الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[86]. رحلة المئة سؤال وجواب، حوار صبري يوسف مع د. أسماء غريب حول تجربتها الأدبيّة والنّقديّة والتّرجمة والتَّشكيل الفنّي

صبري يوسف

2019 / 1 / 28
الادب والفن


صبري يوسف

86. المرض في حياة الإنسان العارف، كيف تراه أسماء غريب؟

أسماء غريب

بدن الإنسان هو أرض بابل، وكأسُ الذّهب الَّتي أسكرتْ كلّ من ذاق عسلها وشرب خمرتَها. بل هو رسول الخالق الأوّل إلى الخَليقة، يكلّمُها كل يوم بألف لغة ولسان، وما المرضُ إلَّا لغة من هذه اللُّغات، من عرفَ حرفَها وخبر أبجديتَها رُزق الشَّفاء والنَّجاة، ومن احتجبَ عنها بكثافة الجهل عاش أبد الدَّهر سقيماً عاجزاً عن الوصول إلى مدارج السّعادة والهناء. أجل، هو المرض تَذكرةُ الإنسان وقطارهُ الّذي يسافر بهِ إلى أرض الأمان، وهو الكاسرُ لكلّ قوانين الجاذبيّة، لأنّه يجذبُ الرّوح إلى أعلى العلّيّين. والكلّ في مرض، الإنسانُ كما الحيوان، والنّبات كما النُّجوم والأفلاك والكواكب، وكلُّ مريض لا يمرضُ وحدَه، وإنّما يمرض ويعاني ويتألّم بهِ ومعه الكونُ بأسره، وإن كنّا لا نفقه لغة هذه المعاناة. وهو ليس بعقاب ولا بعذاب إلهييْن، وإنّما صنعةُ الله وحشوته في الكون، لنكتمل ونتحرَّر به من شرنقاتنا، ونطير إلى سماوات الزّخّ الأخضر، حيث لا داء ولا علّة ولا سقم. ولا فرق في المرض بين الجنين والشّيخ، ولا بين الطّفل والكهل، ولا بين المرأة والرّجل، ولا بين الصّالح والطّالح، ولا بين القديس والعاصي، فالكلُّ يمرض، حتّى العرفاء، بل هُم أوَّل المرضى وأشدّهم مقاساة ومكابدة، وعند هذه النّقطة أحبّ أن أتوقَّف قليلاً: ثمّة من قد يسألُ في عتاب؛ أليْسَ النُّور بشافٍ من كلّ الأسقام، فلماذا يمرض العارف وهو أقرب النَّاس إلى مصدر الطَّاقة الإلهيّة، لماذا يمرض القدّيسون والأنبياء والأولياء، مثلهم في هذا مثل عامّة النّاس؟!

لأنّ الكثير من العرفاء يجهلون - مثلهم مثل غيرهم من عامّة النّاس - أبجديات النُّور الحقّة: صحيح أنَّ الإنسانَ اختار رداء الطِّين ولبسهُ بدناً، لكنّ لباس النُّور ونبعَه الصّافي يوجدُ بداخله، وهو على سبع درجات، لكلّ درجة منه علاقة بمركز من مراكز العيش في الإنسان: العقلُ، والقلب، والمعدة، ومركز الماء الدَّافق الَّذي منه تتخلّقُ الحياة ويكثر النّسل. ولأنّ الإنسانَ خُلِق من عَجَل، ويكره التأنّي والصَّبرَ على الأشياء، فإنّه حينما يكون في طريقه إلى الاكتمال، يرغبُ في حرق المراحل والوصول إلى النَّبع مباشرة، في حين أنَّ هذا الأمر يتطلَّبُ الكثير من الأناة والحِلم والهدوء، حتّى يأخذ الجسدُ والنّفس فيه مع الرّوح طريقهم الصّحيح نحو النّجاة، وهذه العجلة غالباً ما تقود إلى المرض، والاختلال في وظائف أجهزة الجسد، لأنّ الّذي يحدث حقيقة هو أنَّ أجهزة الطّاقة النّورانيّة تُفتح داخل الجسد بشكل خاطئ ومرتبك، فتتداخل الوظائف، وتبدأ الهرمونات والغدد والخلايا في إرسال رسائلها إلى الإنسان "السّالك" لتخبره بأنَّ عطباً ما قد حدث، ولعلّ أكثر أنواع الخلل حدّة لدى العرفاء؛ هي مسألة الرُّؤى والكشوفات الَّتي لم يُجزم إلى اليوم في مدى سلامتها عند بعضهم، ومدى تشوّهها عند آخرين، وهذه الرُّؤى غالباً ما تنبعث من مركز الصّوَرِ أو التَّصوير السِّينمائي (كما أفضّلُ أن أسمّيه) والّذي يحمله الإنسان في مقدِّمة رأسه (الجبهة) والَّتي تُعَدُّ الغدّة الصُّنوبريّة مسؤولة عنه بشكل كبير: فنحن لليوم لا نعرف إلى أيّ مدى هذه المشاهدات والمكاشفات لها علاقة بالملكوت الإلهي حقّاً أم لا؟! وذلك لأنّنا لم نطوّر إلى اليوم علوماً تختصُّ في هذا المجال، وتهتمُّ بسلامة العارف العقليّة والنّفسيّة والجسديّة، وذلك لأنَّ العديد من العرفاء يحاصرون أنفسهم بجدار سميك من الصَّمت والخصوصيّة، ولا يبوحون بمكنوناتهم "العرفانيّة" إلى أن تتفاقم الأمور وتظهر في كثير من الأحيان على شكل انحرافات فكريّة يحار في تفسيرها أهل الحصافة والفكر.

أخطر هذه الانحرافات تلك الَّتي لها علاقة بالحياة الجنسيّة للعارف: الرُّؤى الشَّبقيّة الَّتي تتجسَّد فيها "الحوريات" اللّائي يقضين اللَّيل بأكمله في حضرة العارف وهو يعتقد بأنّ ذلك ما هو سوى من المشاهدات الإلهيّة الّتي تتجلَّى في صورة المرأة باعتبارها قناة من قنوات الخطاب الإلهي. وهذا الانحراف هو بشكل أو بآخر شبيه بذاك الذي يعيشه العديد من الشّبّان من عامّة النَّاس، والّذي أوْصَلَ الكثيرَ منهم إلى معانقة فكرة "جهاد النِّكاح". كما لا تفوتني أيضاً الإشارة إلى الظَّواهر الفضائحيّة الَّتي تظهر بين العديد من رجال الدّين كتلك الّتي لها علاقة بالمِثليّة والولع بالأطفال الصِّغار على سبيل المثال لا الحصر. وهذا كلّه مردّه إلى خلل في طريقة النّهل من نبع الطّاقة الإلهيّة الحقّة، فيحدث أن تتهدّم مدينة بابل الجسد على صاحبها، وينهارَ البرج الكبير. ومن الأمراض الأخرى الّتي يمكن أن يتعرّض إليها العارف، سقوطه في شراك السّحر والدّجل والشّعوذة، وهذا له علاقة وطيدة بما يسمّى لدى أهل الطّبّ بالشِّيزوفرينيا البصريّة وكذا السّمعيّة، فتجده يتخيّل أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ويتحدّث عن كائنات ومخلوقات وحوارات لم نتأكد إلى اليوم من صحّة العديد ممّا حيكَ عنها من أساطير.

حينما يحدثُ الخلل في توزيع الطّاقة بين شَكَرات الجسد، يعاني العرفاءُ كثيراً وهُم في طريقهم إلى الكمال، وهناك من يصاب بالشَّلل، وهناك من يصاب بالعمى أو ضعف في البصر، وهناك من يصاب بالجلطات القلبيّة، أو بتضخّم في القلب، وهناك من يصاب بآلام حادّة في رأسه مصحوبة بحالات من الإغماء والغثيان، وهناك من يصاب جسده بالحروق، والأمراض الجلديّة الخطيرة والسّرطانات، إلى غير ذلك من مظاهر المرض الّذي به يتوسّلُ الجسدُ صاحبَه؛ يسأله أن يخلّصه ممّا هو فيه!

كلّ هذا يحدث بسبب العجلة مصداقاً لقوله تعالى: ((لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، كلّا بلْ تحبّون العاجلة وتذَرُون الآخرة)) (القيامة 16-21)، وذلك لأنّ بعض العرفاء - لا كلّهم - بعجلتهم هذه يحتجُّبون عن الآجلة حتّى في حالة وجود السَّكينة وكمال الوقار، لأنَّ النّفسَ تظهر لتستولي على المشهدِ عند حدوث التَّجلِّيات لتتلقّفَ المعاني، ولو تحلّت قليلاً بالصّبر وغابت عن مصدر التَّجلِّي والشُّهود لسلِمَ القلبُ وأمِنَ الجسدُ من الأمراض، لأنّه سيكون لديه كلّ الوقت الكافي من السَّنوات للدخول في مقام الوحدة والفناء عن الذَّات في عين الجمع، حتّى لا يبقى منه بقيّة أو أثر، ويصبح جاهزاً لتلقي المعاني كاملة في وقتها الحقّ.

هل يمكن الشَّفاء من مثل هذه الأمراض؟ إذا كانت من النَّوع الَّذي ذكرتُ وله علاقة بالطَّاقات الشَّكَريّة، فمن الصّعب جدّاً أن يحدث الشَّفاء بشكل سريع إلّا بتدخُّل إلهيّ محض، عبر وعيِ العارفِ واستيقاظه من غفلة القلب والرُّوح، وذلك لأنّه هو من أمرضَ نفسَه وجسدَهُ، وهو من عليه أن يخلصّهما ممّا ألحق بهما من أذى عبر العودة إلى خالقه وطلب معونته وعفوه وكرمه. وأمّا لمن يسأل وماذا عن دور الطّبّ في هذا المجال؟ أقول: إنّه للأسف مازلنا لم نطوّر علماً كاملاً يجمع بين الرُّوح والجسد بشكلٍ لا جدال فيه، ويجمع بين الكون والجسد، وبين هذا الأخير وخالقه، لا سيَّما وأن معظم العلوم اليوم تسير في الاتجاه المعاكس تماماً، والّذي ترنو به إلى فصل الإنسان عن خالقه، وقطع الحبل السِّرّي الَّذي يجمع بينهما. إنّ ما يجبُ التَّركيز عليه هو محاربة هذا النَّوع من الفكر السّلبيّ الَّذي يريد أن يعزل الإنسان عن مصدر النُّور، والمرضُ عادةً ما يولد من فكرة تستحوذ على الإنسان، قد تكون غارقة في ذاكرته الطُّفوليّة، وقد تكون أيضاً حاضرة جدّاً في حياته اليوميّة، وغالباً ما تتحوّلُ هذه الفكرة إلى أفكار سلبية أخرى، وتأتي الغدّة الصُّنوبريّة لتحوّلَها إلى شخصيّاتٍ تكتبُ لها سيناريو، وتصنع لها مونتاجاً، ثمّ تعمل منها فيلما حقيقيّاً يؤثِّر على الإنسان بكليّته فتنكسه وتقضي عليه!

ما العمل في هذه الحالة؟ تخلّص أيُّها الإنسان من أفكارك السّلبيّة، جدّدْ طاقتك، وخذْ وقتك الكافي جدّاً لكي يحدث التَّوازن في توزيع هذه الطَّاقة من مركزها الأصليّ، ولا تستعجل الكمال، فهذه ليست مهمّتكَ أبداً، إنَّما مهمّتكَ الحقيقيّة أن تعيش إنسانيّتك كما هي، وترضى بها وبالرّيش الّذي ينبت فوق جسدك كلَّما تقدّمت بك السُّنون، لأنَّ الجاذبيّة في حضرة "المرض" ترفع إلى أعلى، ولا يسقط منك على الأرض سوى شرنقتك، أو جسدك!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا