)، "إذَا مَسَّهم طائف من الشّيطان" (الأعراف، آية 201)]. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ. أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ؟ وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئًا. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي (...) أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ اهتَزَّ فَرَحًا [عندما عَلِم] أنَّه ينبغي له أن يَرَى يَوْمِي [أي مجيئي إلى هذا العالم]، فَرَأَى يَوْمي وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ، الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا، 8: 52-58).
وعلى ضوء هذا النّموذج اليهودي والمسيحي من الوجود المُسبَق، يمكننا أن نفتَرض أنّ الارتقاء بمحمّد إلى مَنزلةِ هُويّة سابقة الوجود مُمَاثِلة تَقلَّبت بين الأنبياء كان قد نشأ في خضمّ جدالات المسلمين مع المسيحيّة؛ فهو من شأنه أن يُجيب على حاجة المسلمين بإعطائهم نبيّا لا يقلّ رِفعَة عن كبار أنبياء اليهود والنّصارى. ونجد هذا في النّفَس الجدالي الوّاضح في الحديث النبويّ الذي أورده ابن سعد رواية عن أبي هريرة: "بُعِثْتُ مِن خَيْر قُرونِ بَني آدم قَرْنًا فَقَرْنًا حتّى بُعِثتُ مِن القرن الذي كنْتُ فيه" (ابن سعد، طبقات، 1، ص 9)
وهذه الفكرة جاءت أيضا لتصف طبيعة ماهيّاتٍ، مثل الحكمة والتّوراة، بوصفها ماهيّات مرتبطة بشكل خاصّ بالذّات الإلهيّة. وقد رأينا بعد ذلك كيف أنّ القرآن أضاف نفسه إلى هذه القائمة مُؤكِّدا لنا أنّه موجود "في لوح محفوظ" عند الله، أي أنّه قديم قِدم الخليقة.
غير أنّ المأثور الإسلامي، في جداله مع الأديان الأخرى، أراد أن يَتَفرَّد نبيَّه عن بقيّة الأنبياء وذلك من خلال إلحاقه بأجداده العرب، أحفاد إبراهيم وإسماعيل. وحتّى يتمّ له ذلك، قام بالتّمييز بين طائفتين من بين الّذين تقلّب محمّد في أصلابهم، الأنبياء والمُوحِّدين. فقد أخرج الواحدي حديثا في معنى الآية: "وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين"، عن ابن عبّاس: "يُريدُ في أصلاب الموحِّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجَك في هذه الأمّة..." (الوسيط في تفسير القرآن، ج 3، ص 365). وقد رأينا كيف استطاع هذا المأثور من خلال ذلك تحويل عَبَدة الأصنام الجاهليّين من قريش إلى موحّدين حملوا في أصلابهم لُبَّ نبوّة محمّد. ونُذَكِّر هنا كيف قدّم لنا المفسّرون وكتَّاب السّير عبد المطّلب، جدّ الرّسول، وكيف رفعه إلى مقام يُضاهي مقام الأنبياء وذكر أنّه كان قد رفض عبادة الأصنام، وكان من "المُوحِّدين"، وكيف أنّه شرَّع شرائع نزل بها القرآن وسنّ سُننا أقرّها النبيّ. وهناك جزئيّة أخرى جاءت في رواية أوردها السّمرقندي في تفسيره لحديث عن طريق عكرِمة يقول فيه: "ويُقال وتقلّبَك في السّاجدين يعني تقلّبك في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات من آدم إلى نوح، وإلى إبراهيم وإلى مَن بعده..." (السّمرقندي، تفسير بحر العلوم، ج 3، ص 486).
إنّ الإشارة للأمّهات إلى جانب الآباء يجعل تنقُّل محمّد في الأصلاب تنقُّلا جينيّا عبر التّناسُل المباشر. فآدم، ونوح وإبراهيم هم أنبياء ينتمون إلى شجرة نسب محمّد. ومجرّد ذِكر هؤلاء الثّلاثة من بين الأنبياء البيبليّين يعني ضمنيّا أنّ "نور محمّد" توقّف عن التنقّل عَبْر إسحاق ويعقوب...-أجداد أنبياء بني إسرائيل ويسوع- بل امتدّ تنقّله في أصلاب أجداد محمّد العرب بداية من إسماعيل، ابن إبراهيم، إلى غاية أجداده العرب القرشيّين، حتّى ينتهي إلى محمّد نفسه.
وفي هذا التّحريف الذي أُدْخِل هنا على فكرة الوجود المسبق، قد يُشعِر المرء بأنّ المأثور الإسلامي يبذل مجهودا كبيرا للدّفاع عن مكانة إسماعيل في التّسلسل النبوي، وذلك لأنّ المصادر اليهوديّة والمسيحيّة تعتبر إسماعيل (ابن هاجر) أدنى رتبة من إسحاق (ابن سارة). ونجد في الرّسالة الرّابعة إلى أهل غلاطية ازدراءً مُهينًا لإسماعيل وأمّه حيث يقول فيها بطرس: "فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ (...) لكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ، إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ ". (غلاطية 4: 21-31) وبطبيعة الحال، نجد في العرض الإسلامي بأنّ مسار تنقّل "نور محمّد" سابق الوجود يتمّ عبر أبناء "المرأة الجارية" الذين يرثون الإرث الإلهي وليسوا أبناء "المرأة الحرّة".
وهذه الأفضليّة في النّسل يؤكِّدها حديث أبو طلب المكّي في كتابه "قوت القلوب"، ص 549: "تَقَلُّبَكَ في الأصلاب الزَّاكِيَة والأَرْحَام الطَّاهِرة، لم يَتَّفِق لَكَ أَوَانٌ على سِفَاحٍ قَطّ، كذلك رُوِيَ عن النبي، وَقِيلَ في أصلاب الأنبياء يُقَلِّبُكَ بالتَّنْقيل في صُلْب نبيّ بعد نبيّ حتى أَخْرَجَكَ مِن ذُرِّيَة وَرَثَةِ إسماعيل"؛ وكذلك الحديث التّالي الذي ذكره البخاري عن أبي هريرة أنّ النبيّ قَالَ:‏ "‏بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ". (البخاري، صحيح، حديث رقم 3557) فعبارة "خَيْرُ قُرُونِ بَنِي آدَم" تشير هنا بكلّ وضوح إلى إبراهيم ثمّ نَسْله من بعده عن طريق إسماعيل، ابنه من الجارية هاجر، وصولا إلى "الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ"، أي أجيال أجداده المباشرين هاشم بن عبد مناف وبالأخصّ عبد المطلب بن هاشم الذي، كما رأينا سابقا، رفعه المأثور الإسلامي إلى مقام كِبار الأوصياء والأنبياء حتّى أنّ النبيّ كان، في كلّ مرّة ينتَسِب فيها، لا يذكر أباه عبد الله، بل ينتسب مباشرة إلى جدّه عبد المطّلب ويقرنه بصدق نبوّته. فنراه مثلا، يوم حُنَيْن عندما صدَع على الملأ ساجِعًا:
أنا النبيّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عَبْدِ المطَّلِبْ
وقد كان بإمكانه أن يقول: "أنا ابن عبد الله بن عبد المطّلب"، دون الإخلال بالمعنى.
7 - يسوع ومحمّد كِلاهُما "أصل الخليقة"
يعتبر المأثور المسيحي أن يسوع ليس له بداية ولا نهاية. فالمسيح هو "الإبْن الأَزَلي". فقد استهلّ يوحنّا إنجيله بالقول بأنّ يسوع: "كَانَ في البَدْءِ لدى الله، به كان كلّ شيْء، وبِدُونِه ما كانَ شيْءٌ مِمَّا كان". (يوحنا، 1: 2-4) ويُضيف بطرس في رسالته إلى أهل قولسي أنّه يُمثِّل الصّورة الظّاهرة للإله الذي يظلّ خفيّا عن الأعين؛ وهو ليس فقط "بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ"، ولكنّه أكثر من ذلك بكثير إذ هو الماهية التي تجمّعت فيها كلّ مخلوقات الكون: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ"؛ فهو باختصار شديد العِلَّة والغاية والمنتهى: "الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ" (رسالة بطرس إلى أهل قولسي، 1: 15-17)
وبالرّغم من أنّ المسلين جادلوا طويلا المسيحيّين واستماتوا في جدالهم رافضين ألوهيّة يسوع وأنكروا عليه أن يكون "ابن الله"، وأنّه ليس إلاّ "عبد الله ورسوله"، فإنّهم لم يستطيعوا كبح جماح تحيُّزِهم لنبيّهم محمّد وإعظامهم له إلى أقصى درجات التّعظيم والتّقديس حتّى وصل بهم ذلك إلى حدّ جعله "أوّل الخليقة" وأنّ أوّل شيء خلقه الله هو "نور محمّد"، في حين كان آدم، أبو البشر كما تقول ذلك الأسطورة التي تشترك فيها جميع الأديان، لا يزال يتمرّغ في طينَتِه. فقد جاءت أحاديث مختلفة تؤكّد على أنّ محمّد هو "سبب الخليقة"، وأنّ الله لم يكن ليَخلِق آدم لولا محمّد. فأصبح بذلك محمّد عند المسلمين، كيسوع عند المسيحيّين، العلّة والغاية، والبداية والمنتهى. فكلّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، الكلّ جاء بسببهما، ولخدمتهما، والكلّ خُلِق فقط لكي يشهَد على وجودهما والتّصديق على المكانة الرّفيعة التي يتمتّعان بها عند الله. أحدهما سُمّي "حبيب الله"، والآخر "روح الله".
(يتبع)
_____________
الهوامش
لقد اعتمدنا أساسا في المقال على المصادر العربيّة المعروفة كصحيح البخاري، وطبقات ابن سعد، وبعض كتب التّفسير السنّية منها والشيعيّة، إلى جانب بعض المصادر غير المتداوَلة بكثرة مثل تفسير السّمرقندي، وابن برجان... إلخ.
أمّا فيما يتعلّق المصادر الأجنبيّة فقد اعتمدنا بصفة خاصّة، إلى جانب أسفار العهد القديم وأناجيل العهد الجديد، على بعض المقالات الهمّة جدّا والتي يجب، حسب رأيي، ترجمتها بسرعة حتّى يتسنّى للقارئ العربي الاطّلاع عليها لأنّ التّعتيم على هذه النّصوص وعدم التّنويه بها هي القاعدة المتّبعة اليوم في العلم العربي على جميع المستويات وبالخصوص على مستوى الإعلام. ولذلك نرى هذه النّصوص قد ظلّت حكرا على نُخبَة ضيِّقة من الجامعيّين والباحثين المتخصِّصين الذين لا يكبّدون أنفسهم، بسبب الخوف أم كَسَلا منهم، عناء ترجمتها وإخراجها إلى النّور. وهذا بعض من هذه المقالات:
Uri Rubin, More Light on Muhammad’s Pre-existence, in Andrew Rippin and Roberto Tottoli, (ed.) Books and Written Culture of the Islamic World, Brill, Leiden 2015.
Julia Bray, ‘Abbasid Myth and the Human Act: Ibn ‘Abd Rabbih and Others, in Philip F. Kennedy (ed), On Fiction and Adab in Medieval Arabic Literature, Harrassowitz Verlag, 2005.
Andreas Görke, Prospects and-limit-s in the study of the historical Muhammad, Brill, 2011.
G. Stroumsa, “Seal of the prophets”, the nature of a Manichaean metaphor, JSAT 7, 1986.
Jean-Noël Aletti, Quelles biographies de Jésus pour aujourd’hui ?, Recherches des Sciences Religieuses, 2009/3 Tome 97/ pages 397-413.
Christoph Theobald, Christologie et histoire de jésus, Recherches de Science Religieuse, 2010/4 Tome 98/ pages 487-495.
Herbert Berg, Sarah Rollens, The historical Muhammad and the historical Jesus: A comparison of the scholarly reinventions and reinterpretations, Studies in Religion/Sciences Religieuses 37/2 (2008): 271–292.
Andreas Görke and Gregor Schoeler, Reconstructing the Earliest sîra Texts: the Higra in the Corpus of ‘Urwa b. al-Zubayr, Der Islam 82, 2005, p. 209–220.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أشرف المرسلين ... !!
ابو علي النجفي ( 2019 / 1 / 26 - 07:13 )
يقولون ان محمد اشرف المرسلين وانه سيد البرية وفخر الكائنات ولا اعلم كيف يكون اشرف المرسلين وقد نعته القرآن نفسه بقوله ووجدك ضالا فهدى ..ضال يعني بالعربي الفصيح تائة او منحرف عن الطريق وكذلك بقوله عبس وتولى وآيات كثيرة اخرى في حين هناك مرسلين لم ترد بحقهم اية سلبيات بل المسيح كان بل خطيئة اصلا ووصفه القران بانه كلمة الله .. فكيف يكون اشرفهم .... !!


2 - استنتاج
على سالم ( 2019 / 1 / 26 - 22:18 )
لاشك ان المدعو محمد هو الله نفسه , لايوجد اى فرق بينهم والدليل على ذلك ان محمد كان يأمر اللات بأن يصلى ويسلم عليه بكره واصيلا وهذا يوضح ان منزله المحمد كانت اعلى شئنا من منزله اللات الوهمى , لقد ابتدع المحمد هذا الشئ الهلامى الذى يسمى اللات من خياله البدوى المريض

اخر الافلام

.. نحو 1400 مستوطن يقتحمون المسجد الأقصى ويقومون بجولات في أروق


.. تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون




.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية