الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محكمة أثينا الثانية -7- جلادت بدرخان ... وأرض الأجداد

هشيار مراد

2019 / 2 / 9
القضية الكردية


تحدثنا في الأجزاء السابقة عن اليونان، حيث بدأنا من سقراط ثم عن تلميذه أفلاطون وأيضاً عن الفيلسوف أرسطو، تعرفنا على فلسفتهم وثوراتهم الفكرية وما أرادوا أن يخلقوه في المجتمع، وكان ذلك مقدمة لنتكلم عن كردستان والثورات التي قامت فيها من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الحالي، بدأنا من الإمبراطورية الميدية حيث درسنا أسباب قيامها وسقوطها ومررنا بالإمبراطورية الأيوبية التي تخطى بها الكرد حدود كردستان ليصلوا بفتوحاتهم إلى بلاد الشام ومصر، ثم مررنا بثورة الكرد في عام 1925م والتي قادها الشيخ سعيد بيران حيث كان أفضل مثال لثورة كردية في العصر الحديث.
أما في هذه الحلقة من المحكمة، محور حديثنا عن شخصية كردية وطنية بامتياز، وهو الأمير جلادت عالي بدرخان، الذي يكون من أحفاد بدرخان بك أمير جزيرة بوطان.
بحثنا يشمل أربعة أقسام:
- القسم الأول: عن إمارة جزيرة بوطان وكيفية سقوطها بيد الاحتلال التركي، وفيه نتحدث عن ثورتي بدرخان بك وعز الدين شير (يزدين شير).
- القسم الثاني: عن مولد جلادت بدرخان في استنبول وبدايات حركته الثورية، وأيضاً عن نفيه خارج البلاد.
- القسم الثالث: عن تأسيس جمعية خويبون وثورة آكري.
- القسم الرابع: عن استقرار جلادت في دمشق وعن بداية حركته الثقافية.

القسم الأول: سقوط إمارة بوطان

كان الكلدان النسطوريين في "جزير" التي تسمى بـ "جزيرا بوطان" خلال عامي 1842-1843م يأبون دفع الضريبة لبكوات الكرد، وضمن هذا العصيان والتمرد من قبل الكلدان فلا نرى إلا أمير جزيرة بوطان "بدرخان"(1) يشن حملة عسكرية كبيرة ضد قرى ومناطق الكلدان، ليعيدهم إلى حظيرة بكوات الكرد ذات السياج الحديدي.
ويذكر الكاتب وديع جويده(2) في كتابه "الحركة القومية الكردية، نشأتها وتطورها" رواية أخرى عن أسباب حملة بدرخان على بلاد النساطرة، فيقول:
"أثار غضب بدرخان ضد النساطرة، أن هؤلاء الأخيرين أقدموا عمداً ومن دون أي سبب على قتل شخصين من إمارة بوتان، فما كان من بدرخان إلا أن أمر بقتل أربعة نساطرة، ليأخذ بالثأر للاثنين اللذين قتلا على يد النساطرة، الذين هم بدورهم أقدموا على قتل ثمانية أفراد من حاشية الأمير، وتزامن ذلك مع طلب نور الله الهكّاري من الأمير بدرخان المساعدة في حملته ضد النساطرة."(3)
مع حملة بدرخان الضارية على الكلدان النسطوريين يضغط الإنكليز والفرنسيين على السلطنة العثمانية، لوقف مجازر أمير بوطان ضد الكلدان، وأصر الإنكليز على أن يتنحى بدرخان عن حكم إمارته وينفى خارجها، وذلك عقوبة له على ما يصر القيام به.
أصدرت السلطنة أمراً لبدرخان ليتنحى عن حكم إمارته... لكن كيف لهذا الأمر أن يُطبَّق... كيف لبدرخان أن يقبل هذا الأمر، والأرض الذي يحكمها قد ورثها من الآباء والأجداد... هزئ بدرخان من أمر السلطان ولم يرد بأي جواب ولم يعطيها أي أهمية، وأصبح متمرداً على السلطنة العثمانية، فشنت السلطنة حملة عسكرية ضده، ولكنها لم تفلح في إخضاع بدرخان، وبعد هذه الحملة الفاشلة أعلن بدرخان استقلال إمارته عن السلطنة العثمانية، ووسع حدود إمارته، وحتى أنه سك النقود باسمه وكان مكتوب عليها "بدرخان أمير بوطان".
لعله حينما كان بدرخان يحارب النسطوريين كان محل رضا لدى السلطنة، وربما كان قيام السلطنة بحملة عسكرية ضد بدرخان لم يكن إلا إطاعة لأوامر الإنكليز، لكن في الحقيقة ومن دون أي شك انه بعد إعلان بدرخان استقلال إمارته وظهور هذا الكيان الكردي المستقل بكل ما للكملة من معنى لم تعد السلطنة العثمانية تهتم لضغوطات الإنكليز، بل أصبحت هي بنفسها تريد القضاء على الكيان الكردي الجديد الذي أعلن استقلاله عن السلطنة.
ويتحدث الكاتب وديع جويده عن حملة بدرخان على بلاد النساطرة، فيقول:
"أنها كانت بمثابة الدعوة للآخرين للتدخل في الشؤون العثمانية، ليس عسكرياً، بل قدمت فرصة للقوى العظمى أن تتدخل بشدة في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية. والأهم من هذا كله، هو أن هذه الحملة، تحولت إلى ذريعة استعملها العثمانيون لمهاجمته للقضاء عليه وعلى إمارته."(4)
الآن وبأمر من السلطان (عبد المجيد) نفسه تم تجهيز جيش كبير بقيادة اسماعيل باشا -الشركسي الأصل- لقلع هذا التمرد الكردي من الجذور.
يتقدم جيش السلطنة الجرار نحو الجزيرة... بدرخان يتجهز للمعارك المحتمة عليه... بدرخان لا يهمه جيش السلطان... لدى بدرخان من الرجال الأشداء ما يكفيه لكسر شوكة السلطنة بأكملها... ولكن القدر مرة أخرى يعيد نفسه... وكأنه مقدر على الكرد أن لا يقوموا أبداً... قبل ما يقارب 2570 سنة كان هارباكوس... أما الآن هو عز الدين شير.
ينفصل عز الدين شير عن ابن عمه بدرخان، آخذاً معه ما يقارب 15000-20000 مقاتل كردي، لعل سبب ما قام به عز الدين شير كان ناجماً عن اتفاقية بينه وبين السلطنة ليستلم حكم الإمارة بعد قيام بدرخان عنها، وإن كان هذا صحيحاً فهذا يدل على عمق الخلاف في العائلة للوصول إلى السلطة (حكم الإمارة).
استطاع بدرخان في المعركة التي كانت قريبة من أورميه أن يصد الجيش التركي، لكن بعد خيانة ابن عمه انسحب بدرخان إلى عاصمته "جزيرا بوطان"، لكن الجيش التركي ظل يطارده إلى آخر معاقله "قلعة أروخ"، فيقاوم فيها لمدة 8 أشهر، وبعد نفاذ المؤن لم يستطع بدرخان الاستمرار واستسلم للسلطنة مجبراً، فجُر بدرخان مع عائلته وأركان جيشه إلى إستنبول(5).
بعد إخماد ثورة بدرخان قامت السلطنة بعدة أمور منها:
- نشر نقاط عسكرية في مناطق الكرد.
- توحيد مناطق هكاري وبرواري وجزيرا بوطان في ولاية واحدة تحت حكم يزدين شير.
- تجريد جميع بكوات وأمراء الكرد من حقوقهم الوراثية.
ضمن الانتشار اللافت لعساكر السلطنة في المناطق الكردية قامت في عام 1850م بمجزرة في مناطق أومَريان وذلك بحجة عدم دفع الضريبة، ومع غضب الكرد في تدخلات السلطنة في مناطقهم وأيضاً مع فرض التجنيد الإجباري في المناطق التي كانت تحت حكم يزدين شير، بدأ الأخير في توحيد القوى الكردية، ومع بدأ تحركاته قامت السلطنة بتنحيته عن حكم المناطق التي تحت إمرته وتعيين أحد باشاوات الترك مكانه...
يزداد غضب يزدين شير... قد خدعته السلطنة... كانت السلطنة سبباً لقيامه ضد ابن عمه... كانت سبباً لإفشال ثورة بدرخان... كل وعود السلطنة عبارة عن وهم... يصل غضب يزدين شير إلى قبة السماء... فيعلن الثورة ضد السلطنة... تنتشر صدى الثورة والكل يشارك فيها... من مدينة موصل إلى مدينة وان... عرباً وأشوراً وأرمناً، الكل يشارك الكرد في ثورتهم... الأهداف توحدت... وصل عدد الأشخاص الذين حملوا السلاح مع يزدين شير الـ 60 ألفاً... أصبحت الأرض تهتز تحت أقدام المتمردين... وبات كرسي السلطان يرتجف خوفاً.
لكن كما العادة، تلجأ السلطنة إلى الخداع، فاجتمعت مع وجهاء وشيوخ الكرد الذين أعلنوا ولائهم ليزدين شير وأعطتهم وعوداً هلامية كاذبة لينفضوا حول يزدين شير وليعم السلم الأهلي بين الكرد والأتراك كما تزعم.
ومع فشل يزدين شير في إقامة علاقات مع الجيش الروسي لمساعدته ضد السلطنة، قامت السلطنة بدورها بأخذ المساعدات العسكرية من الإنكليز، وبالمدافع الإنكليزية والأسلحة المتطورة التي امتلكتها السلطنة وبعد أن انفضت العشائر الكردية حول يزدين شير، أصبح يزدين مجبراً لدخول المفاوضات مع السلطنة، وضمن المفاوضات يقبض عليه وينفى كابن عمه لإستنبول، وبعد ذلك يرسل إلى مدينة يانيا اليونانية ويبقى فيه إلى يوم وفاته في سنة 1868م .

القسم الثاني: الأمير جلادت

في استنبول يولد حفيد لبدرخان وهو جلادت(6)، فكان جلادت من عائلة نبيلة وعاش في ترف وغنى، وكان والده أمين عالي بدرخان يجلب لأبنائه مدرسين لتعليمهم اللغة والثقافة الكردية - فعندما نفي بدرخان وعائلته إلى استنبول طلب بدرخان من جميع أولاده وأحفاده ان لا ينسوا لغتهم وثقافتهم الأم-.
وعلى الرغم من نفي العائلة البدرخانية إلى إستنبول كانت السلطنة العثمانية تشك في نواياهم، لذلك كانت تنقلهم من مكان إلى آخر والحجة كانت المناصب الوظيفية، لكنها حجة واهية أمام الحقيقة وهي أنها كانت تنفيهم من مكان إلى آخر بغرض تشتيتهم، فكان جلادت يتنقل مع أبيه أينما ارتحل.
عندما بلغ جلات الـ 18 من عمره التحق بالكلية العسكرية، وبعد إنهاء دراسته أصبح ضابطاً في الجيش العثماني وشارك في حروب القفقاس والبلقان.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918م لم تستطع الإمبراطورية العثمانية التماسك، فسقطت المدن واحدة تلو الأخرى من يدها، وضمن هذا الفوضى في المناطق التي كانت تسيطر عليها الإمبراطورية ظهرت عدة حركات ثورية.
وفي هذا الوقت كان جلادت يريد بناء قوة عسكرية من أجل تحرير المناطق الكردية في شمال كردستان، لكن الميجر نوئيل ادوارد الإنكليزي ألح على جلادت عدم بناء أي قوة عسكرية وأقنعه بجولة في المناطق الكردية للوقوف على مطالب الشعب الكردي وذلك قبل عقد جلسة معاهدة سيفر.(7)
لب جلادت طلب الميجر، لكنه لم يستطع أن ينهي ما بدأه، لأن ذئاب الاتحاد والترقي(8) بدأوا ينهشون بمخالبهم بأي حركة تحررية في تركيا.
وبإصدار أتاتورك في عام 1922م قراراً بنفي كل المتمردين الكرد، فلم يكن نصيب جلادت وعائلته إلا النفي خارج تركيا، فاتجه جلادت مع أخيه كاميران إلى ألمانيا(9).
في عام 1925م عندما اشتعلت ثورة الكرد في تركيا بيد الشيخ سعيد بيران كان هناك رغبة قوية من قبل الأمير الشاب للالتحاق بالثورة، لكنه لم يستطع الالتحاق بها، لأنه سرعان ما أخمدت هذه الثورة من قبل الأتاتوركيين الذين نهشوا بجسد الثورة كالذئاب الجائعة، فعاد جلادت مرة أخرى إلى ألمانيا، ثم يتجه إلى مصر ومن ثم إلى لبنان(10).
ويوضح البروفيسور إسماعيل بيشيكجي في كتابه "كردستان مستعمرة دولية" أن سياسة "فرق تسد" سياسة إمبريالية، فيقول:
" كانت كردستان قد قسمت، وكذلك الأمة الكردية، في الربع الأول من القرن العشرين بموجب معاهدة لوزان. ولعل أهم جانب في معاهدة لوزان لعام 1923م ينعكس في كونها تمثل تعاقداً إمبريالياً على تقسيم كردستان والأمة الكردية. ولهذا السبب فهي تكتسي أهمية مختلفة جداً من الكرد والأتراك. ففي ما يخص الأتراك تعني هذه المعاهدة إنشاء دولة تركيا مستقلة، فهي معاهدة دولية وفرت للدولة التركية المستقلة مختلف الضمانات، أما بالنسبة إلى الأكراد فقد تضمنت هذه المعاهدة ترسيخ الاضطهاد والعبودية واستعمار كردستان بل وإخضاعها لنظام استعماري دولي."(11)

القسم الثالث: تأسيس جمعية خويبون (الاستقلال)

بعد إخماد ثورة الكرد عام 1925م، تم في منطقة بحمدون اللبنانية وبعد سنة من الاستعدادات عقد مؤتمر كردي كبير في عام 1927م.
المؤتمر كان تحت رئاسة جلادت بدرخان ومحمود سليم بك وبمشاركة ممثل لحزب الطاشناق الأرمني فاهان بابازيان وأيضاً بمشاركة العديد من أعضاء الجمعيات الكردية مع مشاركة عدة رؤساء من العشائر الكردية والشخصيات الوطنية.
الهدف الرئيسي من المؤتمر كان تحرير المناطق الكردية من يد الدولة التركية. استمر المؤتمر شهر ونصف وبنهاية المؤتمر تم إخراج العديد من القرارات، منها:
- حل جميع الجمعيات السياسية الكردية، لخلق جمعية كردية كبيرة تحوي جميع الجمعيات المنحلة فيها.
- استمرار النضال بجميع أشكاله حتى إخراج آخر جندي تركي من الأراضي الكردية.
- وضع خطة قبل البدء بالثورة العامة لتحرير كردستان.
من نقاط الخطة:
- تعيين قائد عام للقوى الوطنية الكردية.
- تنظيم القوى العسكرية واستعدادها وتدريبها على خطط الحرب، مع تزويدها بالأسلحة الحديثة.
- تأسيس مركز عام للثورة والقيادة العليا للقوى الوطنية في أحد جبال كردستان.
- إقامة علاقات أخوية دائمة مع حكومات وشعوب إيران وسوريا والعراق.
لم يمر وقت طويل حتى تم فتح مئات من الفروع لهذه الجمعية الجديدة التي تم تسميتها بـ " جمعية خويبون "، وحتى تم فتح فروع لها في أمريكا وأوروبا أيضاً.
كانت حركة المنظمة في باريس الأكثر نشاطاً في أوروبا، لعل ذلك يبيّن العلاقة الوثيقة بين الجمعية وحكومة الانتداب الفرنسي في تلك الفترة.
ورؤساء جمعية خويبون اختاروا إحسان نوري باشا ليؤسس قوة عسكرية في آكري.

إحسان نوري باشا .... وثورة آرارات (آكري)

إحسان نوري باشا كان من أحد الضباط في الجيش العثماني، حيث أنه شارك في عدة معارك مع صفوف الجيش العثماني، ومع نشوء تنظيم الاتحاد والترقي أصبح عضواً فيه.
بعد مشاركة القيادات الكردية فيما يسمى بحروب الاستقلال التركية ومع سقوط السلطنة وقيام الجمهورية لم يفي أتاتورك بوعوده للقيادات الكردية، وذلك في إعطاء الكرد حقوقهم، وأيضاً بعد بشاعة أفعال الأتاتوركيين في إخماد ثورة الكرد في عام 1925م التي كانت بقيادة سعيد بيران، بات إحسان نوري باشا حانقاً على الحكومة التركية الجديدة وأصبح يريد في استئصال سلطتها من المناطق الكردية لتحرر الكرد من عجرفة الحكومة الجديدة، ومع مساعدة من تنظيم خويبون التي أسسها الأمراء البدرخانيين مع وطنيين كرد بدأت ثورة آرارات في خريف عام 1927م بقيادة إحسان نوري باشا.
القوات الكردية التي نشأت حديثاً بدأت بتنفيذ عمليات فدائية ضد الجيش التركي، وفي عام 1928م بدأت الدولة التركية بشن حملة خاصة في جبل آكري، لكنها فشلت مع مقاومة الكرد.
مع الفشل الذريع للجيش التركي في جبال آكري المنعية بدأت الدولة التركية في تغيير سياستها في المناطق الكردية، فقامت بعدة أمور، منها:
- إيقاف الحملات التي كانت تسبب في تهجير الكرد من مناطقهم وإعادة المهجرين إلى مناطقهم.
- إصدار عفو عام مع إقالة المفتش العام في المناطق الكردية.
بعد هذا طلبت الدولة التركية من الكرد لترك السلاح وحل تنظيم خويبون لعودة السلم الأهلي في المنطقة، لكن هيهات للكرد أن يصدقوا مرة أخرى تفاهات أتاتورك، فلم يترك الكرد السلاح وثابروا في المقاومة، مما أدت بالدولة التركية لشن حملة جديدة ضد المناطق الكردية مع بداية حزيران عام 1930م، لكن مع الروح الكردية المتمردة فشلت الحملة الأتاتوركية، ومن نتائج الحملة:
- آلاف القتلى والجرحى في صفوف الجيش التركي.
- إسقاط 12 طائرة تركية.
- حصول الكرد على 60 مدفعية و150 خيمة و300 قطعة سلاح.
أعلنت الدولة التركية النفير العام والتجنيد الإجباري، ومع فشل الجيش التركي في محاربة الثوار في جبال آكري بدأت الهجوم على القرى ومناطق الكرد الخالية من الثوار، فاتجهت صوب مناطق وان وجولميرك وهكاري وجالديران والقرى المحيطة بجبل آكري، وقامت بعدة مجازر مع إحراق مئات القرى.
بعد هذا الخراب التي خلّفته الدولة التركية في المناطق الكردية أقيمت في استنبول اجتماع برئاسة أتاتورك مع مشاركة قادة الجيش ووزراء الحكومة، ومن أجل القضاء على ثورة آكري وأي ثورة محتملة أخرى أخرجوا عدة قرارات، منها:
- القضاء على حياة العشيرة لدى الكرد ليتفرقوا إلى مناطق الأتراك المتعددة.
- تجريد مناطق الكرد من السلاح.
- فرض التهجير الإجباري في المناطق الكردية.
- تتريك الكرد بالطرق المختلفة لمحو الهوية والقومية الكردية من الوجود.
- منع القراءة والكتابة وحتى التكلم باللغة الكردية.
ولفهم درجة فاشية الدولة التركية في تلك الفترة يكفي فقط ذكر تصريح لوزير العدل التركي حين ذاك "محمود أسعد بك" يقول فيه:
" إن عقيدتي ونظريتي هي هذه: ليعلم الصديق والعدو حتى الجبال أن سيد هذه البلاد هو التركي فمن لم يكن من الدم التركي الصميم ليس له في الوطن التركي سوى حق واحد هو أن يكون خادماً وعبداً. نحن في بلاد أكثر حرية من جميع بلاد العالم. هذه هي تركيا. ولم تكن لتوجد فرصة أعظم من هذه ليبوح فيها نائبكم بعقيدته. ولهذا تروني لا أخفى عواطفي وإحساساتي عن أحد." (12)
كانت ثورة آكري ذات تنظيم قوي وفعال، ففي بداية الثورة نجح إحسان نوري باشا في الانتصار في عدة معارك ضد الجيش التركي، فدافعت الثورة عن وجودها وقاومت بضراوة ضد كل الهجمات الوحشية من قبل الحكومة، لكن بعتاد العسكري المتطور للجيش التركي وبالذخيرة التي لا تنتهي نجح الجيش التركي في محاصرة معاقل الثورة في جبال آرارات، فنفذت الذخيرة والمؤن من المتمردين الكرد، وأجهضت الثورة.
هرب إحسان نوري باشا مع عائلته مع عدة من شاركوا في الثورة (من ضمنهم جلادت) إلى إيران، وطلب الثوار الهاربين المساعدة من شاه إيران، لكنهم فشلوا في ذلك ولم يلقوا أي مساعدة.
قُبل إحسان نوري باشا كلاجئ سياسي(13)، أما جلادت أراد وهو في إيران التحرك في المسائل القومية الكردية، لكن السلطة الشاهنشاهية لم تسمح بذلك، وحاول شاه إيران محمد بهلوي جعل جلادت تحت جناحه وذلك بجعله قنصلاً في إحدى دول العالم الذي يختاره هو بنفسه، لكن جلادت رفض طلب الشاه، فطرد من إيران.

القسم الرابع: جلادت في دمشق

بعد خروج جلادت من إيران اتجه إلى جنوب كردستان ثم إلى بغداد، لكن حتى الإنكليز لم يحبوا مكوثه في العراق، فعاد إلى بيروت ومن ثم إلى سوريا(14).
شارك جلادت في سوريا في تأسيس جمعية باسم "الجمعية الكردية لمساعدة بؤساء الكرد" في الحسكة، التي كانت تساعد الكرد النازحين، لكن حتى فرنسا التي كانت تحتل سوريا كانت تكره وجود شخص مثل جلادت عالي بدرخان بين صفوف الشعب الكردي في الشمال السوري أو بالأحرى بالقرب من الحدود السورية التركية... فالثعالب والذئاب أصبحوا أصدقاءً.
في سنة 1930م أذنت الحكومة الفرنسية لجلادت بالمكوث في دمشق. وجلادت في دمشق كان يسعى لإقامة قوة كردية مسلحة، حيث اقترح الأمير في عام 1936م على ثوار فلسطين في إرسال قوة كردية مسلحة لمساعدتهم، لكن لم يأخذوا باقتراحه، وأيضاً طلب الأمير من الحكومة السورية لإنشاء قوة عسكرية كردية لمواجهة أي خطر خارجي، لكن الحكومة السورية لم تقبل ذلك الطلب... وكيف لها أن تقبل؟
ماذا سيفعل الأمير المنفي الذي جُرد هو وعائلته من أراضيهم وأملاكهم ... ومن إمارتهم ... وحتى من شعبهم... أمام كل من الاحتلالين البريطاني والفرنسي في سوريا والعراق وأمام السلطة الشاهنشاهية في إيران وأمام حكومة الاتحاد والترقي بقيادة أتاتورك في تركيا... ماذا سيفعل حفيد بدرخان الذي يحلم بأرض الأجداد، بمواجهة الذي يضع رجله فوق قبر من كان من أجداده الغابرين، بمواجهة الذي يحمل في نفسه حقد مئات السنين، قائلاً: قم .. قم يا صلاح الدين... قم يا صلاح الدين، ها قد عدنا.
بعد أن استقر جلادت في دمشق، نظر إلى قضية الشعب الكردي من زاوية أخرى وبأسلوب آخر، فقد أدرك الأمير جلادت أن قيام أي حركة كردية عسكرية ستفشل، لأن قوى العالم قاطبة أصبحت ضد الكرد، ضد قيام أي كيان كردي.
رأى جلادت إن الشعب الكردي ينقصه المعرفة، ومن أجل ذلك يجب أن يتعلم القراءة والكتابة قبل كل شيء، لكي يستطيع أن يرى من حوله. أي لن تتحرر كردستان وشعبها إلا بعد أن يستيقظ الشعب الكردي من غفوته ويعمل من أجل قضيته.
وحتى يصل الكرد إلى مرحلة اليقظة يجب أن يمر بالكثير من المراحل. وبحسب جلادت عندما يتعلم أفراد الشعب الكردي لغتهم الأم سيقوي وحدتهم ومشاعرهم القومية، فوحدة الشعوب تبدأ بوحدة اللغة كما يراه، وهذه الوحدة ستكتمل بتوحد شكل أحرف الكتابة، فأول خطوة لتوحيد الشعب الكردي هو وحدة اللغة وأحرفها.
بدأ جلادت في سنة 1919م بالبحث في اللغة الكردية، وبعد أن استقر في دمشق أعطى كل وقته للغته الأم، حتى تمكن من تأسيس ألفباء جديدة لها وهي الألفباء اللاتينية، واستطاع في عام 1932م من نشر الألفباء الجديدة في مجلته "هاوار".

مجلة هاوار:

استطاع جلادت مع نخبة من مثقفي الكرد من تأسيس مجلة باسم "هاوار"، وقد صدر العدد الأول في 15-5-1932م وآخر عدد (57) في 15-8-1943م.
لهاوار ثلاث مراحل حيث انها لم تعش 11 عاماً، بل أقل من 5 سنين:
من العدد 1 (15-5-1932م) إلى 23 (27-7-1933م)
من العدد 24 (1-4-1934م) إلى 26 (18-8-1935م)
من العدد 27 (15-4-1941م) إلى 57 (15-8-1943) (15)
المجلة كانت شهرية وأحياناً نصف شهرية وباللغتين الكردية والفرنسية، كانت عدد صفحات المجلة حوالي 20 صفحة واثنان أو اربعة صفحات منها كانت باللغة الفرنسية. وكانت المجلة إلى العدد 23 تنشر بالأحرف العربية واللاتينية وبعدها بدأت تصدر فقط بالأحرف اللاتينية.
مجلة "هاوار" كانت مجلة أدبية - ثقافية – اجتماعية. وكان هدف جلادت من هذه المجلة إحياء وتقوية الثقافة والأدب الكردي وأيضاً تعرفة الألفباء الجديدة للشعب الكردي.
كانت مجلة "هاوار" ملتقى لأشهر كتاب الكرد في تلك الفترة، ومنهم: جكر خوين ونور الدين زازا وأوصمان صبري وقدري جان ...

مجلة روناهي:

أيضاً أسس الأمير مجلة أخرى باسم "روناهي"، وتأسست في 1-4-1942م واستمرت حتى عام 1945م. وكانت شهرية، وباللغة الكردية -الأحرف اللاتينية- فقط، وصدر منها 28 عدد.
كانت المجلة تعتبر سياسية بامتياز، حيث كانت تندد بالفاشية التي كانت منتشرة في العالم في تلك الفترة، وكان هدف جلادت من المجلة نشر أفكار الحرية والعدالة في المجتمع وأيضاً خلق فكر كردي حر وفوق كل شيء أن يُعرِّف العالم على الهوية الحقيقية للشعب الكردي.
وفوق تأسيس المجلتين، لجلادت العديد من النتاجات المرتبطة بالقضية الكردية وأيضاً بقواعد اللغة الكردية.
كان هناك رغبة عند جلادت في توحيد الصف الكردي، وأدرك أنه حتى يتوحد الكرد يجب عليهم أن يستيقظوا من غفوتهم ويجب أن يزيدوا في وعيهم وثقافتهم ويروا من حولهم، ليعرفوا إنهم الوحيدون في العالم الذين لم يصبحوا كياناً مستقلاً.
وكنتيجة لنهاية بحثنا في هذه الحلقة من المحكمة نود أن نذكر ما ذكره إسماعيل بيشيكجي عن أتاتورك:
"ألقى مصطفى كمال في الثلاثينات خطاباً أمام أعضاء جمعية تاريخ تركيا شرح فيه وجهات نظره حول حرب التحرير التي خاضتها أمم البلقان ضد الإمبراطورية العثمانية. وتسائل: (( لماذا خسرنا شعوب البلقان )) .
وقدم الإجابة على هذا السؤال بنفسه مؤكداً على أن (( شعوب البلقان كانوا قد أسسوا معاهد للبحوث السلالية وأعدوا دراسات مفصلة عن لغاتهم وآدابهم وتاريخهم وثقافتهم )).
وذكر بوضوح أن هذه الأعمال والمناقشات التي دارت بصددها (( إنما أدت إلى ولادة وعي قومي بين هذه الشعوب كان وراء ثورتها ضد الإمبراطورية العثمانية )). "(16)
يريد أتاتورك بكلامه أن ينهض بالأمة التركية بإحياء تاريخها وحضارتها وذلك بتأسيس المعاهد والجامعات الملائمة لذلك. لكن لو نظرنا جيداً في كلام أتاتورك - الذي يعد من أشد الأعداء للكرد في العصر الحديث - لنجد الحل الملائم والأنسب للقضية الكردية، ولو نظرنا مرة أخرى لمسيرة جلادت النضالية لنجد أن ما قامه به كان جزء من ذلك الحل.
ولعل ما كتبه الشاعر قدري جان على قبر صديقه جلادت(17) يختصر مسيرة الأمير الطويلة:
" الأمير الكردي
ابن كردستان
حفيد بدرخان
جلادت
المضحي، صاحب الهمم
حتى لو كان جسده مدفوناً هنا
لكن روحه قد ارتفع إلى السماء
في سبيل الوطن
صاحب العهد
ضحى بروحه ليكون قرباناً
هو لم يمت، بل مازال حياً
واسمه ابدي "
..................................................................

الهوامش والمصادر:

1- بدرخان يكون ابن عبد الله خان، ولد في أمد في العقد الأول من القرن 19. توفي اباه في عام 1822م، واستلم بدرخان زمام الإمارة وهو في شبابه.
2-كاتب عراقي مسيحي من محافظة البصرة.
3-وديع جويده: الحركة القومية الكردية، ص181.
4- وديع جويده: الحركة القومية الكردية، ص176.
5-بعد نفي بدرخان يسمح له أن يقضي آخر أيامه في دمشق. ويتوفى في عام 1868م ويدفن في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي الموجودة في حارة الأكراد في دمشق.
6- ولد في 26 أيار عام 1893م من أبيه أمين عالي بدرخان ووالدته سنيحة وهي شركسية الأصل، وكان الابن الثاني لأبيه.
7- معاهدة سيفر عام 1920م: تضمنت المعاهدة تخلي الإمبراطورية العثمانية على كل الأراضي التي لا يقطنها الأتراك (الناطقين باللغة التركية) وأيضاً استيلاء الحلفاء على الأراضي التركية، فقسمت المنطقة بين الانتدابين أو بالأحرى الاحتلالين البريطاني والفرنسي، ولكن بعد ما يسمى بالحروب الاستقلال التركية بين عامي 1919-1923م ألغيت معاهدة سيفر وأقيمت معاهدة لوزان ومن نتائجه قيام الجمهورية التركية.
معاهدة سيفر استمرت لـ 3 سنوات، وفيها ذكرت المسألة الكردية وبذلك يكون للمرة الأولى تذكر القضية الكردية في العرف القانوني للمعاهدات الدولية.
كانت في المادة الثالثة من معاهدة سيفر مادتين (62-64) تتحدثان عن المسألة الكردية، كانت المادة 62 تتحدث عن إقامة حكم ذاتي في الناطق الكردية، أما المادة 64 كانت تنص على انه بعد سنة من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ يحق للكرد الاستقلال عن تركيا إذا كانوا مؤهلين لذلك. لكن لم تبقى هذه البنود أو معاهدة سيفر برمتها إلا حبراً على ورق، وبعد هذه المعاهدة الميتة تظهر معاهدة أخرى باسم لوزان، لكنها لم تختلف عن سابقتها بالنسبة للكرد.
8- تعتبر كأول حزب سياسي في الإمبراطورية العثمانية حيث انها كانت معارضة للسلطنة، تأسست في استنبول عام 1889م وفي عام 1918م استلمت زمام الحكم في تركيا.
9-يدرس الحقوق في جامعة لايبزك ويتخرج منها في عام 1925م.
10-في عام 1929م يصبح جلادت عضواً في نقابة المحاميين في لبنان، وحصل على شهادة حيث استطاع أن يعمل من خلاله.
11-إسماعيل بيشيكجي: كردستان مستعمرة دولية، ص 34،35.
12- أحمد تاج الدين: الأكراد "تاريخ شعب وقضية وطن"، ص 120.
13- يبقى إحسان نوري باشا في إيران إلى أن يتوفى في تاريخ 25-3-1976م بعمر يناهز 78 عام.
14-عندما كان الأمير في دمشق وذلك في عام 1935م تزوج من روشن بدرخان، ووالدة روشن ووالد الأمير جلادت أبناء عم. وفي 21 آذار عام 1938م رزقا بابنة (سينم) وفي 9 تشرين الثاني 1939م رزقا بولد (جمشيد).
15-جوردي غورغاس: الحركة الكردية التركية في المنفى, ص330.
16-إسماعيل بيشيكجي: كردستان مستعمرة دولية، ص 45،44.
17- توفي جلادت في 15-7-1951م، ودفن بقرب جده بدرخان بك في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي.

المراجع:

1-هذا البحث جزء من مشروع تخرج قدمناه لنيل درجة الإجازة في جامعة روجآفا، كلية الآداب، قسم اللغة والأدب الكردي.
2-أحمد تاج الدين: الأكراد - تاريخ شعب وقضية وطن - دار النصر للطباعة الأسلامية، القاهرة، 2000م.
3-إسماعيل بيشيكجي: كردستان مستعمرة دولية، ترجمة الدكتور زهير عبد الله, دار آخيل للطباعة والنشر, اليونان - أثينا, 1999م.
4-جوردي غورغاس: الحركة الكردية التركية في المنفى, ترجمة جورج البطل، دار الفارابي، بيروت - لبنان.
5-دلاور زنكي: مذكرات الأمير جلادت بدرخان، اصدارات هيئة الثقافة في مقاطعة الجزيرة - سوريا ، مطبعة سيماف ، قامشلو.
6- دلشاد مراد: دراسة /الصحافة الكردية في غرب كردستان 1898-2016م/ صحيفة روناهي، العدد 286، 2016م.
7-عبد الله قره مان: وطن شمس - تاريخ كردستان من القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر - المجلد الثاني.
8- كوني رش: العائلة البدرخانية - رحلة النضال والعذاب - ,طبعة نيسان 2018م، قامشلو.
9- م.س لازاريف: المسألة الكردية (1917-1923)،ترجمة د. عَبدي حاجي، دار الفارابي، بيروت - لبنان.
10-وديع جويده: الحركة القومية الكردية /نشأتها وتطورها/، ترجمة مجموعة من المؤلفين، دار الفارابي، بيروت - لبنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط