الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرأة واداة التغير في رواية -طيور الرغبة- محمد الحجيري

رائد الحواري

2019 / 2 / 4
الادب والفن


المرأة واداة التغير في رواية
"طيور الرغبة"
محمد الحجيري
العناصر التي يلجأ إليها الإنسان وقت الضيق المرأة والتمرد/الثورة، اضافة إلى الكتابة/القراءة والطبيعة، "ريغو" سارد أحداث الرواية يحدثنا عن فقدانه نصف عناصر التخفيف وهما "المرأة والثورة" ويبقى الكتابة أداة يعبر فيها عما يثقل كاهله، قبل الدخول إلى تفاصيل الرواية ننوه إلى أن المرأة عند غالبية الأدباء هي العنصر الأهم من عناصر التهدئة والتخفيف، وهي التي يلجأ إليها وقت الضيق، وهي من يفتح الأبواب أمام العناصر الأخرى "الكتابة، التمرد، الطبيعة" لتكون ذات أثر فيهم، لكن "ريغو" يجد العهر في المرأة، كما هو الحال في السياسية، لهذا هو فقد العنصر الأهم، وهذا ما انعكس على أحداث الرواية، فكانت غارقة في السواد وقاتمة، فكل النساء ـ إذا ما استثنينا أم "ريغو" ابن خاطر محمد الدلباني" كن فاسقات ومنحلات وعاهرات، وهذا الأمر نجده أيضا في كل التنظيمات والأحزاب التي ذكرت في الرواية، فلا نجد أية تنظيم أو شخص حزبي نقي، فبمجملهم كانوا سياسيين يبحثون عن مصالحهم، وكانوا يتماثلون مع النساء في عهرهم وفسادهم، ونجده يتفق مع العديد من الأدباء في تقديم الأب الذي يتماثل مع النظام الرسمي العربي، لهذا نجد صورته سلبية، كحال المرأة واداة التغيير "الاحزاب والتنظيمات"، لهذا يلجأ "ريغو" إلى الكتابة كأداة يعبر فيها عما يحمله من مشاعر تجاه الواقع والحياة.
الكتابة
أن يفتتح السارد أحداث الرواية بحديثه عن الكتابة يشير إلى مكانتها الرفيعة، فهي أصبحت اداة التعبير والتخفيف والتغيير بالنسبة له،" رصاصات قليلة كانت كافية لأنسف الرواية التي بدأت بكتابتها منذ سنوات، ... وما كتبته أصبح مثل جثة متحللة كحياتي نفسها، صرت أمام سلسلة من انكسارات واحتلالات لا اقدر على تخطيها أو هزيمتها الرواية ليست جثة لكن الكلمات والعبارات تتحلل، والمعاني تقتل بالحبر أيضا، اكتشفت في لحظة أن ما أكتبه غير قابل للحياة" ص6، إذن الرواية هي الادة التي لجأ إليها "ريغو" ليعبر بها ويفرغ ما فيه، لكنه يجد روايته تتحلل كجثة، فقدانه للمرأة واكتشافه قذارة الأحزاب والتنظيمات جعلت رويته غارقة في القتامة.
الكتابة وسيلة إنسانية نستخدمها لنكون أكثر إنسانية، أو لنستمر في حفاظنا على هذا الصفة في ظروف غير طبيعية، الحرب/الفساد، وأحيانا نكتب لأنفسنا، وهنا تكون الكتابة عامل تفريغ أكثر من دورها الاجتماعي أو دورها في التغيير، " مات روايتي قبل أن تولد، وأنا أفكر في قول خورخي لويس بروخيس إن مشكلة الكتاب الشباب أنهم يفكرون وهم يكتبون في النجاح والفشل، في حين لم يفكر بورخيس في بداياته إلا بالكتابة لنفسه، في البداية كنت أكتب لنفسي ولكن منذ أن تحولت الكتابة مهنة أصبت بمائة وسواس" ص7، فالكتابة عندما تكون للذات فقط، تكون أداة للمتعة والتفريغ، لكن عندما تكون أداة للتغيير أو اداة تواصل اجتماعي تصبح أداة ضغط وإرهاق، وبما أن "ريغو" ما زال متمسك بالمبادئ والمثل، استخدم كتابة الرواية كأداة اجتماعية، فكانت تحمل شيء من الألم/الوسواس، وأيضا عبر فيها عن واقعه الأسود فكانت رواية سوداء.
نجد حضور الكتابة في أكثر من موضع في الرواية، فأحيانا نجدها وسيلة يعبر فيها "ريغو" عن سخطه ورفضه للواقع كما هو الحال عندما فقال: الكتابة تجعلنا نقاوم مسلة حافظ الأسد عند السفارة الكويتية في بيروت بالمزحة، بل نقاوم عقود من الاحتلالات والاغتيالات والخطف بالمزحة رغم المآسي" ص21" واحيانا نجدها أداة شخصية يفرغ من خلالها عما فيه من ضغط: " إن رواية هذه القصة ستكون بلساني مع أني شاهد فيها، مجرد صبي وحيد لأمي" ص22، من هذا يمكننا القول أن "ريغو" يعمل على أن يكون حياديا في تناوله للأحداث، فهو مجرد رو الأحداث ليس أكثر، وما تأثيره عليها إلى من خلال لسانه/لغته، وهذا ما اكده عندما قال: "منذ بدأت الكتابة أصبحت أرى الأشياء والأحداث والناس بعين القلم أو بعين رجل يشعر أنه كظل جدار قادر على التنفس" ص59، فعملية سرد الاحداث بحياد لم تكن سهلة عليه، لأن الأحداث الدامية أثرت عليه وجعلته يحبط، لكنه استمر في عملية السرد.
ويقدمنا من دور الكتابة الاجتماعي فيقول: " الكتابة عن القرف، نوع من الاحساس بالواجب" ص74، وهنا يتملص "ريغو" من الحيادية التي طرحها في البداية، فطبيعة طبيعة الأحداث المؤلمة جعلته يشعر بالألم وهذا اعكس عليه سلبا، ومع هذا استمر في السرد، فوجد نفسه يقوم بدوره في "التغيير" الذي وجده بلا جدوى؟.
اعتقد أن "ريغو" تحرر من الحيادية وأمسى متأثرا بالأحداث، لهذا قال: "...قبل أن تنتهي الرواية اكتشفت أن ثياب سوسو الداخلية ليست إلا وظيفة عابرة لتجميل الكتابة وإنقاذها من غبار الكلمات!!" ص107، نتوقف هنا قليلا لنؤكد أن أية عملية/وظيفة يقوم بها الإنسان يتأثر بها أو فيها أو من خلالها، فهو كائن اجتماعي، فالسارد يبرر لنا خروجه من "الحياد" وتدخله في الأحداث، فطبيعة الاحداث السوداء والمؤلمة جعلته يتأثر بها، مما انعكس على حياديته فوقف إلى جانب المظلوم ضد الظالم والفاسد.
يحدثنا عن أثر الكتابة عليه فيقول: "أجد نفسي محرجا حين أقول للأصدقاء أني أكتب رواية وأخبرهم عن أجزاء منها، وحين كنت أكتب أتخيل عادل ولا أجد طريقة لأتصل به" ص224، فالسارد يفصح عن انغماسه في الكتابة التي أصبح جزء منها ومن احداثها، لهذا نجده بهذا الحساس المسؤول.
سرد الاحداث يقود "ريغو" إلى تذكيرنا ببعض الروايات الأخرى فيذكرنا ب: "أبطال غسان كنفاني كانوا يقولون: "لماذا لم تدقوا باب الخزان"" ص55، وكأنه بهذا الاقتباس أراد الاشارة إلى أهمية المشاركة في عملية التغيير ورفض ما هو كائن.
ويقدم لنا خبرته كقارئ فيقول: "مع أني كنت مهووسا في البحث عن كتب للقراءة، لم أقرأ لينين وفضلت عليه الأمثال الشعبية التي كنت أدونها في دفتري" ص73، اعتقد أن هذه العبارة تعبر عن رفض "ريغو" لسلوك ونهج رفاقه في الحزب الشيوعي اللذين لم يكونوا أهل للمسؤولية التي طرحوها في برنامجهم.
ويقمنا من همومه الشخصية من خلال قوله: "...كل شيء مع سارة يذكرني بكتاب "أنا وهو" لألبيرتو مورافيا الذي يفصح عن العلاقة السيكولوجية بين الرجل وعضوه" ص162، وهنا يتأكد لنا أن "ريغو" تخلى عن الحيادية بشكل واضحة وأمسى مؤثرا ومتأثرا بالأحداث.
وفي نهاية الرواية نجد فقرات تشير إلى أن السارد أصبح والأحداث شيئا واحدا، يقول: كانت أمي تروي "اسطورة" لا تعرف تفاصيلها ولم أقدر على نبشها من الكتب التراثية في رواية "الموت في اجازة" لجوزيه ساراماغو" وفيها يطرح الروائي البرتغالي التساؤل المثير "ماذا لو توقف الموت عن العمل؟...ماذا لو استمرت الحياة دونما انقطاع؟ ..أن الحياة دون موت ...مثل الحياة دون خير" ص246، اعتقد أن هذه الخاتمة تؤكد على الأثر السلبي الذي تعرض له "ريغو" ففي بداية الكتابة كان حياديا، ثم أخذته الأحداث فاندمج فيها وأصبح جزء منها، فنعكس سوداها عليه فجاءت فقرة الموت لتؤكد على هذا التأثر عند السارد.
المرأة
قلنا أن كافة النساء سلبيات إذا ما استثنينا أم "ريغو"، فهناك مجموعة كبيرة من النساء تم ذكرهن في الرواية، منهن من جاء بعلاقة مباشرة مع "ريغو" ومنهن من ذكرن بواسطة شخصيات الرواية، يعطينا "خالد أحمد إبراهيم" فكرته عن نساء اليسار فيقول: "إن كل فتاة يسارية هي ساقطة..." ص57، وإذا ما توقفنا عن السبب الذي جعله يقول هذا الكلام يمكننا أن نجد له مبرر، هذا إذا لم نقف معه مؤيدين، فهل يعقل أن تكون كل نساء المطروحة في أحداث الرواية مارسن الزنا، ولا نجد منهن واحدة تمنع نفسها عن الآخرين؟.
يحدثنا عن رشيد الذي زوج اخته "ربى" للشاب "وليد" من عائلة الفليطاني فكانت بهذا الشكل: "كانت تمشي بقميص نوم أبيض في الشارع يلفه الغبار، كأنها لا ترتدي ملابس داخليه، وهي إذ تمر قبالة بائعة الذرة البدينة في ساحة عرش ايل، تقول البائعة "شو لابسه هيدي ... تنقبر تنضب" ص61، اعتقد أن هذا المشهد يوضح لماذا جاءت النظرة السلبية للمرأة، فرغم أن "ربى" فتاة ريفية ومن قرية "عرش ايل" إلا أنها كانت تتمشى بهذا الشكل السافر وتعرض جسدها مشاع لكل الناس، دون أن تراعي مشاعر الآخرين، ودون أن تبدي اهتماما بجسدها أو بأثر هذا الخروج على زوجها "وليد".
"ريغو" عضو الحزب الشيوعي يخبرنا عن: " ـ الرفيقة روزي هنا ... قلت لأبو الزوز.
ـ "روح لنشوف صدر روزي" ...
ترتدي شورتا طويلا ولا يبدي من عري جسمها سوى ظهرها وبعض من صفحة صدرها، ومع ذلك أغوتنا أكثر من الفتيات الأخريات، ربما لأنها من عرش ايل، ربما يموت معنى العري حين يكون صاحبه مجهولا" ص80، أيضا يكشف لنا السارد احدى فتيات قرية "عرش ايل" والطريقة التي يظهرن فيها أمام الأخرين، فهن يجذب الانتباه أكثر من اللواتي يبدين شبه عاريات، ويفسر لنا "ريغو" هذا الأمر من خلال: إن معرفتنا بالمرأة يؤثر فينا أكثر من عدم معرفتنا بها.
فالنساء حين يعرضن اجسادهن بالمجان يقدمن فكرة (رخص اجسادهن ورخصهن) حتى أنهن يعطين فكرة تفاهتهن: "أقف تحت العريشة وأنظر إلى زينة أحيانا، وهي تلبس قميصا من دون سوتيان، وتنقي الملوخية الخضراء ...أسمعها تقول لي: "بتشبه بيك" ص99، اعتقد أن السارد يريد المرأة أن تكون أكثر حشمة مما هن عليه، لهذا نجده يبدي امتعاضه من مشاهدتهن بصور مثيرة، فهل هو يريد احتشامهن؟ أم أنه يريد شيئا آخر في المرأة؟.
"سوسو فتاة غريبة، .. خلبت رغبتي،... لها عنق طويل وردفان غريبان...تلعب بشعرها المنسدل المصفف لذى أفضل المزينين في بلدة الحدث، تهز بردفيها من غير قصد، وهي في طريقها لزيارة ابنة عمها في المقلب الآخر من بولفار شمعون، تحدث زحمة سير على البولفار، بسبب ثيابها العارية. تسمع عبارات "يقبش، "يقبرني" وحين كانت تقول والدتها ريتا "تستري سوسو" تصرخ بصوتها الناعم والاباحي: "ماميييييي مش مزلطا... سوسو تمضي معظم وقتها المنزلي بالبروتيل والسوتيان والشورت مظهرة نصف نهديها، حين يزورها صديقها تتكئ على نافذة سيارته للتحدث معه، أراها من النافذة كأني أريد الوصول إلى حلمتي ثدييها" ص102و103و104، اعتقد أن "ريغو" بدأ يدخل إلى عالم المرأة والانحلال الذي امتعض منه في البدايات، كما هو الحال عمدما تدخل في سرد احداث الرواية بعد أن تخلى عن حيادته، وكأنه يقول أن المجتمع والفعل الاجتماعي يصهر الفرد ويجعلانه جزء من المجتمع، ومشاركا فيما يحدث من أحداث، فالفرد يضيع/ينمحي كيانه في المجتمع.
"ميساء شقيقة الشيخ عمران الريس تمر كل مساء عائدة إلى بيتها، هي شقراء أو صبغت شعرها باللون الأشقر الفاتح، ترتدي جينزا ضيقا وسكربينه بيضاء وترفع نهديها بطريقة لافتة، ...يقول لي زميلي حارس المبنى: "هذه أخت الشيخ تعمل عارضة أزياء" ص136، اعتقد ان السارد لم يكن ضد "ميساء، فيما ترتديه من لبس أو بطريقة مشيتها، أو لأنها أخت الشيخ عمران، فهو يقدم وجه نظر زميله بطريقة حيادية، وهذا يعني ميله إلى مشاهدة هذه الأوضاع، فقد أخذ يميل إلى الاعجاب بمشاهدة أجساد الفتيات، وهذا يعد تحولا آخر في شخصية "ريغو" التي بدأت لنا محافظة في البدايات.
حالة التحول عند السارد لم تأتي هكذا دون أي شعور بالذنب، أو دون وجود فكرة (الخيانة) لمبادئه، بل جاءت بعد صراع نفسي: "أثناء عملي في الإذاعة، أشعر أني مجرد حارس لمأوى أيتام الحرب، لكن ما أن تمر فتاة بثياب مثيرة حتى أنظر إليها بعينين جائعتين، أحتاج إلى أن اكون "صائعا" وأمارس ضرباتي على فم مسعود حنا.. حتى الفتيات اللواتي يحاولن التحدث معي عند مدخل المبنى، أنظر إليهن بازدراء كما لو أني اعرف أسرارهن القبيحة، بل كرهي لهن يزيل أي ملمح من جمالهن" ص138، حالة الصراع واضحة في هذا المقطع، فهناك شهوة تثيرها النساء في"ريغو" لكن ما عرفه عنهن جعله ينظر بانزعاج، وهذا الانزعاج ناتج عن المعرفة التي عرفها، ومن خلال المشاهدة التي رآها، ومن خلال السمع الذي سمعه، بمعنى أنه يرى جمالا في الجسد، لكن جوهره قبيح، فهو يبحث/يريد جمالا منسجما مع طبيعة جميلة، جسد تحمله فتاه نظيفة.
فما هي صفات وطبيعية المرأة التي يحلم بها؟: " حلمت بعشرات المرات بتلك المرأة التي لم أرى وجهها، كنت أتغلغل في أحشائها أو امسك فخذيها أو أتذوق طعم العسل في شفتيها" ص146 و147، الحاجة الجسدية مهمة وضرورية لريغو" وقد بدأت تأخذ فعلها فيه، لهذا يتحدث عن الفخذين وعن حاجته للجسد: "في اللحظة التي أستحلم فيها تهرب مني، اسمع مغامرات الشباب مع الفتيات، أشعر أن الفتاة ما إن تدخل التنظيمات الحزبية العقائدية حتى تتحول مسترجلة، ينبت الشعر في وجهها وتتركه تحت إبطها وتتعرق، وتهدي مهبلها إلى كل شاب يشرب معها كأسا في آخر الليل.
... لم أعد أرى رانيا، وهي كثيرا ما تحضر عارية في الصور والأفكار التي تراودني أثناء فعل العادة السرية" ص147، وكأن الغريزة هي التي بدأت تتقدم على الأفكار التي يحملها عن النساء، فهو يريد الجسد، لكنه يريد جسدا خاصا به، لم يفضه أحدا من قبله، بمعنى أنه يريد جسدا لم يمسه أحدا من قبله، ولا يمانع من أن يذهب بعد أن يضرب ضرباته فيه لأيا كان، لقد أمسى "ريغو" متعلق بالجسد: " كنت مصدوما بمشاهدة السيدة مبغى التي حازت لقبا جماليا وهميا، تخرج من الحمام بفستان قصير وكعب عال وجسد براق، كأن المياه ما زالت على فخذيها الممتلئتين وصدرها العارم وشعرا الأسود الطويل الذي يغطي أجزاء من صدرها الأسطوري، يقال في الكواليس أنها تقدر على ارضاع نصف رجال الشرق الأوسط في زمن الجوع.
حرك الردفين على إيقاع الكعب العالي يكفي لتدمير الروتين الصحفي والكتابة نفسها والنساء والمنزل وخطب السياسيين والانفجارات" ص169. وكأن السارد تخلى عن مواقفه السابقة وأخذ يتماهى مع جسد "السيدة مبغى" فهو يتحدث عنه بعجاب، لهذا نجده يركز على تفاصيله وعلى الأثر الذي يحدثه في الآخرين، وهذا الذكر يشير إلى أن "ريغو" جزء من هؤلاء الآخرين، فلا ضرر من التحدث عنه بهذا الشكل المثير.
لهذا حدث التغيير وتحول "ريغو" إلى شخص آخر ينظر إلى الجنس على أنه حاجة ضرورية وملحة للإنسان: "في ذلك المنزل في عين الرمانة كانت "البصبصة" من النوافذ أقوى من شبح البوسطة، "البصبصة" هي الشعور بأن جسد المرأة الحقيقي لا يروي ظمأ المخيلة، والحب خاضع للشك، خطأ البشرية أنها صنعت شيئا اسمة الحرام، ووضعت ثقافة العلاقة الجنسية في الحياة، ما جعل المرء في حرب دائمة ضد نفسه، كائنات النافذة لا يمكن محوها إلا من خلال الكتابة" ص194، تحول واضح وصريح في طريقة تفكير السارد، لقد تخلى عن مواقفه السابقة تجاه جسد المرأة وأخذ ينظر إليه على أنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه، فالحرام يجعل المرء في حالة صراع مع ذاته، فالحرب والمشاهد الدموية التي يراها، جعلته يتجه إلى (جمال الجسد) بعد ان فقد وعجز عن إيجاد المرأة التي ينشدها، فليس هناك (حب حقيقي) مثالي كالذي يفكر فيه، فكان لا بد من الانصياع للواقع/للمجتمع، وهذا يفرض عليه ان يحرر نفسيه من (عقدة الذنب) إذا ما أقدم على إقامة علاقة جسدية مع أية امرأة، حتى لو لم تكن بكرا كالتي اشتهاها وفكر فيها.
أصبح "ريغو" جزء من المجتمع يشاركه في طريقة تعاطيه مع العلاقات الجنسية، يقول عن "زليخة": "... صدقت أن الحب أعمى ومشيت في اللعبة حتى النهاية، وحدها الأصابع تروي أن ملمس جلدها الناعم والرقيق، أقرب إلى الرغبات حليمة اعظم من سحر الينابيع الجارية بين الأشجار، ينتابني شعور أن أذوب فيها إلى الأبد، كما تذوب الأمطار في الطبيعية" ص231 ، السارد انغمس في عالم المرأة، وإلا ما كانت لهذه اللغة البيضاء أن تكون دون حضور المرأة في وجدان السارد، فقد أحدثت فيه تحولا نوعيا، لكن بعد أن أخذ حاجته الجسدية: "أقمت علاقات عابرة مع فتيات ومومسات" ص233، لم يشعر بالطمأنينة التي يبحث عنها، بل شعر بالذنب، حيث اقترف جريمة بحق نفسه، فأصبح يعاني ويتألم بهذا الشكل: " الرغبة تسحقنا، تدفعنا إلى الحديث عن اشياء لا نحبها بل تدفعنا إلى قتل من نحبه أو نكرهه...الرغبة دراما الجسد في لحظة لاوعي العقل" ض233، "الرغبة اشد فتكا من الاستبداد" ص242، وهنا يكمن خلاصة الفعل البشري، فهو يجد تفاهة الشيء بعد أن يصل/يحصل عليه، فلا شيء يلبي طموح ورغبات الإنسان مهما علا شأنه، ومها كانت قيمته أو مكانته، فكل الأشياء التي نرها ذات قيمة وهي بعيدة عنا، لكن من أن نقترب منها حتى نراها على حقيقتها، على أنها عادية جدا وحتى بسيطة أو تافهة، هذا ما أرادنا "ريغو" أن نصل إليه.
الحزب
في عالم السياسة كل شيء قذر، فلا يوجد نقاء فيه، والاحزاب والتنظيمات ما هي إلا نقيض لأخلاق الإنسان ومحطمة لطموحه، مشكلة الاحزاب أنها تكون ذات هالة قبل الدخول فيها، لكن بعد الدخول، يكتشف حقيقتها البائسة والكذبة التي تغطي عورتها، "ريغو" يحدثنا عن الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه فيقول: "عند الحاجز، يجلس شباب الحراسة... يدور الحديث عن زوجة الرفيق أبو الموز، التي كانت تخونه مع الرفيق مدلج حيدر في غرفة من غرف الثكنة قرب مبنى الإذاعة الحزبية... رآهما خالد أحمد إبراهيم في الغرفة من ثقب في النافذة وراح يصرخ: "أنا حارس على شراميط يا أخوات ..." ويطلق النار في الهواء" ص56، الجريمة أن هذا الموقف حدث في ثكنة عسكرية، من المفترض أن تكون لها حرمتها، هذا اضافة إلى أنها حزبية، كل هذا جعل "خالد" يطلق النار في الهواء وصرخ بتلك الصرخة معبرا عن سخطه على الحزب وأعضاء الحزب الذين يمارسون هذا الجرائم بحق الحزب وبحق رفاقهم وبحق انفسهم.
ونجد اعضاء الحزب لا يقلون قذارة عن اعضاء التنظيمات الأخرى: "تمر شاحنة محملة بالبطيخ الأحمر، السائق يعطي الحارس بطيخة، أتخيل إن السائق يقدم رشوة لينجو حلقه من الكارثة، "نحن هون نعمل غزوات ع البطيخ والموز والبندورة والخيار. المزارعين بيقدموا لنا الفواكهة والخضار حتى لا نؤذي مزروعاتهم" ص58، صورة الحزب الذي من المفترض أن يكون نقي، تتماثل مع صورة التنظيم المنحل، التنظيم الذي يسلب الناس حقوقهم، ويأخذ ممتلكاتهم غصبا وإكراها.
يعري لنا "ريغو" الطريقة التي ينظم فيها إلى الحزب والطريقة التي يتعامل بها الحزب مع الوافد الجديد: "...يضيف أبو الزوز: " بدك تظبلنا وضع الرفيق هون، جاي ينضم لإلنا"
يأتي عصام باستمارة حزبية، يسألني عن تاريخ ميلادي وأمور أخرى ويقول:
ـ "خلص مشي الحال"
ويسلمني بندقية روسية بعد تسجيل رقمها" ص58و59. يصف لنا السارد دخوله للحزب وتسلمه البندقية كمن يذهب إلى عمل جديد، فليس هناك تدقيق بقناعة العضو ببرنامج الحزب، وتم اعطاءه البندقية وكأنه يعطى قطع خشب، فلم يتم تعليمه على استخدامها ولا على التصويب أو صيانتها، إذا كان هذا نهج حزب تقدمي فما بالنا بالأحزاب اليمينية والرجعية!.
ويخبرنا عن جلسات (الرفاق) والحديث الذي يدور بينهم من خلال "عصام موسى": "ـ كنت أطبطب للفتاة الروسية على ظهرها وأقول لها "آه يا شرموطة آه" ومع الوقت صارت تفهم معنى هذه الكلمة، وتشتمني كلما سمعتها.
ـ قضيتها أيام بروسية، رزق الله..
ـ مرة أصبت بالسفلس وبدأت أشعر بالتقرح في عضوي..
أشرد وأسأل نفسي "هل هذه هي الشيوعية والشيوعيون، تفيه على الساعة؟!" ص70، اعتقد ان تناول هذه السلبيات في حزب تقدمي (ثوري) يكشف الهوة السحيقة التي تفصل النظرية عن التطبيق، وأيضا تبين عقم حركات التحرر العربية.
الحزب كان يطرح افكارا تقدمية، لكنه في حقيقة الأمر كان يمارس سلوكا غير ذلك: "...حين "حرورا" الثكنة من ميليشيات "القوات اللبنانية" كانت زاهرة وتسحر زائرها، وفيها حدائق وصالة سينما وبيانو وكنيسة وتمثال للعذراء، وبعدما احلتها الحزب الشيوعي بدأت تتهاوى مع الزمن، ولم يبقى من مبانيها إلا الجدران الكالحة والرطوبة والخراب" ص72، هذا هو سلوك الحزب الشيوعي، يحافظ على الفن وامكان العبادة!!.
ولم يقتصر الأمر على تخريب المباني، بل طال تخريب العقول والنهج، "قلت إن اليسار يجب أن يكون لديه شهداء من المسيحين ومن العائلات الكبرى، يريد اليسار العتيد "الوحدة الوطنية" من خلال اسماء الشهداء" ص75، بهذا الشكل يتبين لنا أن الحزب التقدمي ما هو إلا حزب يستخدم التقدمة كشكل يتسر به، لكن جوهره حزب رجعي.
ونجد الأمانة مفقودة عند الشيوعيين من خلال: "أم عبد، المسؤولة مطبخ المقاتلين، والتي قد ترمي شعر عانتها في الولائم من شدة حقدها" ص77.
والعقلية الطائفة موجودة عند (الرفاق) يخبرنا عن الأرمني في الحزب "الذي لم يحتمل أن يقيم ابنه علاقة بفتاة فلسطينية" ص139، إذا كانت الأفكار الأممية غير قادرة على تحرير عناصر الحزب من الطائفية، فكيف سيكون عليه الحال بالأفكار القومية أو الوطنية؟
ونجد الانتهازية في أوجهها عند "مسعود حنا" الذي "كان يشم رائحة المناصب الحزبية ويقفز من منصب إلى آخر ولو على جثث الآخرين، يحاول أن يتزلف لكل امرأة من خلال اللياقات وتقبيل الأيدي، ثمة أساب شبحية جعلتني أضن أم مسعود حنا كان كتائبيا أو يمينيا" ص141، هذا احد قادة الحزب المتنفذين، فكيف سيكون حال العناصر والكوادر؟.
"سارة فتاة في غاية الاستهتار، ربما هكذا يستنتج العارف بطرق عيشها وسط قوافل الشلل اليسارية اللبنانية التي كثيرا ما تستجدي الماركسية اللينينية أو معادة الطائفية اللبنانية كوسيلة لمخاطبة الفرج أو لاقتحام السرير بعد كأسين من البيرة" ص152، إذن القيادة والكوادر كلاهما غير أهل ليقود عملية التغيير والتحرر الوطني.

الأب
غالبا ما يأتي الاب بصورة سلبية أو يتم تجاهله أو يتوفى في أحداث الرواية، وهذا يعود أن ارتباط الأب بالنظام الرسمي العربي وتماثله معه، وهنا نجد الاب بعين الصورة السلبية: "العلاقة مع الأب غالبا ما تكون مربكة... والدي خطار محمد الدلباني غادر عرش ايل قبل أن أولد، وترك زوجته الأولى مع أختي غير الشقيقة في المنزل الطيني القديم|... والدي لا يحضر في ذاكرتي إلا عندما أعد السنوات التي أمضاها بعيدا عن أمي... لم اشعر بوجود أبي في حياتي واعجز عن نطق كلمة "أبي" ص62-64، الأب جاء بصور في غاية السلبية، ولم يكن له حضور أو فاعلية في حياة "ريغو" وهذا ما اكده حينما قال: " "أبي كان غائبا ظل كذلك حتى في حضوره" ص69، هذا كان أبو "ريفو" فكيف جاءت صورة آباء الشخصيات الأخرى؟ ، تحدثنا "سارة حوماني" عن ابيها فتقول: "يطرها من البيت كي تذهب وتأتي بالمال" ص151، كل هذا جعل الرواية غارقة في السواد، من هنا تم ذكر بعض الطير "مشهد الغربان في المنام كان فاكفيا للاعتراف بسلطة الموت والتشاؤم" ص23، وبعض الحشرات "المستودع في الإذاعة يبدو كوكر للعناكب الضخمة" ص112، من هنا الرواية كانت تعبر عن سخط "ريغو" على الواقع وعلى كل ما يحدث فيه وله، فلم يكن راضيا، لهذا نجده روايته بهذا الشكل وهذه التعرية للواقع.
الرواية من منشورات الاختلاف الجزائر العاصمة، الجزائر، ومنشورات ضفاف، الرياض، بيروت، الطبعة الأولى 2013.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد