الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يسكر الحيوان؟

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2019 / 2 / 6
الطب , والعلوم


في أرشيف ملاحظات تشارلز داروين وجدتُ ملاحظة نقلها إليه أحد علماء الحيوان في أفريقيا, فقد شاهد هذا العالم بعض السكان الأصليين للشمال الشرقي من أفريقيا يصطادون قرود البابون الوحشية بواسطة ترك أوان مكشوفة تحتوي على جعة قوية مصنوعة محلياً, وحين تشربها تلك القرود البرية تسكر, فيسهل عندئذ اصطيادها. وبعد حبسها في أقفاص كانت تقوم بتصرفات مضحكة من خلال حركات الجسد والوجه. أما في صباح اليوم التالي من الأسر فكانت تستيقظ وهي في حالة مزرية من الغضب والكآبة. وعندما قدمت لها الجعة من جديد ابتعدت عنها باشمئزاز واستساغت عصير الليمون بدلاً من البيرة.
1
وهي بتصرفها هذا كانت أكثر حكمة من البشر الذين يشربون الخمر فيسكرون ويدمنون غياب الذات حتى يصل بهم شوق السكر إلى ظلمات سراديب الإدمان المقيتة. هذه الملاحظة المهمة والذكية تدفعنا لتأكيد فكرة عن عادة السكر تقول إنه اضطراب معقد ومثير للجدل. أو على حد تعبير الدكتورة هاله أحمد فؤاد: بالسكر فرت الذات من مواجهة مسؤوليتها المنوطة بها كذات إنسانية عاقلة مكلَّفة, وأسست حضورها في عمق الغياب عبر انتهاك معناها الوجودي الأصيل, لتندرج في أوهام الحشد أو القطيع. حقاً إن وعود السكر وعود باهرة, فلذَّة السكر لذَّة آمنة, و فضاءاتها مليئة بالوعود الجميلة غير المكلفة. لكن الاستغراق فيها إلى درجة الاستغناء بها عن اللذَّة الواقعية, إنما هو تعبير عن نزعة عبثية بائسة, وإن كانت لا تعي باسها وإحباطها.
2
فهل يمكن القول أن الاستعداد للإصابة بإدمان السكر يكمن في جيناتنا البشرية؟ بمعنى هل هناك استعداد وراثي عند هذا الشخص أو ذاك يساعد في عملية تزين عملية السكر لخلايانا البشرية كي تذهب بحالة السكر إلى شوطها الأخير؟ أم أن البيئة الاجتماعية الحاضنة وجغرافيا السكن عند مختلف الشعوب هي التي تدفع المرء ليألف السكر هذه الألفة الحميمة؟ وأهل روسيا خير مثال على ذلك, فهي آفة اجتماعية عندهم, لبرودة مناخهم وقسوته. وكلنا يعلم موقف أديب روسيا الأعظم ليف تولستوي من السكر, فقد كتب مسرحية شهيرة عنوانها: من صنع الخمر؟ كانت بذور فكرتها منثورة في أحدى قصصه اسمها مكيدة الشيطان.
3
هنا حكاية ظريفة رواها لنا إخوان الصفا تقول:
ذكروا أن رجلاً من أرباب النعم متديناً له ابن يجاهر بالسكر ,وكان الرجل كارهاً لذلك منه فقال له يوماً, يا بني إنته عن السكر, حتى أعطيك شطراً من مالي وعقاري, وأفرد لك داراً, وأزوجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.
فقال ابنه:
-يا أبت ماذا يكون؟ فقال الأب:
-تعيش فرحاً مسروراً متلذذاً ما عشت من عمرك. فقال ابنه:
-إن كان الغرض هو هذا فهو حاصل لي. فقال له أبوه:
-كيف ذلك؟ قال الابن:
-لأني إذا سكرت وجدت نفسي من الفرح واللذة والسرور حتى أظن معه أن ملك كسرى كله لي, وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور في حجم البعير. فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى ذلك حقيقة. قال الابن: أعود فأشرب ثانية حتى أسكر فأرى مثل ذلك.
4
انظر كيف تمارس الذات سقوطها في غياهب السكر, بل تمارس غيابها بلا توقف مندفعة اندفاعاً عبثياً نحو الهاوية المظلمة, و تعيش غفلتها متلذذة بالوهم الذي هيمن عليها, فتصبح أسيرة في قبضته, يستلبها كيفما يشاء, وإن بدا أنها تسقط بإرادتها واختيارها. تظهر نماذج واضحة من الوراثة في هذا الشأن أن الجينات قد تنقل بعض الأسس البيولوجية لقدر أكبر من السكر عند بعض الأشخاص. والجينات تملك تأثيراً قوياً في الحالة الفيزيولوجية للفرد بما تظهره من أنماط مختلفة من البروتينات يزيد عددها عن المائة ألف نمط ولكل منها دور مباشر في الأداء اليومي لوظائف كل من الجسم والدماغ أو في تنظيم فعالية الجينات الأخرى. وقد أوضحت بعض الأبحاث الارتباط القوي بين الاختلافات في الفيزيولوجية الأساسية من جهة واستعداد الفرد للتعرض لمشكلة السكر من جهة أخرى وذلك منذ أول جينة تم تعرفها كباعث لخطر الانزلاق نحو عشق السكر والهيام به.
5
إن المعيار الذي يستخدم على نطاق واسع في الطب النفسي لتشخيص السكر يتطلب أن يعاني المرء ثلاثة على الأقل من الأعراض التالية خلال الشهر الاثني عشر التي تسبق التشخيص: تحمل جرعات كبيرة من الخمور, فقدان المرء الإرادة للسيطرة على الكمية التي يتعاطاها من الخمور, بذل الجهد للتوقف أو الإقلال من تعاطيها. مرور سنين طويلة على ممارسة عادة الشرب الدائم و الاستمرار في شرب الخمور على الرغم مما تؤدي إليه من مشكلات مادية و نفسية وصحية وجنسية. إن إدمان السكر يتسم بالتعقيد من الناحية الجينية فهناك العديد من الجينات التي يغلب أن تسهم فيه ولابد من دراسة التفاعلات بين بعضها وفيما بينها وبين البيئة قبل تجميع الصورة الكاملة للعملية التي تقود إلى عشق السكر و إدمانه.
6
قبل عدة أعوام بدأ الباحثون بدراسة ما يلاحظ على نطاق واسع من ميل لدى الأشخاص من قوميات مختلفة إلى الإصابة بالتورد الناجم عن تدفق الدم عندما يحتسون المشروبات الروحية وقد أظهر الاختبار الدموي لهؤلاء الأشخاص ازدياد مستوى مادة استيل الدهيد لديهم. وهذه المادة هي أحد المركبات التي نتجت عن تفكك الكحول في الخمور وتؤدي إلى إحساس مزعج بحرارة الجلد والخفقان والضعف عند السكر. وقد اقتفى الباحثون هذا التفاعل ليصلوا إلى أحد الإنزيمات التي تسهم في استقلاب الكحول وهو نازعة هدروجين الألدهيد ثم في نهاية الأمر إلى الجينة التي تفعله. ومع أن الأنزيم يفكك الأسيل الدهيد فإن بعض الاختلافات البسيطة في تفعيل الدنا لدى هؤلاء الأشخاص تجعل الأنزيم يعمل على نحو أبطأ. وعندما يتناول هؤلاء الأشخاص الخمور يتراكم الأستيل الدهيد في أجسامهم وقد تكون الجرعات الكبيرة من هذا الأستيل الدهيد سامة وبذلك يسقط السكران من ميزان الاتزان ويغيب في عالم ضبابي كثيف. ولهذا كله نقل صاحب أحد المذاهب الأربعة في الإسلامي "أبو حنيفة النعمان" علَّة تحريم الخمر من الشرب إلى الإسكار, فأحلَّ الشرب وحرَّم السكر...فاشرب ولا تسكر حماك الله ورعاك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تقول الرواية الصينية عن شرب الخمر ما يلي
ليندا كبرييل ( 2019 / 2 / 6 - 11:12 )
الأستاذ عبد الرزاق دحنون المحترم

تحية وسلاما لشخصك الفاضل وللحضور الكريم

تقول الرواية الصينية:
قال الشيطان لرجل أوشك على الموت أن في استطاعته إنقاذه بشرط أن يقتل خادمه أو يضرب زوجته أو يشرب الخمر. فكّر الرجل: أن خادمه إنسان مطيع مخلص، وزوجته فاضلة حسنة المعشر، إذاً .. يمكنه شرْب الخمر ! فلما فعل، ضرب زوجته وقتل خادمه لأنه دافع عنها.

قليل من الخمر ينعش النفس بالتأكيد، وأنا من كل أنواع المسكرات لا أحب إلا الخمر الياباني
( ساكيه Sake)
لكني يا أستاذ لا أستطيع أن أشرب أكثر من شفة واحدة بالعدد، أدوخ من رائحة أي مشروب، وبالكاد تحملني قدماي لو شربت أكثر من شفة هاها

كل ما على الأرض نعمة وعلينا تحكيم العقل في تناوله واستهلاكه، أما التحريم ، أي شيء كان، فأنا ضده تماما، حتى لو كان محرما من قبل الدين

تحية لمقالاتك المتنوعة وسلاما لابن بلدي العزيز المثقف الأستاذ دحنون
تقديري


2 - أيلو فاصن مِن بيشو الكيماوي
سوري فهمان ( 2019 / 2 / 6 - 13:19 )
الأخت العزيزة ليندا لم أدخل إلى موقع الحوار منذ زمن . لقد تذكرتك بل أمس حينما قرات بالارامية ( أيلو فاصن مِن بيشو). و بتعني بالعربية : و لكن نجّنا من الشرير يعني تم تعريف بيشو بالشرير منذ القدم

كتاباتك دائما ممتعه وراقية تنم عن طيبة مع تحياتي للاخ دحنون وأقول له نعم الحيوانات تسكر وقد رايت في أفريقيا مجموعه من الفيلة سكارى بعد أن أكلو فواكه متخمرة .

و أيلو فاصن مِن بيشو الكيماوي


3 - العزيزة ليندا كبربيل
عبدالرزاق دحنون ( 2019 / 2 / 6 - 18:08 )
صديقتي العزيزة حيَّاك الله وأمدك بالصحة والعافية ...من تجربتي الشخصية في غرف العمليات فإن مدمن -الكحول- بشكل عام يحتاج إلى كمية أكبر من -المُخدر- حتى يدخل في فترة الغياب عن الوعي وكذلك عند الإنعاش بعد العمل الجراحي يحتاج إلى وقت أطول كي يستيقظ...وبعض الناس يدوخون من رائحة غرف العمليات ...المهم من الاكتشافات المثيرة في الرقم الطينية في مملكة -إبلا- في الشمال السوري -تل مرديخ- قرب إدلب... أن أهل هذه المملكة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كانوا يصنعون بيرة جيدة من الشعير الذي ما زال يزرع إلى اليوم في تلك السهول البعلية...تحياتي لك وقد أسعدتني كلماتك.


4 - ورد ذكْر الشرير أو الشيطان في الأديان القديمة
ليندا كبرييل ( 2019 / 2 / 7 - 03:48 )
بعد إذن الأستاذ دحنون

الأستاذ سوري فهمان الفاضل
تحية طيبة
من قراءة لباحث في الأديان القديمة ( المعذرة لا أذكر اسمه الكريم) جاء أن الشيطان أو الشرير من بقايا الأديان الوثنية، وليس من إبداع الأديان السماوية، ومنذ وجد الإنسان عرف قطبَيْ الحياة الخير والشر
ما هو شر عند فريق هو خير عند فريق آخر، والعكس صحيح
يجب أن ينظر الإنسان دوما إلى النقاط الإيجابية التي تعمل على دعم رؤية الخير ومصلحة الجميع

تحياتي لشخصك الكريم
وشكرا للأستاذ دحنون

اخر الافلام

.. برنامج جديد | منزل في البرية | ناشونال جيوغرافيك أبوظبي


.. ملايين الأطفال في السودان يعانون من سوء التغذية




.. صباح العربية | مغامرة في المطبخ.. صينيون وعرب يتشاركون تجارب


.. كلمة أخيرة - جمال عبد الجواد استاذ العلوم السياسية يحلل الم




.. مناشدة لعلاج شابة مصابة بسرطان المعدة وتصارع الموت في غزة