الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: زيارة خاطفة !

محمد عبد المنعم الراوى

2019 / 2 / 11
الادب والفن


قصة قصيرة: زيارة خاطفة !
يبدو أن إبراهيم قد اعتاد حياة الغربة..سبعة وعشرون عاماً قضاها هناك..لم يهبط خلالها إلا بضع زيارات خاطفة..ليطل على أبويه وزوجته وأبنائه..ثم يعود حيث جاء إلى البلد البعيد.
إلا المرة الأخيرة التى سافر فيها..مكث هناك سبع سنوات ..لم يرغب خلالها فى النزول..حتى يستطيع أن يوفر أكبر مبلغ من المال..يضيفه لرصيده فى البنك..حجته فى ذلك ـ كما قال لزوجته نوال ـ أنه يرغب فى أن يؤمّن مستقبلاً أفضل لأبنائه لكى لا يمروا بما مرّ به هو من حياة صعبه عاشها مع أبويه فى منزل متهالك يقع فى آخر حارة مسدودة بحى عشوائى .
لم يشعر إبراهيم بالسنين التى ولّت..ولا بالعالم الذى يتغير..انشغل فقط بعمله وجمع المال..تدهورت صحته..تعطلت إحدى كليتيه..أصابه فيروس يحاول العلاج منه..هذا بخلاف ما أصابه من ضغط دم وسكر..حتى لم يعد هو نفسه يدرك ملامحه جيداً التى تبدلت..جلد سميك أسمر..وجه مجعد شاحب..جسد نحيل..شعر أبيض تسلل لرأسه وشاربه وذقنه التى أطلقها مؤخراً.
نوال والأبناء ينتظرونه فى ساحة الانتظار بالمطار منذ الرابعة مساء..رغم أن موعد وصول الطائرة الساعة السابعة..ظلت نوال تترقب خروجه عليها بفارغ الصبر والأبناء جالسين بعيداً على مقاعدهم..منشغلين بما حملوه من وسائل التسلية..هبة تحمل الموبايل..حازم يحتضن التابليت..مروان بالطبع لم يكن يستطيع حمل الكمبيوتر ليمارس ألعابه المفضله..لكنه اكتفى بحمل الكرة وتناول الساندودشات والكنز.
بدأ ركاب الطائرة فى الخروج الساعة العاشرة والنصف..نوال ترفع رأسها تتفرس وجوه الخارجين..تحاول التقاط وجه زوجها..لم تعلم أنها ستتعرف عليه تلك المرة بصعوبة..ما زالت محتفظة فى ذاكرتها بنفس الوجه الذى فارقها منذ سبع سنوات.
أخيراً ظهر إبراهيم بملامح قاسية لم تعهدها نوال من قبل..حين كان يغيب مدة عامين..ثم يعود إليها أثناء إجازة الصيف..توقف أمامها مبتسماً وهو قابض على حقيبة يده..نادى عليها..حينئذ تأكدت أنه هو..انطلقت نحوه..ظلت تحتضنه..وتقبله..نسيت الدنيا والناس جميعاً من حولها..عاتبته وهى تبكى على طول غيابه..الأبناء ما زالوا يتفرسون ملامحه..هبة وحازم يحاولان التعرف على أبيهم..أما مروان فقد اختبأ خلف أمه حين حاول أبوه أن يحمله ويضمه إلى صدره.
دار حوار جانبى بين إبراهيم ونوال.. إبراهيم يسأل ونوال تجيب كمن تحاول اجتياز اختبار شفهىّ مفاجئ..الأبناء يتلفتون باحثين عن الحقائب..اصطحبهم إبراهيم نحو الممر الآخر..أخذ يناول كلاً منهم حقيبة فيتلقفها بسعادة غامرة..يرفعها على العربة الجرارة بحرص وحذر..كل منهم يسير بعربة كأنها غنيمة قد استطاع أن يغتنمها بعد طول انتظار فى ساحة المطار.. رصوا الحقائب فى سيارتهم الخاصة..سلكوا الطريق نحو شقتهم..الأبناء يلاحقون إبراهيم بالأسئلة عما تحويه الحقائب..كان عليه أن يجيب..شعر الأبناء بشئ من خيبة الأمل..يبدو أن إبراهيم خذلهم فى معظم إجاباته التى لم توافق نموذج الإجابة الذى أعدوه سلفاً.
دخل الجميع الشقة حاملين الحقائب..استلقى ابراهيم على الكنبة ونوال بجانبه تسند رأسها على كتفه وهى تقبض على يده..أما الأبناء فقد افترشوا أرض الصالة..يفتحون حقيبة تلو الأخرى..يبعثرون محتوياتها..لعلهم يعثرون على أى شئ مما كانوا يحلمون به..
تحاول نوال إيقافهم دون جدوى:
ـ وبعدين يا ولاد..عيب كده..استنوا لمّا بابا يسترح شوية.
لكن إبراهيم كان يقدر شعورهم ولهفتهم بعد طول انتظار:
ــ سيبيهم..فرحانين بباهم..نفسهم يعرفوا جابلهم ايه؟!..المهم يا ولاد ما حدش ييجى ناحية الشنطة دى علشان دى بتاعة تيتا وجدو..ولا أقولك خدى يا نوال..دخليها جوه فى الأوضة بتاعتنا..عشان حخدها الصبح ..واطلع بيها على بيت بابا وماما.
أخذت نوال الشنطة من يد إبراهيم وهى ترتجف..ودقات قلبها تتلاحق حين ذكر أمامها أمه وأبيه..لكنها دخلت الغرفة..وضعت الشنطة فى الزاوية..ألقت جسدها على السرير باكيةً..تتمنى بقاءه وعدم الذهاب هناك.
ما زال الأبناء يفتشون يبحث كل منهم عن بغيته.. موبايل آخر موديل..أو تابليت حديث..لكنهم لم يجدوا إلا ملابس ذات موديل قديم..لا يستطيعون ارتداءها أو التباهى بها أمام أصدقائهم..وبعض اللُّعب التى عفى عليها الزمن.
بعد أن أضناهم جميعاً التعب والشعور باليأس..قرر كل منهم التنازل ـ راضيا ـ عن غنيمته الزائفة لأخيه.
نهضت هبة..جلست على كرسى بعيد..تتحدث بأسى وعتاب لأبيها:
ـ ايه ده يا بابا اللى انت جايبه..طب كنت اسألنا الأول.
وقبل أن يدخل حازم غرفته نصح أباه قائلاً:
ـ أنا بصراحة يا بابا من رأيى..تدينا حقنا ناشف ونجيب اللى احنا عاوزينه.
أما مروان فقد ظل جالساً على الأرض يبكى..نهض إبراهيم ليحمله ويجلسه على رجليه..لكن سرعان ما انتفض مروان مبتعداً صارخاً:
ـ أوعى..سبنى!
شعر إبراهيم بخيبة أمل لم يكن يتوقعها..ليس فقط لعدم إعجاب أبنائه بما جلبه لهم من هدايا..لكن لردة فعلهم وانصرافهم عنه..حيث اعتقد أن مجرد عودته إليهم ستبعث فى نفوسهم فرحة عارمة تجعلهم يلتفون حوله..يرتمون فى أحضانه معبرين عن مدى شوقهم إليه..كما فعل هو حين حاول أن يعبر عن مدى حنينه ولهفته عليهم..لكن للأسف خذلوه..
لم يعطوه أدنى فرصة للتعبير عمّا جاش به قلبه سنين طويلة عاشها بعيداً عنهم.
لم يكن يتصور أن مجرد لعبة تجعل ابناً ينصرف عن أبيه هكذا..أو يشيح بوجهه ويجلس منفرداً بعيداً عنه.
تذكر إبراهيم حين كان طفلاً أصغر من ابنه مروان بعامين تقريباً..حين طلب من أبيه أن يشترى له لعبة ـ حصاناً من البلاستيك كان ثمنه زهيداً ـ ولم يكن فى استطاعة الأب شراؤها..فلم يلح الابن على أبيه كما لم يعبر عن تعلقه بها..بل عبر عن تعلقه بأبيه حين قفز على ظهره.. وهو يقبله ويضحك قائلاً:
ـ خلاص حتعمل انت حصان.. وأنا اركب على ضهرك.
فالتقطه أبوه وألقى به على كاهله وظل يجرى به فى الطريق..وإبراهيم يفرد يديه فى الهواء ويؤرجحهما..وضحكاته تتوالى..تجوب الفضاء وتملؤه صخباً.
لم يستطع إبراهيم أن ينام ليلته إلا بعد أن يدخل غرف أبنائه..ليحتضنهم ويقبلهم قبل أن يغرقوا فى النوم..لكنه كلما دخل على أحدهم وجده يقظاً..منفصلاً عن العالم..لم يبال به..بل لم يشعر بوجوده فى غرفته..الابنة الكبرى تعيش عالماً آخر على الفيس بوك..الابن الأوسط أمام التابليت يمارس ألعاباً سخيفة دون سنه..الابن الأصغر يشاهد أفلاماً من الكرتون ببلاهة وانفعال.
لذا كلما فتح إبراهيم باباً على أحدهم عاد فأغلقه منطوياً على مزيد من الأسى على هؤلاء الأبناء الغرباء.
اضطر أن يعود لغرفته ليسأل زوجته عن سر التحول الذى حلّ بأبنائه جميعاً..فوجد نوال ممددةً على السرير..أسرعت بمسح دموعها دون أن يلحظ..جلس بجانبها..سألها وهو يضرب كفاً بكف:
ـ ايه ده يا نوال؟!..العيال بقوا فى عالم تانى..كل واحد مع نفسه..اللى قاعد على الفيسبوك..واللى قاعد على الكمبيوتر..واللى ماسك تابليت..أنا ما بقتش فاهم حاجة؟!.
ـ كل حاجة حوالينا يا ابراهيم بتتغير..وكل يوم بيظهر جديد.
ـ بس يا ترى التغيير ده للأفضل ولاّ للأسوأ ؟!
ـ ممكن يكون للأسوأ!..بس للأسف كل شئ جديد لازم يفرض نفسه..رضيت أو ما رضيتش.
فرد ابراهيم ممتعضاً:
ـ طب افرضى يا ستى إنى مش راضى؟!
ـ وافرض ليه انت فعلا مش راضى ورافض حاجات كتير من زمان..انت اخترت الغربة اللى عزلتك سنين عن الواقع اللى انت مستغربه دلوقتى..فى حين كل الناس بتعيش الواقع..واتعودت عليه..وأصبح اللى انت مستغربه ده بالنسبة ليهم شئ عادى جداً!
ـ حاجة عجيبة..أنا فعلاً بقيت مستغرب كل حاجة حواليا!
مالت نوال على جنبها لتكون فى مواجهة إبراهيم..سألته:
ـ ما يمكن اللى حواليك همّ اللى مستغربينك؟!
فنظر إليها مندهشاً دون أن يعلق.
ـ أنا عاوزاك تجاوبنى على سؤال واحد..مستنياك سنين علشان أسألهولك!
ـ اسألى يا ستى..من حقك.
ـ ليه يا ابراهيم؟!.
ـ ليه ايه؟!
.ليه تبعد عننا السنين دى كلها!..وعلشان ايه؟!..احنا بقالنا واحد وعشرين سنة متجوزين..ما قعدناش فيهم سنتين مع بعض.
أخذ إيراهيم يربد على يدها..ويجيب على سؤالها الذى يراه اتهاماً وليس مجرد سؤال:
ـ معلش يا نوال..أنا عارف إنى جيت عليكى كتير..بس كان لازم نستحمل.
سحبت نوال يدها..اعتدلت فى جلستها وهى تصر على عتابها الشديد له:
ـ ليه يا ابراهيم لازم نستحمل؟!..ولحد امتى؟!..
خلاص اللى فاضل من عمرنا مش قد اللى راح!
ـ انتى ما تعرفيش أنا كمان بتعذب ازاى فى الغربة وأنا بعيد عنكم..لكن عندى استعداد اتحمل أكتر من كده علشانك وعلشان الأولاد..وعلشان أبويا وأمى اللى نفسى أعوضهم سنين الحرمان والشقا اللى شفوها.
نهضت نوال..دارت حول السرير..استجمعت شجاعتها لتخبره بما لم تكن ترغب فى إخباره به:
ـ دول ماتوا يا ابرهيم..وشبعوا موت.
فانتفض صارخاً فى وجهها :
ـ انتى بتقولى ايه؟!..مين دول اللى ماتوا؟!
ـ أمك ماتت من سنة ونص..وأبوك مات بعدها بشهر واحد..وكان لازم أعمل بوصيته إنى ما اعرفكش..علشان زى ما قال مش عاوزك تزعل وانت عايش هناك لوحدك فى الغربة!
سقط إبراهيم على الأرض ينتحب ويبكى بكاءً لا ينقطع..حاولت نوال أن تحمله من تحت إبطيه..لكنها فشلت..جلست بجواره على الأرض وهى تحتضن رأسه وتضمه بقوة نحو صدرها ..ظلت تشاركه نحيباً وبكاءً مرّاً حاولت حبسه سنين طويلة..لكنه استعصى عليها الآن..فانطلق متحرراً بعدما تحطمت قدرتها الآن على حبسه من جديد.
كلاهما ما زال يبكى..دموعها تبلل شعر رأسه الذى دفنته فى صدرها..ودموعه تنهمر على صدرها وفخذيها.
نهضت نوال متوجهة نحو المطبخ..أعدت كوبين من الشاى..وضعت علبة السجائر والولاعة على الصينية..عادت لتجلس بجانبه على الأرض..أخرجت سيجارة ..أشعلتها..ناولتها لإبراهيم فى يده..أخذت تقلب الشاى..ناولت إبراهيم كوبه..أخذت رشفة من كوبها..رفعت رأسه تحدثه برفق:
ـ كلمنى يا ابراهيم..ما تقعدش ساكت.
سحب نفساً عميقاً من سيجارته..رد باقتضاب:
ـ عوزانى أقول ايه!
ـ قول أى حاجة..المهم ما تقعدش ساكت.
عاد وسحب نفساً أعمق!
ـ خلاص الكلام ما عدش له لزوم!
صمت برهة..سحب نفساً آخر أحرق ما تبقى من السيجارة..واصل حديثه وهو يطفأ السيجارة فى الصينية:
ـ دلوقتى بس حسيت بالغربة..الغربة اللى ما حستش بيها طول 27 سنة وأنا بعيد..حستها دلوقتى بس وأنا جنبكم.
ـ بإيدينا يا ابراهيم نغير الواقع اللى سبناه يفرض نفسه علينا..تعال نبدأ من جديد..
نبدأ مع بعض حياة جديدة نشكلها زى ما احنا عايزين..
ايه رأيك ما تيجى نهد البيت القديم..ونبنيه تانى من أول وجديد.
ـ انتى بتقولى ايه يا نوال..أهد عمرى كله اللى عشته هناك..
أهد ذكريات محفورة فى قلبى من سنين!
ـ هوّ ده بالظبط اللى أنا عاوزاه يا ابراهيم..أنا مش عاوزه أهد حيطان..
أنا عاوزه أهد كل ذكرى حزينة معششة جواك..
أهد الماضى اللى عمّال يحطم فيك وانت مش دريان..
تعالى نهده ونبنى بداله أمل ومستقبل وحياة تانية مستنيانا.
ـ انتى لسه قايلة من شوية..اللى فاضل من العمر مش قد اللى راح.
ـ أكيد!..طول ما انت بعيد..لكن لو فضلت معانا..اللى جاى حيكون أجمل..
وكل لحظة حتيقى بالنسبة لنا عمر جديد ما عشنهوش قبل كده..
جرب يا ابراهيم..جرب مش حتخسر حاجة!
ـ مش حخسر حاجة؟!.. بعد كل اللى خسرته!
سحب إبراهيم سيجارة أخرى..قامت نوال بإشعالها له..واصل حديثه:
أبويا وأمى اللى كانوا منتظرنى سنين..وماتوا من غير ما اشوفهم..أو حتى أدفنهم بإيدى..يبقى ما اخسرتش حاجة.
ولادى اللى بيعاملونى على إنى شخص غريب كان رايح يشترلهم لعبة وجاى..ولا اللعبة عجبتهم ولا حسّوا بيّا كأب كان غايب عنهم سنين طويلة..وتقولى ما خسرتش حاجة.
عمرى اللى راح..وصحتى اللى مش حقدر أعوضها تانى..وبرضو تقولى ما خسرتش حاجة..تقدرى تقوليلى ايه اللى فاضلى تانى لسة ما اخسرتهوش.
ظل إبراهيم يجهش بنحيب وبكاء لا ينقطعان..شغلاه عن سحب نفساً ثانياً من السيجارة..حتى احترق نصفها فى يديه..سقطت الطافية فى حجره..أسرعت نوال بنفخها..وضعت يديها حول خديه..لتقر له بحقيقة ربما تكون غائبة عنه:
ـ أنا يا ابراهيم..لا يمكن تخسرنى أبداً..سواء فضلت معايا..أو حتى بعدت عنى..لا يمكن تخسرنى!
ما تعرفش أنت بالنسبة لى تبقى ايه!..انت عمْر يا ابراهيم ما عشتهوش..وعمر تانى مستنياه بقالى سنين على أمل إنى أعيشه معاك..حتى لو كان مجرد لحظات..لكن حتعوضنا كل اللى خسرناه..وأكتر.
أخذت السيجارة التى أوشكت أن تلسع أصابعه..وضعتها على الصينية..ابتسمت معاتبة:
ـ ولّا أنا لوحدى مش كفاية؟!
لم يهمس إبراهيم بكلمة..لكنه أطال النظر فى عينيها ووجهها..كأنه يعيد اكتشافها من جديد..
نهضت فجأة..وضعت أحد شرائط الكاسيت..قالت وهى تقوم بتشغيله:
ـ عاوزة أسمعك أغنية..كنت بسمعها على طول وانت بعيد عنى.
التقطت إحدى الوسائد من على السرير..وضعتها خلف رأسه..عادت تجلس بجانبه..أخذ برأسها وضمها إلى صدره..فارتمت فى أحضانه ليستمعا معاً لأغنية جيّاشة من أغانى عبد الوهاب:
يا ما بنيت قصر الأمانى..وكنت أقول سعدى وفانى لمّا انتهى عش الغرام..
والزهر نوّر على الغصون..والقلب نال كل المرام..والنسمة حليت للشجون..
غاب الحبيب ولا ليش نصيب أسهر معاه
أنعش بقربه خيالى.. وأسهر معاه
وقول زمانى صفالى
ايه فايدة البدر الزاهى من غير أنين
ايه فايدة الروض الباهى من غير جليس
حينئذ غاب كلاهما فى نوم عميق..لكن ما زال صوت عبد الوهاب يتردد:
ازاى أعيش فى الدنيا دى من غير ما يتهنى فؤادى
وليه أنا الروح الحيران من غير حبيب يعطف عليه
وفين صفا القلب الولهان إن غاب حبيبه عن عنيه
استيقظت نوال..لم تجد إبراهيم بجوارها..انطلقت تبحث عنه فى كل ركن من أركان الشقة..لم تجده..ولم تجد الشنطة..حينئذ أدركت أنه ذهب بها للبيت القديم..بدلاً من أن يذهب لزيارة أبيه وأمه فى قبرهما ليقرأ على روحيهما الفاتحة..أصابها الهلع..بدّلت ملابسها..لتسرع فى اللحاق به.
وقف إبراهيم أمام البيت الذى لم يتغير شكله منذ كان طفلاً يلهو أمام عتبته..جلس على المصطبة..متردداً فى الدخول..كمن عمل عملة ويخشى من معاقبة أبيه أو أمه له..سمع صوتاً حانياً يناديه من الداخل:
ـ ادخل يا ابراهيم مل تخفش!
انتفض ..أراد أن يتبن مصدر الصوت ..أهو من الداخل أم من الخارج؟!..أدخل يده فى جيبه ليخرج المفتاح..وقبل أن يضعه فى الباب..لمح ظلاً يفتح له الباب ويقول:
ـ اتأخرت ليه؟!..أدخل!..أبوك وأمك مستنينك من بدرى!
تخطى ابراهيم عتبة البيت من الداخل..أخذ يتلفت باحثاً عن الشخص الذى فتح له الباب..لم يجد أحداً..
فتح غرفته بحذر..لعل ذلك الشخص الغريب أسرع بالاختباء فيها..نظر خلف الباب..رفع ملاءة السرير المعدنى الصدأ..أطل تحته..وقف فى منتصف الغرفة ..حيث لا أحد..غير أنفاسه المتقطعة..وعيونه التى ترمق جدراناً متشققة وزوايا قائمة مهجورة..وشباكاً مغلقاً بإحكام..كل شئ كما هو..رف عليه كتب قديمة علاها التراب..مكتب فوقه لمبة جاز كان يشعلها ليذاكر أو ليمارس هوايته فى قراءة القصص على ضوئها الخافت..خرج مسرعاً من الغرفة..تسمّر أمام باب الغرفة الأخرى..غرفة أبيه وأمه..يريد الدخول..لكن لابد أن يستأذن أولا كما عودته أمه منذ كان طفلاً..خبط خبطتين..نفس الصوت المجهول يناديه:
ادخل..ما تخفش!
انتفض جسده..علت دقات قلبه..أمسك المقبض بيد مرتعشة..ظل يفتح الباب بحذر..أدخل نصف رأسه..أطلت عينه اليسرى لتخبر عينه اليمنى بما لمحته..رفع قدمه اليمنى بتثاقل ليشرع فى الدخول..سمع دوىّ الصوت يصرخ فيه من جديد:
ـ قلتلك ادخل ما تخفش!
اندفع بشكل لا إرادى..عيناه تدوران..تجوبان أرجاء الغرفة..رأى أمه ممدة على السرير.. بجوارها أبوه يجلس على الكنبة. ألقى بالحقيبة جانباً..اندفع نحو أبيه يقبل رأسه ويده..ارتمى فى أحضان أمه..ظل يقبل رأسها وقدميها..شعر بأنهما يريدان معاتبته..أسرع يستعطفهما:
ـ أنا عارف إن انتم زعلانين منّى..بس والله كان غصب عنى.
لا يعلقان على كلامه..أراد أن يكسب المزيد من رضائهما..نهض..حمل الحقيبة..وضعها على السرير بمواجهتهما ..فتحها ليخرج منها ما طلباه منه قبل سفره..جلباباً وعباءة وسبحة لأبيه..سجادة صلاة وشالاً لأمه.
انتفض إبراهيم صارخاً حين وجد الشنطة فارغة..قلبها رأساً على عقب..ما زالت فارغة..نظر لأبيه وأمه بعين دامعة..نهض..جلس بينهما مطأطأ رأسه..شعر أنه عاد طفلاً صغيراً..وأن تلك الجلسة كان قد جلسها منذ سنوات بعيدة..نهض..ارتمى فى أحضان أمه..لم تحرك ساكناً.. لكنها همست فى أذنه:
ـ مش مهم احنا يا ابراهيم ..المهم انت يا ابنى!
ابتسم..توجه نحو أبيه..مال برأسه ليسندها على كتفه..همس أبوه فى أذنه الأخرى:
ـ قوم يا ابراهيم اتوضى..وصليلك ركعتين.
انفرجت أسارير إبراهيم..نهض قائلاً:
ـ حاضر..بس استنونى أنا جاى على طول.
أسرع إبراهيم ليتوضأ..لكنه شعر أن قامته تزداد قصراً..سحب كرسياً..وقف عليه ليتوضأ..ظل يمد سجادة الصلاة ويفردها من هنا وهناك..أسرع بالوقوف ليقيم الصلاة.
حينئذ فتحت نوال باب البيت..أسرعت نحو الغرفة..وجدت إبراهيم جالساً على سجادة الصلاة لا يحرك ساكناً..بيدة السبحة..مرتدياً جلباب أبيه وفوقه العباءة..وعلى رأسه شال أمه..سقطت نوال على الأرض بجانبه..أطلقت لكل دموعها العنان..تمنت لو أنه عاد لغربته وظلت هى تعيش على أمل لقائه من جديد..
أخذت نوال تردد كلمات الأغنية التى طالما سمعتها وهو بعيد عنها:
ازاى أعيش فى الدنيا دى من غير ما يتهنى فؤادى
وليه أنا الروح الحيران من غير حبيب يعطف عليه
وفين صفا القلب الولهان إن غاب حبيبه عن عنيه
سكنت نوال..لم تعد تردد أغنيتها المفضلة..بعدما التقت أخيراً بحبيبها إبراهيم فى عالمٍ آخر بعيد.

تمت
محمد عبد المنعم الراوى
01140977997








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني