الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصر الاستهلاك االكبير

فارس إيغو

2019 / 2 / 3
العولمة وتطورات العالم المعاصر


هناك ارتباط بين تسليع العالم وعصر الاستهلإك المفرط أو المنفلت، ولكي يتحول الاستهلإك لإدمان، والمستهلك لمدمن ـ بمعنى أن الاشباع والارتياح لا يتحقق إلا بالزيادة التدريجية في الكم لجرعة الاستهلاك ـ يلزم تحقق عمليتين منفصلتين هما:
1) الحملات الاعلانية الكبرى، أو الضخ الإعلامي باستعمال كل الوسائل المتاحة، حتى يصل الانسان الى حالة العوز المرضي للاستهلاك؛
2) ليدخل الانسان في حالة الإدمان الاستهلاكي، كان لا بد من محاولة تسليع كل القيم التقليدية، وفي حال لا يمكن ذلك، إخضاعها للتفكيك، لماذا؟ لأنه طالما كان هناك حياة داخلية غنية وممتلئة (روحانيات، أخلاقيات، تقاليد)، فإنه لن يكون الإنسان مستعداً للدخول في حمى الإستهلاك في المعابد الجديدة المشيدة لآلهة السلعة والتسلع، فكلما تآكلت هذه القيم والتراثات، كلما زادت حُمى الإستهلاك تعويضاً عن الخواء المعنوي والروحي والفكري.
وهكذا حدث اللقاء الكبير بين الرأسمالي (وهو كان تقليدياً الى اليمين من الحلبة السياسية) وتيار اليسار التقدمي الفوضوي والإباحي في زمن التنافس الرأسمالي المحموم والتسابق الهيستيري على الأسواق؛ أو بلغة أخرى، التقت أخيراً الليبرالية الاقتصادية والليبرالية الثقافية بعد افتراق دام طويلاً، فالأحزاب اليمينية في المجتمعات الديموقراطية الحديثة كانت تدافع عن الاقتصاد الليبرالي الحر وتكبح أو تعطل أو تترك لليسار التكفل بالتغييرات الليبرالية الثقافية مثل: تشريع الإجهاض، الزواج للمثليين، الإباحية الجنسية ومسابح العراة، الموت الرحيم إلخ إلخ.
والنقلة النوعية التي حدثت منذ ثورة أيار الطلابية 1968 في الغرب، التي استطاع النظام الرأسمالي تصريفها نحو مزيد من تسليع المجتمعات وذلك بالإنتقال من التسليع المادي نحو تسليع كل شيئ، القيم والعادات والاعياد الدينية والرموز، الى درجة التسليع المطلق ومنطق السوق المطلقة، أو منطق السوق الكونية السلعية، التي وصفها طيب تيزني بأنها النظام الذي يسعى "الى إبتلاع الأشياء والناس، من أجل تمثلهم وهضمهم، ومن ثم تقيؤهم سلعاً" (حوار مع المفكر السوري طيب تيزني أجرته ندى الأزهري، الحياة، 29 أيار 2000).
وهنا يحدث التنافر ما بين منطق "النقل" (نقل المعارف والتجارب المفيدة) بين الأجيال للتراثات والخبرات السابقة، والذي هو بالجوهر مقدود بإحترام التقاليد النافعة للبشرية، ومنطق التدمير المستمر والتجديد والإبتكار الدائم للرأسمالية والذي أشار له عالم الاقتصاد والعلوم السياسية الأمريكي من أصل نمساوي جوزيف شومبيتر (1883 ـ 1950) صاحب نظرية الفوضى الخلاقة في الاقتصاد، وخصوصاً في عصرها الإستهلاكي المحموم والمعولم، والذي يعتمد على إيقاظ الرغبات والمتع اللعبية.
وهو ما أشار إليه كارل ماركس، المحلل الجينيالوجي الكبير للرأسمالية ـ والذي ما زال تحليله الرصين للرأسمالية في عصره مفيداً ـ حيث يعبر صاحب الرأسمال عن أن الرأسمالية في الواقع، هي الثورة الدائمة في إطار النزعة الفيتيشية (أي التقديس الاعمى، تصنيم السلعة) للسلعة وهو ما يؤدي الى تشيؤ كل العلاقات الاجتماعية.
في الخمسينيات من القرن الفارط، كان الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر يردد عبارته الشهيرة التي أصبحت محفورة في تاريخ الفكر والفلسفة: "الماركسية هي الأفق الذي لا يمكن تجاوزه في عصرنا".
وفي محاكاة ساخرة لعبارة صاحب "الوجود والعدم"، يمكننا القول: إن السوق (كمكثف للمال والاستهلاك ومنطق "السوقية") هو الأفق الذي علينا تجاوزه لإنقاذ حرية الإنسان ووجوده في عصر التشبيح الاقتصادي للعولمة المنتصرة " سوقياً ".
إن الدرس الذي يمكن استخلاصه من الأزمة المالية الأخيرة عام 2008، هو ضرورة طرح إشكالية الخروج التدريجي، أو فك الارتباط المتدرج عن نسق النظام الرأسمالي الذي أصبح خطراً على حرية الإنسان ووجوده، وهو الأمر الذي يتجلى عينياً بمبادرات على المستوى المحلي للتعاضد الاجتماعي ومعارضة كل أشكال القسر للوقوع في شرك المجتمع الاستهلاكي ومعابده " السوقية " التي يحتفل فيها بالأطعمة السيئة، وباستهلإك بضائع لا يحتاج لها الناس، وإنما هي للإستهلاك من أجل الإستهلاك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر