الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راحلون رغما عن أنوفهم _ رواية - الجزء الاول : الفصل الاول والثاني والثالث والرابع

صبيحة شبر

2019 / 1 / 31
الادب والفن


صبيحة شبر




راحلون رغما عن انوفهم




رواية







الفصل الأول

(1)


يطول غيابي عن الأصدقاء في صوفيا ، تهاتفني الحبيبة شهد ، طالبة مني ان اعود الى الأحباب ، فقد طال بعادي عنهم ، تخبرني انها مشتاقة لي محتاجة لوجودي بينهم ، وتعلمني ان امها بحاجة لي في هذا الوقت العصيب ، وانه حرام علي ان اتركها بلا سبب تعاني الغربة ، وتذكرني شهد ان امها قد قدمت لي الكثير وانا قابلت معروفها بالهجران ، لأول مرة في حياتي تحدثني شهد لائمة اياي بشأن امها ، لم اخبر الحبيبة ان ما اعانيه من ضغف ومرض مبعثه الشعور بالاثم ، نعم انا آثم ، رجل عض اليد الحانية التي اكرمته وحنت على ضعفه وقدمت له القلب العطوف والموقف الحاني ....
اراجع طبيبا يخبرني انني مصاب بعجز ، مبعثه الشعور بالاثم ، وان هذا المرض يصيب بعض الرجال في وقت معين ، امرني الطبيب بالراحة من الجنس اللطيف والا ارهق بدني فوق ما هو متعب ، أصمم على العودة الى الأحبة الذين يرغبون بوجودي بينهم ، ولكن اين اذهب ، وجرمي كبير ، وذنبي لايغتفر ـ وجريرتي تكلفني شعورا بالهوان قد يستمر طويلا...
أصمم على الاستجابة لنداء الأحبة ، فلا احد لي غيرهم ، فقد منحوني عواطفهم النقية ينبوعا لاينضب عطاؤه ولا يعرف التوقف ، أيمم وجهي نحو صوفيا الرائعة الجمال ، وقد عزمت على نسيان تسرعي الذي تسبب في تعاستي ، أزور الأمكنة التي طالما استمتعت بجمالها البديع ، واذهب لوداع الأصدقاء الذين قدموا لي قلوبهم على طبق من ذهب، واتوصل الى حقيقة ناصعة ان الحياة لاتستجيب للمتباكين على رحيل بعض النعم والناظرين الى الدنيا نظرة تشاؤمية عدمية ، واقرر انه بامكاني ان اتلقى الحب الصافي وان اتمتع بالصداقات النقية والتي تكون دائما بلا مقابل مالي او مصالح ضيقة ، انما من يحبني بصدق يتطلع الى ان أبادله شعوره الجميل...
لا داعي لأن اترك شعوري بالاثم ينمو في داخلي ويتضخم ، انما جميل ان يكون لي ضمير صاح يحاسبني ان اجرمت بحق الأحبة ...
.... شهد الحبيبة لايمكن ان تحيا بدون الأب الذي تجد في أحضانه الحب والرعاية ..هي وامها تحتاجان الى وجودي بينهما ، وهذا يكفيني من كنوز الدنيا .....ادرك ان سامية سوف تغفر جرمي بحقها ، وان قلبها الكبير لن ينسى الحب الذي جعل حياتها زاخرة بالجمال ..

(2)
أصبحت تتعبين بسرعة ، ما ان تقومي بعمل بسيط حتى يصيبك الارهاق ، نصحتك الطبيبة ألا تكلفي نفسك فوق طاقتها ، وحين كنت في الشهر الثاني من الحمل ، نزفت ، لأنك ارهقت بدنك في الأعمال المنزلية التي لا تجدين أحدا يقوم بها سواك ، نصير رغم انه يردد الأقوال التي تدل على التقدمية ومناصرة المرأة ، وتأييد النساء في المطالبة بحقوقهن في المساواة وتكافؤ الفرص ، الا انه لايقوم بشيء لمساعدتك ، ما ان يصل الى المنزل ، حتى يفتح التلفاز ويجلس واضعا ساقا على ساق ، متفرجا على برامج التلفاز ، يسألك :
- ماذا أعددت لنا لطعام الغداء ؟
- كباب مقلي وسلطة ...
- كل يوم نأكل الطعام نفسه ، ألا تملين ؟
يتناسى العريس انكما تزوجتما منذ فترة قصيرة ، ويطالبك ان تنهمكي بالأشغال المنزلية وان تحافظي على أعصابك من مضايقات العمل ، وهم يطالبونك ان تنتمي الى حزبهم ، والا فالويل والثبور ، وعظائم الأمور تنتظر عنادك ، ونصيحة الطبيبة ترن في أذنيك :
- اهتمي بنفسك ، لاترهقيها ، الاعمال المنزلية يمكن تأجيلها ، اما جنينك ان اصابه التعب وودعك ، فلا امل لك في حمل جديد ...
يمضك وضعك ، لايدرك زوجك انك تعبة وقد تفقدين حملك ان نزفت مرة أخرى ، فالجنين لايتحمل ان يفقد دماء جديدة ، يكفي ما فقدت في المرة السابقة ...
تخرجان لزيارة عائلة نصير ، والازدحام شديد ، تقترحين :
- لنوقف سيارة أجرة ..
- هل عندك اجرتها ؟ انا نفذت نقودي ..
- ولكننا نشترك في الايجار والمصروفات !
- ليكن ، ليس عندي اجرة للتاكسي ، انت شابة ويمكن ان تسيري على قدميك ! ألا تحبين الرياضة ؟
تسيرين وانت تفوضين امرك الى خالقك ، اي تحكم هذا وانتما لم تكملا العام بعد ؟ تشعرين بالتعب الشديد ، وينقص في جسدك الكالسيوم والحديد ، تجدين ان الفاقة تلازمك رغم انك موظفة في دولة غنية ، لقد اعطيت راتبك للزوج ، وهو يقوم بما تحتاجين وما يحتاج المنزل والجنين !
- هل نفذ راتبي ؟
- نعم ، بقيت دنانير معدودة ، اعطيتها لاختي ، تريد ان تسافر الى فرنسا ..
تصمتين ، ماذا يمكنك ان تقولي ، تتوهمين انه يحبك كما تحبينه ....
في الشهر السابع من الحمل يعود نزيفك مرة ثانية ، انك لم تستمعي لنصائح الطبيبة ، تمنحك اختك بعض النقود وتدخلك الى المستشفى للعناية بك ورعاية الجنين ..
تزورك رئيستك في العمل وأنت في المستشفى :
- بقيت وحدك لم توقعي على ما يريدون !
- ماذا تعنين ؟
- يجب ان تنتمي لحزبهم ! كلنا وقعنا ! وبقيت انت ! كلنا غير مقتنعين ، ولكن يجب ان نحرص على حيواتنا ...
- سأفكر في الأمر ، وأخبركم !
- لاتفكري ، ليس لديك وقت للتفكير ، افعلي ما قمنا به جميعنا .
- لكني لا احب السياسة !
- جميعنا لا نحبها ! لكننا انتمينا اليهم كما أمروا .
- وان كنا غير مفتنعين !
- وان كنا ! انا احبك ولا اريد ان تسوء حياتك ، لهذا أنصحك ، وقعي وارتاحي ..
- حسن .. هل يمكن ان انتمي اليهم بعد الولادة ؟
- نعم .. يمكن ذلك . سوف اخبرهم ، ليكفوا شرهم عنك !


(3)
اتفق والداي ان يقيما احتفالا بعيد ميلادي ، غدا أبلغ الخامسة من عمري ، ولأني الصغير بين اخوتي وأخواتي ، فقد رحب جميع افراد الأسرة بان يشاركوا في حفلة عيد الميلاد، دعي للحفلة بعض الأصدقاء المقربون وبعض الأقارب ، هيأت اسرتي ما يلزم لهذا العيد ، وفي الساعة الخامسة من مساء الغد سوف نشهد الاحتفال ببلوغي السنة الخامسة من العمر ، جهز ابواي البالونات المناسبة ودعيا الأطفال ممن هم في مثل سني ، واشترت امي الأصناف التي احبها من الحلويات ، وجهزت شقيقتي بشرى انواع الكيكات ، كما رغبت اختي ماهرة ان تكون الكيكة التي سوف تقوم باعدادها مناسبة للاحتفال بعيد الميلاد ، اقترح اخي احمد ان يقوم هو بتوفير العصائر التي ترغب بها عائلتي ، اخي سمير قال انه مستعد لتهيئة انواع من الشيكولاته التي يعرف انها مرغوبة لدى الأطفال ، دعت امي جارتنا سامية وزوجها ، فهما جاران وصديقان لأسرتنا يقاسماننا الأفراح والأحزان كما يقول ابي.. يمر اليوم وانا فرح مسرور ، اخرج الملابس التي اشتريت لي لهذا العيد من خزانة الملابس ، وانا انظر اليها بمحبة ، بعد ساعات ستكون كل هذه الأشياء ملكا لي ، ذهب ابي بي الى الحلاق ليقص شعري الطويل :
- سوف يقص الحلاق المختص شعرك بهذه المناسبة ، وفي الأيام الأخر اقوم انا بالمهمة !
في الليل احلم باني سوف اكون في منتهى السعادة ، بملابسي الجديدة ، والأحباب كلهم يحيطون بي ، فقد كبرت وبلغت الخامسة من العمر ، ولم اعد طفلا ، لايفقه مما يقول الكبار شيئا ...
في الصباح اصحو على نداء امي :
- ليث ولدي ، استيقظ .. حان وقت الفطور ، كلنا ننتظرك ، اليوم عيدك !
استيقظ ، اجد الوالدين والاخوين والاختين قد استيقظوا قبلي وجلسوا حول مائدة الطعام ، هيأت امي بمساعدة اختي اكواب الحليب والشاي والخبز والجبن ووضعوا طبق الفاكه على المائدة ، أتناولها بعد الفطور او قبله كما يحلو لنا ، فالتفاح مفيد اكله قبل الفطور ليقي من الأمراض كما تقول امي ..
ونحن على المائدة يطرق الباب بعنف ، تفتح شقيقتي ،نجد الجارة سامية تصرخ :
- ماذا جرى ؟ ما بك ؟ كلامك ليس مفهوما ! اجلسي هنا وارتاحي !
تجلس سامية قليلا ، تتنفس بعمق ، ثم تقول :
- في فجر هذا اليوم جاءوا واخذوا زوجي نصير ..
- لماذا اخذوه ؟
- قالوا يريدون ان يعرفوا بعض الامور الغامضة منه ، وسوف يعود بعد نصف ساعة !
- في اي ساعة اخذوه ؟
- في الرابعة صباحا ,,
- ولم يعد بعد ، يعني ان غيبته ستطول !
- سوف انتظر ...
- نحن معك يا ابنتي ...
- انتم اهلي ، فان والديّ في الكويت ..
- نعرف يا ابنتي ان اباك هرب من بطشهم الى الكويت مصطحبا امك ..

(4)
التعب يمضك ، لاتستطيعين النوم ، ،تتشنج ساقاك ، ترفعينهما الى الأعلى ، تحاولين ان تدليكهما، في بعض المرات التي تستيقظين فزعة من النوم بسبب تشنج ساقيك ، كان نصير يحاول ان يجلب لك الراحة ، يقوم بتدليك الساقين حتى تشعري بالراحة ، وتعودين الى النوم ، يلازمك التعب كل لياليك :
- هل تشربين الحليب كل يوم ؟
- نعم اغلب الأيام اقوم بتناول كأس من الحليب ..
- لماذا لاتتناولين الحليب كل يوم ؟
- لأنني انسى احيانا .
- لاتنسي ، جسمك بحاجة الى الكالسيوم ، وجنينك يحتاج الكالسيوم ايضا ، اشربي كل يوم كأسين من الحليب ..
تصمتين ، كيف يمكنك ان تخبري الطبيب انك لاتستطيعين ان تشتري الحليب بكثرة ، فانك شبه معدمة ، راتبك يوزع بين اسرتك الصغيرة المتكونة منك ومن زوجك ، وبين اسرة زوجك الكبيرة واخواته ووالديه ، هذه الليلة استيقظت عددا من المرات بسبب الألم الذي يسببه تشنج الساقين ، تحاولين ان تصرخي ، ليسمع الزوج النائم صراخك ، فيهب لمعاونتك ، ولكن هذه الليلة ، ينام زوجك عميقا :
- تعب انا هذا المساء ، أرهقوني هذا النهار بالحاحهم ان انضم اليهم ..
- وانا اعاني الوضع نفسه !
وانت في الليل تحاولين ان تريحي الساقين المتشنجتين ، وزوجك في نوم عميق ، يدق باب المنزل بعنف :
- من يمكن ان يدق علينا الباب في هذه الساعة ؟
- اننا قريبون من الفجر !
- هل يكون طارقو الباب من زوار الفجر ؟ افتحي الباب وانظري من الطارق؟
لاتستطيعين القيام ، التشنج ما زال يؤلمك ، ويغتال راحتك ، يقوم نصير ، لينظر من القادم :
- لماذا تأخرتم في فتح الباب ؟
- كنا نائمين !
- طرقاتنا المتوالية لم تنجح في ايقاظكم ، كدنا ان نكسر الباب ! ، سمعنا انكم تخبئون الممنوعات قي منزلكم ..
- اية ممنوعات ؟
- انتم ديدان الكتب ... تحتفظون بالمنشورات الصفراء
- ليس عندنا نشرات صفراء ...
يفتشون المنزل وينظرون الى قائمة الكتب في المكتبة ، يطرحون بعضها على السرير ويرمون البقية على الأرض ، ويأخذون معهم أوراقكم:
- تعال معنا ، نطرح عليك بعض الأسئلة !


(5)
سامية حزينة ، لكنها لاتبكي ، يقول لها ابي :
- ابكي يا ابنتي ، الدموع تريح النفس وتجلو هموم القلب ..
- نشفت دموعي ايها العم ، منذ فترة وهم يلاحقون نصير ، حين يتأخر في العودة الى المنزل لسبب من الأسباب تتضخم مخاوفي ، اعرف انهم يلاحقونه منذ زمن ليس بالقصير ..
- يلاحقوننا كلنا ، لايميزون بين الشيخ والشاب والطفل ، كلنا جناة بنظرهم ..
لاتبتئسي يا ابنتي كلنا في الهم عراق .
- منذ ان كنا مخطوبين وفي فترة ما قبل الخطوبة ادركت انهم لايدعون نصيرا وشأنه !
- يزدادون شراسة بمرور الأيام ، يخافون من الشعب يا ابنتي العزيزة ، ابقي بيننا عزيزتي ، لاتكوني وحدك ، قد يعودون اليك وانت في مثل هذا الوضع من الحمل ..
- سوف اطل على بيتي بين فترة وأخرى ، عله يتخلص من الأزمة التي تحيط بنا جميعا ..
- قومي بما يحتاج اليه منزلك من اعمال وتعالي الى هنا وشاركينا طعام الغداء والعشاء يا ابنتي .
- انتم اهلي وناسي ، وليس لي من احد سواكم .
- احضري الاحتفال ..
- نعم .. ساكون بينكم ، جهزنا انا ونصير هدية لليث الحبيب ...
- افطري معنا ، نحن واثقون انك لم تذوقي الطعام منذ ذهاب نصير معهم !
تشرب سامية كاسا من الحليب قدمته لها امي ، وحين تنتهي من شربه تسرع الى منزلها ..توقفها امي :
- انت حبلى ، وكأس الحليب لا يكفيك مع الجنين ، كلي هذه التفاحة ، وشطيرة الجبن ..
- لا أستطيع !
- اعتبريها دواء !
تأكل سامية نصف التفاحة وجزءا من الشطيرة ، وتغادر الى منزلها :
- كوني معنا وقت الغداء .
- ان شاء الله
تنهمر دموع امي واخواتي من الفاجعة التي حلت بجارتهم وزوجها ...ويقرران ان يقوما لتهيئة ما يلزم للاحتفال الساعة الخامسة مساء

(6)
تقومين بما يطلب المنزل من مهام ، فكرك مشغول ، ونفسك قلقة ، تنظفين المنزل ، فقد ثار الغبار ضحى هذا اليوم ، وجعل اثاث المنزل في حالة يرثى لها ، تمسحين الكراسي والمكتبة ، وتزيلين ما علق من غبار ، وتمسحين بالماء والصابون أرضية الصالة وغرفة النوم ، والمطبخ وتغسلين الحمام بالسوائل المطهرة ، بيتكم صغير متواضع ، استأجرتموه قبل زواجكما باسبوع واحد ، قمت انت باعداده كي يكون مكانا صالحا للاقامة والزواج بعد قصة حب ، استيقظت قبل شهر العسل القصير ، لتدركي ان العسل اضغاث أحلام ، ومرت الأيام وحياتك علقم ، تسائلين النفس ، متى تذوقي العسل ، وقد اخذتما اجازة من العمل ، لتسافرا الى بلد اوربي ، ولكن قبل اليوم المحدد للسفر للزواج هناك ، جاءك نصير :
- الشقة التي استأجرناها أصبحت جميلة ، صالحة كي نتزوج فيها !
- والسفر ؟ وقضاء شهر من العسل في بلد أوربي ؟
- نقودي نفدت ....
- انا اشتريت غرفة النوم وكراسي الصالة ...
- وانا شاركت في شراء الة الطبخ !
- طباخ بدون فرن !
- في الغد نتمكن من شراء الفرن !
دعاكما ابوك كي تقضيا شهرا من العسل في الكويت ، ولكن نصير لم يرض :
- النقود التي سوف يصرفها ابوك علينا في شهر عسل ليس ضروريا ... من الأجدر ان يعطيها لنا كي نستفيد منها ..
- ابي تحمل نفقات حفل الخطبة وعقد القران ، وعلينا ان نتحمل البقية .
- تفكرين كبرجوازية صغيرة !
تتذكرين ما مر بك في الأيام الأولى لزواجك ، وتنسين ما سببته لك من أحباط ، وحتى العيش البسيط والنكد الذي يهل عليك بين يوم وآخر تناسيته ، تفكرين برفيق العمر ، ماذا حل به ؟ اخبروك انه سوف توجه له بعض الأسئلة ، ثم يعود الى بيته ان تعاون معهم في الاجابة ، وانت لست واثقة من وعودهم ، كثيرون من المعارف والأصدقاء طالت غيبتهم ، ولم يعرف مصيرهم ، فهل يكون نصير ضمن اؤلئك الأصدقاء الذين جاءهم زوار الفجر ، ومضوا بصحبتهم دون عودة ؟ تتضرعين لله الا يسببوا له الأذى ، انت وحدك ، وجميع اهلك اغتيل بعضهم ، وهاجر البعض الآخر ، حبيبك الغالي أبوك ، هاجر من العراق الى بلد آمن ، وتركك وحيدة ، عندك بعض الأصدقاء ، تخافين ان تخبريهم عن مخاوفك ، الأسرة الوحيدة التي تتحدثين مع افرادها باطمئنان هم جيرانك الأعزاء ، وقد دعوك هذا المساء لاحتفال عيد ميلاد ابنهم الصغير ، سوف تلبين الدعوة ، عسى شعورك بالوحدة يزول عنك ..
في الغد لعل غيوم الامس تنقشع ، ويهل النور ، ولكن من اين يأتي النور ؟ ونحن نعيش في ظلام دامس ، كيف نتمتع بالنور يشع على حياتنا ، التي تخلو من الأحباب ؟ هل يمكن لمن بقي وحيدا ان يجد جمالا في هذا الألم ؟


(7)
جلس افراد أسرتي حول المائدة وقد وضعت عليها انواع الكيكات والحلويات واشعلت الشموع ونفخت البالونات الملونة ، مما اكسب المنزل بهجة وفرحا ، وهم يرددون لي :
- سنة حلوة يا جميل ..
- اطفيء الشموع يا ليث ..
ونحن في الظلام لأن امي اطفأت الكهرباء طرقت الباب بعنف :
- من بالباب ؟
- افتحوا !
قبل ان يتمكن احدنا من فتح الباب يكسره القادمون ، يدخلون ، نرى عددا من الرجال المسلحين امامنا :
- ماذا تفعلون ؟
- نحتفل بعيد ميلاد ولدنا الصغير ..
- لماذا ؟
- لأنه اكمل السنة الخامسة !
- وهل من عاداتنا ان نحتفل بعيد ميلاد الصغار ؟
- مناسبة سعيدة تستحق الاحتفال !
- هل حصلتم على ترخيص بهذه الحفلة ؟
- لم ندع احدا غريبا ، انهم من اقربائنا فقط !
- من قال هذا ؟ انتم تزعمون بما ليس حقيقة ، عندكم اجتماع ممنوع ، الا تعرفون ان اجتماع اكثر من ثلاثة اشخاص ممنوع هنا ؟
- لكننا اسرة واحدة !
- وتقيمون احتفالا!
- وما الضير في هذا ؟
- اخرس ، والا اخرستك بالقوة !
يسكت ابي ، فيندفع الرجل المسلح قائلا :
- انكم وحوش لاتعرفون الرحمة ، تحتفلون وانتم تعلمون ان اجتماع اكثر من ثلاثة اشخاص ممنوع ، من قال انكم لستم في اجتماع حزبي ؟
- ..................
- أجبني ، هل اصابك الخرس ايها الخرف ؟
يصوب الرجل مسدسه نحو ابي وامي ويرديهما قتيلين ، ويقود احد الرجال المسلحين شقيقي الاثنين ، ويضع المسلح الثالث القيد في يدي شقيقتي الاثنتين ، يخرجون من باب المنزل بعد ان يلتفت الي كبيرهم :
- انت الصغير ستبقى شاهدا اننا نحب الأطفال!
يخلو البيت من جميع من كنت اجد سعادتي بقربهم ، تقول سامية :
- حبيبي سوف تعيش معي ، وستكون ابنا لنا انا ونصير

(8)
ما زال القلق يفترسك ، والحيرة تستبد بك ، لاتعرفين أين نصير ؟ وماذا حل به ، ومتى يعود الى المنزل ؟ وهل تظنين انهم صادقون في وعودهم ؟ وقد مر كثير من الناس بقصص مشابهة لقصتك ، وهل يشي نصير بالأصدقاء ويكشف عن أسرارهم وعن أحلامهم في تغيير الواقع المظلم الى حياة اجمل ، تشفقين على نصير . ومن المصير الذي سوف ينتظره ، لقد تبخر الحب الذي تشعرين به ، وكنت تأملين ان يظل مرافقا لحياتك ، وتدركين ان الأيام ان جف الحب فيها ، أضحت صحراء يابسة ، لاخضرة فيها تسر النفس وتمتع القلب ، حملت له الحب الكبير ، وفضلته على رجال آخرين ، تعرفينهم اكثر من معرفتك لنصير ، غاب الحب عن حياتكما في بدايتها ، تتذكرين تلك الجلسة في اول شهر العسل ، حين دعاكما صديقكما المشترك عماد الحلي في منزلكم ، واشترى كل ما يلزم كي تكون الحفلة بمناسبة العرس جميلة ، وشرب الصديقان ، وبالغ نصير في شرب انواع مختلفة من المشروبات الكحولية النبيذ والعرق والويسكي ، سأل عماد الحلي سؤالا استفزازيا:
- هل تتذكر زميلتنا في الجامغة ابتسام عزيز؟- -
- - نعم اتكرها جيدا ، بعض الأشخاص لايمكن ان تنساهم ومنهم ابتسام عزيز .......
- - وهل كنت تحبها ؟
- لا-
- - وكيف ؟
- - لااحب هذا النوع من النساء المغرور والمتعالي
- - كاذب انت ، كيف تزعم انك لم تحب ابتسام عزيز ، والجميع كان يحبها ؟
- لاشأن لي بالجميع ، الحب مسألة شخصية ، لاتقليد فيها ..
- هل تريد ان تقنعني انك لم تحب ابتسام ؟-
- نعم وبالتأكيد-
- - كلنا احببناها ، وانا ما زلت احبها رغم انني تزوجت من امرأة اخرى تختلف عن ابتسام اختلافا كبيرا .
- ولماذا لم ترتبط بها ؟-
- لو قبلت بي لما تزوجت من امرأة بعيدة عني -
- سامية امرأة عظيمة تستحق التقدير والاحترام -
- فعلا تستحق التقدير وليس الحب !-
تشعرين ان الحب الذي كنت تكنينه لنصير قد زال عنك ، وانك حين يدركك الصباح سوف تطلبين منه الطلاق ، ولكن هذا الطلب لم تقومي به ، فقد فكرت في الصباح انه من غير المناسب ان تطلبي الطلاق وانتما في بداية حياتكما الزوجية ، سوف تتركينه ، وتنسين انه لم يبالي بك ، وصرح بحبه لابتسام ، وبعد شهور قليلة على ذلك التصريح الآثم ، نصير صار في مجهول المصير ، فالى اين تتوجهين ؟ ومن يمكنه ان يضمد جراح النفس والروح التي سببها نصير ، واكملها القبض عليه ، اي مصير سوف تلاقين ايتها المخلوقة ؟ جيرانك الذين يحبونك يحصدهم سيف الموت ويخطف ارواحهم ، تعرضت الأسرة الى الابادة ولم يسلم من المصير الأسود الا ابنهم الصغير ..فتمني ان يعود اليك من قضى على ما تحملينه له من حب أيامكما الأولى ، الحياة مع رجل لايحبك أفضل من البقاء وحيدة في هذه الصحراء
- ..
-


(9)
يعود نصير الى منزله جثة هامدة ، سلبوا منه الروح ، واعادوه من حيث اخذوه ، وهم يقولون لسامية التي بقيت تنتظر عودته :
- نعيد اليك زوجك ، ويل لك ان تخبري احدا ان زوجك عاد !
تصمت سامية ، لم تعد تستطيع الكلام ، تزورها امرأتان من الجيران ، ام احمد وام غائب ، ، ويساعدان سامية في عمل مجلس العزاء ، وصوتهم المحذر يلاحقها :
- - حذار من اخبار الناس لا تتجرئي باقامة مجلس الفاتحة ، سوف نلحقك به ان خالفت تعاليمنا !
- قالت جارتها :
-
- تركوك وحيدة ، لااحد معك يخفف عنك جراح الحرمان وجفاف الفقدان....
- كلنا نعاني من الظلم ..
- الى متى نصبر ؟
- ماذا نفعل ؟ ليس بمقدورنا ان نفعل شيئا ..
- وهؤلاء الضحايا ؟ لماذا يسرقون أرواحهم البريئة ؟
- نخشى على سامية ، سوف يعودون اليها وتلقى نفس مصير زوجها !
- وما العمل ؟
- ننصحها ان تغادر هذا المنزل بسرعة !
- اين تذهب ؟ وهي وحيدة في العراق ؟
- ليست وحيدة ، والداها في الكويت !
- وأشقاؤها معدومون !
- ان لم تغادر سوف يقضون عليها ...
- حرام ان يغتال كل هذا الشباب !
- هي عروس . لم يمض على زواجها سوى عشرة شهور !
- لتنج بنفسها وتحافظ على من في بطنها ..
- كم بلغت من الحمل ؟
- ثمانية شهور ..
- النجاة موجودة ، لتطلب اجازة من عملها ÷، وتسافر الى الكويت لتلد قرب والديها.
- سمعت ان امها مريضة .
- بعد ان اعدم اولادها ، اقعدها الحزن عليهم !

(10)

ويلك ، أعادوا لك نصيرا ، وقد صدقوا بوعودهم ، ولكن ... ؟ لماذا تسرع نصير بفضح مكنونات قلبه لصديقه الزائر ، هل افقده السكر القدرة على لسانه الذي لايمكن ان يبقى بلا حركة ، الم يهتم يوما بما تحملينه من حب ، قد استوطن في ضلوعك / ظننت ان حبك لنصير قوة لك ، واذا بك تدركين ان ذلك الحب ضعف ومهانة ، لماذا اقدم على الزواج منك ؟ هل أنه رفض من جميع اللاتي احبهن وعشق جمالهن الخارق وفتنتهن الساحرة ، ورغم لوعتك وانهيار قصة حبك ، فأنت أرملة الآن ، فقدت النصير الذي يحنو على ألمك ويحاول التخفيف من أوجاعك ، الآخذة بالتضخم ، لماذا بقيت معهما وزوجك يبوح بالسر الذي لم يكشفه لك :
- احببت عددا من المرات ولا واحدة منهن بادلتني مشاعري ...
- انا احبك !
- احببت سميرة وسعاد ومهجة وابتسام ...
- وانا ايضا .
- انت ؟احبك الآن ، لهذا سأتقدم لخطبتك بعد أيام ، ولكنهن جميعا ، غادرني حبي لهن بعد أن أدركت انهن لايحببن شخصي ..
- انا احبك .
- اعرف هذا حبيبتي ، واعجب لانسانة ناجحة مثلك ، ان تقع في غرام رجل فاشل مثلي !
- انت ناجح !
- القرد في عيون حبيبته غزال ...
كيف لم تستطيعي ان تكشفي دخيلة الانسان الذي اخترته زوجا ، يشاركك الأفراح والأحزان ، وكيف ارتضيت ان تهون نفسك ، وتستجدي الحب من شخص لايمكن ان يقدم لك ما ترغبين به ، ولماذا اباح نصير بما يضمره في شهر عسلكما ؟ ألم يكن من المناسب لن يؤجل لحظة الاعتراف الى زمن آخر ؟ وأنت ما بالك ؟لماذا تسترجعين احزانك السابقة لتضيفبها الى احزانك الجديدة ؟ أنت ارملة الآن بعرف الناس والمجتمع ، من يمكن ان يضمد جراحك الفاغرة فاها ، ومن يقف بجانبك ، وكنت زوجة تتمتعين بحب زوجك بنظر الناس ، وبعضهم يغبطك على النعمة التي انت فيها ، لقد عاد نصير اليك وقد سلبوا روحه التي لم تكن لك في يوم من الأيام ، هل تنوحين كما تنوح الأرامل ؟ ام تلطمين على وجهك كما الثكالى النائحات ؟ ومن بقي معك في يم الأحزان الذي دخلته دون دراية منك ، تفوضين امرك الى الله ، كم في هذه الدنيا من اناس مجروحين يحسبهم الناظرون اليهم في واقع مفرح ، الأسرة الوحيدة التي تستمع الى انينك وتحاول التخفيف من حدته رحلت جميعها ، لقيت نفس مصير نصير، من يمكن ان تلجئي اليه لتبثيه احزانك الجسام ؟


(11)
السيارة مسرعة تنهب الأرض ، يستولي الخوف علي ان تفقد السيارة اتجاهها وتنقلب ، لا أخبر العزيزة سامية بمخاوفي ، ارى علامات الحزة واللوعة ظاهرة على محيا عزيزتي ، يمضي السائق بسرعة متناهية :
- خفف السرعة رجاء !
- ان كنتم تريدون الوصول بأمان ، لابد ان أسرع !
- نعم ، افهم ، لكنك تسير بسرعة مائة وخمسين كيلومتر!
- الطرق البرية تحتاج الى هذه السرعة ، لسنا في المدينة سيدتي !
- خفف السرعة من فضلك ـ اريد مكانا آمنا !
- بعد قليل احقق لك طلبك ، اصبري سيدتي !
- انا أتالم ايها السائق !
يقف السائق في مكان تحت شجرة كبيرة الاغصان ، ويقول :
- هيا سيدتي ، اقضي حاجتك بسرعة ..
تذهب سامية لفترة قسيرة ثم تعود ، ينطلق السائق بقصى سرعته ، نرى من بعيد يدا تلوح آمرة بالتوقف :
- الى اين تمضون ؟
- الى الكويت ؟
- لماذا ؟
- حتى ألد قرب والديّ .
- ومن هذا الطفل ؟
- انه ابن اختي سوف اذهب به الى جدته !
- واين امه ؟
- ماتت !
- واين ابوه ؟
- في جبهات القتال ..
- هل حصلت على رخصة ؟
- حصلت على اجازة ولادة من عملي ..
- ومن الجهات الأمنية ؟.
- لم احصل ! .
- عودي من حيث أتيت !
يحاول السائق العودة ، لكنه يغير اتجاه السيارة ، يرى رجلا يشير له :
- الى اين انتم متوجهون ؟
- الى الكويت ..
- هل انتم عراقيون ؟
- نعم .ز
- مرحبا بكم ، نحن شعب طيب ، تتعرض دائما الى الصعاب ، وهل انت حبلى يا سيدتي ؟
- نعم
- انت تشبهين ابنتي ، ان سألك احد عن الرخصة في السفر ، اجيبي انك حصلت عليها ..
(12)
في ليلة ظلماء غاب عنها القمر، تهيئين نفسك للرحيل ـ لاتتوقعين ان سفرتك ستطول ، لهذا لاتأخذين معك جهاز التسجيل والكاميرا ، ولا كاسيتات الغناء لفيروز وام كلثوم ،كنت تشتغلين بالصحافة قبل اقدامك على الانتحار باختيارك زوج لايتناسب معك فكريا ولا عاطفيا ، وضعت الملابس القليلة التي ابتعتها في بغداد ، وبعد ان تضخم جسدك ولم تعد ملابسك الجميلة التي اتيت بها في سفراتك الكثيرة الى اوربا تصلح لك، ابوك ارسل لك حقيبتي سفر مملوئتين بملابس الأطفال ، من عاداتكم انتم اهل الجنوب ان تجهزوا ملابس الطفل الأول للابنة ، ظن نصير انه سوف يتكلف بملابس القادم الجديد وقال لك مرات عديدة :
- ليس بامكاننا ان نشتري ملابس لطفلنا ، وقد اقترحت اختي ان تعطيني ملابس ابنها محمد ، تقول انها ما زالت جديدة !
- ابي ارسل لنا حقيبتين كبيرتين لملابس الطفل القادم ..
- ولكن اختي تريد ان تكرمنا .
تصمتين ، ليس من عادتك ان تجرحي احدا ، تذهبين الى بيت شقيقة نصير ، تعطيك قماطا ما زالت اثار البراز ظاهرة عليه ، لاتقولين شيئا ، وحين تعودين الى المنزل وترى شقيقتك القماط تقول :
- ما هذا يا حبيبتي ؟ أبي أرسل لكم كل ما تحتاجون لطفلكم .... هل يمكنك ان تشعري بالراحة وانت تضعين طفلك في قماط وسخ ، انتما الاثنين تعملان ولكما راتب كبير .
لم تخبري شقيقتك ان زوجك يكرم اسرته براتبك ولا يبقى لكما شيئا ..
تخرجين قي الفجر في سيارة اجرة وحدك مع ليث الذي رحل احبابه وتركوه بعهدتك ، انت امه وابوه واخته وحبيبته ، سوف تذهبين الى أبويك العجوزين ، اللذين انهكهما الحزن والحنين على أولادهما ، وبقيت انت ابنتهما الوحيدة ،هما يحبانك ، ويقفان بجانبك مخففين عنك الآلام مزيلين الصعاب ..
السيارة مسرعة ، يكاد السائق ان يطير ، كلما رجوته ان يخفف من سرعته الفائقة ، كانت اجابته جاهزة:
- اخشى ان يعيدوك الى مكانك سيدتي !
- من هم ؟
- اؤلئك الذين هربت منهم في هذا الفجر !
تتضخم مخاوفك ، السائق ليس غراقيا ، كيف عرف بالرعب الذي تعبشونه كل ساعة ، وبالضحايا الأبرياء الذين سفكت دماؤهم الزكية ، ولم يرتكبوا اثما ، كلمة واحدة قد تودي بقائلها الى التهلكة ، وانت كم من المرات تلقيت التهديدات بانهم سوف يلقنونك درسا ان لم توافقي على الانتماء لهم ، وانت المستقلة التي لاترغب ان تكون منحازة الى جهة سياسية ..
السيارة تنهب الأرض ، وانت حامل في الشهر التاسع ، وتحتاجين الى راحة ، ماذا يمكن ان تفعلي ان اراد طفلك ان يخرج الى العالم الآن ؟ من يساعدك بالولادة وهذا طفلك الأول لاتعرفين كيف يكون الطلق ، وكيف تكون الولادة ، وماذا تفعل المرأة الحبلى كي تساعد طفلها على المجيء، وهل ستجدين الطبيبة التي تعينك على الام كثيرة ستكون امامك وعليك اجتيازها ، الطفل الصغير اليتيم الذي رحل معك وترك وطنا لايعرفه الى مكان آخر يجهل معالمه ، كيف تحافظين عليه لتريحي النفوس البريئة التي ازهقت ، وكانت أصحابا لك وأحباب ، يقف السائق:
- هذا مكان مناسب لك سيدتي ، لا تتأخري!



(13)
قال الرجل :
- قفوا ، أنتم في ديارنا ، مرحبا بكم ، انت متعبة سيدتي ، سوف تستريحين في القسم الصحي للحدود هاتي رقم هاتف الوالد ، لنتصل به ...
يأخذون نقاط من دم سامية :
- هل تعرفين فصيلة دمك ؟
- نعم ......بي بوزتف ..
- سوف نجري لك بعض الاسعافات .. انت متعبة كثيرا ، كان يجب ان تعتني بصحتك وصحة الجنين ....
يقدمون لسامية عصيرا من الليمون ويقترحون ان ترتاح قليلا حتى يأتي والدها ..
- اتصلنا بأبيك ....أخبرنا وكيله في العمل انه سينجز بعض الأعمال الضرورية ويتوجه اليكم ....
يدع الرجل سامية ترتاح من عناء السفر ويوميء لي ان يحدثني على انفراد :
- انتما وحيدان وانت صغير جدا ، لكن السيدة ليس معها احد ، توفيت امها وذهب أبوها للدفن ، لاتخبرها ، لئلا تزداد صحتها سوءا ، قلبي معكم أيها العراقيون ! كم تبلغ معاناتكم !
يصيبني الفزع ، أتذكر ابي وامي و اخوتي والمصير الحزين الذي آل اليه افراد أسرتي ، اصمم الا أخبر سامية بالامر ، وان اكون لها نعم الابن والصديق ....
تأتي الممرضة وتقيس نبض سامية التي تعاني من ارتفاع بالضعط وبطء في نبض القلب ، وتعطيها كاسا من العصير ، تشربه سامية وتسترخي أعصابها المتوترة ، قلبي معك ايتها السيدة ، يستشهد زوجك ، ثم تموت امك وجنينك يعاني التعب وهو لم ير نور الحياة بعد..
يصل والد سامية وهو يرسم البسمة على محياه المتعب :
- سوف تنعم سامية بالراحة بعد ان يأتي طفلها ...
أفكر أنا بان طفلا سيأتي قريبا الى العالم ، سيكون أخا لي بعد ان حكم على اسرتي كلها بالفناء....

(14)

تتعرضين الى تعب شديد ، يستبد بك الخوف ويحيطك القلق ، وأنت تغادرين البلد الحبيب الى بلد آخر زرته مرات عديدة ، وتربطك وشائج قوية مع قوى هناك تؤمن بالعدالة والتقدم ، تشعرين ان الأرض تتحرك بك وتميد ، وانت الحائرة التي وفقت كل قوى الظلم والطغيان ضد ارادتها ، وسلبتها حريتها وما استطاعت ان تتوصل البه بالنضال المتواصل ، جنينك الحبيب يجب ان تعتني به ، ليأتي الى العالم قويا ، رغم فقدانه المتكرر لدماء كثيرة ، لم يكن لك يد فيها ، لقد حرصت ان يكون طفلك بالقوة التي تطمحين اليها ، وحين ذهب الجميع ولم يبق معك الا القليلون ، اصبح من واجبك ان تعتني بالهدية التي جاءت مكافأة لصبرك وشدة تحملك للصعاب ، تشعرين بدوخة كبيرة ، ولا تعرفين مبعثها ، هل هو انخفاض بالضغط او هبوط ؟ في الأيام القليلة التي جاءت بعد فجيعتك بنصير ، كانت الدوخة تلازمك ، ويقيس الطبيب ضغطك :
- المصيبة التي تعرضت لها ، جعلت ضغطك يرتفع وينزل في نفس الوقت !
- كيف ذلك يا دكتور ؟
- في الكوارث يتعرض الانسان لمثل هذه الأمور ، ونحن في العراق كم من مصائب مرت بنا واجتزناها ولكنها تركت آثارها على الروح والبدن ...
الأيدي تتحرك ، تشعرين انها تنتشلك من مما ألم بك ، يضعون على أنفك جهازا للتنفس ويربطون المغذي بيدك ، ويسألونك :
- هل تعرفين فصيلة دمك ؟ انت تعانين من فقر دم مرتفع !تحتاجين ان تمكثي هنا لاجراء بعض الفحوصات على صحتك وصحة الجنين ..
ترحبين بالأمر ، صحة الجنين تطلبينها ، وصحتك ضرورية جدا للمحافظة على الجنين بصحة جيدة .. تسمعين من يقول دون ان تتمكني من الرد :
- هل انت ابن المريضة ؟
- لا
- من انت ؟
- انها خالتي ..
- انتم في العراق تتعرضون باستمرار الى كوارث شديدة ، ظلم كبير وضحايا أبرياء يتساقطون ، وفقر وفاقة وحرمان رغم ثروات بلدكم الضخمة ، مازلت صغيرا ، ربما لاتفهم هذا الكلام !
- افهمه تماما ، لقد فقدت ابي وامي واخواتي واخوتي قبل ايام ..
- في نفس الوقت ؟
- نفس الوقت ..
- وماذا فعل أفراد أسرتك ليلاقوا هذا المصير ؟
- لاشيء ..
- في كل مكان لايقتل الانسان الا اذا كان مذنبا ، الا في العراق ، يذهب الأبرياء الطيبون قرابين لما يتطلعون اليه ، نخن نحب بلدكم وناسه ، فانتم طيبون ...

الفصل الثاني



(15)
والد سامية طيب جدا وحنون ، تبدو الابتسامة على وجهه رغم تعبه الشديد ، والأحداث الحزينة التي مرت على أسرته ، يطلبه الطبيب للحديث معه ، يغيب لفترة قصيرة ثم يعود موجها حديثه لي :
- جئتك بخيرين الأول حزين والثاني مفرح جدا ..
- ما هما جدي العزيز ؟
- الخبر الحزين ان جنين سامية متعب جدا ولن يستطيع ان يأتي الى عالمنا الا بعملية قيصرية !
- والخبر المفرح ؟
- ان سامية ستكون بخير، وتتمتع بالصحة والعافية ..
يسرني الخبر ، سامية حبيبتي سوف تسترد صحتها وستكون سعيدة معي ومع ابيها الحنون ، لقد عانت الكثير من المتاعب ، وآن لها ان تجد الراحة ، هي تحب وطنها ولن تستطيع الابتعاد عنه ، ولكن ماذا تفعل ؟ وحياتها كانت مهددة بالوأد ان بقيت هناك في الوطن الذي تعشقه ، حكامه ليسوا جيدين ، نصحها الأصدقاء ان تسارع بمغادرة الأرض الطيبة التي شهدت طفولتها وشبابها المقموع وحريتها المفقودة ، زوجها استشهد واغلب أصدقائها ومعارفها غيبهم الموت سريعا ، اختارت بلدا قريبا من العراق ، لأن اباها الحنون فيه ولأن الكويت قريبة من العراق ، وهي تطمح ان تتمكن من العودة قريبا الى ربوع بلادها ، تأمل ان يتغير النظام وان يعود اهله لبنائه من جديد ، سامية بعيدة عني الآن . صحبتها الممرضة الى غرفة الولادة ، لاجراء العملية القيصرية واستخراج الجنين الذي لم يتحمل مقدار الحزن والألم ،اللذين تجرعتهما سامية بكل اصرار وصبر ، وتصميم على مواصلة النضال ، لتشرق الشمس من جديد ، وتغسل بنورها ما علق بالعالم من شرور ، يغيب عني والد سامية لبعض الامور ، انتظر ان تعود سامية وهي باسمة الوجه كما عودتني ....
يعود ابو سامية :
- الأطباء يقولون ان سامية تحتاج الى عناية طبية مدة يومين ، سوف يكشف عليها الأطباء .. ليعرفوا مدى حاجتها الى الرعاية ، اخبروني انها تعاني من فقدر شديد بالدم ، سوف يقومون بعلاجها من الضعف الذي يصاحيها ..
- ونحن ؟ جدي .
- سنذهب الى منزلنا ونأتي لزيارتها مرتين كل يوم ..وفي اليوم الثالث يجرون لها عملية الولادة ..
اخرج مع الجد العزيز وانا اتطلع ان تكون سامية معي ، لكني سأصبر ، يومان وينتهيان ..

(16)

الناس هنا يعتنون بك، يا لتعبك القاسي وللمرارة التي تشعرين بها والأيام تسير بك من مصيبة الى اخرى ، لست من الذين يتساءلون :
- ماذا جنينا في هذه الدنيا ليكون مصيرنا الهم والحزن ؟
أنت واثقة ان المباديء التي تسعين اليها لها أعداء كثيرون ، لايناسبهم ان يكون العالم بخير ، وان تتحقق المساواة بين بني البشر ، يصل ابوك الى المستشفى ، لاتستطيعين ان تقومي من فراشك لتعانقيه ، القيود التي وضعوها ـ الاوكسجين والمغذي يفقدك القدرة على تحقيق ما تتطلعين اليه ، ابوك المحب الحنون كم ابتعدت عنه ، وكم حالت احوال البلاد عن اجتماعكما ، يعرف ابوك انك عاشقة للورد ، فياتي اليك بباقة من الورد الجوري الذي تفضلينه على كل الأنواع ، تظلين مدة يومين غير قادرة على الحركة كما تحبين ، امر الطبيب ان ترتاحي لبعض الوقت تكونين بعدها قد استردت عافيتك التي غابت عنك ، تنفذين تعليمات الطبيب وتمتثلين لها ، الضعف الذي تعانين منه ، يخبرك الطبيب انه خف عنك ، ليث الحبيب يراك بعيدة عنه لاتتمكنين من احتضانه ، ولا يدرك ان الضعف هذا وقتي سوف لن يدوم ، تشتاقين الى سماع الألحان التي تعشقينها وقد حرمت منها فترة طويلة ، قبل خروجك من الوطن الحبيب ، تقررين ان تستعيدي قوتك ، وان تتحرري من احزانك ، التي حفرت لها أخاديد في الروح والبدن ، تطلبين من ابيك ان يأتيك بجهاز صغير تتمكنين بواسطته ان تستمعي الى الألحان :
- اعرف يا ابنتي انك تحبين الأنغام ، فجئتك بالجهاز الصغير الذي تطلبين !
تفرحين بما اتاك به الوالد ، هو دائما يقرأ افكارك ، ويعرف ما تتطلع اليه نفسك ، وكم اهداك من الأشياء التي كنت تتطلعين ان تكون معك ، اشياء بسيطة تحمل الفرح الى النفوس وقد حرمك منها نصير ، رغم انها لاتكلف شيئا ، ماذا تفعلين يا سامية ؟ لماذا تتذكرين ما يحزن النفس ، ويسبب البؤس للروح ؟ ألم تقولي انك آليت على نفسك ان تحاربي الأفكار الحزينة ، والا تدعيها تستوطن القلب فتسبب له التعاسة والآلام ..
انت تحتاجين لبعض الراحة ، كي تستعيدي صحتك وينال طفلك ما يحتاج من شعور بالأمان ، فابتعدي عن الأحزان واجعليها تهرب من عالمك ، لتعيشي بسلام واطمئنان ، فان الارادة تصنع ما يسعى اليه الانسان ، فقوي ارادتك وعيشي كما تحبين ..


(17)
الجد يقوم من نومه الساعة الخامسة كل صباح ، يقوم بتنظيف المنزل واعداد طعام الغداء والقيام ببعض التمارين الرياضية التي تحفظ شباب الروح والبدن ، ثم يغلي ثلاثة أكواب من الماء ، ويعصر عليه ليمونة حامضة ، وحين يبرد قليلا ، يشربه مع ملعقة من العسل ، يقول له الطبيب :
- الماء الساخن مع عصير الحامض والعسل يقيك من الأمراض ...
يتناول الجد تفاحة كل صباح ، ثم قطعة من الخبز الأسمر وقطعة من الجبن الأبيض او بيضة مسلوقة مع الشاي ، وبعد ساعة يشرب فناجانا من القهوة ، في ذلك الصباح هيأ لي اولا طعام افطاري قبل ان يتناول هو فطوره ، وذهبنا معا لنشتري باقة ورد لسامية ، التي تعشق الورود ..
نجد سامية في حالة نفسية جيدة ، لقد نالت قليلا من الراحة واستعادت صحتها بعد ايام قضتها في الخوف والرعب والحزن على فراق زوجها فراقا أبديا ...
قال الطبيب :
- سوف تمكث السيدة معنا يوما أخر ليتم شفاؤها ...
رحب الجد بقول الطبيب ، وتمنيت انا ان تخرج سامية من المستشفى ، فقد اشتاقت نفسي الى الانسانة التي انقذتني من اليتم والحرمان ...
تحدثنا مع سامية عن الورود التي تحبها ،وعن الباقة التي ابتاعها والدها فنالت اعجابها الشديد ، وطلبت من الممرضة ان تضع باقة الورد في مزهرية فاستجابت الممرضة للاقتراح ...
خرجنا من المستشفى ونحن مطمئنون ان سامية بخير ، وسوف تجتاز المحنة بقوة...
تناولنا طعام الغداء ثم ذهبنا الى احد الأسواق الكبيرة فاشترى الجد علبة شيكولاتا غامقة اللون من تلك التي تفضلها سامية ، وفتح لي التلفاز لاشاهد برامج الأطفال التي أحبها ، وأمسك الجد بالجريدة ، ليطلع على اخبار العراق التي تتصدر الجرائد ، وانا اشاهد التلفاز رحت في نومة عميقة ، لم افق منها والجد يحملني وينقلني الى سريري ...
في الصباح قام الجد ببرنامجه اليومي ثم ذهبنا معا الى المستشفى لرؤية سامية ..

(18)

قبل ان تتزوجي ، وترتبطي بنصير ، كنت متأثرة بوالدك ، تفومين في الصباح لاداء التمارين الرياضية التي تقيك من المرض وتحفظك من السمنة ، وتجعلك متفائلة ، تستفبلين نهارك بابتسام ، وتحرصين على اداء واجباتك ، ليس لأنها واجبات مفروضة عليك ، انما لأنك تحبين اتقان الأعمال ومحبتها ، ومهما كانت صعبة ، فانك تبذلين الجهود كي تجعليها تتيسر امامك وتخف صعوبتها ، لم تستطيعي ان تحافظي على البرنامج الذي يسعدك ، مضت الأيام دون ان تنجحي في الوصول الى فرح حفيقي ، يقول ابوك :
- الفرح يكون حين ننجح في اتقان امر كان صعبا علينا في البداية ...
وكم وجدت هذه الحكمة صائبة ، وقمت بتنفيذها ، اي عمل يوكل اليك ، تتمرنين عليه ، فتجدين الصعوبة قد زالت ، تمارينك الصباحية كانت تضع البسمة على محياك ، ومهما اشتدت الخطوب امامك ، فان الابتسامة تخففها ، ولا تعرفيبن ماذا اصابك بعد الزواج ؟ هل زادت مهامك ام انعدمت فرص التشجيع لك ،لم يكن نصير ميالا الى زرع الثقة في نفسك ، وكثيرا ما كان يستهزيء بقدراتك ، يضحك باستصغار حين تصممين على امر ، اراد ان يغتال الثقة التي زرعها ابوك في نفسك ، فأصبح التردد صديقك ، و زاد وزنك وتضخم بدنك ، ولم تعد الرشاقة تشغلك ، وأنت تدركين ان الرشاقة تعني الصحة ، ملابسك الأنيقة لم تعد تناسبك ، حين كبر بطنك ، واحتجت الى ملابس للحمل ، اخذ نصير يصرخ :
- حزانة ملابسك ملآى بملابس جديدة / لماذا تصرين على شراء اخرى ؟
- لأنني زدت وزنا ..
- ولماذا يزداد وزنك ؟
- لأني حبلى ..
- اعرف نساء كثيرات ، لايسمحن للحمل ان يضخم اجسادهن . ألا تخشين ان يتحول حبي الى امرأة رشيقة ؟
تحاولين ان تبعدي الأفكار الحزينة عن رأسك ، تبحثين عن ذكريات سعيدة لك مع نصير ، فلا تحظين بها ، ولكنك تترحمين على الراحل ، الذي خدعك بحبه المزعوم ، ترسمين الابتسامة على وجهك ، تحاولين ان تتبتعدي عن الآلام ، ابوك .... ذلك الرجل القوي كما يسميه اصدقاؤه جاءك اليوم ، وهو يحمل لك ما تعشقين ، باقة ورد عطرة ، وعلبة من الشيكولاتا السوداء التي تحبين ، وطفلك الحبيب سوف تستقبلينه بفرح ، يليق بمن سوف يأتي الى هذا العالم ، ويساهم في خلق فرص السعادة للناس، فلتفرحي ايتها الانسانة المتعطشة للفرح ، فقد ابتسمت الدنيا بعد عبوس استمر اشهر معدودات ، والعمر كله امامك ، ما زلت في ريعان شبابك ، سيأتي طفلك السعيد ويكون اخا للحبيب ليث ، الذي حكم عليه باليتم والحرمان ...


(19)
نصل مستشفى الولادة ، نجد ان سامية قد أجريت لها عملية قيصرية ، قبل ان أسأل عن الطفل ،توميء لي الممرضة :
- الطفل ولد ميتا ، لاتظهر حزنك امام المريضة ..
يسأل الجد :
- لماذا ولد الطفل ميتا ؟
- تعرضت امه لمتاعب نفسية شديدة ، وما يحصل للأم يؤثر على جنينها ، الذي لم يتحمل المصائب التي عرفتها أمه ، فودع العالم مفضلا الابتعاد عن جحيمه ...
- وكيف صحة سامية ؟
- ابنتكم قوية ،،،لهذا سوف تتماثل للشفاء قريبا ...
- ما الذي تعانيه ؟
- ضعف عام وهزال شديد وكآبة ..
- لماذا اصيبت بكل هذه العلل ؟
- الوضع في بلادكم مأساوي ، بالحب يمكن ان تشفى المريضة ، فقدان زوجها وجنينها الذي كان ذكرا ، اصاب روحها بعلة ،وعليكم تعتمد لجعلها تحيا حياتها الطبيعية ، بلا احزان تسلب منها الصحة النفسية والبدنية ...
شعرت بالألم ، كنت ارجو ان تأتي لي سامية بالأخ الذي حرمني منه الطغاة ، ولكن ماذا افعل ؟ سوف أحيا بصحة وسعادة مع مخلوقين رائعين سامية التي انقذتني من الهلاك مع اسرتي وابيها الحنون ..سأتعلم منهما كيف اقضي على شعوري بالحزن ، قبل ان يتمكن ذلك الشعور من تبديد فرصتي بالسعادة ..أيام قليلة اعيشها مع هذه الأسرة الرائعة ، فتحول حياتي من اليتم وشعور بالفقدان الى امل وتطلع الى غد افضل ..

(20)

يجعلونك تنامين على سرير مريح في مستشفى الولادة ، وقد شربت قليلا من المخدر ، كي لاتشعري بآلام مبرحة ، ما زلت تعانين منها ، تجهلين ما الذي جرى ، اجروا لك عملية قيصرية لاستخراج طفلك ، الذي كان من الضعف والهزال ، بحيث لايستطيع ان يخرج الى العالم بدون مساعدة ، وفتح بطن امه ، تتطلعين الى طفل صحيح الجسم والعقل ، لقد بذلت جهودك من اجل هذا الطفل ، تحملت الاوجاع التي سببها أبوه بصراخه المتواصل بوجهك ، كل ساعة يصرخ بأعلى الصوت مهددا سلامتك الروحية ، وسالبا منك يقينك بان العالم المملوء قبحا ، يمكن ان يرى اشراق النور ، وان النفوس التي يسعدها ايلام اليشر يمكن لها ان تفرح لبهجة الناس وتجد الراحة حين لاتسبب ألما، لماذا كان نصير دائم الصراخ ؟ وما الذي جعله بهذا العنف ؟ كل صرخة يقوم بها تخشين ان تسلب حياته ، فتسائلين نفسك :
- انا الغريبة هنا / ماذا يمكنني ان افعل ان ازهقت روحه بصراخه العنيف ؟
لم تعودي تشعرين بالأحداث من حولك ، النوم العميق بفعل المخدر يجعلك في راحة ، كنت تتطلعين اليها ، يزول تأثير المخدر على عقلك ، تفتحين عينيك ، ترين أحبابك حول السرير يبتسمون لك بحب ، والدك الحنون وصديقك اليتيم ليث ، ولا تجدين طفلك :
- أين طفلي ؟
- نعم ؟ آه .. هناك ينام في سريره الصغير ..
- اريد أن احضنه واطعمه حليبي !
- سوف نأتي به اليك بعد قليل .
يطول بك الانتظار ، اين يمكن ان يكون طفلك ؟ وكيف شكله ؟ وهل كسب صفاته منك او من أبيه ؟ وهل سيكون مثل أبيه ميالا الى العنف ؟ ام يكون مثلك في الطيبة والهدوء ؟يتحدث ابوك بمختلف انواع الحديث ، ولا يأتي على ذكر الطفل الذي تشتاقين اليه كثيرا ، تحملت كل أنواع القهر من أجل أن تكوني أما ! توجهين سؤالك الى أبيك :
- هل رأيت طفلي ؟

لايجيبك ابوك ، تسألين ليث :
- هل رأيت طفلي يا ليث ؟
ترين علامات الحيرة على وجه الصغير ، لماذا لايريحك ويجيب عن أسئلتك ؟ هل الطفل في صحة جيدة ؟ ولماذا وضعوه في مكان بعيد عن امه التي تحبه ؟ ولماذا يسكت الجميع ان وجهت لهم استفسارا عن طفلك ؟ أين هو وكيف شكله ؟ ومتى يأتون به الى حضن امه ؟
وأنت في شدة الحيرة تسمعين أباك :
- سامية حبيبتي ، اسمعي ما يخبرك به الطبيب ، وكوني قوية كما عهدناك !
- طفلك سيدتي لم يستطع القدوم الى دنيانا ..
- ماذا تعني يا دكتور ؟
- لقد ولد ميتا ..
الخبر يقع عليك كالصاعقة ، :
- لماذا ؟
- لأنك قد نزفت مرتين ، ومررت بأوجاع ومشاكل رهيبة !
- ولماذا لم امت انا ؟
- الطفل ضعيف لايتحمل كما الكبار سيدتي !



(21)
تشعر سامية بحزن وألم شديدين ، علمت سبب فقدانها للطفل الذي حلمت بوجوده ، ليذكرها بالحبيب الراحل الذي ابعد عن الحياة عنوة ، يقترح لها ابوها المسيرة التي يجب ان تنتهجها لتحظى بسلام روحها الحزينة الكئيبة ، يقترح عليها ان تنضم الى احد الأندية الرياضية التي تمارس رياضة اليوغا ، سامية لاعبة ماهرة لهذه الرياضة الجميلة ، توافق سامية على اقتراح ابيها ، وتتمكن من الخروج من الحالة المرضية التي كانت عليها ، تعود الى رسوماتها التي تخلت عنها بعد الزواج ، فهي رسامة ماهرة تخرجت من اكاديمية الفنون الجميلة ، وبدلا من ان تعين في وظيفة تتناسب مع ميولها وكفاءتها ، فقد عينت في الاستعلامات ، وكانوا يريدون بهذا التعيين ان يجعلوها لاتحب العمل ولا تبدع فيه ، ولكن اخلاصها جعلها تحب كل مهنة تنسب اليها ، فأحبت وظيفتها في الاستعلامات ، وكانت تفضل ان تكون مدرسة لفن الرسم في احدى ثانويات بغداد ، ولكن املها في الحصول على مهنة التدريس خاب ، فهي ليست من الحزب الحاكم ، وقد حاولوا كثيرا ان يجعلوها تنضم الى حزبهم لكنها رفضت باصرار ..
اخبرها ابوها :
- ساقدم اوراقك الى وزارة التربية الكويتية طالبا تعيينك مدرسة للرسم في احدى مدارس الكويت ...
تسعد سامية بالخبر ، منذ ان درست في الاكاديمية وهي تتمنى ان تكون مدرسة لمادة الرسم التي تحبها ، كانت متفوقة في دراستها ، يعجب بلوحاتها كل من اطلع عليها ، توقع لها اساتذتها ومعارفها والأصدقاء مستقبلا باهرا في الفن ، ولكنها ابعدت عن تحقيق حلمها بعنف وفظاظة ، والان وبعد هروبها القسري من وطن احبته بكل خلجة من خلجات قلبها ، يعود املها الى الحياة من جديد وقد ظن بعض المعارف ان الآمال الميتة لاتعود الى الحياة مرة اخرى ، تدرك سامية ان الآمال لن تموت ، وان خبت لظرف من الظروف ، فانها سرعان ما تشهد حياتها الحافلة مرات أخر .
تمضي الأيام وسامية تنشط في الحياة المدنية التي نجد لها فعالبات متعددة في بلاد الكويت ، وتأمل ان يتحقق حلمها في التدريس بسرعة ..
تمر ثلاثة ايام ويأتي ابوها حاملا لها البشرى :
- هيئي نفسك يا ابنتي !
- لأي شيء ؟
- في وزارة التربية يريدون مقابلتك ، ومعرفة أهليتك لوظيفة مدرسة لفن الرسم !
- مرحبا بهم يا ابي ..
- مرحبا بك وبهم ..
- متى ؟
- يوم الاثنين القادم ، اي بعد اربعة أيام ، جهزي بعض لوحاتك التي تتضمن معاني تربوية ..

(22)

تفرحين لسماعك الأخبار الجميلة ، ما زال في الدنيا متسع لقلبك ان يفرح ، ويتطلع الى الحب والسعادة ، فلا يمكن ان تزول احلامك بانبثاق النور من ركام التعاسة الذي عشته مدة شهور ، ولكن ظلال تلك التعاسة تعود اليك بين آونة وأخرى ، كي تقول لك ان قدرات الانسان محدودة في تجاوز الآلام ، شتان بين قوة أبيك المتطلع الى الحياة بتفاؤل ، وزوجك الراحل المتشائم الذي لايرى اي بصيص للنور في دنيانا الجديبة ، تتطلعين ان يأتيك أبوك بالخبر السعيد الذي اشتقت الى سماعه ، درست في اكاديمية الفنون كي تصبحي مدر سة للرسم في احدى ثانويات بغداد ، ولكن أحلامك البسيطة لم تتحقق ، ووضعوك في مكان لا تحبينه :
- احبي الناس يا ابنتي فأنهم يحملون الكثير من الطيبة ...
النصائح التي يرددها ابوك بثقة كفيلة ان تبدد شعور القهر ، الذي تحيط بك حبائله ، ولا تدع لك مجالا للحركة ، تقررين ان تتخلصي من الآثار السلبية لزواجك ، الذي لم يدم طويلا ، وجعلك مقيدة تئنين من الوجع واندحار الآمال ، وعجز الانسان ان يحفر وجوده وتفوقه رغم العراقيل الكثيرة التي توضع في سبيله ، كنت تحلمين بطفل جميل ، وها ان الطبيب ينبئك ان الطفل كان من الضعف بحيث لم يستطع الصمود امام ويلات الدنيا ، ابوك قدم لك طلبا للعمل في احدى مدارس الكويت الثانوية ، قدم شهادتك الصادرة من رئاسة جامعة بغداد ، وصورا عن لوحاتك الكثيرة التي نالت اعجاب المشاهدين في الفترة التي كنت ترسمين فيها ، قبل زواجك ، انقطعت عن التمارين اثناء الزواج والحمل والاشغال المنزلية التي لاتنقضي ، والتنظيف وغسل الأواني والملابس والتسوق ، كل هذه الأعمال الشاقة ، لم تدع لك مجالا للاهتمام براحة طفلك ، هل كان السبب انك لم تكوني قوية لتطالبي بحقوق طفلك ؟ ام لأنك كثيرا ما أشفقت على نصير الكثير الشكوى من حالة الفقر التي يعيشها ، رغم انه يستلم راتبا كبيرا من دولة غنية ..
يأـي ابوك والبسمة تعلو وجهه الحبيب ، ليبلغك الخبر الذي ترومين سماعه :
- بشرى سارة يا ابنتي الحبيبة ..
- ماذا عندك يا ابي ؟
- يطلبون مقابلتك في التربية ، ليعرفوا اهليتك لتددريس مادة الرسم في احدى الثانويات وكما كنت تأملبن .
- خبر سعيد ابتي ، متى يريدون لقائي ؟
- في الاثنين القادم ، هيئي بعض اللوحات التي تتضمن معاني تربوية ...
الفرح يملؤك ....يجعلك ترقصين ، تتمنين ان تقبلي جميع من تعرفين احتفالا بالنبأ السعيد ، تقبلين أباك وليث ، اللذين وجدتهما يشاركانك الفرح والسرور ، يسبقك ابوك في الاقتراح :
- هذا الخبر يستحق احتفالا ، سندعو كل الأصدقاء ، ليشاركونا الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة ، وجهي الدعوة لأصدقائك يا ابنتي ..
تمتثلين لاقتراح ابيك ، تكتبين الرسائل داعية اصدقاءك للاحتفال ، بعضهم تتم دعوتهم على الهاتف ، في مقدمتهم الدكتور خليل العبيدي / المعروف بوقوفه الدائم مغك في كل المواقف ، تحضرين المواد اللازمة للاحتفال ، تدعين الفرقة الموسيفية التي تفرحين لسماع ألحانها وأعنياتها ، يقول ابوك :
- انا على يقين انك ستنجحين في المقابلة ، سوف نؤخر الاحتفال حتى تظهر نتيجة المقابلة ..


(23)
عادت سامية وهي في قمة السعادة :
- نجحت في الاختبار يا ابي !
- انت مجتهدة وحتما تنجحين ! ماذا سألوك وكيف كانت اجاباتك ؟
- شاهدوا الثلاث اللوحات التي اخذتها معي ، اعجبوا بطريقة رسمي ، والمعاني التي تضمنتها الرسوم ، سألوني عن الألوان الأساسية وعن الألوان التي نحصل عليها من دمج عدد من الألوان ،..
- وكانت اجاباتك رائعة !
- نالت اجابتي رضا اللجنة المختبرة لكفاءات الاساتذة الجدد ، ولكن الذي اسعدني ، انهم في الوزارة يريدون ان يجعلوا كل الطلاب يحبون مادة الرسم ويقبلون على الدرس بحب ..
- وهل هناك طلاب لايحبون الفنون ؟
- نعم يوجد كثيرون . مع الأسف الشديد ، يوجد طلاب متفوقون في كل الدروس العلمية والأدبية ، لكنهم لايهتمون بالدروس اللامنهجية ، وفي وزارة التربية يسعون لجعل الطلاب يقدمون على التعبير عن انفسهم بالرسم كما يفعلون بالتعبير الكتابي ..
- وهل سوف يتم تعيينك ؟
- اخذوا رقم هاتف المنزل وعنوانه ليرسلوا لنا قرارهم !
- أبارك لك يا ابنتي واقدم لك التهاني ، تعيينك يستحق الاحتفال !
احاط بي الفرح وانا ارى حبيبتي سامية بكل هذا السرور ، باصرارها على تخطي الصعاب سوف تحقق النجاح ، وتجعل طالباتها في الثانوية يقبلن على درس الرسم بحب ويصبحن في المستقبل رائدات في الحركة الفنية ...
سجلتني سامية في احدى المدارس الابتدائية التي اكتسبت شهرة في منطقة سكنانا في الكويت في السالمية ، لكفاءة معلماتها ومهارتهن في تعليم الصغار وتحبيب المواد لهم ، وجعلهم يقبلون على الدروس بفرح ويقومون بواجباتهم خير قيام ... ابتاعت لي الدفاتر والاقلام وقد رأت حرصي على الدراسة والتفوق فيها على اقراني ، فشجعتني على ذلك ، وبينت لي ما غمض علي فهمه من دروس...قامت سامية بمهام الأم والصديقة والأخت والمعلمة ، تطلب مني الاستيقاظ صباحا واداء التمارين الرياضية لتقوية البدن والروح ، اجلس معها ومع الجد لتناول طعام الافطار ونحن نستمع الى فيروز ونتحدث باخر الأخبار ونحرص على الابتسامة امام الصعاب الكثيرة التي يواجهها الناس في الوطن الحبيب ،
تشجعني سامية على مراجعة الدروس واداء التمارين في الحساب والعربية وفي الوقت المتبقي لي تعطيني سامية احد الكتب وتطلب مني قراءته وابداء رأيي فيما ورد فيه ، غلمتني كيف احكم على جودة الكتاب او سوءه بعد القراءة الواعية ، كانت تشرح لي ما غاب عني فهمه ، لهذا وجدتني أحرز التفوق في كل المواد ، حفظت جدول الضرب وكنت الأول دائما في الاختبارات التي تجريها المعلمة لتعرف مدى قدرتنا على معرفة جدول الضرب ، كنا نقف في دائرة ، تسأل المعلمة احدنا عن الجواب في ضرب العدد خمسة في احد عشر مثلا ، فان خاب التلميذ في الاجابة يعود الى مقعده في الصف ، وان نجح اي منا في الاجابة بقي في مكانه في الدائرة ، ومن يظل في نهاية الاختبار في الدائرة يكون الفائز .. كنت الفائز في هذه المسابقات ، تعطيني المعلمة جائزة على تفوقي علبة من الأقلام الملونة ، وحين اعود الى البيت واخبر سامية بالأمر تكافؤني بمنحي جائزة اكبر ..

(24)

كانت فرحتك كبيرة وانت تجتازين الاختبار بكفاء ة ، سألوك عن الألوان ومدلولاتها ، والتلاميذ الأذكياء المتفوقين في كل الدروس ، لكنهم لايحبون الرياضة ولا الرسم ، درجاتهم نهائية في العربية والرياضيات وفي التاريخ والجغرافية ، ويكونون الآوائل دائما على صفوفهم ، استفسر اعضاء اللجنة كيف نجعل الطلاب يقبلون على الرسم ويحبونه كما يحبون بقية المواد ، كانت اجاباتك من الدقة بحيث نالت استحسان المختبرين ، ابديت رأيك ان ادارات المدارس قليلا ما تبدي اهتماما برغبة الطلاب بالدروس اللامنهجية كما يصفونها ، وانهم غالبا ما يحولون الدروس الفنية الى رياضيات او قواعد لغة عربية ، وحتى انهم لايهتمون بدروس التعبير ، التي تتحول الى درس بالقواعد ، ابدت اللجنة الممتحنة اعجابها بأجوبتك ..ز
وانت كبيرة الفرح هذا اليوم ، تنجحين في مقابلتك مع اللجنة الممتحنة للكفاءات التدريسية ، ويخبرك حبيبك ليث انه متفوق بالمدرسة على أقرانه التلاميذ ، كنت متفوقة دائما ويسعدك ان ينال التفوق احبابك ، كل شيء مران ما ان نصمم على اجتياز الصعاب ونحن مبتسمون ، حتى نجد أنفسنا وقد وصلنا الى ما نريد ، ببذل جهود اقل مما لو كنا متشائمين عابسين ، لم يخبرك أعضاء اللجنة الممتحنة عن قرارهم ، لكنك قرأت هذا القرار وهم يمدحون اجاباتك ويثنون على ذكائك ، ويستبشرون خيرا انهم سوف يجعلون الأستاذ الكفوء في المكان المناسب ، لم يكن من عاداتك ان تستعجلي بالفرح ، بل كنت تعودين النفس على التريث في الحكم على الأمور وعدم التسرع ، أبوك فرح باجاباتك ، هو من غرس هذا الحب للعمل والاخلاص فيه في نفسك ، وعودك على بذل الجهود لاتقان العمل الذي نكلف به ، حتى لو كان بلا مردود مالي ، او كانت المكافأة المالية اقل من الجهد المبذول، ابوك كان يقول :
- اتقان العمل يعتبر مكافأة للشخص العامل ..
أصدقاؤك يفرحون لفرحك ويشاركونك الاحتفال الذي سوف تقيمونه بهذه المناسبة السعيدة ، سوف تتهيئين للمباشرة بعملك الجديد ، ولا تعلمين الان هل يسالونك عن المدرسة التي تحبين ان تعملي فيها ؟ ام هم من يقرر ؟ سوف تفرحين حتما باي مدرسة ثانوية للبنات ، وتكون فرحتك اكبر ان تحققت امنيتك في العمل في ثانوية الأمل النموذجية لمستواها العلمي المتقدم وادارتها المتفهمة وطالباتها المجتهدات...
تشعرين بمسؤولية كبيرة تجاه ابنك الحبيب ليث، الذي يشعر بأمومتك ، اخبرك انه متفوق في دراسته ، أحببت ان تطلعي على رأي معلميه ، تراجعين مدرسته ، جميعهم يمدحون اجتهاده وحبه للمدرسة وحرصه على اداء التمارين ، استاذ الألعاب الرياضية الوحيد الذي اخبرك :
- ليث مجتهد في كل الدروس ولكنه خجول جدا ، ولا يميل كثيرا الى الاندماج مع زملائه واللعب معهم..
تعرفين ان ليثا قد مر بظروف صعبة ، لم تدعه يعيش طفولته كما هم الأطفال في مثل سنه ، وكنت حريصة على ان تساعديه في تجاوز الشعور ان حياته تعيسة وانه محروم من الأبوين وافراد الأسرة ، لقد أحببته وأحبه أبوك وقدمتما له كل الحب والرعاية ، تساعدينه في ان يكون اجتماعيا ، وان يذهب لزبارة أصدقائه ، ويستقبل زملاءه بترحاب ان زاروه في المنزل ..


(25)
حصلت على التفوق على اقراني في عدد من المواد الحساب والعربية والرياضة التي كنت اعشقها ، ء لكني اهاب من الحركة الكثيرة امام الزملاء ،وفي المواد الأخرى كانت درجاتي جيدة ، شجعتني سامية ان اكون الأول على تلاميذ صفي ـ حين استطعت ان انفذ طلبها رأيتها في قمة السعادة ، شعرت دائما انها امي وانها تبذل قصارى جهدها كي تسعدني وتنسيني المأساة التي استشهد على اثرها كل أفراد أسرتي ، سامية تجاوزت شعورها بالألم والفقدان بعد استشهاد زوجها وموت طفلها قبل ان يرى نور الحياة وموت امها بسبب الحزن ووجع فقدان الأحبة ..
جدي كان قويا دائما يحاول ان ينسى الفواجع التي مرت به وأنهكته ، وكثيرا ما اسمح الحوار بين جدي والحبيبة سامية :
- مضى العمر سريعا يا ابنتي !
- أنت قدوتنا يا أبي ، من لي في الحياة سواك ؟
- انت فلذة كبدي وعمري الذي أحرص على نصاعته ..
- أراك حزينا
- أتذكر اخوتك الذين اغتال الظلم شبابهم ، وامك التي لم تعد قادرة على تجاوز ألم حرمانها من اولادها ... فودعت حياتها ، وتعتبر شهيدة ايضا ..
- وجدي ايضا ..
- ابي ايضا ، لم يرحموا شيخوخته ـ واغتالوا كل اصدقائه واقربائه والمعارف ايضا ، اشعر بالاثم لأني لم استطع نجدته !
- كيف تنجده يا أبي وانت بعيد ؟ حتى لو كنت معه لاغتالك الظالمون معه ..
- أهذا قدرنا يا ابنتي ؟
- ليس قدرنا ، ان غابت الشمس اياما ، سوف تشرق من جديد ..
- يسعدني تفاؤلك ..
- لولا التفاؤل لما استطعت الحياة يا ابتي ..
- نعم معك حق ، لولا الأمل لكانت الحياة شديدة الظلام !
- لهذا يضحي الناس ويناضلون من اجل حياة أفضل ..
- وهل يمكن التخلص من الظلم ؟
- ليس نهائيا ، لكن درجات الظلم تحتلف بين حالة وأخرى .

(26)
تسعدين بوصولك الى النجاح الذي تتمنين ، انت وفية ، تتميزين بحب العمل والاجادة فيه ، تبدعين في الرسم ، وتجدين سعادتك في التعبير عن نفسك باللوحات التي تبدعين ، ولكن رغم تحقيقك للنجاح ، ما زال فقد الأحبة يضنيك ،أمك لم تستطع االبقاء في دنيا تخلو من أبنائها الأعزاء ، تعبت في تربيتهم وايصالهم الى سن الشباب ، وقبل ان تجد الفرحة طريقها الى قلبها الظاميء ، سارعت قوى الطعيان الى اغتيال زهرة الشباب ، وبدلا ان تكحل الحياة عيونها بنجاحاتهم ، افترس الموت حيواتهم ،واغتال الردى عمرهم الغض ، تسارعين في تسجيل ابنك ليث في المدرسة التي تطمحين ان تحقق له ولك الأحلام في غد سعيد ، افترس الموت جنيتك قبل ان يخرج الى تعاسة العالم ، وعوضك الله بابن آخر ، سوف تربينه على يديك ، وتنشيئنه وفق ما تحبين من مكارم الأخلاق وسمو المباديء ، ليشب شابا قويا حنونا ومقداما ، وليس ميالا للكلمة التي تفتل النفوس وتعتال القلوب ، لقد توهمت انك احببت نصيرا ، ولكنه بكلماته السيئةء قد عمل على قتل ما تحملين من حب له وانتما في الشهور الأولى من زواجكما التعيس ، تحاولين ان تنسي ما عشته من مرارة وما تذوقته من علقم ، ولكن الأيام ما فتأت تذكرك تلك الكلمات الجارجة التي بدرت عنه ، ربما لم يشعر بفظاظتها وانها كفيلة بقتلك ، كيف يمكن لك ان تنسي وانتماا في الشهر الأول وقد اعتلاك :
- سهام حبيبتي !
- هل انا سهام ؟ هل نسيت اسمي ؟ ونحن في الشهر الأول من زواجنا ؟
- كم تحبين النكد ! ماذا يجري ان ناديتك باسم آخر ؟ ألا تدركين معنى انى اكون معك ولست مع سهام .. ماذا يضيرك ان لفظت اسمها وقد عشت معك بدلا عنها ؟
تصيبك الحيرة ، كيف تتصرفين ؟ هل تقومين من تحته ؟ ام تواصلين مشاركته في الفعل وهو يوجه لك طعنته النجلاء ، ويردي قلبك قتيلا ÷، انت تفكرين بغيرك دائما . تخشين ان قمت من تحته ان تتسببي في جرح نفسه وتوجيه طعنة الى قلبه ، ولكن هل كان يملك قلبا وهو يوجه لك سهام العدر والخيانة ؟ لماذا جاءك انت ممثلا دور الحبيب ولم يذهب الى سهامه الطائشة ؟ هل اعترف بحبه لها و رفضته ؟ فهو الفقير المعدم والعصبي ذو العبارات الخشنة التي لاتحترم احدا . وهل كان يتلفظ بجارح الألفاظ مع صديقاته ايضا كما كان يفعل معك ؟ قتل اشتياقك له ، وشعورك بالنشوة التي تعيشها من تحب زوجها ، صرت تشعرين انه يقوم باغتصابك ، آه لو كنت قادرة على التعبير عن رفضك له ، ما بالك ؟ الاهتمام بالآخر رغم لنه لاييبالي بمشاعرنا ، هو ألد أعداء الانسان . فلماذا انت بهذا الضعف ؟فلتطردي الأفكار القاتلة ان تأتي اليك ، من حقك ان تفرحي بعد ان ابتسمت لك الدنيا بعد عبوس متواصل ، لقد حققت بعض ما تحبين . فلتجعلي ما يسيء للنفس بعيدا ، كوني قوية كما ينصحك ابوك المحب :
- ابنتي الحبيبة كوني قوية واطردي أفكار السوء ..
تصممين ان تنفذي الحكمة التي يقدمها ا لك ابوك الحنون::
- ان اردنا ان نصنع الافراح علينا ان نئد الاحزان !
تهتمين بليث وبدروسه ومدرسته والمعلمات اللاتي يحرصن على تعليمه ، تراجعين معه الدروس ، وتعلمينه ما غمض منها وتحاولين ان تذللي له الصعاب ، تقومين بشرح كيفية اداء تمارين الرياضيات له وكيف يجب ان يهتم بقواعد الغة العربية ، تجعلينه يحفظ جدول الضرب قبل ان تشرح له معلمة الرياضيات ذلك الجدول ، تساعدين ليث ان يكون الأول على صفه ، وتنجحين ..


(27)
أتعرف الى اصدقاء جدد ، يزورونني في منزل والد سامية وازورهم في بيوتهم ، اعرف انني اعيش في منزل ابي سامية رغم انهما يعاملانني وكأنني ابن لهما وحفيد ، لم اشعر معهما باليتم ولا اني افتقد بعض الأمور ، لأن ابي وامي قد قتلا بايد ناقمة عليهما لحبهما الجمال والحرية وكل شيء اثير وعزيز على نفس الانسان ..
انتمي الى فريق كرة القدم والى مجموعة الرسم في مدرستي ، لأنني تعلمت من سامية كيف يمكنني التعبير عن المعاني الجميلة بالرسم ، كما احسنت التعبير عن نفسي وعن الأفكار التي اقتنع بصحتها بواسطة القلم ..
تصل نتيجة المقابلة الى سامية في ظرف مغلق الى بريد الشقة التي يسكنانها في عمارة كبيرة في مدينة السالمية ، تذهب سامية الى وزارة التربية وتطلب تعيينها في مدرسة قريبة من مسكنها ، توافق الوزارة على طلبها ، ويصدر امر تعيينها مدرسة على ملاك المدارس الثانوية في مدرسة نموذجية من ثانويات الكويت للبنات ، تتميز بالمستوى العلمي المتميز وتنافس الطالبات للحصول على الدرجات التي تؤهلهن لأرقى الجامعات ....
أجد سامية تنظم وقتها بين اشغال المنزل والتعليم وبين هوايتها في فن الرسم ، تبدع في رسم اللوحات التي تنال اعجاب المتلقين في المعارض الشخصية والمشتركة التي تقام ، الجد يساعد سامية في الاهتمام بالمنزل واعداد بعض اصناف الطعام ، لكن صحته اخذت تزداد سوءا في الأيام الأخيرة ، ولم تعد سامية توافق على ان يتعب نفسه في اعمال البيت وتجهيز الطعام ...
ثلاثتنا اكتسبنا الصداقات المتعددة في دولة الكويت ، انا فزت بعدد من الأصدقاء في المدرسة ومن خارجها يشاركونني الاهتمامات نفسها في حب الدراسة والمطالعة وكرة القدم والرسم والموسيقى ، الجد حصل على صداقات كثيرة لرجال كبار في السن يهتمون بالسياسة والأدب ، سامية لديها صداقات من كلا الجنسين فنانين وأدباء ومهتمين بالاكتشافات العلمية التي تسعى لجعل حياة الناس اكثر راحة وسعادة ..
الدكتور خليل العبيدي من أصدقاء سامية منذ ان كانت في الجامعة ، تخصص في لندن في طب العيون ، جاء الى الكويت قبل مجيء سامية ، احب سامية منذ ان كانت طالبة في اكاديمية الفنون، وصرح لسامية بحبه ورغبته بالاقتران بها ، الا انها تزوجت من نصير ، ولم يغير زواجها من عاطفته الكبيرة نحوها ، بقي عاشقا لها وصديقا يقف بجانبها مؤازرا ان تعرضت لمكروه ، وكان قادرا على صده ، وبقي الدكتور خليل عازبا .. نجلاء محمد احدى صديقات سامية الحميمات ، ارادت ان تدرس للدكتوراه حين كانت في بغداد ، ولكنها لم تكن ضمن الحزب الوحيد الذي يسمح لأعضائه باكمال الدراسة ، فسافرت نجلاء محمد الى باريس لتحصل على الدكتوراه في فن الرسم، مجموعة من الصداقات المميزة ذكورا واناثا، تفخر سامية بالتعرف على افرادها الذين بقوا مخلصين لصداقاتهم مهما كلفتهم من تضحيات ..

(28)

ليث الحبيب يكسب وجودك معنى جميلا ، ترينه ينمو وتزداد معارفه ويمهر في دراسته وينتمي الى جمعيات يتبادل مع أعضائها الاهتمامات ، يشارك جمعية هواة الرسم انشطتها الفنية المتعددة ، يحاول ان ينمي لديه موهبة الرسم ، بعد ان لحظت عنده هذه الموهبة ، وحرصت على تقويتها ، بمواصلة التمارين على اجادة هذا الفن الجميل ، كما انك لاحظت وبفرح حب ليث للرياضة ، فجعلته يشارك فريق كرة القدم مهارتهم وتمارينهم ، تفرحين ان وجدت ليث سعيدا ، يزوره أصدقاؤه في البيت ، ويذهب الى اولئك الأصدقاء لزيارتهم في بيوتهم ، وجدته الابن الحبيب ، الذي عوضك الله بوجوده بجانبك ما حرمت منه ، وأنساك كثيرا من انواع الطعنات التي منيت بها في حياتك القصيرة ..
أصدقاؤك كثيرون ذكورا واناثا تجدينهم قربك ، يضيفون الدفء الى حياتك التي كانت جديبة ، ويبهجونك ، خليل العبيدي الدكتور الماهر ، الذي شعرت بنبضات قلبه قبل ان يحدثك بها ، فهل يمكن لنبضات القلب وخفقاته ان يخفيها المرء ؟ حتى وان جهد لذك الاخفاء ، اخترت نصيرا من بين عشرات العشاق ، وبعد ان فشلت في تجربة الحب ، وبدا من نصير ما كان مخبوءا ، تساءلت وانت تهمسين لنفسك :
- عجبي للحب ! لماذا لم تختاري يا سامية الرجل الذي احبك اكثر من اي رجل آخر ؟
وتجيبين نفسك عن استفساراتها :
- هل الحب طوعي ؟ وهل بامكننا ان نختار من نحب ؟ ام انه كالقدر يصطفي الناس ليعذب بعضا منهم ويسعد آخرين ؟ هل الحب مرض مزمن ؟ فلماذا تجدين نفسك تتذكرين من سبب لك الآلام وتنسين من يحب ملء القلب والروح ويتمنى ان تبادليه الشعور ليحيا ؟
- .............................
أبوك الحبيب الذي اثخن الدهر جراحاته ، وجعله وحيدا يعيش بين الأحبة الراحلين الذين اغتالهم الطغيان دون ان يرتكبوا اثما يستحقون ان يعاقبوا عليه ، اي منطق تعيشون به ، واي جريرة قمتم بها ؟ ليحكم عليكم ان تكونوا غرباء بعيدين عن الوطن الحبيب ؟
ستحمدين الله الف مرة ، انك لم تعودي وحيدة في هذا العالم ، قربك ابوك الحنون ذو الارادة القوية والرجل الرجل كما يسميه أعداؤه والأصدقاء / معك في دولة الكويت الشقيقة عدد من الأصدقاء ، وبعضهم بعيدون عنك جسدا ، قريبون منك روحا ، معك الدكتور خليل العبيدي ، الانسان الذي تجدينه يقف بقربك مدافعا عنك ضد من يفكر بك سوءا ، ومذللا لك الصعاب ، وقربك ليث المخلوق اليتيم الذي انقذته من الهلاك واتيت به الى هنا وانت تمنعين عنه كل صنوف الحرمان ، لينشأ انسانا قويا واثقا ، يتطلع الى الدنيا بفرح وتفاؤل ....


(29)
يصدر قرار تعيين سامية في ثانوية ( الأمل) القريبة من منزلها ، تجد ان الثانوية رائعة جدا في مستواها العلمي والأدبي والفني ، تدرس الطالبات ثلاث لغات ، يتفوقن في العربية والانجليزية والفرنسية ، ادارة المدرسة تجمع بين حنان الأم وحزم المربية الحريصة على بناتها ، تساهم الثانوية في المسابقات التي تقيمها الوزارة لتطوير مهارات الطالبات وجعلهن بارعات في التعبير عن انفسهن كتابيا وشفهيا ، ومر على عملها في التدريس خمسة شهور ، لم تتسلم عنها راتبا شهريا ، لم يجعلها ذلك تفقد الفرح وتتشاءم
، كان ابوها يعطيها ما تحتاجه من نقود لشراء ما يلزم لي ولها ، كانت شهادة التخرج التي حصلت عليها من اكاديمية الفنون تحتاج الى توقيع وزارة الحارجية وسفارة بلادها في الكويت ، قال لها أبوها :
- سوف تستلمين راتبك اسوة بزميلاتك في نهاية العام الدراسي !
- ومن أدراك يا ابي ؟

- أنت استاذة للفنون ، وأصدقاؤك يجيدون الرسم
-
تمر الأيام وسامية لاتستلم راتبها الشهري ، سألتها يوما :
- ماذا ستفعلين ؟
- شهادتي معترف بها من رئاسة الاكاديمية ، وانا قد درست مادة الرسم والنحت فترة طويلة تمتد اربعة اعوام كاملة ، ودرجاتي مرتفعة !
- لم افهم ...
- سوف استشير اصدقائي الفنانين لنجد حلا !
- لم افهم ايضا !
تتحسن الحالة النفسية لسامية بعد هذه المحادثة ، اراها مستبشرة ان حرمانها من الراتب سوف لن يستمر طويلا ، وانها تحب عملها وتخلص في مهنتها ومن حقها ان تحصل على نتيجة التعب ومكافأة الاخلاص ..
قبل نهاية العام الدراسي بثلاثة شهور ، تصل سامية الى المنزل فرحة ، تكاد ان ترقص من شدة السرور :
- تعبي اثمر راتبا كبيرا !
- ماذا حصل ؟
- استلمت مبلغا كبيرا وهو راتبي للشهور الخمسة التي لم اعط فيها نقودا !
- كيف ؟
- سأقيم احتفالا كبيرا ادعو اليه الأصدقاء ونستمع فيه الى اجمل الألحان بهذا الحدث السعيد !
- لم افهم !
- نحن فنانون يا حبيبي ليث ، ونجيد التواقيع !
تقيم سامية ويقف بجانبها والدها احتفالا كبيرا بمناسبة استلامها اول راتب لها ، تأخر طويلا استلامها نتيجة عملها الجاد والدؤوب ، تدعو اصدقاءها الكثيرين الموجودين في الكويت ، وتستمتع الى تهانيهم الجميلة وهي فرحة تكاد ترقص طربا وغبطة....

(30)

كنت تودين ان تشتغلي في ثانوية الأمل للبنات في دولة الكويت ، سمعت ان المدرسة رائعة جدا في كل الميادين ، وان طالباتها يحرزن اعلى الدرجات في امتحانات الشهادة الثانوية كل عام ، وان مديرتها كانت معروفة بكرم الخلق والمهارة في قيادة طالباتها نحو العلا ، حريصة ان ان تتبوأ الثانوية المكانة التي تستحقها ، سألوك حين تمت مقابلتك :
- اين تفضلين ان تشتغلي ؟ متوسطة للبنات ام ثانوية ؟
- افضل الثانوية ..... طالباتها قريبات من نفسي ، يعرفن ما يردن من الحياة ، ويقبلن على التدرب على ايات الأدب والفن برغبة وحماس ..
لم تطل بك الأيام ولم تجربي الصبر العسير ، بعد أيام من المقابلة كانت البشرى :
- مبارك لك التعيين في الثانوية التي ترغبين بها !
فرحتك كبيرة وشعورك بالفوز رائع الجمال ، كنت تسمعين اخبار ثانوية الأمل من صديقاتك ، مديرتها الأستاذة خديجة كانت صديقة للمدرسات اللاتي يحرصن على مستوى المدرسة العلمي والأدبي والفني ، طالما رأيت ان التفوق لايمكن ان يتجزأ ، وان من يسعى لنيل التفوق في المجال العلمي لايرضيه ان يتدنى مستواه في الآداب ، كل مجالات الدراسة حرصت عليها الست خديجة ، كما كانت تحب ان تتفوق طالباتها في اللغات الثلاث التي تقررها وزارة التربية ، طالباتها المجتهدات حريصات على اكتساب اللغة القوية والقدرة على الترجمة الفنية من لغة الى اخرى ..وانت تحبين الموسيقى ، وكثيرا ما تطلعت ان تتمكني من العزف على الآلة التي تحبينها ، سررت كثيرا حين سألت الأستاذة حديجة :
- هل يمكن للمدرسات ان يتدربن على العزف على البيانو الموجود في غرفة الموسيقى ؟
- في حصص الفراغ تستطيعين ان تتدربي على آلة البيانو ، كما ان لأستاذ الموسيقى عودا ، يمكنك ان تطلبي منه ان يدربك على العزف عليه ..
- كيف عرفت انني احب تعلم العزف على العود ؟
- اعرف ان العود حبيب العراقيين !
فرحة التعيين تظل ناقصة لبعض الوقت ، راتبك الكبير نسبيا ، لم يسلموك اياه في الشهور الأولى من تعيينك ، بقيت تنتظرين ان تحصلي على بغيتك من النقود ، وكان ابوك كالعهد به ـ يضع النقود التي تحتاجينها في يدك ، آخر كل شهر :
- لن يتأخروا في دفع الراتب ..

- ماذا تعني يا والدي ؟
- انت فنانة تجيد الرسم ، وتعبر عن مشاعر الانسان وتطلعاته ، وتجيدين الخط ايضا !
ابوك مقتنع ان حرمانك من الراتب لن يطول ، يسألك أصدقاؤك بين فترة واخرى :
- هل وصلك راتبك ؟
- لا
- سوف نجد حلا .... انت صديقتنا العزيزة
يجتمع الأصدقاء ويقررون مساعدتك في ان تستلمي راتبك ، ويعد ان يطلبوا منك صورة من شهادة التخرج ، يسلمونك الوثيقة نفسها :
- اعطي هذه الوثيقة المصدفة الى وزارة التربية !
تفعلين ما يطلب منك ، وقبل ان تحل نهاية العام الدراسي بثلاثة شهور ، تستلمين مبلغا كبيرا هو راتب خمسة شهور كاملة :
- من حقي الآن ان احتفل بهذا الفوز المبين !

(31)
جواز السفر لسامية يحتاج الى تبديل ، لم تراجع سفارة العراق في الكويت منذ فترة طويلة ، تخشى ان فعلت لتجديد الجواز يسألونها ما علاقتها بالفنانين العراقيين الكبار الذين اضطروا الى مغادرة الوطن والعيش في الكويت والمشاركة في الأنشطة الثقافية التي تسعى لتغيير سياسة نظام الحكم في العراق نحو الجيران والأصدقاء ، سامية ليست سياسية ، ولكنها تحب وتصادق الأدباء والفنانين الذين لهم مواقف واضحة ضد الدكتواتورية وسياسة تكميم الأفواه التي تنتهجها الحكومة ، لاياتي لمعارض سامية الفنية الا القليلون من اقطاب السفارة ، اصابها القلق واستبدت بها الحيرة ، ماذا ستفعل ؟ نصحها الجد :
- راجعي يا ابنتي سفارة بلدك ،
- اخاف ان يوجه لي اتهام لأن اصدقائي خليل العبيدي وسمير الركابي وغيرهما من مناوئي النظام ..
- انت فنانة معروفة بحبها لبلادها ، ولست سياسية ، فلن تجدي منهم موقفا معاديا لك ..
تقتنع سامية برأي ابيها الذي جرب الحياة وتذهب الى السفارة ، يجعلونها تنتظر فترة بدت لها طويلة وهي نهب المخاوف ، ثم يسمح لها بمقابلة القنصل :
- مرحبا بك ايتها الفنانة القديرة ،
- اريد ان اجدد جواز سفري !
- من حقك سيدتي ولكني عاتب عليك !
- لماذا ؟
- لأنك لم تحضري اي احتفال في المناسبات التي تقوم بها سفارة بلدك لتعريف العالم عن بلادك !
- انا ادافع عن وطني العراق بفني ولوحاتي التي اعرضها بالمعارض الفنية المتعددة ، فيعرف الناس ما يجري في البلاد !
- ولكن بعضا من أصدقائك يقفون موقف المعادي !
- لا أعرف احدا يعادي العراق !
- انصحيهم الا يكونوا ضد حكومة بلادهم ..
- لااملك هذه القدرة !
- ستكونين ضد بلدك ايضا ..
- كل رسوماتي توضح انني اعبر عن العراق !
- نعم سيدتي .
- وما الخطأ الذي ارتكبته ؟
- لم ترتكبي أاي خطأ ، أنت فنانة معروفة نكن لك احتراما كبيرا ، لم تقومي بزيارتنا الا لتجديد جوازك ، اصدقاؤك الفنانون في مختلف العالم لايحبوننا ، لا نسألك عنهم ، انت لاتحملين لنا العداء ، كم يمكنك ان تدفعي للمجهود الحربي ؟
- لتدفع سامية ما تجده مناسبا ، تستلم جوازا صالحا للسفر مدة ثماني سنوات تمدد فترة الصلاحية بعد اربع سنوات ...

(32)

تستمر بك الأيام ، وانت تعملين في ثانوية الأمل للبنات ، حيث الادارة الحكيمة ، والمدرسات الصديقات لك ، ان وجدن شيئا يسيء لك كشفنه أمامك بصدق ، كان الموجهون الفنيون يترددون على ثانويتك الحبيبة ، ويطلعون على مرسمك ، يعجبون بالقدرة التي تملكينها ، حين حولت الطالبات الذكيات المجتهدات في الدروس العلمية والأدبية الى محبات للفن ، حريصات على الاجادة بالتعبير الفني عن كل شيء ، كما يبرعن في التعبير الكتابي عن مشاعرهن وأفكارهن ، مرسمك اشتهر في دولة الكويت ، الموجهون الفنيون اخبروك :
- بودنا ان نخبرك ان مرسمك يعتبر من قبل نقاد الفن ومتابعيه من افضل المراسم ..
- على صعيد التعليم العام ام الخاص ؟
- على صعيد التعليم الخاص ، لكل من التعليمين نقاد ومريدون ومتلقون ...
تفرحين لما ينقله لك الموجهون من اخبار المدارس الخاصة في الكويت وكيف يحرص الأساتذة ان يكون طلابهم من اوائل الطلاب في حب الفن واالابداع فيه ، مديرتك تعاملك بتقدير واحترام ، طلبت منك ان تكوني المدرسة الأولى في مادة الرسم في ثانوية الأمل لما شهدته منك من حرص على التدريس وجودة في تمرين الطالبات وحثهن على الاجادة ، تقومين بالمعارض الشخصية ، وتعرض لوحاتك ويقبل عليها عشاق فن الرسم من الكويتين والعرب ، ولكن يحز في نفسك ان من يشتغل في سفارة بلدك قليل حضورهم الى المعارض التي تقيمينها ، وحين تكون المعارض مشتركة بينك وبين عدد من الفنانين من احدى الدول العربية او الاجنبية ، يكون حضور اعضاء السفارة ملفتا وكثيفا ، امضك هذا الأمر وان لم تبوحي به لأحد الا والدك :
- امر طبيعي ما تجدينه ابنتي ..
- لماذا يا ابي ؟ وانا فنانة معروفة ، افخر ببلدي العراق وادافع عنه بفني ؟
- انهم اكرموك يا ابنتي ، زاروا معارضك وان لم تكن ز ياراتهم كما تأملين..
تصمتين ، فانت تعرفين انهم لم يوجهوا لك انتقادا ، لأنك فنانة ولا تعبر رسوماتك عن رأيك مباشرة ، فان اصدقاءك من الأدباء والفنانين قد لايستطيعون ان يبتعدوا عن الصراحة كما تستطيعين انت ..
جواز سفرك انتهى مفعوله منذ فترة ، وتريدين أن تجدديه ، فأنت تحبين السفر ومشاهدة جمال العالم والتعرف على البلدان المختلفة ، تعرفت الى عدد من البلدان في كل القارات ، ولك اصدقاء عراقيون ، غادروا العراق الى مختلف البدان ، وأقاموا حيث وجدوا الراحة والاطمئنان ، أصدقاؤك معروفون بمواقفهم السياسية المعارضة لنظام الحكم في العراق ، وان كانوا يحملون قلوبا ملأى بحب الوطن ، حريصون على الدفاع عن كرامته وجماله، تخشين ان تذهبي الى السفارة ، ولا يجددون لك جواز السفر ، فقد اعدم شقيقاك ، والمسؤولون يعرفون ان شقيقيك اعدما وانت تحبينهما ، ولكن ماذا يمكنك ان تفعلي ؟ تقررين ان تئدي الخوف في داخلك وان تقمعي التردد ، تذهبين الى سفارة بلدك الحبيب :
- مرحبا بك ايتها الفنانة الكبيرة !
- شكرا لكم
- نحن نعتب عليك ..
- لماذا ؟
- أصدقاؤك يعادون العراق وانت لاتقومين بالدفاع عن وطنك ، نعرف انك مواطنة صالحة اضطرت لمغادرة البلاد ، يمكنك ان توصلي صوتك المدافع عن الوطن الى كل العالم......

تخرجين من السفارة حاملة جوازك الجديد ، وانت تتساءلين بصمت :
- كيف اكافح الظلم وأنتم تروجون للظالمين ؟


(33)
تبدع سامية في مهنة التعليم وتنجح في تدريب طالباتها على رسم البورتريهات المعبرة عن سمات الشخصية وهمومها ، كما تبرع في جعل طالباتها يتفوقن في رسم اللوحات الفنية التي تعبر عن افراح الانسان وأتراحه ، ورغم انها ليست في ارض الوطن ، الا انها دربت طالباتها على الأبداع في رسم بلاد ساحرة الجمال اسمها العراق ، يهواها الانسان ويتوق الى ربوعها ، اختارت مديرة ثانوية الأمل سامية لتكون المدرسة الأولى في مادة الر سم ، فاجادت الاستاذة الأولى في مهمتها الجديدة ، قالت لها المديرة:
- وصلتنا كتب رسمية من وزارة التربية تثني على مهارتك في جعل الطالبات يحببن مادة الرسم ويتفوقن على زميلاتهن في الثانويات الأخرى ..
- يسعدني تقييمكم استاذتي !
- وسوف تجري وزارة التربية مسابقة كبيرة للمدارس الثانوية في عموم البلاد في مادة الرسم والنحت ...
- سوف ادرب طالباتي لاجتياز هذه المسابقة بنجاح وتفوق
- هذا عهدنا بك !
تقوم سامية بالعمل المتواصل في اثناء الدروس الفنية وفي اوقات الفراغ التي ترتاح فيها المدرسات ، تقوم سامية بتدريب الطالبات اللاتي تجد عندهن محبة كبيرة وقدرة على الاجادة ، وتواصل تدريبهن ، حتى تأتي ساعة الاختبار التي تشعر فيها سامية بدقات قلبها تتزايد وقلقها يتضخم، تعود الطالبات فرحات وقد استطعن رسم ما طلبت منهن اللجنة المشرفة على الاختبار، والفرح يعلو وجههن ؛:
- كيف حالكن ؟
- كل الأسئلة اجبنا عنها !
- ممتاز جدا ، والنتيجة ؟
- ستصل الى ثانوية الأمل بعد ايام ..
تنتظر سامية اربعة ايام ، تجدها شديدة الطول ، تدخل عليها الاستاذة خديجة مديرة ثانوية الأمل والفرح باد عليها بوضوح:
- مبارك لنا ، ثانوية الأمل هي الثالثة على ثانويات الكويت بالمسابقة الفنية ...
- يا لفرحتي !
- كلنا فرحات ، سوف نقيم احتفالا كبيرا بهذه المناسبة السعيدة... ستقدم ادارة المدرسة هدايا ذهبيه للطالبات اللاتي احرزن التفوق ولاستاذتهن الرائعة التي هي انت ...

(34)

تجاحك يتواصل ، وفرحك يكبر، فرغم ان المدة التي مرت عليك في ثانوية الأمل قصيرة ، الا انك استطعت ان تحققي منجزات كبيرة في دنيا التربية والفن ، اصبحت طالباتك بفضل تدريباتك لهن ، يقبلن على مادة الرسم ويتفوقن فيها ، كنت تحثيهن على التفوق في كل الدروس ، كل المواد ضروري اجادتها ، والمهارة فيها ، ليس من المناسب ان يبرع الانسان في الفن ويبدع فيه ، وهو لايعلم شيئا عن آداب اللغات العربية والانجليزية والفرنسية ، التي يتم تعليمها في ثانوية الأمل النموذجية للبنات ، وليس جيدا ان تمهر االطالبة في التدريبات على الطبخ ويجب الآداب والفنون ، وهي جاهلة بمباديء العلوم ، ولا تعرف شيئا عن الرياضيات والفيزياء وعلوم الأحياء ، كنت ترددين كلامك المأثور والطالبات يؤمن بما تقولين :
- استفدن من الفرص المتاحة امامكن حبيباتي ، اقبلن على الرياضة واستفدن من الالات الرياضية الموجودة في قاعة الرياضة في ثانويتكم العزيزة .
- الرياضة تقوي البدن والروح استاذتي ..
- نعم عزيزتي سهام ، في مدرستكن قاعتان للرياضة ، احداهما صيفية ، فاذا ما اقل الشتاء وهبط المطر وتعذر اداء التمارين الرياضية في القاعة الصيفية ÷، اخذتكن استاذة الرياضة الى القاعة الشتوية ..
- هل يوجد مثل مدرستنا في العراق استاذتي ؟
- تعلمت انا في احدى الثانويات الممتازة في بغداد / كنا نتمتع بالمرسم وقاعتي الرياضة والمطبخ ، حيث تبرع الطالبة في تجهيز وجبات الطعام ، كانت مديرة مدرستنا تؤمن ان الانسان يجب ان يتعلم كل شيء ، وان تدبير المنزل والتسوق والطبخ ، يجب ان يدرب عليها الطلاب ايضا ، ولا يقتصر الامر على الطالبات ، فما دامت المرأة تنفق على المنزل وتساعد الرجل ، عليه ايضا ان يساعدها في مهمات البيت والأسرة ....
تواصلين حث الطالبات على التفوق في كل الميادين ، وان يساعدن امهاتهن في اعمال المنزل ، فقد تعبت الأمهات ،ومن الانصاف ان نمد لهن يد المساعدة ، تسألك احدى الطالبات :
- والآباء كيف نساعدهم ؟
- الآباء يفرحون حين يحرز ابناؤهم التفوق ، ويكتسبون الخلق الرفيع ولا يقولون الا الكلمة اللينة ، ومهما كان الاختلاف في وجهات النظر ، على كل امريء ان يكون لطيفا في عرض وجهة نظره ، حين يتخرج الطالب ويجد له العمل الذي يتناسب مع قدرته وميوله ـ ويكسب راتبه يمكن ان يمد يد المساعدة للأب وللأسرة ، فيساهم في تحسين الظروف الاقتصادية ... ان هناك مسابقة اعلنتها وزارة التربية لطالبات الفنون، في المدارس الثانوية
تخبرك مديرتك عن رغبة الوزارة في معرفة
مدى قدرة الطالبات على التعبير عن افراحهن واحزانهن في لوحات فنية :
- هل المسابقة لكل مدارس الكويت ؟
- انها لمدارس التعليم الخاص فقط ، هل بامكانك ان تجعلي ثانويتنا تفوز في هذه المسابقة ؟
- سأبذل كل جهودي من اجل الوصول الى الفوز..
تواصلين العمل ، تدربين طالباتك لاجادة فن الرسم ، تحثيهن على المهارة ، تقبل الطالبات على تدريباتك بفرح طاغ ، يتطلعن الى الفوز وان تحصل المدرسة على النتائج الجميلة ، في اليوم المحدد ، تذهبين مع طالباتك الى مكان المسابقة ، ومعهن اللوحات التي تجدين انها تعبر عن المعاني المطلوبة :
- كيف كانت اجاباتكن ؟
- اجبنا عن كل الأسئلة ، ورسمنا اللوحات التي طلبوها .
- والنتيجة متى تعلن ؟
- بعد أربعة أيام ..
تنتظرين على احر من الجمر ، تنتهي الأربعة أيام ، تأتيك مديرتك فرحة :
- مبارك لنا ولك ، مدرستنا حصلت على المركز الثالث.. جهزي طالباتك سوف نقيم احتفالا بالمناسبة السعيدة .. ستحضر لجنة من التعليم الخاص في وزارة التربية ، وسيتم تكريم كل من ساهم ان تعلو منزلة ثانويتنا ..


(35)
تسوء صحة والد سامية، اصدقاؤه لايتركونه وحيدا ، مرض الحنين يلازمه ، فقد الكثير من أحبته ولم يعد قادرا على ان يكون محروما من وجودهم بقربه ، تحمل اعدام ابيه الشيخ الكبير الطاعن في السن ، والذي لم يشفع له كبر سنه ان يغتاله الجناة بدم بارد ، ولكن الجد تفاقمت عليه الأوجاع حين غاب ولداه الاثنين دون عودة ، انتظر كثيرا ان يرجعا الى احضان أسرته المحبة وابيه الحنون وامه الرؤوم ، ولكن الانتظار الطويل لم يفلح في ايجاد حل للمعضلة الكبيرة التي تعاني منها الأسر العراقية نتيجة فقدان الأحبة ..
عادل وطالب شقيقا سامية غابا عن المنزل بعد اعدام جدهما ، وغاب العديد من شباب المنطقة التي يسكنون فيها ، عاد بعض الشباب المفقودين وقد شوه أجسادهم ووجوهم التعذيب القاسي الذي تلقوه ، وانتظر والد سامية ان يعود عادل وطالب الى منزلهما ، وطال الانتظار ، سمع بعد فترة ان طالب قد تم تنفيذ الاعدام بحقه ، ولم يستطع ان يستلم جثمانه ، وكان يأمل ان يعرف مصير عادل وماذا حصل له ؟ ولماذا طال غيابه وما هي الأسباب للغياب ، وكان الآبن الغائب معروفا بابتعاده عن السياسة وهمومها ، لكنه الانتقام من اسرة كبيرة عرفت باباء الضيم ومكافحة الظلم ، والنضال من اجل الحرية ...
تسمع سامية من بعض معارفها ان شقيقها عادل قد اعدم ايضا في نفس اللحظة التي تمت فيها تصفيه الشقيق طالب خشيت ان تخبر اباها بالنبأ الفاجع ، حرصا على صحته ، لكن والدها قد عرف من بعض أصدقائه بالخبر ، فجاء معاتبا سامية :
- كنت تعرفين ان شقيقك عادل قد اعدم ايضا ؟ ولم تخبريني....
- سمعت في وقت متأخر من مصادر ليست مؤكدة !
- ولداي الاثنين اعدما في نفس اللحظة !
- يا لقسوتهم ! ما افظع الظلم !
لاتكفي كل الكلمات ان تخفف من الألم الذي يعاني منه الجد ، اخذت حالته تسوء ، يشعر ببرودة شديدة ، يقف لساعات طويلة امام المدفأة في وقت الربيع ، والصقيع القاسي يطحن عظامه ، ولم يعد قادرا على تناول الطعام ، قال لنا طبيبه :
- ا ابو عادل مصاب بمرض فقدان الحنان !
- ما طبيعة هذا المرض ؟
- انه مرض قاسي يصيب من فقدوا احبتهم نتيجة الظلم ,,
- ماذا تعني ؟
- اننا شعب مؤمن بقدرة الله وان الموت حق ، ولكن ان يسلب الظالمون حيوات أحبابنا فنصاب بالعجز وعدم القدرة على الحياة ، لأن المصاب يعجز عن رؤية الجانب المضيء من الحياة ..
- وكيف يكون للحياة جانب مضيء ؟ والانسان محروم من الأحبة..
سامية يستبد بها الألم لحالة ابيها السيئة ، تحاول ان تخفف عنه اوجاع الشعور بالفقدان والحرمان من حنان الأحبة ، لكن محاولاتها العديدة تذهب عبثا ، فقد استوطنت الأحزان في قلب أبيها وعقله منذ زمن طويل ، منذ ان كان شابا ممتليء بالحيوية يدرك ان النضال يحقق الامال ويوصل الى الغايات ، ولكن النكبات الكثيرة قد ادمت قلب الجد ، وثلبت عزيمته ، وتركنه رجلا مثخن الجراح ، فقد الابناء والأحبة ....


(36)

أبوك الحنون الرؤوف ، والذي يغبطك معارفك على علاقته الجميلة بك ، فلم يسمعك غليظ القول طوال عمرك ، كان الناصح والصديق ، يناقشك حين يصعب عليك فهم امر من الأمور ، ويحاول افهامك ، ان اختلاف الرأي لايفسد الود ، المهم في علافاتنا الاجتماعية ، ان نقدر الآخر ونكن له الحب الذي يستحقه :
- علينا ان نحب الناس قبل ان نطالبهم بحبنا
- وكيف نحبهم ان لم يبادلونا العاطفة نفسها .
- الناس طيبون ، وهناك أسباب تضطرهم للظهور على النقيض من طبيعتهم المسالمة ، والميالة للهدوء .

تحبين أباك فهو قدوتك ، في صغرك كنت تقلديته ، وحين كبرت قليلا ، اتضح لك ان التقليد ليس مناسبا ، وانه من الأفضل للمرء ان يكون على طبيعته ، ويصقل تلك الطبيعة كي تكون اجمل ، احب ابوك افراد اسرته حبا ملك عليه نفسه ، لكن اعدام جدك الطاعن في السن ، بلا سبب سوى انه شجاع ويبدي رأيه بكل حدث بصراحة ، جاءت سيارات عديدة الى منزل جديك ، وقبل ان تكسر الباب قطعت اسلاك الهاتف ، كي لاينجح الجد بالاتصال بأحد :
- كيف تسول لك نفسك طعن ما نؤمن به ؟
- لم اطعن عقيدتكم ، انما بينت رأيي فيها ..
- ومن انت حتى تبدي رأيا مخالفا لما نرى ؟
- انا مواطن من اهل هذا البلد الجميل .
- اخرس ايها المخبول ، والا هشمت لك رأسك !
يهجم على جدك عدد من الأشاص ، ويقيدونه ، ويقيدون كل من كان في مجلس الشيخ الكبير ، يأخذون الجميع الى مكان مجهول .
أبوك لم يعلم بما جرى ، فقد كان في الكويت ، اتصل به صديقه ابو مصطفى :
- اخذوا اباك وابنك عادل ، وجميع الأشخاص الذين كانوا في مجلس أبيك .
- وأمي ؟ وأختي ؟
- امك هربها الجيران الى منازلهم ، واختك الكبيرة قيدوا زوجها واخذوه مع ابيك الى جهة مجهولة ، وحرص الجيران على ان يبعدوا شقيقتك عن أنظارهم ...
ابوك بقي حائرا ، لايعرف ماذا يفعل ..
- سوف اسافر الى العراق وأستفسر عن مصير ابي ، وأعرف ماذا حل به؟
- انتظر يا ابي ، أخشى ان يؤذوك ان وصلت اليهم ...
يسفر ابوك الى بغداد ، ويقابل بعض الأشخاص ، الذين يظن انهم ذوو نفوذ ، ويمكن ان يساهموا في اطلاق سراح جدك ..
يقول له أحدهم :
- عد الى تجاراتك وعملك ، سوف يطلقون سراح الوالد ، لن يؤذوه ، هو شيخ كبير يبلغ التسعين عاما ..
يعود ابوك الى الكويت ، لكن الحيرة لم تغادره ، بقي لايعرف كيف يتصرف :
- انه ابي ، كيف اكون عاجزا عن تقديم ما يفيده ؟
- ماذا بمقدورك ان تفعل يا أبي
يتابع ابوك الأخبار من اذاعات عديدة ، ويسمع ان حكم الاعدام قد صدر بأبيه الشيخ ، تتصل به السفارة :
- اسمع يا هذا ، قد نفذ خكم الاعدام بأبيك ، نمنعك ان تخبر احدا بهذا الأمر ، والا سوف نبيد اسرتك في بغداد !
- - تستوطن الحيرة عقل ابيك وفكره ، هل يستطيع الصمت ؟ وابوه قتل غدرا ؟ اهل يمكنه ان يتحدث معبرا عن ألمه ، واسرته في بغداد ، يصيبه حزن شديد ، لايستطيع الطب ان يخفف من قسوته ....


(37)
الجد عازف ماهر ، حين يحضن العود ويداعب اوتاره بحنان ، يستخرج منه أعذب الألحان واجملها ، في شبابه كان يهدي اصدفاءه مقطوعات قد الفها بنفسه ، او سمعها لكبار الفنانين الموسيقيين ، وأضاف اليها وبدل منها ، فتكون ألحانا تختلف عن تلك التي سمعها اختلافا كبيرا ، يثير اعجاب السامعين ، كان في المناسبات السعيدة يدعو اصدقاءه لحفلة في منزله في بعداد على شواطيء دجلة الحبيب ، ويحضن العود ، ليستخرج الدرر الثمينة ، بعد ان اضطر لمغادرة الوطن الحبيب ، قلت قدرة الجد على اقامة الحفلات الموسيقية ، فقد زادت همومه وتضخمت المتاعب التي تحول دون ابداع المرء في اي فن من الفنون ، حتى قراءاته المتعددة لأمهات الكتب قد قلت كثيرا عما كانت عليه ، ايام الشباب كان الوضع مختلفا عما آلت اليه الأوضاع في عهود الدكتاتورية ، وكثيرا ما كان الجد يردد عبارته الأثيرة :
- سلب منا كل ما لدينا ، وصار الضعف هوانا ...
في بغداد كانت حديقة منزل الجد عامرة بالأشجار المتكاثفة الأغصان ، تحيطها صفوف من الورود المتنوعة ذات الأريج الفتان ، والثيل يحيط حدبقته الغناء ـ فيضفي عليها جمالا أخاذا يسر الناظرين ، والآس الرائع ، الذي لامثيل له في كل مكان ، الآن تغير كل شيء ، وصار الجمال قبحا ، والمروءة تخاذلا ، والشجاعة تهورا ، ارغم الجد ابو عادل لترك محله التجاري في شارع الرشيد ، بعد ان حورب في رزقه ، مما جعله يخسر تجارته ، فاضطر على الذهاب الى الكويت بعد ان حوصر في بغداد ، وبدأ عمله في التجارة من جديد ، فكسب ثروة كبيرة ، ولكن الآلام التي تراكمت عليه منذ اعدام أبيه الشيخ الجليل ، جعلته عاجزا عن ان يكون في محله التجاري كل يوم ، ومنذ الصباح الباكر ، فترك كل شيء لشريكه في المحل ، مما تسبب في ضياع كل الثروة ، وحاول ان يستعيد نشاطه مرة اخرى ، لكن الأحزان التي احاطت به بعد اختفاء ولديه قد حالت دون قيامه باي عمل يدر عليه ربحا كبيرا ، فاكتفى بمحل صغير ، يبيع فيه ادوات كهربائية ـ ثم حول بيع الادوات الى منزله ولكنه لم يجد المشترين كما كان في الايام الماضيات .. اصبح ربحه قليلا لايفي بمتطلبات الحياة ،ولم يسأل ابنته ان تمد له يد العون ، وقد اخذت تحصل على دخل كبير من عملها في التدريس ، ومن اقامة المعارض التي تبيع فيها لوحاتها الفنية بأعلى الأسعار..


(38)

أيامك المترعة بالجمال ، تحيا معك اينما وليت وجهك ، في بغداد الحبيبة حيث المنزل الكبير على شواطيء دجلة الخالد ، لا يخلو منزلكم الراقي من الأصدقاء ، الذين يحلو لهم ان يشاركوا الوالد في سهراته ، يتبادلون الأحديث حول الكتب التي قرؤوها ، اي كتاب يصدر وفي كل مجالات المعرفة ، تجدين احد أصدقاء والدك وقد اطلع عليه ، وكتب عنه عرضا تحليليا ، يفيه حقه ، مكتبة الوالد جعلك تهيمنين عليها ، نصحك ان تنهلي من علومها وآدابها ، وان تكتبي بحثا عن كل كتاب تتمين قراءته ، كان ابوك يقول لك :
- كل كتاب تقرئينه ، اكتبي عنه ملخصا تذكرين فيه اسم الكاتب وعنوان الكتاب والموضوع الذي يدور حوله الكتاب ، وتاريخ قراءتك لذلك الكتاب ، ستجدين ان ثروة كبيرة من الكتب المقروءة قد حصلت عليها ، ويمكنك العودة لهذا السجل كلما احتجت الى معلومة كنت تعرفينها ، ولكن يد النسيان قد سبقتك في السطو عليها ...
نفذت نصيحة الوالد ، واخذت تسجلين عنوان الكتاب وتاريخ القراءة وملخصا حول موضوع الكتاب ، اصبح لك سجل ضخم من الكتب التي قمت بقراءتها ، وجدت ان هذا السجل قد حفظ معلوماتك و ابقى عليها ..
في منزلكم الكبير ، وفي حديقة غناء ، تتدلى فيها عناقيد العنب ، ويضوع الآس وتحن نخلاتكم الثلاث بحلو تمرها عليكم وعلى ضيوفكم ، كان ابوك من الكرم ، بحيث يغدق من ثمرات نخلاته رطبا شهيا لأصدقائه الطبيبين ، الذين كانوا يترددون على المنزل ، للاستمتاع بالألحان الجميلة التي يستخرجها الوالد من مداعبته الحانية للعود ، صديقه الوفي ، الذي لم يتركه ولم يتنكر لروعة الصداقة وحنانها ، فأثر الوالد العطوف ان يصحب العود معه في رحلته القاسية عن منابع الحب والجمال ، في موطن الآ باء والأجداد ...
حاولت ان تبدعي في العزف كما هو الوالد بارع فيه ، لكنك لم ترضي عن مستواك في صناعة الألحان رغم ان كل من سمعك ، قد أثنى على فنك الراقي ، وثقت بقدرتك الوحيدة في صناعة اللوحات الفنية ، والتعبير عن خلجات الروح ، بأسلوبك الفتان ..
تجدين ان صحة الوالد لم تعد كما كانت ، ابتسامته الكبيرة في مقابلة الصعاب ، كانت تعبر عن ثقته بالانتصار عليها وهزيمتها ، لكن اباك اليوم لم يعد بتلك الثقة الكبيرة ، لقد نالت من عزيمته المصائب الكثيرة التي مر بها ، كل الصخور التي وضعت للحيلولة بينه وبين المضي في طريقه المنشود / لم تفت في عضده ، بقي الوالد قويا واثقا كبيرا ، ضعفت قوته حين اعدم والده الشيخ ولم يستطع ان يفعل له شيئا ، بقي والدك يلوم نفسه :
- ماذا بامكانك ان تفعل يا والدي وهم عتاة مجرمون ؟ وابوك شيخ اعزل ؟
- كان يمكن ان أؤلب الرأي العام العالمي ..
- اي رأي عام يا ابي ÷، وهم يملكون الرأي وأصحابه !
تمضي الأيام بك ، متحولة من حال اليسر والجمال الى حال العسر والقبح ، فتزداد مصاعب الحياة عليك وانت ترين ان صحة ابيك تزداد سوءا ..






(39)
تواصل سامية العمل في مرسمها ، بالاضافة الى الدروس التي تعطيها لمن يهوى الرسم ويبغي الابداع فيه خارج المدرسة ، ولا تهمل طالباتها في ثانوية الأمل النموذجية اللاتي يرغبن في التفوق في مادة فن الرسم ، تقيم المعارض الشخصية والمشتركة مع فنانين كبار عرفتهم الساحة الفنية بالكويت ، واعجبت بلوحاتهم الجميلة ، كتيت عن اعمالها الفنية الصحافة ، واجريت معها اللقاءات الفنية لتسليط الضوء على سيرتها الشخصية والعوامل التي ساعدت في ابراز موهبتها الفنية ، وعملت على أن تكون واحدة من ابرز الفنانات في الرسم في العالم العربي ، وهذه الشهرة ، ساعدت ان تبرز سامية في مضمار الرسم في العالم ، دعيت الى اقامة المعارض الفنية في اوربا ، في لندن وصوفيا وموسكو وبرلين وبراغ ، والى العالم العربي في معارض دمشق والقاهرة والمغرب ، بالاضافة الى الأنشطة التي كانت تبدع فيها في مدينة الكويت ،وكانت حريصة على تلبية تلك الدعوات والدكتور خليل العبيدي حريص على متابعتها والسفر معها ، ليمد لها يد المؤازرة ويشهد معها المعارض الفنية ، ويكتب مشيدا بنتاجها الفني الى الصحف والمجلات ،
كنت احضر معها الى اغلب المعارض التي تحرص على اقامتها ، سامية تمنت كثيرا ان يحضر والدها معها الى بعض المعارض ، وان يصحبها في احدى سفراتها ، ولكن جدي كان يعتذر ، لأنه لايستطيع ان يبتعد عن ارض العراق التي يعشقها :
- انت الآن بعيد عن العراق !
- ليس بالبعد الكبير الذي اكون عليه حين اسافر الى اوربا او اي بلد عربي ..
- احضر معي في احدى السفرات .
- ليس بامكاني حبيبتي ، هنا في الكويت يأتي الي اصدقائي ويخبرونني بكل ما يحدث في الوطن ..
- كيف يخبرك أصدقاؤك القادمون من العراق عن ما يحدث هناك ، وهناك منع للسفر ، طال كل العراقيين ... تعال معنا يا ابت ، ففي كل دولة توجد منظمات عراقية تتابع أخبار الوطن وتحرص على نشر ما يحدث هناك من ظلم واعتداء على ارواح الناس وممتلكاتهم ، ليعرف العالم ، كيف يعيش أحبابنا في داخل البلاد ....
يعتذر الجد عن السفر معنا ، ونحترم قراره ، ونسافر وقلوبنا مع الرجل الحنون الذي أذاقته الدنيا اكبر الهموم وأصابت روحه بأقسى السهام ، لن تبق له هذه الدنيا من الأحباب سوى سامية ، وكانت اسرته كبيرة العدد ، وكثيرا ما كان يحلم :
- اسرتي كبيرة واولادي وبناتي سوف يكبرون ، ويشتغلون بأرقى الأعمال ، لكنهم سوف يسكنون معي ، سوف ابني لكل واحد منهم بيتا فيه كل ما تحب النفس ، وتتجاور تلك البيوت ولا تفترق !

احلام اليوتوبيا لم يستطع الجد التخلص من سطوتها رغم مرارة الحنظل الذي يشعر به بعد سلسلة من الهزائم والاحباطات ..


(40)
يعرفك الناس ويشاهدون اعمالك الفنية ، يعجبون باللوحات التي ترسمينها ، معبرة عن الحياة العراقية أجمل تعبير ، تقيمين المعارض الفنية الشخصية والمشتركة مع فنانين كبار ، في الكويت والبلدان العربية ، ومن بلدان العالم ، تجدين المتلقين يعجبون بالفن الرفيع ، يكتب عن أعمالك النقاد الفنيون والصحفيون ، أصدقاؤك لا يدعونك وحيدة في معترك الحياة ، بل تجدينهم معك ، يتابعون اعمالك وخاصة الصديق الوفي الدكتور خليل العبيدي ، الذي بقي معك في كل المعارض التي اقمتها ، اصدقاؤك الفنانون في اوربا يدعونك الى اقامة المعارض المشتركة معهم في بلدان اوربا المتعددة مثل براغ وصوفيا وموسكو وبرلين ، تلحين على ابيك كي يصحبك بالسفر ، لكنه يعتذر بعدم قدرته على الابتعاد عن ارض الوطن الطيبة ، حيث يزوره الأصدقاء القادمون من ارض العراق ، ويخبرونه بما حصل هناك ، وما هو موقف الشعب الذي عرفه ابوك بالنضال الدائب من اجل تحسين ظروف الحياة الى اجمل ، يخبرك ابوك والحزن باد عليه بوضوح :
- أشتاق الى بلدي الحبيب ايما اشتياق !
- بلدنا لايمكننا البعاد عنه كثيرا .
- كان الأصدقاء القادمون يخبرونني عن كل جديد ، وكأنني لم افارق الوطن !
- اليوم منع ابناء الوطن عن السفر ..
- طالت فترة المنع ، حتى الأصدقاء الذين كانت لهم اقامة في الكويت مسجلة على جوازاتهم ، لم يستطيعوا القدوم ..
- اشعر بألم الفراق وقد اشتد علي وقعه واستعر في قلبي
- كان الله بعوننا ابي العزيز ، لا سلوى لنا
- سلوانا في الأصدقاء الذين يشاركوننا الحياة هنا يا ابنتي ..
يشتد الحزن على ابيك ترين ظهره وقد انحنى ، وكان يمشي مستقيما ، يعجب الناظرون اليه من وسامته واحتفاظه بالشباب ، حين كتما تسيران معا ، وتراك احدى زميلاتك في المدرسة ، تتساءل :
- من هذا الشاب ا الوسيم لذي كان معك ؟
تسارعين الى اخبار ابيك برأي البنات بجماله ولطفه ... تتمنين ان يسافر معك ابوك الوسيم الى البلاد التي سوف تقيمين فيها معارضك الفنية ، وأنت واثقة انه لو كان يستطيع السفر ما تأخر عن تلبية دعوتك ، تخفين حزنك على الأب الذي ترينه يذوي وتذبل صحته ، وتسافرين الى اوربا الجميلة ، يذاع صيتك هناك ، ويعرف اسمك ، كاحدى الفنانات العراقيات المقيمات خارج الوطن ، والتي تحلم بوطن سعيد ، لاتحزنه الحروب العبثية ضد الجيران وان يبقى قويا مهابا ، تدركين ان احلامك سوف تتحقق بعزيمة ابناء الوطن وتصميمهم على الوصول الى الغايات الجميلة ..


(41)
تقوم سامية بالعطلة الصيفية الطويلة برحلة عمل وسياحة الى بلدان العالم المتقدمة ، حيث الاعتزاز بنضالات الانسان ، تدعى الى المشاركة في الاعمال الفنية في عدد من المعارض في اوربا ، تزور هنغاريا وبلغراد ومدريد / تنجح في اقامة المعارض المشتركة مع عدد من الفنانين العراقيين والعرب والعالميين ، وتصمم على المشاركة في كل المعارض التي تدعى اليها ...
بلغاريا الجميلة تكون المحطة الأخيرة في الرحلة الفنية التي قامت بها سامية ، تجد ان الجمال أخاذ في مدينة صوفيا وبقية المدن ، تستهوي الرحلة سامية الفنانة وتتوق الى وجود ابيها معها ، تحن الى عزفه الجميل والى حنانه الكبير ، الدكتور خليل العبيدي يكون دائم الحضور ، يحضران معا الأماسي الموسيقية ، ويشاهدان اجمل اللوحات في معارض الرسم والنحت ، وسامية لم تعمل الكثير من النصب ، التي يمكن عرضها في معارض صوفيا ، بل اكتفت باللوحات التي تمثل الطبيعة باجمل صورها والبوتريهات التي تتقنها سامية بشكل مثير للاعجاب ، وحين تستعد للعودة الى الكويت تذهب الى اسواق صوفيا وساحاتها وتشاهد ايات الجمال والسحر في الشوارع والمتنزهات وفي المتاحف ، اجد ان الدكتور خليل يحرص على ان يكون معها طوال الوقت ، فقط في الليالي يذهب الى غرفته في الفندق وابقى انا مع سامية الحبيبة والأم ...أسألها :
- الدكتور خليل يحبك كثيرا ..ز
- اعرف هذا ..
- ان طلبك للزواج هل توافقين ؟
- لقد طلبني حين كنت زميلة له في اكاديمية الفنون ولم أوافق ، وتزوجت من الشهيد نصير ؟
- وانت وحيدة الآن ... لماذا لاتوافقين وانت تعرفين انه عظيم الشمائل ؟
- انه رائع جدا ، لكنني لااحبه !
- ومن تحبين ؟
- شخص آخر !
- هل اعرفه انا ؟
- نعم !
- من هو ؟
- سوف اخبرك بالوقت المناسب ....
- قبل ان نتهيأ لمغادرة بلغاريا ، يدعونا الدكتور خليل العبيدي لحلفة راقصة على انغام الموسيقى الجميلة ، تستعد سامية للذهاب ، تبدو وكأنها حورية من الحوريات ، بدت لي رائعة الجمال ، الدكتور خليل ينظر اليها بهيام ، لست ادري كيف تتمكن من عدم الوقوع في حب هذا الرجل ، الذي يسمو بكل جميل من الصفات ، بقيت سامية وحيدة بعد ان استشهد زوجها نصير الذي اختارته من بين عشرات المعجبين بجمالها ورقتها وحبها للجمال ، ولكن الدكتو ر خليل لم يصب بالاحباط واليأس ، لعدم موافقة سامية على الارتباط به زوجا ، فهو يحبها ويقدرها ، ولا يجد امرأة اخرى قد يجد السعادة قربها ، بقي ينتظر وهو متفائل ان سامية سوف تدرك أخيرا ، انه ليس من المناسب ان تبقى وحيدة والدكتور يحبها كل الحب ..
الفصل الثالث

(42)

تقومين برحلة راحة واعتناء بالهوايات بالعطلة الصيفية ، تصلك العديد من الدعوات من أصدقاء عراقيين وعرب لاقامة المعارض المشتركة والشخصية في بلدان اوربا ، تسافرين الى اسبانيا اولا ثم تعرجين على فرنسا ، وتأتيك دعوة خاصة لزيارة بلغاريا و المجر وبلغراد ، تشتاقين الى وجود الوالد معك تشعرين ببعض الاثم ، ابوك متعب مريض ولم يستطع السفر معك ، ولم يمنعك مرضه من مواصلة السياحة في بلدان عديدة ، في اوربا ، والدك لم يتركك وحيدة طوال عمرك ، حتى حين لم تختاري الشخص المناسب كي يشاركك الحياة ، بقي ابوك يقف معك يساندك ، ويقدم لك النصيحة ، فكرت ان تطلبي الانفصال في بداية الزواج ، وقد بدا لك انك عرفت حقيقته :
- كيف تنفصلي منذ الآن ؟
- لماذا يا أبي ؟ أليس من حقي ؟
- من حقك طبعا ، ولكن ابنك الذي في بطنك ، ماذا يكون مصيره ؟ هل تحكمين عليه باليتم وقبل ان يخرج الى الحياة من يدريك ؟ لعل نصيرا يتغير للأفضل حين يصبح أبا ؟
تفكرين بينك وبين نفسك ، هل انت افضل الآن ؟ بلا زوج يحنو عليك ، ويضمك الى صدره ، بقيت ظامئة للحنان رغم طفولتك السعيدة ، رحم الله نصيرا ، لم تجدي معه الحب الذي كنت تتمنينه ، ذهبت الشهور العشرة معه وانت محرومة من الحقوق التي يمنحها الأزواج لزوجاتهم ، عانيت كثيرا ، وكنت تتساءلين ، ربما كان وضعك افضل ان بقي نصير الى جانبك .. كلماته كانت تصيب قلبك بسهام الكره ، لكنك بقيت مخلصة له في حياته القصيرة ، رغم انه كان يعلن امام الأصدقاء انه يخونك باستمرار ، لم تعرفي كيف تعاملينه بالمثل ، فقد نشأت في اسرة تحترم المرأة الفاضلة وتقدرها كما تستحق من تقدير ، تسمعين من بعض الصديقات انهن يقابلن خيانة الزوج بالمثل ، وتتساءل احداهن :
- ان خانني اخونه انا ايضا .. لماذا هذه المثالية ؟
تتعجبين لهذا الكلام ، كيف تقوم المرأة بالخيانة ؟ هل تتصرف ردا للفعل ، وهذا الذي تخون الزوج معه ؟ أليس من هذه الأرض حيث تحاسب المرأة على اي عمل بسيط ، كيف تكون الخيانة بلا حب ؟ تعرفين كثيرا من النساء يحببن ازواجهن وتخبو جذوة الحب لديهن ان عاملهن الزوج بعنف او اراد ان يحصل على الحب عنوة بلا موافقة واستجابة من الزوجة ؟ كيف يمكن لمن لاتحب رجلا معينا ان تقدم على فعل الحب معه لمجرد انها ترد عمل الخيانة بمثله ؟
لم تحبي احدا بعد رحيل زوجك ، تجدين نفسك وحيدة ، رغم ان العشرات من الأصدقاء يحترمونك ويقدرونك ، الدكتور خليل العبيدي احبك طوال معرفته بك ، صرح لك بحبه منذ ان كنت طالبة في اكاديمية الفنون الجميلة ، لم تبادليه الحب وانت تكنين له احتراما كبيرا وتقديرا عظيما ، بقي الدكتور الى جانبك ، يساعدك ويؤازرك ، وكرر لك تصريحه بالحب بعد استشهاد زوجك ونجاحك في الفن والتدريس ، كيف يكون الحب ان لم تحبي رجلا مثل الدكتور خليل العدبيدي ، غفرت كل ما جرى لك من زوجك ، ولكنك لم تستطيعي النسيان


(43)
القاعة تتلألأ بالجمال ، اطفئت الأنوار ، واشعلت الشموع ، وعزفت اجمل الألحان ، مرة نسمع الانغام الهادئة ، ومرة اخرى تكون الأصوات هادرة صاخبة ، تدعو الجميع الى الرقص السريع ، بدت سامية اجمل امرأة في قاعة الرقص ، تهفو الأنظار الى جمالها الفتان ، وأناقتها المدهشة ، طلبها الدكتور خليل للرقص مرات عديدة ، وأحاطها بذراعيه القويتين ، وتفاءل الأصدقاء الحاضرين للحفل بهذا الثنائي الجميل ، الذي لو ارتبط بعقد الزواج ، لكان اسعد حبيبين ، كان اصدقاء سامية والدكتور مشتركين ، ربطت بينهم علاقة الصداقة الجميلة ، منذ عهد الدراسة في الأكاديمية ، وكانت مجموعة الأصدقاء متجانسة بالاهتمامات والهوايات والأفكار النيرة التي تدعو الى النضال لتغيير العالم نحو الأفضل...
خفتت أصوات الموسيقى وعاد الراقصون الى اماكنهم ، ثم رأيت سامية تهمس لمجموعة العازفين ، تعلو على اثرها صوت الموسيقى الهادئة ، فوجئت حين وجدت سامية العزيزة ، تطلبني للرقص ، فلبيت النداء وانا اكاد أطير من الفرح ..
الموسيقى هامسة ، والراقصان يحضنان بعضهما بحنان ولطف ، يتمنى المرء ان يذوب بهذه الأذرع الملتفة حول العنق والخصر وكأنها الجنة فوق الأرض ، توقعت ان الجميع يحسدونني على العناق وعلى المحبة التي تعبر عنها العيون ، قلت لنفسي :
- يا لسعادتي مع حبيبتي الجميلة !
سكتت الأصوات وعدنا الى موقعنا ، ونظرت الى الدكتور ، فوجدت نظراته العاتبة ، اصابتني الحيرة ، ماذا يمكنني أن أقول له ؟ وانا ادرك شدة حبه لسامية ؟ انا الصغير برأيهم الذي شب لتوه عن الطفولة ، كيف يمكن لسامية الرائعة الجمال ان ترقص مع طفل ربته هي وكانت له اما ومربية ؟؟

(44)

الحفلة الراقصة التي تبدين فيها منيرة ، تتلألأ بالجمال الفتان ، ترنو النفوس الى النظر الى محياك اللطيف ، وقد أكسبه الشعور بالسعادة جمالا أخاذا يسبي الحاضرين ، نسيت ا لرجل الذي أذاقك حبك له الهوان ، ولم تلتفتي للرجل الذي اشعل دربك حبا وهياما ، وأنار طريقك ، و بقي يحلم انك تبادلينه المشاعر ، لم يطلب قوة العاطفة التي يحملها لك ، بل آمل ان تحترمي حبه وتقدري المشاعر الجميلة التي حملها في قلبه ووجدانه طوال هذه السنين ، كنت تعرفين ان الدكتور لايحب سواك ، وانه سوف يصبح في قمة السعادة ان احببته ، ولكن ما بالك ؟ أتخشين ممن يصرح لك بالحب ؟ هل تخافين ان يكون الدكتور شبيها بالذي رحل ، وأراك النجوم في عز الظهيرة ، انت الفنانة المرهفة الشعور ، هل تتوقعين ان يكون الرجال على شاكلة واحدة ؟ وهل يمكن ان يكون الغدار مثل الوفي ؟ انت تثقين بحب الدكتور خليل ، ولكن الخشية تلازمك ، هل الرجال كلهم سواء ؟ تدركين ان كل امريء يختلف على الآخر في الصفات ، ويتباين عنه في الشمائل والمزايا ، لكنك تأبين ان تعيدي المسيرة نفسها ، وان تكون حياتك مترعة بالهموم ، وان تشربي كأس التعاسة حتى ثمالتها ، طلبك الدكتور للرقص عددا من المرات هذه الليلة ، ساعداه يشعرانك بالحب العميق ، ونظراته تعبر لك عن دواخل نفسه المغردة بامرأة واحدة هي انت ، انه رجل النخوة والشجاعة ، وكل تصرفاته تعلن انه يعشق امرأة واحدة هي انت ، منذ كنتما طلابا انت في الاكاديمية وهو في الطب، وانت تدركين مدى حبه لك ، أتخشين من الحب ، تعرفين ان الدكتور يحبك انت ، ولكنك اخترت رجلا آخر ، هل العيب فيك ؟ لماذا تخشين من الرجل العاشق بصدق ، تبدين هذه الليلة نجمة ساطعة الجمال ، تهفو القلوب اليها ، وانت سوف تختارين رجلا آخر ، لايعرف احدا سواك ، لم تحبيه حب امرأة لرجل حياتها ، انما اردت ان تنتقي رجلا لم يعرف النساء ، انت تدركين ان سعادة المرأة تكون مع رجل جرب الحياة ، وبلا صروفها ، ولكن الخوف من مصير تعس يلازمك ، كلما فكرت ان تنقذي نفسك من الحفرة التي اوقعت نفسك فيها ، يستبد بك الخوف ان تلقي المصير نفسه ، الرجل الذي سوف تختارينه لن يكون قاسيا عليك ، فقد قدمت له ارتالا من الفضل ، وهو من اسرة طيبة ، تعرف كيف ترد الجميل بأضعاف أمثاله ان سلاك ، سوف لن يكون شديد العنف معك ولن يصرح بحبه لامرأة اخرى أمامك ، سوف يحترم شعورك ، ويقدر الأعمال الخيرة والنبيلة التي قدمتها له ، لن يكون ناكرا للجميل ....
اصوات الموسيقى تمنحك شعورا بالبهجة ، انت ملكة هذا الحفل ، لاتوجد نساء الليلة يتمتعن بجمالك الفريد وفتنتك الطاغية ، والشعور المرهف ، انت فنانة مبدعة ، وسوف تختارين رجلك ، كما تختار الفنانة سامية مواضيع لوحاتها ، رسوماتك ليس فيها انسان يرغم على عمل شيء لايرغب فيه ، سوف تخبرين الرجل الذي تختارينه انك تحبينه ، وهل يمكن لك ان تصرحي بالحب ؟ هل يمكن لامرأة عراقية ان تعترف بحب رجل لم يبدأها بالتصريح ، وانت التي تقدرين الناس والمجتمع ، ليث الحبيب انت ربيته ، مذ كان طفلا ، جتى الطغاة على طفولته ، وابادوا اسرته امام عينيه ، لم تشعريه يوما بالمن ، اعتنيت به وربيته كما لو كان ابنا لك ، لم يتسن لك العناية بجنينك ، فقتل رغما عنك ، وكنت تأملين ان تكوني اما ، ولكن الأيام ضحكت عليك ولم تحقق لك الأمنية التي حلمت بها ، عوضك الله عن الطفل الذي حرمت منه ، وجاء ليث ابنك الحبيب ، كنت ترين في عيونه حين ينظر اليك ، أيات الوجد والحب ، هو لم يصرح لك بحبه ، فقد كان يجلك لكن شعوره بالحب حاول ان يكتمه داخل قلبه ، فلم يستطع ، وجدت في نظراته سهام الحب توجهها عيناه نحوك ، انت امرأته وان لم يصرح لك بهذه الحقيقة ، انت واثقة انه لم يعرف امرأة غيرك ،:
- حبيبي ليث هذه الرقصة لك ...


(45)
يحدثني الدكتور عن هيامه وشدة حبه لسامية ، يتعجب كيف لمخلوقة ذكية مثلها الا تدرك انه الوحيد القادر على اسعادها ، أنصتُ له باهتمام ، فهو شخصية تنال احترام الناس وتقديرهم ، وسامية يحبها الكثيرون ، وانا منهم ، ارنو اليها وانا اقمع رغبتي بها واحلامي التي اسعى الى تحقيقها ، وانا احاول جاهدا الا تظهر على تصرفاتي ، سامية امي التي رعتني ، كيف يمكنني ان اتطلع الى الاقتران بها ؟ ماذا تظن بي ان اعترفت لها انني الحالم الدائم والهائم المستعر الرغبة ؟ اكبت رغبتي واحاول وأدها ... يا لتعاستي ! لم تظهر لي الا عطف الأم ورعايتها ، كيف انوي لها الشر في اطماع قلب ارغب في جعله يتوب عن الهوى ، احترم الدكتور خليل واقدره ، فهو الصديق الوفي ، يقف بجانب صديقته وقت الملمات ، ويدرآ الأحزان عنها ، وهل الحب مرض يصيب النفوس بالتعاسة ويقضي على اطمئنانها ؟ كتمت حبي في قلبي ، واظهرت العرفان وشدة التقدير لمخلوقة انقذتني من موت محقق .. وانا اصارع في نفسي رغبتين متنافرتين ، الأولى ان تلتفت الحبيبة سامية الى الرجل الذي احبها بصدق ونكران ذات كل هذه الفترة ، ولم يصبه اليأس ان تبادله الحبيبة حبه بشعور اكبر ، والرغبة الثانية ان تمكن من التصريح بحبي الكبير لسامية العزيزة ، وانا بنظرها ورأي المعارف والأصدقاء ابن لها قامت بتربيته ورعايته حتى شب عن الطفولة وصار رجلا ..

(46)

انت تعرفين ان الدكتور خليل يحبك ، لكن خشيتك ان حبه قد ينقلب وبالا عليك ان اقترنت به ـ تفسد عليك أيامك وتجعلك نهبا للمخاوف ، نصير انقلب حبه ، فهل الرجال سواء ؟ منذ زمن طويل وانت مطمئنة الى خليل ، واثقة من حقيقة مشاعره ، ومن صدقه واخلاصه ، لم تعتادي منه الكذب في كل المواقف ، لم يخن صديقا ولم يتنكر لأحد ، نصير ايضا كان وفيا مع اصدقائه الرجال ، في اقسى المواقف يجدونه معهم ، وحتى مع صديقاته اللاتي احبهن ، لم يتنكر لاحداهن ، لماذا كان مختلفا معك ، لماذا صرح نصير بحبه الزائف لك ، هل لأن أباك كان غنيا ذلك الوقت ، جاءك نصير وادعى انك الوحيدة التي تتربعين على عرش عواطفه ، وانه لايعرف امرأة سواك ، وان جميع من رأيتهن معه مجرد صديقات كن زميلات ايام الدراسة ، لماذا اخترت الكاذب المدعي ولم نرضي بالصادق الذي وثقت به منذ بداية معرفتكما ، تجعلك الحيرة مترددة ، لايمكنك ان تتخذي موقفا في أصعب امور الحياة ، والتي تستوجب التأني والتفكير جيدا ، قبل الاقدام على اي فعل عفوي وغير مدروس ، ليث لايمكن ان يخذلك ! انت التي قدمت له كل ما تستطيع امرأة ان تقدمه لرجل ! هل كنت تنظرين اليه كرجل وهو الطفل الذي فقد كل افراد أسرته ؟ هل ظننت يوما ان ليث الصغير قد يعوضك عن الرجل الذي فقدته ؟ لماذا تكذبين على نفسك ؟ ادعيت انك احببت نصيرا لمجرد انه صرح لك بحبه ، لماذا سارعت الى تصديق رجل لاتعرفينه جيدا ، والرجل المحب الصادق معك في كل المواقف التي تمرين بها، اليلة هذه يجب ان تحققي فيها سعادتك ، وان تختاري الرجل الذي تثقين انه لايمكن ان يخذلك ، وان يوجه لك سهام الغدر في يوم من الأيام ، ليث يحبك ، كنت ترين علامات الحب في عينيه اللتين يحاول ان يخفي ما يظهر فيهما من عواطف ، ليث ما زال صغيرا ـ بلغ سن الرجال قبل قليل ، ولم يتعرف بعد الى اي امرأة ، وهو يحبك انت ، سوف تنعشين الحب الذي يحاول ليث اخفاءه ، سنين قليلة تفصل بين عمريكما ، سوف لن تبالي ان انتقدك احد ، للفرق الواضح بين عمرك وعمر الصغير الذي ربيته ، ولكن الكثيرين سوف يؤيدونك ، أصدقاؤك يعرفون شدة معاناتك ، وسنين عمرك التي حرمت فيها ، الدكتور خليل سيقف بجانبك ، كعادته دائما ، متناسيا كل الجراحات التي سببتها له ، في هذه الليلة وحيت الموسيقى تصدح بأصواتها الجميلة ، يطلبك الصديق خليل العبيدي عددا من المرات ، ترقصان انواعا من الرقصات ، الهادئة والصاخبة ، حتى احتضانه لك أثناء الرقصات يعبر عن شدة حبه لك ، سوف تنسين كل ما يعبر عن حب الدكتور لك ، وتتذكرين امرا واحدا ان ليث لايمكن ان يسبب لك ما يطعن كرامتك ، تطلبينه للرقص ، فيلبي سعيدا طلبك ...

الفصل الرابع

(47)
أوشكت العطلة الصيفية على الرحيل ، وسامية تنهل من آيات الفن والجمال ، الموجودة في صوفيا ، قلت لها :
- ما زال الوقت مبكرا على العودة الى الكويت ، فالدوام يبدأ بعد أسبوعين ..
- اشتقت الى ابي ، والى مدرستي واجوائها الجميلة، كما انني بلهفة لرؤية طالباتي وكيف هي ابداعاتهن في مضمار الرسم ...
لم اجب وان كنت افضل البقاء فترة اخرى في بلغاريا ، ولكن حين تقرر سامية ، فانا مع قرارها اجد الجمال والمتعة .. تهيأنا لمغادرة البلاد ، اشترت سامية ما ترغب باهدائه لوالدها وأصدقائها ذكورا واناثا ، وحجزنا بطاقتي سفر على الخطوط الكويتية ..
نستقل الطائرة ،ننظر من النافذة حيث المشاهد الجميلة للأرض ، نرى بساطا من الخضرة والجمال ، نصل المطار ، ونتأهب ككل العائدين الى ارض الكويت ، يمضي الجميع مغادرين الى منازلهم ، ونبقى نحن ننتظر السماح لنا بالمغادرة ، اصابني التعب من الانتظار الطويل الذي فاجأني ، كما ألاحظ الاعياء باديا على محيا سامية ، وبعد ان خلت قاعة العائدين من الجميع ، وبقينا وحدنا ، سألت سامية :
- لماذا اخرتمونا هذه المرة ؟
- - انتم ضيوفنا الأعزاء نرحب بكم في بلادنا ، ونعلم انكم تعانون من قسوة الحياة ، و انتم تقفون موقف المناويء من حكومة بلادكم الحالية
-
- لكني احب بلادي !
- لا أدري ، انت فنانة كبيرة ، رسامة مشهورة ، وانا أتابع ما تعرضين من روائع الأعمال ..
- وهل وجدت في أعمالي ما يعادي بلادي ؟
- لم اجد طبعا ...
- ولماذا هذا الموقف ؟
- لأننا حريصون على ارضاء حكومتكم ، فانتم جيراننا ..
- وانا من ضيوفكم !
- اسمك ضمن اسماء العراقيين المطلوب منا التدقيق في حركاتهم ..
- والمعنى ؟
- سوف تخضعون للتأخير والاستجواب احيانا !
تصمت سامية ، يبدو عليها واضحا الشعور بالظلم الذي سارعت بالخروج من بلادها مسرعة لتلافيه ، خرجت وهي حامل في شهرها التاسع ، كي تنقذ نفسها من المصير الذي حصد روح زوجها ، لم تقل كلمة واحدة ، وخرجنا من المطار .....
(48)
تتهيئين للعودة الى الكويت ، اشتقت الى ابيك الحنون والى الصديقات والأصدقاء في البلد الذي أواك حين خرجت من بلادك الحبيبة مرغمة ، تودعين أصدقاءك في صوفيا الجميلة ، بعد ان خرجت الى الأسواق عددا من المرات ، يصحبك صديق العمر الدكتور خليل العبيدي ، كنت قد حددت موعد رجوعك مع الحبيب ليث في بطافتي السفر اللتين ابتعتهما في الكويت على الخطوط الكويتية ، تركبان الطائرة ، وتنظران الى المناظر الخلابة ، تبدو الأشجار ساحرة الجمال على البعد ، يشعر ليث ببعض التعب ، تنصحينه بالنوم داخل الطائرة ، وانت تفكرين في وضعك ، وفيما آلت اليه امورك ، انت قلقة والحيرة تستبد بك ، حققت نجاحا كبيرا في عملك ، واستطعت ان تحصلي على تقدير مديرتك في الثانوية النموذجية ، التي تعملين فيها ، وحصلت على عدد من كتب الشكر بعد تقييمات ممتازة كتبها لك الموجهون الفنيون الذين زاروا مرسمك واطلعوا على تفانيك في العمل وعلى اخلاصك ، تشعرين ببعض التعب ، تطلبين فنجانا من القهوة ، ترشفينها على صوت الحبيبة فيروز وهي تشدو بأغانيها الجميلة التي تحبين ، خيل لك ان الرحلة قد استطال امدها ، وانك بسبب القلق تجدين كل الاوقات ثقيلة ، الانتظار يصعب عليك ، تخرجين من حقيبتك اليدوية دفترا صغيرا ، تقومين بتسطير بعض العبارات التي فكرت بها وشعرت بعمقها وجديتها ، بعد طول انتظار تصل الطائرة الى مطار الكويت ، تسعدين بوصولكما الى البلد الذي احببته كثيرا ، وانت تتهيئين للخروج من المطار ، تتأخران في الخروج من المطار لأن جوازيكما لم يتم التأشير عليهما بسرعة ، اصابك الارهاق الشديد ، وتساءلت عن سبب التأخير وكان الجواب على قلق سؤالك :
- حكومتكم تقول انكم معادون لها
- لكني احب بلادي وان كنت لااحب نظام الحكم فيها .
- نحن نقدرك ونعتز بك ، فأنت فنانة كبيرة ، ويعرفك الكثيرون في العالم العربي والعالم...
تخرجين من المطار وانت تشعرين ان بعضا من الراحة قد عادت اليك ، تستقلان سيارة اجرة ، وتطلبين من السائق ان يوصلك الى المنزل ، لتسعدي برؤية الوالد الذي فارقته كثيرا ، ولم تكوني راغبة بفراقه ، ولو كان الفراق بسبب رحلة سياحية وطلب للراحة بعد عناء العمل ..ز
يساعدك ليث في حمل الحقائب التي كانت ثقيلة عليك ، فرحت بشبابه وقوته وانت تنشدين ان تحصلي على سعادتك المفقودة قربه ...


(49)
تبدأ الدراسة في ثانوية الأمل للبنات ، تجد سامية ان وكيلة المديرة قد رحلت الى الرفيق الأعلى فقد كانت مصابة بسرطان الثدي ، تأسف لهذا الرحيل ، فقد كانت الوكيلة الست آهات مثال الطيبة والحنان ، تحب الطالبات وتقف معهن ومع المدرسات في وقت الشدة ، وكثيرا ما استمعت الى القصص والحكايات التي ترويها سامية عن الحياة القاسية التي يعاني منها شعب العراق ، ترى سامية الدموع تنهمر من عيني الوكيلة تضامنا ومؤازرة من لم يستطع ان يقدم شيئا سوى الكلمة الطيبة ، تشعر سامية بألم الفقدان لصديقة عزيزة خسرتها دون وداع ، والذي زاد من أحزان سامية ان وزارة التربية قد جاءت بوكيلة أخرى للمديرة ، تختلف تمام الاختلاف عن الوكيلة الراحلة ، فقد كانت الست نور لاتحب المدرسات ولا الطالبات ، وتحقد على كل من يملك موهبة من المواهب ، هاجمت سامية بدون سبب ، كما وقفت مناوئة للشاعرة الست نضال ، و طالبت المدرسات ان يدفعن طالباتهن على التعبير عن اوجاع الحروب التي يعاني منها العراقيون ، وان يقفوا متضامنين مع النظام السائد في بلاد الرافدين ، لأنهم في حالة حرب مفروضة عليهم نيابة عن الأمة العربية ، لم تستطع سامية ان تبين خطل رأي الست نور ، التي كثيرا ما وقفت مهددة :
- من لم تنفذ ما أطلبه منها من مقالات وشعر وقصص ورسم ، وتجعل ابداعها في خدمة المعركة سوف اشكوها للسلطات !
تدرك سامية انها الوحيدة المقصودة بالتهديد ، لآنها عراقية قد تقدم شكوى ضدها الى سفارة بلدها ، اما المدرسات الأخريات فهن مواطنات عراقيات لايتدخلن في امور السياسة المتعبة والتي لاتعرف المنطق ، وبقية المدرسات عربيات من مصر او سوريا او من دولة فلسطين...
ومما ضخم من حالة الحزن التي تعانيها سامية ،ان اباها لم يعد يتمتع بالقدرة على الابتسامة والضحك ،كما كان في الأيام التي سبقت سفرها الى اوربا ، اشتد على والدها المرض وثقلت الحركة ، واصبح يعاني من صقيع لايمكن لكل مدافيء الدنيا ان تخفف من فسوته ..
وقد غادر الدكتور خليل العبيدي الكويت ، متوجها الى صوفيا التي احبها كثيرا ، ففقدت سامية رفيقا وصديقا عزيزا وقف بجانبها طوال رحلتها الفنية ، وآزرها بكل ما يستطيع ، لم تجد سامية من يستمع الى همومها ، فاكتفت بالرسم معبرا جميلا ، قد لايدرك رسالته الا القليلون ....
وقد حاولت ان اخفف مما تعانيه سامية من آلام الفقد والحرمان ، ولكني اجد نفسي عاجزا ، هل انصحها ان تصبر ؟ وقد عرفتها صبورة ؟ ام ارجوها ان ترحل الى مكان آخر تجد فيه اصدقاءها ؟ وانا اعرف شدة حبها لأبيها الذي جعله الشعور بفقدان الأحبة يفقد كل قدراته التي كان يتمتع بها ..أم اطلب منها الانتقال الى مدرسة أخرى ؟ وأنا اعلم ان سامية تحب ثانوية الأمل وعاشت مع ادارتها وطالباتها أسعد الأوقات ..


(50)

تعودين الى ثانوية الأمل التي تحبينها ، بكل همتك ونشاطك المعهودين ، هاتفت صديقتك نضال بعد رجوعك من السفر ، اخبرتك بما حصل في المدرسة من امور جديدة :
- المدرسة على حالها ، المديرة خديجة الطيبة كما تعهدينها قريبة منا ..
- والوكيلة الجديدة ؟
- عينت بدلا عن الراحلة الأستاذة آهات وكيلة جديدة ، سمعنا ان الوكيلة الجديدة تختلف تمام الاختلاف عن الراحلة الحنونة ...
- وكيف عرفت بالاختلاف ؟
- كانت الست نور وكيلة في احدى الثانويات ، وقد تغير مكان سكنها ، فطلبت ان تنتقل الى مدرسة قريبة من السكن ، وكانت تود ان تعمل في ثانوية الأمل ، وكان لها ما تمنت .... لكان المدرسات في مدرسة الست نور السابقة يخبرنني ان وكيلتكم الجديدة خشنة الطباع ، تتباين صفاتها عن الراحلة المرحومة الست آهات التي كنت تحبينها كثيرا ..
- كنت احب العزيزة آهات ، كثيرا ما استمعت لي وانا احدثها عن الحياة الصعبة التي يمر بها العراقيون ، كنت اجد عندها التضامن معنا والحنو علينا ، ومحاولة التخفيف عما نشعر به من هموم ..
- الانسان موقف ، رحم الله عزيزتنا الست آهات ، وعسى ان تكون الصفات التي عرفتها عن الست نور بعيدة عن الحقيقة !
- اتمنى ذلك ، فليس كل ما يقوله الناس صادق ودقيق ...
تدخيلن المدرسة كعادتك كل يوم ، قبل ان يدق الجرس بنصف ساعة ، تتهيئين فيها لبدء يوم دراسي جديد ، وحين يدق الجرس قبل خمس دقائق من بدء الدروس ، يقف الطلاب في صفوف منتظمة ، ثم يسيرون الى صفوفهم ، دخلت غرفة المدرسات ، ووجدت النور في غرفة الوكيلة مضاء ، فاسرعت لتحيتها :
- آه ، انت الست سامية ؟ لقد سمعت عنك ..ز
- ارجو ان تسمعي عني كل خير ..
- ليس دائما ، انت مثابرة ومجتهدة في حدود العمل فقط ، سوف اجتمع بالمدرسات هذا اليوم في وقت الاستراحة واتحدث معكن بكل صراحة ..
تشعرين ان قلبك اصبح مضغوطا عليه ، كأن قوة كبيرة لاتملكين لها دفعا تضغط عليك ، وتمنع عنك التنفس ، وحين تخرجين من غرفة الست الوكيلة تسلمين على صديقاتك المدرسات ، تعود اليك فرحتك ببدء يوم دراسي جديد ...
بعد عودتك من السفر صدمت بحالة ابيك ، عرفت انه قوي وصبور ، لكنك وجدته اليوم تعبا مرهقا يشكو قسوة البرد ويعاني من ألم الفقدان ، تحاولين التخفيف مما يعاني ، لكن اباك قد أصيب بلوعات الحياة وسهام الغدر ، فانهكت نفسه واتعب قلبه ، وتراجعت صحته ، بقي ابوك رغم مرضه القلب الحاني لك ، تستمدين منه شعورك انك قوية تتمتع بجمال الحياة ، قادرة على ان تساهم في التخفيف من البشاعة التي يحاول بعض الناس الصاقها بالأيام ..



(51)
تتضخم متاعب سامية ، وتكاد تفقد أعز الأمكنة التي كانت تفدم لها ما تتطلع الىه من تفهم ، اغلب الأصدقاء الذين كانت تجد راحتها بوقوفهم الى جانبها متضامنين ومؤازرين ، اخذوا يغادرون بلاد الكويت الى بلدان أخرى يحصلون فيها على الأمان المفقود ، فكل عراقي كان يراجع سفارة بلاده لتجديد الجواز ، او الحصول على تأييد لأي شهادة يطلبها ، كانوا يطلبون منه مبلغا خياليا لاقدرة لهم على القيام بدفعه ، وان علمت السفارة ان المراجع العراقي غير قادر على دفع الرسوم المالية التي يرهقونه بها ، كانوا يطرحون عليه السؤال الأزلي :
- لماذا لاتعود الى بلادك ؟
- احب بلادي وانا مرتبط بعمل هنا ، وسوف اعود الى وطني في الوقت المناسب .
- ومتى يكون الوقت مناسبا برأيك ؟ الآن يجب ان تعود .. اننا في حالة حرب ، وعليك واجب الدفاع عن وطنك !
ارغم الكثير من العراقيين العاملين في الكويت الى ترك أعمالهم والتوجه الى بلدهم ، والانخراط في الحياة العسكرية التي بدت مستبدة بالحياة كلها ، كل شيء في الوطن العراقي يخوض حربا طويلة شرسة ، لامنتصر فيها ، الجميع فيها مغلوبون !
سامية ليس معها رجل لتقدمه وقودا للمحرقة ! ابوها المريض قد جاوز السن التي يستطيع فيها ان يرتدي الملابس العسكرية ، وفي ثانوية الأمل الجميلة التي أحبتها سامية ، وأبدعت في تدريب الطالبات على رسم اجمل اللوحات الفنية ، هذه الثانوية استطالت فيها يدا الوكيلة نور ، التي اخذت تمعن في اضطهاد المدرسات اللاتي لايستجبن لأوامرها في التجسس وكتابة التقارير غن كل كلمة تقال ، ولو همسا ، وتفسيرها بما يسيء للقائلة !
حتى اللوحات الفنية التي كثيرا ما نالت استحسان كل من شاهدها لم تسلم من التفسير المتجني لمعانيها !
- انت معادية لوطنك ؟
- كيف ؟
- لوحتك التي عنوانها ( الجندي المجهول ) تهاجم قادة البلاد !
- ولكن النقاد الفنيين لم يفسروا لوحتي هذا التفسير !
- انهم مثلك ايضا ، ضد الحرب ، ولوحة ( القيد) تظهر العراق وكأنه في سجن كبير !
تصمت سامية ، لم تستطع ان تقول :
- حقا ! ألسنا في سجن مؤبد !
تعود سامية الى منزلها بعد انتهاء الدوام وهي مثقلة بالهموم ، تحدث نفسها :
- ابي سوف يمنحني الراحة ، حين يستمع الى همومي ، فأجدها وقد حفت وطأتها على نفسي !

(52)

لاتستمر سعادتك في الثانوية التي تحبينها كثيرا ، حققت فيها النجاح الذي تطمحين اليه، تصلين الى تدريب فنانات كبيرا ت يجدن الرسم ويبدعن فيه ، الطالبات يحترمنك ويتحدثن معك بمشاكلهن ، تتوصلين معهن الى الحل الذي يسعدهن ويرضيهن ، كانت الساعات التي تقضينها في الثانوية تحقق لك الرضا عن النفس والثقة بان الأيام يمكن ان تكون جميلة ان بذلنا الجهد لتحقيق ذلك الحلم ، كنت تتحدثين مع الوكيلة الراحلة بهمومك ، فتستمع اليك وتعرف ما عانيته مع الالاف من أبناء شعبك ، عرفت الراحلة انك تحملين قلبا رحيما بين ضلوعك ، رحلت الوكيلة التي تقدرينها وتجدينها صديقة لك قريبة من نفسك ، جاءت لكن وكيلة اخرى تختلف تمام الاختلاف عن الراحلة ، حزنت وكنت تدركين ان الحزن لن يجديك ، وانك لن تستطيعي مواصلة النجاح ان صار جو المدرسة مشحونا بالكراهية وتأليب احدى المدرسات ضد اختها ، لم تعتادي على الجو الذي خلفته السيدة نور ، فكرت في البداية ان تصمتي ولا تعلقي بشيء على الأحداث الجديدة التي جرت في المدرسة ، لم تعبري عن حبك للوكيلة الراحلة ، خشيت ان التعبير عن حبك قد يغضب الجديدة ، التي اخذت تهاجم القديمة بمناسبة وبغير مناسبة ، واصفة اياها بالتقصير ، وفسح المجال أمام المدرسات للحديث بأمور السياسة المحرمة في المدارس ، وقد هاجتمك الوكيلة الجديدة حين نسبت كل حالات التقصير للراحلة :
- الله يرحمها ، لم تكن تتصف بالشخصية التي تحمل الأخرين على احترامها وتقديرها ، وكيلة المدرسة ليست صديقة للطالبات ، وحتى بعض المدرسات يجب الا تسمح لهن بالهجوم على اوطانهن ، وجدت هنا في المدرسة عصابة من الناقمات على بلادهن الكارهات لها !!!!!
تعرفين ان الوكيلة الجديدة تقصدك انت ، ولكنك تسكتين ، المجادلة الان وامام المدرسات والطالبات لن تجدي ، عليك ان تكوني حكيمة وتتحلي بالصمت ..
فقدت الصدر الحاني والقلب المتعاطف برحيل انسانة وقفت بجانبك دائما ، صار الصمت صديقا لك ، كنت معروفة قبل رحيل الست آهات بأنك قليلة الكلام ، أصبحت بعد رحيلها لاتجيدين الحديث ، الا مع لوحاتك ، تبثينها همومك وتخبرينها بما جرى لك ، فتقوم الألوان بنقل ما حدثتها به من صدق المعاناة ولوعة المشاعر ، وحتى الموجهون الفنيون ، لم تقم الوكيلة الجديدة تحدثهم عن براعتك في فن الرسم وتفانيك في تدريب الطالبات ، كما كانت تفعل الراحلة العزيزة ، فقلت كتب الشكر الموجهة من وزارة التربية تحث المدرسات على مضاعفة جهودهن لجعل الطالبات يتقن الرسم ويقبلن على التدريب ليس في المدرسة فقط ، وانما في المنزل حين يجدن الوقت بعد مراجعة الدروس الأخرى واداء تمارينها ....
اصداقؤك الفنانون حين يراجعون السفارة لتجديد جوازاتهم او تمديدها ، تطلب منهم السفارة مبلغا كبيرا ، لايمكنهم دفعه ، وحين يعبرون عن عجزهم عن الدفع بسبب ضيق اليد ، يوجه لهم الاستفسار القاسي :
- ولماذا انتم هنا ؟ عودوا الى اوطانكم ، فهي بحاجة اليكم ، نحن في حالة حرب ، وعليكم الدفاع عن بلدانكم التي تدعون انكم تحبونها ...
لم يستطع الفنانون العودة الى العراق ، ولم يتمكنوا من البقاء بعيدين عنها ، فآثروا ا الرحيل الى مكان آخر ، لايطلب منهم احد نقودا ليسوا بقادرين على دفعها ، سافروا الى بلاد اخرى مضطرين ، آملين الا تطول غيبتهم عن الوطن الحبيب العراق ..
وانت لايمكنك ان ترحلي ، بقيت لك مدرستك التي تحبين وابوك الحنون ، ان مرض الآن فسوف يشقى قريبا ، تقررين ان تمكثي هنا ، لتسعدي مع طالباتك ولوحاتك وابيك ، تقررين ان تتحملي تلميحات الوكيلة الجديدة ، فلن يكون يمقدورها ان تحاربك كما كانوا يفعلون معك في العمل في بغداد


(53)
تعود سامية الى منزلها ، تجد أباها وقد اشتد عليه المرض ونقله الجيران الى المستشفى ، وقبل ان تتناول شيئا لتسد به الجوع ، تهرع الى المستشفى للاطمئنان على حالة والدها :
- ابوك يعاني من عدد من الأمراض ، فيه مرض القلب وثقب بين الاذين والبطين ، وعسر التنفس ، وشعور بالبرد لايمكن البرء منه الا بالعودة الى ديار الأحبة والأصدقاء ...
- وما العمل يا دكتور ؟
- عليكم اشعاره بالحب !
- وكيف نعيد له الأحبة الذين قضوا نحبهم ؟
- كان الله بعونكم ، انتم اهل العراق معرضون للظلم دوما !
- ماذا نفعل بشأن أبي ؟
- اجرينا له عملية تنفس صناعية ، وبقي التنفس عنده مضطربا ، ليبق عندنا اياما ، ليسترد بعض عافيته !
ترى سامية اباها ، تعانقه ، تجد ان ابتسامته الفريدة قد عادت مرتسمة على وجهه ، وان الغضون والتجاعيد التي حفرتها سنون الألم قد اختفت ، تفرح سامية ، ابوها قد عادت اليه الطمأنينة ، تخبره انها سوف تذهب الى المنزل لبعض الامور المستعجلة ، وتعود اليه بعد الظهر ، تبدو على الأب علامات التفهم ، هو يعلم ان سامية كثيرة الأعباء ، في المدرسة وفي البيت ، وهي ايضا من يقوم بالتسوق ، والمسؤولة عن ميزانية البيت بعد ان أصاب المرض قدرة ابيها في السير والتنقل بين الأسواق وشراء ما يحتاج المنزل من مواد ، لايمكن تأجيل الحصول عليها ..
بعد استراحة لمدة ساعة واحدة تعود سامية الى المستشفى ، تجد اباها وقد وضعوا له المغذي وجهاز التنفس ، ولكن العينين المتلألئتين بالفرح يبتسمان حين يريان الابنة الحبيبة ، وقد دخلت غرفة ابيها ..تأمل سامية ان يعود الأب الى المنزل الذي يضفي عليه البهجة والحبور ، تتحدث عن بعض الامور المفرحة ، وترى علائم البهجة على الوجه الحبيب ، تعد اباها انها ستعود الى عيادته غدا ويعد انتهاء الدوام في ثانوية الأمل، يتسلل الفرح الى نفسي التي أتعبها ان اجد أحبتي في حزن مستمر ....


(54)
تعبك مستمر ، تريدين اعادة الفرح الى نفسك التي أمضاها الحزن ، تسارعين بعد انتهاء دوامك في الثانوية الى الخروج لرؤية ابيك الذي اشتقت اليه ، لا أحد معك في هذا العالم ، تثقين بقلبه المحب وعطفه المتواصل ، وحرصه على اسعادك ، يتضاعف قلقلك وتشتد خشيتك حين لاتجدين الوالد الحنون في المنزل ، قبل ان تتضخم مخاوفك تأتيك الجارة :
- ابوك شعر بالتعب الشديد ، نقلناه الى المستشفى ، بقي ابني عماد معه ، فهو يحبه كثيرا ، لأبيك علينا أفضال كثيرة ..
قبل ان تتناولي لقمة لسد غضب الجوع ، تسارعين الى المستشفى :
- ابوك متعب بمرض خطير .ز
- مم يشكو والدي ؟
- من فقدان الحنان ، تعرض ابوك لمصاعب جمة افقدته الأشخاص الذين يحبهم !
- وكيف يمكن ان يستعيد صحته ؟
- انت ابنته ، التي بقيت له في هذه الحياة ، حاولي ان تضاعفي له الحنان ، هو مصاب بمرض البرد ، مهما دفأته ، فان البرد يضايقه ..
- ابي مرتبط بأسرته يحب اخوتي واخواتي كل الحب ، لكنه ارغم على فراقهم ، اعتدي على حيواتهم ، ولم يستطع ابي ان يفعل شيئا ، بقي يحاسب نفسه انه لم ينصح أبناءه بالايتعاد عمن يسبب الأذى قبل وقوعه !
- انتم تتعرضون للظلم بصورة لا قدرة للشعوب الأخرى بتحمله !
تبقين مع والدك فترة من الزمن ، ثم تسأذنينه للذهاب الى المنزل والعودة الى المستشفى بعد ساعتين ، تغادرين غرفة الوالد وقلبك يشعر بتوتر شديد وتقل ثقتك على قدرتك بتجاوز وضعك المؤلم لوحدك ، ابوك كانت له المساهمة الكبيرة في ابعاد الحزن عنك ، وجعلك تتغلبين على كل القوى السلبية التي يمكن لها ان تشعرك بالهزيمة ..
تحاولين اغماض عينيك وجلب الراحة الى نفسك المجهدة ، أفكارك المتلاطمة لاتجعلك تحققين ما تصبو اليه نفسك من راحة قليلة بعد عناء يوم كامل مع الأذى الذي تسببه السيدة نور في المدرسة ومع قلقك على صحة والدك .. تقومين من فراشك وانت عازمة على طرد الشعور بالتعب ، تقومين ببعض التمارين التي تساعد على الاسترخاء ، يعود الهدوء الى نفسك ، تذهبين لعيادة الوالد وانت مصممة على محاربة كل ما يأتي بالكآبة الى النفس ، يشاهدك ابوك وانت تدخلين غرفته ، ترين الابتسامة عريضة على محياه ، تتحدثان معا ببعض الأمور التي تجدينها قادرة على ان يحتفظ ابوك بابتسامته المشرقة ، وان يكون متفائلا ، انه قادر على التخفيف من جيوش القهر والمرض التي نجدها مقبلة على جسد الوالد وروحه وسلب القدرة على الفرح لديه ...
.

(55)

يخبر الطبيب سامية أن أباها قد تجاوز حالة الخطر ، وبامكانها ان تخرجه من المستشفى ،تتردد سامية في تنفيذ نصيحة الطبيب ، وتسعى الى ان يمكث ابوها حتى يتماثل للشفاء الكامل :
- لاوجود لشفاء كامل في حالة أبيك !
- ماذا تعني يا دكتور ؟
- ان وضع العراقيين اليوم شديد البؤس ، كل فرد منكم معرض لارتفاع الضغط والسكر وتصلب الشرايين وضيق التنفس !
- وماذا نفعل ؟
- بتغيير الأوضاع ووضع حد للحروب العبثية المشتعلة الطويلة !
- انتم تعلمون ان تحقيق امن الانسان ليس بقدرتنا !
- لن يتماثل ابوك للشفاء حتى يعود اليه أحبابه !
- هذه العودة مستحيلة ، اخوتي واخواتي وزوجي قد اغتيلت حيواتهم ! ولم نعد نراهم ونتمتع بحنانهم !
ترى سامية اباها وقد انتعشت نفسيته ، تطمئن لوضعه وتخرجه من المستشفى ، ذاهبة به الى المنزل ..
ونحن نتحدث في مختلف شؤون الحياة ، ينادي الأب على ولديه عادل وطالب ، يستبد الخوف بسامية ان يعود الأب الى خطورة حالته الصحية مرة أخرى ÷، يعلو نداء الأب :
- يا عادل ، يا طالب ، تعالا الى أبيكما ! أريد ان اراكما ! اشتقت اليكما ! والى ضمكما الى صدري ايها الحبيبان ! عودا الي بعض الوقت ، فقد اشتقت الى أمكما ....
سامية لاتعرف ماذا تفعل ؟ تطلب من الدموع ان تنهمر لتشعر بالراحة ، ولكن دموعها كعادتها كل مرة ، تأبى ان تنقاد للنداء !
تتذكر سامية امها وشقيقاتها اللاتي لاتعرف ماذا حل بهن ... هن ثلاث شقيقات ، ذهبن في زيارة لاحدى الصديقات ، واختفت الشقيقات والصديقة بطريقة غامضة ، لايعرف احد مصير الفتيات الأربع وماذا حل بهن ؟
يعود الأب الى استغاثته :
يا عادل يا طالب ، يا هدى يا نجوى يا شذى ، تعالوا جميعا الى أحضان أبيكما !
تؤلم سامية عيناها ، لاتريد ان تنزل الدموع من مآقيها ، فتسبب لصاحبتها ألما ممضا ، أتذكر ابي وامي وشقيقاتي ، كلهم غابوا في ليلة واحدة ، حين رغبوا في الاحتفال بعيد ميلادي حين بلغت الخامسة من العمر ، اذهب الى الجد ، عله يراني وحين اقترب منه :
- من انت ؟
- انا ليث !
- من هو ليث ؟
ينادي الأب سامية ويطلب منها ان تحضنه ، يقبلها :
- سأغادركم حبيبتي ! سوف ارحل بعيدا ، لكني سأشتاق اليك والى اخويك وشقيقاتك ، حين يتغير نظام الحكم في العراق ، ادفنوني قرب احبابي هناك



(56)
تعود الابتسامة الى ابيك المتعب ، تجدينه وقد عادت له اشراقته التي تحبين ، نصحك الطبيب ان تخرجيه من المستشفى ، وان يشعر معك ان حبك له لم يقل ، وان وجودك يعوضه عن فقده لأحبابه الاولاد وحبيباته البنات ،
- المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وابوك فقد زينة الحياة وجمالها حين خسر ما يملك من مال ، وفارق احبابه وماتت زوجته ، فرحته الأن مركزة عليك ، انت ابنته الوحيدة التي بقيت ، واسيه ، وخففي من آلامه، وحاولي ان ينسى بحديثك معه كل الأحداث المؤلنة التي مرت !
تمتثلين لنصائح الطبيب وتخرجين أباك من المستشفى ، عل الخروج يعيد اباك القوي الحنون ، وينسيكما أحزان ارواح ادماها طول الحرمان ،وأوجعها رحيل الاحبة بلا ذنب ، سوف تحاولين ان تذكريه بالماضي السعيد ، كنت الطفلة السعيدة المدللة ، التي تحرص دائما ان يصحبها أبوها معه في زيارة احد أصدقائه ، أم في الخروج للتنزه ام للتسوق ، كنت الصغيرة الذكية التي تحب ان تقلد الكبار ، بأسلوب يبعث الفرحة ويأتي بالسرور ، ابوك ليس لديك احد غيره ، كان المحب الصادق الذي يحنو عليك امام غوائل الزمن ، وبقي الصدر الحنون ، حين ادركت ان اختيارك لرفيق الحياة كان خطأ كبيرا ، وانه لم يناسبك ابدا ، فطباعكما متباينة ، وصفاتكما متناقضة ، كان نصير يسمعك الكلمة الجارحة ، تساءلت في البداية هل كان يقصد ايذاءك ؟ ام انه كان متعودا على قول الكلمة الخادشة بدون تفكير ، كلمات نصير الكثيرة كانت تجرح نفسك المرهفة ، وتدمي قلبك المحب ، وابوك الحنون كان يقف بجانبك ، محاولا ان يخفف عنك المعاناة :
- نصير انسان يملك الصفات الحسان ، انظري الى الجانب المضيء يا ابنتي ..
- احاول ذلك يا ابي ! لماذا اخترته ؟ أليس لأنني رأيت الجانب المنير ؟
ترتسم البسمة على محيا ابيك المتعب ، وتعود الفرحة اليك ، الفرحة علمك ابوك كيف يمكنك ان تصنعيها ، ينصحك بان تكوني ايجابية وان لا تدعي التشاؤم يستولي على نفسك :
- التفاؤل يحقق النجاح ، والتشاؤم يجلب الاخفاق !
انت ابنة ابيك البارة ، تقومين دائما بتنفيذ نصائحه الذهبية ، الليلة تجدين اباك في صفاء فارقه منذ زمن طويل ، نادى احبته ان يقتربوا منه :
- عادل يا حبيبي تعال الي ، اصحب معك شقيقك طالب ، انت ولدي الكبير ، قل لاخواتك ان يأتين الي ، انا أشتاق اليكم احبتي ، انتم احباب القلب يا اولادي وبناتي ، فارقتموني يا احباب ، فلم تستطع امكم الصبر على الم البعاد عنكم ، انتم احبابها ، انتم من جعلها تتحمل كل الآلام ، سوف تسعدون روحها ان اتيتم هذه الليلة !
يبتسم ابوك تلك الابتسامة العريضة التي تميزه :
- حان الآوان حبيبتي سامية ، انت من سوف يقوم بالمهمة التي لم استطع انجازها !
- كن واثقا يا ابي !
- سارحل يا ابنتي ، سألحق بامكم ، استفسري عن مصير اخواتك و شقيقيك ، ضعيني مع الأحباب في وطني !
..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا