الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الثورات والمصائر (6)

منذر علي

2019 / 2 / 7
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


و) اليمن: 2 المعارضة قبيل الانتفاضة الشعبية.
البعد الثاني: المعارضة الدينية والعدمية.

ناقشنا ، في الحلقة السابقة، البعد الأول ، المتصل بطبيعة النظام السياسي ، الذي كان قائمًا قُبيْل الانتفاضة الشعبية في فبراير 2011 . وفي هذه الحلقة سيتم التركيز على البعد الثاني المتصل بقوى المعارضة الدينية والعدمية، تكوينها ، ومكانتها في الخريطة السياسية والاجتماعية ، وارتباطاتها الإقليمية وتوجهاتها الفكرية والسياسية.

كانت المعارضة الدينية تتجسد في تجمعات عديدة ، مثل حزب التجمع اليمني للإصلاح ( الأخوان المسلمين) ، وجماعة أنصار الله الشيعية، والتيارات السلفية ، بأوجهها المتعددة، التقليدية والجديدة والجهادية. أما المعارضة العدمية فقد كانت تتمثل بالحراك الجنوبي الانفصالي المسلح.
و كانت هذه الجماعات مجتمعة، تتميز بأنها غير موحدة، و بأن لديها رؤى دينية و سياسية متنافرة. كما أنَّ لديها مليشيات، متفاوتة الحجم، مسلحة ومتهادنة في بعض الأحيان ، ومتصادمة في أغلب الأحيان، وتحظى بدعم خارجي سخي من الدول الإقليمية، وبشكل خاص من إيران والسعودية وقطر والأمارات العربية المتحدة.
كانت هذه الاتجاهات المتنافرة من المعارضة، اقل تجربة في الحكم من الحزب الحاكم، أي المؤتمر الشعبي العام، و كانت تُحركها ميول سياسية رجعية، لا تقل سوءًا عن تلك التي كانت تحرك أنصار النظام القائم إن لم تكن أسوأ منها. و كانت تسعى إلى النكوص عن المكاسب الوطنية المتحققة لثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين في الستينيات، والعودة إلى الماضي البعيد .
و من هذا المنطلق الماضوي، كانت تسعى إلى بناء "دولة الولاية الدينية" في حالة أنصار الله، أو دولة الخلافة الكهنوتية في حالة حزب الإصلاح الإسلامي والسلفيين، بتنوعاتهم المختلفة، أو دولة انفصالية في حالة الحراك الجنوبي .
كانت الأحزاب الدينية ، ربما باستثناء السلفيين التقليدين ، متفقة حول ضرورة إسقاط النظام القائم ، ولكنها على الرغم مما يبدو من توافق ظاهري بينها في مطلع الأحداث ، كانت مختلفة ومتنافرة أشد التنافر حول طبيعة البديل، وكانت كل جماعة تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة النافية للطرف الآخر.
وكان الحراك العدمي يقف متوثبًا على الطرف الآخر ، يراقب عن كثب الأحداث الجارية في صنعاء ، ويتحيَّن الفرصة المواتية ، لكي يبدأ في تنفيذ مشروعه الخاص، الهادف إلى بناء دولة ذات طبيعة جهوية ، انفصالية في الجنوب. غير أنَّ الحراك العدمي ،كان مفككًا ، ومتنافرًا ، ومثقلًا ،بالصراعات السياسية والقبلية بين أطرافه المختلفة، وبالتالي غير قادر على تحقيق هدفه المثلوم. لقد كان مجرد إضافة قبيحة للأحزاب الدينية الشوهاء ، وإن بنكهة قبلية وجهوية ، و كان مؤهلا مثلها ، لكي يكون أداة للقوى الخارجية.
إنَّ هذه القوى ، مجتمعة ، كانت لها وجود كمي لا تخطئه العين، ولعبت دورًا محوريَا في الأحداث السياسية خلال الفترات المنصرمة، ولكن بالمعنى السلبي . إذا أنها نبشت القبور وأخرجت جثث الموتى واستحضرت أرواح الشياطين ، وسعت لمعالجة أمراض الحاضر بأدواء الماضي ، وسممت الحياة السياسية بالتعصب الديني والنزع الطائفي والقبلي والجهوي . وعلى الرغم من هذيانها السياسي حول الحرية الديمقراطية والشورى، فليس هناك ما يوحي في ممارساتها السياسية العميلة ، أنها على علاقة حقيقية بالحرية والديمقراطية ، أو بقضايا المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية، أو بالوضع الخاص لليمن وعلاقاته الإقليمية والدولية. لقد كانوا، في الأغلب، مجرد دراويش، يفكرون خارج العصر، بعيدًين عن المصالح الوطنية الكلية للشعب اليمني.

ومن هذا المنطلق لم يكن لدي هذه الجماعات توجهات عصرية لخلق بديل أفضل للنظام القائم ، في دولة مدنية ديمقراطية موحدة وعادلة ، كما يأمل اليمنيون. لقد كانت هذه القوى، بتجلياتها المختلفة، إخوان ، سلفيون، أنصار و حراك عدمي، على الرغم من تبايناتها الواضح وعدائها لبعضها البعض ، فأنها تتشابه في كونها تحمل مشاريع نكوصية ، ومعادية لتطلعات الشعب اليمني ، ولكنها قادرة ، وهذه ميزة مأساوية ، في مجتمع متخلف كاليمن، على قيادة الجماهير العمياء خلفها صوب الفوضى والخراب والموت.
كانت هذه القوى ، في مجموعها ، منظمة، وإنْ بدرجات متفاوتة، ولديها مليشيات عسكرية وقبلية مسلحة ومتباينة في قوتها ، ولها قاعدة شعبية واسعة ، ولكنها متباينة في أتساعها وفي نفوذها و أماكن تواجدها. فهي في الغالب محصورة ضمن أطر جغرافية وقبلية محددة في الفضاء الوطني.
فالقاعدة الجماهيرية للحراك الجنوبي ، مثلًا، كانت موجودة بالأساس ، ضمن مناطق معينة في الجنوب، كمحافظة الضالع ولحج وحضرموت ، وبدرجة أقل في المحافظات الأخرى مثل وإبين ، وشبوة والمهرة وسقطرة . وهذا يعود بدرجة أساسية إلى أنَّ محافظتي الضالع وحضرموت كانتا تمثلان عصب السلطة السياسية والعسكرية في الجنوب بعد أحداث 13 يناير 1986 ، وقُبيل حرب 1994. والأدهى من ذلك أنَّها كانت متنافرة بسبب الصراعات السياسية والقبلية القديمة والجديدة التي تكتنفها.
وكان الوجود السياسي والعسكري لأنصار الله يتركز، بدرجة أساسية في محافظة صعدة، وبدرجة أقل في بعض المحافظات الشمالية الأخرى، مثل عمران وحجة وصنعاء وذمار ، ولكن هذه الجماعة كانت شبابية في غالبيتها ، وكانت تتميز عن غيرها بأنها موحدة وديناميكية بحكم حداثة نشأتها ، وبحكم تأهيلها السياسي الخارجي المُتقن ، وبحكم نشاطها السري ،و تركيبتها الدينية الطائفية ، القائمة على الولاء المطلق للسيد.
و يتركز الوجود السياسي والجغرافي لحزب الإصلاح الإسلامي، أو الإخوان المسلمون، بقوة في مأرب وتعز والجوف ، وبدرجة أقل في المناطق الأخرى. و كان حزب الإصلاح الإسلامي يتميز، عن غيره، بأن له مؤسساته الدينية ونفوذه الواسع في الريف والحضر، بين القبائل وأبناء الطبقة الوسطى ، وفي إطار المؤسسة العسكرية ، وموجود على امتداد الساحة اليمنية ،ولكنه كان تنظيمًا رخوًا مقارنة بأنصار الله ، وكانت قياداته التاريخية شائخة ، وتحتوي هيئاته العليا على عناصر متنافرة، عقائدية وقبلية ، وبالتالي كان يفتقر إلى الديناميكية السياسية على الرغم من احتوائه على قطاعات شبابية طموحة ، تنزع صوب التجديد والتطور ، غير أنها مقيدة ، وتجلس هامدة تحت رداء القيادة القديمة العقائدية والقبلية المتعفنة.
وكانت هناك التيارات السلفية المتعددة ، التي انطلقت من منطقة دماج في محافظة صعدة ، من قبل الشيخ مقبل الوادعي ، وانتشرت بنسب متفاوتة إلى مناطق مختلفة في المدن اليمنية ، سواء أثناء حياة مؤسسها الشيخ مقبل الوادعي ، أو بعد موته ، أو عقب طرد خليفته الشيخ يحيى الحجوري ، من دماج في صعدة في 2014 ، من قبل جماعة أنصار الله.
ولقد تجسدت التيارات السلفية في جمعيات خيرية ، مثل جمعية الحكمة اليمانية، وجمعية الإحسان الخيرية، وفي وقت لاحق في أحزاب سياسية، كحزبي اتحاد الرشاد اليمني في 2012 ، وحزب السلم والتنمية في 2014، وهما قريبين بهذا القدر ذلك ، من توجهات الأخوان المسلمين، ولكنهما ، على عكس جماعة الإخوان ، مقبوليْنِ لدي الدول الخليجية ، وخاصة الإمارات والسعودية .
كانت هذه القوى المُشوهة، متفقة ، بشكل معلن وغير معلن، على إسقاط النظام والنخبة العائلية والعسكرية والقبلية والبيروقراطية الفاسدة المتمسكة بالحكم، وهنا تكمن الملهاة. وبالقدر نفسه ، كانت هذه القوى متفقة في عداءها للدولة المدنية الديمقراطية المأمولة، وهنا تكمن المأساة.
كان الإخوان المسلمون ومثلهم السلفيون معطوبين بالطائفية ، فهم "معاويون" أي من أتباع الخليفة السادس معاوية بن أبي سفيان، الذي تولى الحكم قبل أكثر من 1350 عامًا، وكانوا مُنسجمين مع توجهات قطر تركيا والسعودية، ويستفيدون ، بدرجات متفاوتة، من تلك الدول، رغم تقلبات مواقفها ، وتباين توجهاتها السياسية ، وخاصة السعودية ، إزاء تنظيم الإخوان المسلمين. وإذا استثنيا جناح صغير من التيار الإسلامي المستنير ، الذي يتلمس طريقه، بصعوبة بالغة، نحو الحداثة ، من خلال تأثره ، بهذا القدر أو ذلك ، بتجربة حزب النهضة في تونس ، وحزب العدالة والتنمية المغربي ، وبتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا ، الذي يؤيد ،بتحفظ، قيام دولة مدنية ديمقراطية ، أو "علمانية مُقيّدة" ، بحسب توصيف السيدة توكل كرمان، فأَّن الجناح العقائدي في جماعة الأخوان، الذي يمثله الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور عبد الوهاب الديلمي ، والمهندس عبدالله صعتر ، والشيخ محمد ناصر الحزمي ، ومن لف لفهم، يتطلعون لإقامة دولة الخلافة. فيما الجناح القبلي ،بحكم علاقاته التاريخية بالسعودية ، يسعى لإقامة "نظام إسلامي" ، كيفما كان، المهم أن يضمن هذا التيار السيطرة على الحكم ، ويكون متوائمًا مع المصالح السياسية والإستراتيجية للمملكة العربية السعودية. على أنَّ الجناحين الأخيرين ، متأثرين ، بهذا القدر أو ذاك بالوهابية، ويتفقان في ميولهما الطائفية، السنية المشتركة ، ويقفان في الصف المناهض للطائفة الشيعة .
وكان أنصار الله ، بالمقابل ، من أتباع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ، الذي تولى الحكم قبل أكثر من 1355 عامًا ، ويسعون بحماس لاقتفاء أثر التجربة الإيرانية في الحكم ، وإقامة نظام الولاية الدينية ، بحيث يضمن لهم السيطرة الكاملة على الحكم في اليمن، و يُمكِنَّهم من الهيمنة الطائفية الشاملة على الشعب اليمني، بكل طوائفه ومكوناته الاجتماعية والسياسية.
إما الحراكيون العدميون فقد تعددت خلفيتهم ، فهم في الغالب من أصول ريفية ، ومن مرجعيات فكرية وسياسية متنوعة. وتضم خليطًا عجيبًا من الجماعات الدينية السلفية ، واليساريين القرويين المشوشين ، والوطنيين الانتهازيين، المعطوبين بالروح المناطقية ، و أنصار النظام الإقطاعي والسلاطيني البائد، الذي ساد قبل استقلال جنوب الوطن من الاستعمار البريطاني، وهم جميعًا يتميزون بميول قبلية شديدة التنافر ، ولكن تجمعهم تبعيتهم السياسية والمالية للقوى الخارجية ، وتحديدًا لدولتي الإمارات والسعودية ، ويسعون للانفصال عن اليمن، وإقامة ،كما يزعمون، دولة جديدة في جنوب اليمن ، لا تشبه دولة ما بعد استقلال الجنوب بين 1967 – 1990 ، ولا دولة الوحدة بين 1990 - 2014 ، وإنما فيدرالية متميزة ، متوهمين بأنها ستكون على نمط دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنها ستكون ، على الأرجح ، إمارات قبلية متنافرة ، تقودها نخب متنافرة . وسيجري تصميمها بعناية من قبل دولتي الإمارات والسعودية . إذْ ستُجبر النخب القبلية في مناطقها على إبرام اتفاقيات ومعاهدات مع الإمارات والسعودية ، على ذات النمط ، التي عملته السلطات الاستعمارية البريطانية مع السلاطين والأمراء بين 2 فبراير 1839 وحتى 1914 .
إذ ستقوم دولتي الاحتلال ، الإمارات والسعودية ، بتنصيب شخصيات موالية على رأس تلك المحافظات، وستكون مجرد واجهات شكلية، وستُدار بمهارة ، وستوجه من قبل استشاريين من الدولتين الراعيتين ، و ستوكل مهمة الحراسة في تلك المحافظات لبعض المجموعات المحلية الُمسلحة والمُعدة بإتقان لهذه المهمة ، وسيُقرر لها ميزانية سنوية ، وستُوفر لها مظلة حماية عسكرية خارجية ، و ستدار بشكل مباشر وغير مباشر من قبل القوى الإقليمية، وستخدم في المحصلة النهائية مصالح دولتي الإمارات والسعودية، وسيتم كل ذلك على نمط الاستعمار البريطاني القديم.
في الأخير ، بودي الإشارة إلى أنَّ أصحاب هذه الاتجاهات، الدينية والعدمية، المتنافرة، تتميز في أنَّ َ أهدافها ا كانت واضحة ، و تتلخص في الخلافة والولاية والإمارة، ولكنها كانت فاسدة، وتفضي إلى طريق مسدود. كما تتميز في أنَّ السند الخارجي لهذه القوى كان قويًا ، ولكنه كان توسعيًا وطامعًا في أرض الوطن، وأنَّ القوة العسكرية لديها كانت ضاربة، ولكنها كانت غير شرعية ، وتقوض وجود الدولة ، وأنَّ القاعدة الجماهيرية لهذه الكيانات كانت واسعة، ولكنها كانت قبلية وطائفية وانفصالية ومتسلحة بالجهل والتعصب.
إنَّ هذا الكوكتيل العجيب من المعارضة الدينية والعدمية ، كان يشكل أحد أكبر مآسي المعارضة عشية الانتفاضة الشعبية في فبراير 2011. ولكن ماذا بشأن المعارضة اليسارية والقومية؟ هل كان بإمكانها أن تشكل البديل للنظام القائم وللمعارضة الدينية والعدمية؟ هذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد