الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناسق عند نزيه حسون -في صومعتي-

رائد الحواري

2019 / 2 / 1
الادب والفن


التناسق عند نزيه حسون
"في صومعتي"
كل واحد منا بحاجة إلى المكان خاص، مكان يجد فيه ذاته، بعيدا عن الملوثات التي تشوهنا، ففيه نجد ذاتنا الحرة والمتحررة من أية شوائب، لهذا نجد في مكاننا هذا أنقياء، نجد فيه كما نريد لذاتنا أن تكون، دون تدخلات أو تأثيرات من أيا كان، وللشعراء والأدباء عالمهم/مكانهم الخاص، فهم يجدون ذواتهم في أمكان بعينها، في أوقات محددة، وطقوس معينة، "نزيه حسون" من أولئك الشعراء الذي يحدثونا عن هذا المكان الخاص، لنرى كيف يتناول هذا المكان وتلك الخصوصية التي يُكونها الشاعر لمعبده:
"في تلكَ الصومعةِ الحُبْلى بالصوفيَّة والوَجْد المُطلق ينهمرُ الوحيُ علَيَّ كما الأمطار"
نجد أثر المكان من خلال ألفاظ الخصب والألفاظ الهادئة التي يستخدمها الشاعر: "الحبلى، بالصوفية، الوجد، المطلق، ينهمر، الوحي، الأمطار"، فنحن أمام حالة من النقاء والصفاء بحيث لا نجد أية كلمة أو حرف شاذ يعكر صفوة الشاعر في صومعته، ونجده أيضا من خلال تواصل المقطع الذي جاء من أطول المقطع في القصيدة، فهو بهذا التواصل يؤكد على أن عقله الباطن متوحد مع القصيدة، لهذا جاءت بهذا الشكل وهذه الألفاظ وهذا المعاني، ونجد الشاعر يستخدم حرف "في" ليؤكد دخوله/وجوده في مكانه الخاص، فهو يعطي هذا الوجود أهمية خاصة لهذا بدأ القصيدة "في تلك الصومعة".
لكن في حالة التعبد، حالة التأمل، الوقوف أمام المقدس، لابد أن يُحدث فيه شيء من الرهبة، فالتجلي أمام هذا الجمال/المقدس/النقي له أثر على الشاعر:
"ترتعشُ حنايا الرُّوحِ كقطرةِ طلّ ويُغردُ في محراب الرّوح "
جميع الألفاظ جاءت بيضاء: "حنايا، الروح، كقطرة، ويغرد، محراب" لكن هناك لفظ "ترتعش" فيه شيء من القسوة، لكنه يمثل حالة طبيعية عند المتعبد/المتأمل/المتفكر، وهو يتماثل تماما مع فعل القسوة الذي يواكب الجماع مع الحبيب، لهذا نقول عنه أنه حالة طبيعية وضرورية لتأكيد صفوة الشاعر مع حبيبه المكان/الصومعة، ونجد أثر حضوره/وجوده في المكان من خلال "في محراب الروح" ويمكننا الاستنتاج أن الشاعر ما زال مستمرا وحاضرا في المكان/الصومعة وهي حاضرة فيه، فهو والمكان في علاقة جدلية، يتأثر ويؤثر كلا منهما في الآخر.
يُوقفنا الشاعر عن لفظ "هزار" والذي جاء بسطر منفرد، وكأنه يمثل نقلة في القصيدة، فهل هناك حالة جديد أم أن الشاعر وضعها بلا سبب أو بلا معنى؟
"في غمرةِ وجْدٍ صوفيٍّ
أفترشُ العشبَ وسادةَ عِشقٍ
ونجومُ الليلِ دِثأر"
أيضا نجد تأكيد الشاعر على قدسية المكان/الصومعة من خلال حرف "في" والذي يعني التواجد المادي والروحي، فقد بدأ الشاعر في الحديث عن أثر المكان عليه بعد أن حدثنا عنه من (الخارج) فهنا دخل الشاعر "في" المكان تماما، وهذا الدخول جسدي وروحي في ذات الوقت، كما هو الحال الجماع مع الحبيبة، فيكادا أن يكونا الجسدين شيئا/جسدا واحدا، فهنا المكان والشاعر يتوحدا معا.
يقدم لنا تفاصيل تلك العلاقة من خلال: "افترش العشب وسادة عشق" اعتقد ان لفظ عشق "رغم أن له علاقة بالحالة الصوفية/الروحية إلا أن له ايضا علاقة جسدية، فدون الجسد/المكان لا يمكن للشاعر أن يقيم، يصل إلى ما وصل إليه من نشوة وصفاء، فهو هنا تحرر تماما من كل الشوائب حتى أنه أصبح نقيا ناصح البياض، وهذا ما نجده في ألفاظ "غمرة، وجد، صوفي، أفترش، العشب، وسادة، عشق، ونجوم الليل، دثار، نتوقف عند "نجوم الليل" لأن الليل لفظ أسود، ويعطي معنى أسود، لكن الشاعر عندما أقرنه بالنجوم اعتقد أنه أخفى ذلك السود تماما، وجعله سواده جميلا، وكما أن "نجوم الليل" تعطي فكرة الصفاء والهدوء للطبيعة، وتعطينا فكرة عن الوقت، من هناك نجد جمالية "الليل" وليس سواده.
تحدثنا عن علاقة الشاعر بالمكان التي تتماثل مع علاقته بالأنثى، فهل كان ذلك منطقيا، ويتكأ على متن القصيدة؟
"تتعرى أنثى الصمتِ غداةَ البدرُ يوشحني
وتبوحُ بكلِ مفاتنها
وأبوحُ بكلِّ الأسرار"
اعتقد أن استخدام الشاعر للفظ "أنثى" يشير إلى أنه يميل إليها، لهذا نجدها حاضرة في القصيدة، ورغم أنها جاءت بأثر من المكان/الصومعة إلا أن حضورها يبقى مؤشرا على ميل الشاعر إليها.
في هذا المقطع أيضا نجد الشاعر يجمع بين السواد والجمال، وهذا الجمع يخدم فكرة الجمال أيضا، ويعطي لسمة خاصة له، من هنا نجده يستخدم "تتعرى" لكن إذا ما أخذنا بقية الصورة وجمعناها معا، نكون أمام صورة فائقة الجمال، لا يمكننا إلا أن نتوقف عندها، فالعلاقة بدأت جسدية "تتعرى" لكنها اخذت طابع الجمال وأثره النفسي من خلال "تبوح بكل مفاتنها"، ثم يأتي بوح اسرار الشاعر مقابل بوح مفاتنها، فهنا أيضا نجد علاقة تماهي وتوحد مع الحبية، وكل هذا ناتج من أثر المكان عليهما، فالمكان هو المُحدث والخالق لكل هذا الجمال ولهذه المشاهد والصور.
يقدمنا الشاعر من المكان/من صومعته من جديد فيقول:

"في صومعتي تجري أنهار الجنّةِ صافيةً...يتوسدُ قوس القزح فراشي....وتضاجع روحي عشتار" إذا ما توقفنا عند شكل هذا البيت وعند فاتحة القصيدة نجده أطول قليلا من تلك الفاتحة، فلماذا حدث هذا؟، وما هي الأسباب؟ اعتقد ان الشاعر عندما قال في الفاتحة: "في تلكَ الصومعةِ" كانت هناك مسافة تفصله عن المكان/الصومعة من خلال "تلك" فهي لم تكن قريبة منه، لهذا استخدم حرف الاشارة "تلك" بينما هنا استخدم في صومعتي، ولم يقل في تلك الصومعة، ففي الحالة الأولى كانت بعيده عنه، رغم العلاقة الحميمة التي تجمعه بها، لكنه هنا متواجد/كائن/حاضر فيها، لهذا أظهر لنا هذا الفرح بالمكان وأثره عليه من خلال جعل المقطع هو الأطول في القصيدة، كما أنه استخدم حالة الفرح المطلق، الفرح الجسدي والجمال والروحي، فهو في الجنة، من هنا وصفها: "تجري أنهار، الجنة الصافية، يتوسد قوس قزح فراشي، وتضاج روحي عشتار" وهنا نتوقف لماذا لم يقل الشاعر "الحور العين" واستبدله بعشتار، اعتقد أنه أراد بذلك اعطاء بعدا اسطوريا لحدث، فقد استخدم في المقطع الأول الأثر الديني من خلال "ينهمر الوحي" لهذا أراد ان يكون ما هو جديد في الجنة، فلجأ إلى "عشتار".
واسافرُ في أرجاء الدُّنيا دون دليلٍ.... "
فالنجمُ دليلي والليل قطار"
اعتقد أن هذا المقطع اضعف ما جاء في القصيدة، لأنه أخرجنا من الجنة إلى عالم الأرض/طبيعية، كما أنه جاء بعد أن أوصلنا الشاعر إلى الذروة من خلال الحنة وما فيها، ولأنه يحمل شيء من التيه، دون دليل، فالنجم دليلي" من هنا، هل يمكننا القول: أن الشاعر (استنزفه) المكان/الصومعة روحيا ونفسيا، بحيث قدم كل ما يريده فيما سبق؟ ولم يعد هناك ما يتحدث به؟
"في صومعتي تسرفني زخاتُ المطر المبتلةِ صوبَ الله
بدونِ قَرار"
اعتقد أن المكان/الصومعة، فعلا استنزفت الشاعر، لهذا نجده يتحدث عن عالم أرضي، وليس عالم سماوي، فأثر المكان أخذ في التراجع، مبتعدا عن الحالة الصوفية والجمالية التي رسمها لنا في الفاتحة.
"تأتيني الوحدةُ عاريةً
في الوحدةِ أدرك ذاتي"
وهنا أيضا بدأ الشاعر يفتقد الانثى البهية التي توحد معها كما توحد مع المكان، فيحدثنا عن حالة "عري" شبة مجردة، لا تتعلق بالأنثى وما تحمله من مفهوم (جسدي روحي)، كما ان الشاعر (يسهب) في الشرح من خلال "في الوحدةِ أدرك ذاتي" على النقيض من جمالية تلك الومضات التي استخدمها في السابق.
"هل تُنكرُ مجراها الأنهار"
الشاعر يعود إلى ذاته المتأملة في الطبيعة من هنا جاء طرح السؤال، ولهذا يتقدم من جديد إلى المكان/الصومعة، ليستمد منه ما فقده في المقاطع السابقة، يقول:
"في صومعتي حتّى الوردة حتى النجمة حتى الشمعة
تسكبُ في الليل الأشعار"
يستوقفنا هذا المقطع لأنه جاء غير متواصل كما هو الحال في الفاتحة والوسط، وهذا يعود إلى أن الشاعر أخذ كفايته منهما، من هنا لم يعد بنفس الحاجة للمكان/للصومعة كما كان في البداية، فقد حصل على ما يقويه ويستطيع أن يتغذى به في مسيرته، بهذا نعلل سبب وجود القطع في (البيت) وعدم تواصله، لكننا نجد أثر المكان/الصومعة كما جاء في الفاتحة والمنتصف، فهناك عالم صافي بهي جعل الشاعر يتجلى بأداة الشاعر "القصيدة" التي يعشقها.
يختم الشاعر القصيدة يهذا المقطع:
" في صومعتي حين المطر يُوَشِحُها تورقُ باللوز وبالنرجس حتّى الأحجار"
إذن الاستثناء في استخدام "في صومعتي" جاء فقد في المقطع الذي سبق الخاتمة، فهنا نجد التواصل كما كان عليه الحال في الفاتحة والمنتصف، وهذا يعود إلى أن الشاعر يودع المكان، فهو ينهي علاقته به بعد ان اكمل قصيدته، لهذا بدا لنا هذا الوداع حميميا كما كانت في اللقاء الأول، واعتقد ان الخاتمة البياض والطبيعية جاءت كغذاء للشاعر يستمد منه طاقة تقويه على العودة إلى الواقع، لهذا استحضر الجمال الطبيعي الأرضي، وكأنه أراده ان يكون هو الذي يراه/يجده بعد أن يعود من المكان/الصومعة.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض