الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيه اللي حصل في البلد دي؟ (1/2)

ياسين المصري

2019 / 2 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


المدخل: ثقافة الجهل المركب ووهم المعرفة
المقصود بالبلد هنا هو مصر التي لم تشهد في تاريخها الطويل مثل هذا الخلل والتصدع والانهيار في الحياة السياسية والاجتماعية مثلما تشهده الآن، فيبرز أمام القاصي والداني هذا السؤال الأكثر إلحاحًا، والذي يتردد حاليًا على ألسنة الكثيرين من المصريين، وجميعهم لديهم إجابة ما عليه، ولا أحد منهم يقدم إجابة واضحة ومحددة وكافية وشافية؟ الجميع يدعي المعرفة والجميع لا يعرف شيئًا عن حقيقة ما يجري حوله!
الانقسامات بين المواقف تتفاقم والأخلاق تتهاوى والجرائم تتكرر وتنتشر وتزداد عنفًًا، لم يعد غريبا على المصريين التلذذ والابتكار الذى يقوم به الجناة لضحاياهم! فلا رادع قانوني ولا وازع أخلاقي يمنعهم - مثلًا - من أن يُجَرِّدون امرأة من ملابسها في الشارع أمام أعين الشامتين الفرحين أو يصْلِبوا امرأة أخرى على عمود النور فى بلبيس/ شرقية بصور بربرية لأي سبب كان، وينشرون الصور على مواقع التواصل الاجتماعي في مشهد يعود بنا إلى عصور غارقة فى ظلام الانحطاط والهمجية، عصور ما قبل القانون والمدنية، عصور خالية من الإنسانية، شريرة، مُوحِشة ومتوحشة، لا عُرف ولا حرمة ولا قانون ولا شىء سوى الانتقام. وكأني بهذه الصورة وغيرها وهي تحكي لنا ما يحدث في مصر الآن!
كذلك لم تشهد مصر على مدى تاريخها الطويل هذا التخاذل المشين من النخب المثقفة التي تعرف الشيء الكثير عمَّا يجري في البلد. حلَّ عليها التخاذل والصمت والنفاق والكذب محل النقد والصدق والتثقيف وتوضيح الأمور للحكام والمحكومين، في وقت أصبح الصراع المجتمعي قائمًا على قدم وساق ويهدد الدولة بالانهيار، وما دام هذا الصراع لا يسمح بوجود بدائل أو إمكانيات للنجاة، فيلترك الأقوى يحسمه تبعًا لقانون الغابة، وإن كان لا بد من انتقادات دولية ديكورية تتعلق بحقوق الإنسان ولا تحسم شيئا، فلا بأس بهذا.
تجتاح مصر الآن موجة عاتية من التدمير الذاتي نحو الحقارة والدناءة والوقاحة والقتل والتوتر والانقسام.. انعكاسا لما في الصدور من حقد وغل وسوء إدراك. ومما يزيد الوضع غموضًا وتعقيدا، الافتقار إلى جبهة موحدة لأية قوى مدنية أو وطنية يمكنها إيقاف انحدار الوطن إلى مصير لا تحمد عقباه. ما الذي حدث ويحدث في مصر؟ ما الذي حول دولة بكاملها إلى جحيم؟ وهل يمكن التنبؤ بما سيحدث؟
حقيقة لا أرى سببًا لكل هذا وغيره، سوى ثقافة الجهل المرّكَّب المصحوب بوهم المعرفة ووهم التفوُّق لدي الحكام والمحكومين على جميع المستويات تحت تعبير مصري أصيل وشامل هو ” الفهلوة ”.
يقول الفيلسوف الكندي المعاصر توماس دي كونينك (Thomas De Konink) في كتابه (الجهل الجديد ومشكلة الثقافة ترجمة منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ط 1 2004، ص 8 ): « إن الحقارة المجرمة تتعمم اليوم وتخترق كل مكان، والعقبة الرئيسيّة أمام “إصلاحات” الثقافة… هي هذا الجهل الجديد الّذي يؤثّر في ثقافة محيطنا».
الجهل في ذاته لا يعني الأمية، وإن كانت الأمية نوعا الجهل، فقد يكون المرء أميًا ولكن لديه الاستعداد الدائم للمعرفة وزنة الأمور الحياتية بعقله، دون اللجوء إلى أدعياء العلم، وقد يكون المرء متعلما وحاملا تحت إبطيْهِ أعلى الشهادات الجامعية كالماجستير أو الدكتوراه، ورافعا فوق رأسه ألقابًا كالأستاذ الكبير، البروفيسور والعالم الجليل … إلى آخره، ومع ذلك يكون جاهلا.
ليس عيبًا أن يكون المرء جاهلا بشأن ما، ولا يفهمه لعدم الإحاطة الكاملة بكل جوانبها، أي أن يجهل العلم به، ولكنه يعرف بأنه يجهله، (جهل بسيط)، ولا ضررًا كذلك من أن يكون جهل المرء يخالف العلم بمسألة ما، أي أنه لا يعلم عنها شيئًا، ولكن يعرف ذلك وقد يكون لديه الاستعداد لتعلمه (جهل كامل)، إلَّا أن الجهل الكارثي بالفعل هو جهل الانسان بجهله، فيعتقد جازمًا بما يجهل مع أنه لا مخالف للحقيقة، أي أنه يدَّعي ما لا يعلم، عندئذ يصاب بوهم المعرفة التي غالبًا ما تقوده إلى وهم التفوُّق (جهل مركب).
ولله در الشاعر:
قال الحمارُ يوما لو أنصف الدهرُ كنت أركبُ
لأنني جاهلٌ بسيطٌ وصاحبي جاهلٌ مركبُ
نفترض مثلًا أن ثلاثة أشخاص ( جاهل بسيط وجاهل كامل وجاهل مركب) طُلِب منهم القيام بقيادة طائرة، الجاهل البسيط والجاهل الكامل سوف يرفضان قيادة الطائرة ويعترفان بعدم مقدرتهما، بينما الجاهل المركب فسوف يدعي المعرفة على الفور، إما لأنه يجهل أنه جاهل أو لأنه تعلم كيفية الإقلاع (إطلع على جزء من المسألة)، مما جعله يبالغ في مقدرته. وما أن يقلع بالطائرة حتى يدرك عدم مقدرته على الهبوط لأنه لم يطلع عليه، فتحدث الكارثة. 
إن حالتي الجهل البسيط والكامل حالتين طبيعيتين للإنسان، إذ لا يخلو انسان في هذا الوجود منهما، مهما بلغ من العلم والمعرفة، وإلا ما فتحت مراكز العلم والمعرفة أبوابها للجميع، ولا شيء في هذا يستحق الخجل، ما دام مصحوبًا بالتواضع والإدراك به. أما خلاف ذلك، فهو وهم المعرفة "The illusion of knowledge" فلا يدري المرء شيئًا، ومع ذلك لا يدري أنه لا يدري، والأدهى والأمر هو إصراره على أنه يدري. ومع انتشار هذا الإصرار بشكل وبائي، يصبح حاضر المجتمع ومستقبله في خطر جسيم ووضع أليم، خاصة عندما يفرض مريض وهم المعرفة نفسه على الآخرين ويضللهم بحديثه وكلامه وإفتائه وآرائه التي لا تعبر سوى عن ميوله وأهوائه ونزواته ومصالحه الشخصية، وبذلك يوفر بيئة خصبة لنمو التطرفات، والتحزُّبات القائمة على العنصرية كالأصل أو العرق أو الدين أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضياع الأمم وتدهورها.
إن الجهل المركب المصحوب دائمًا بوهم المعرفة هو العدو الأول للإنسانية جمعاء. ولذلك تبدأ المعرفة دائمًا بمعرفة الأوهام، وفي مقدمتها وهم المعرفة. بمعنى كي يعرف المرء شيئًا، عليه أولًا أن يدرك إلى أي مدى هو واهم بخصوصه، ومدي تأثير المنافقين من حوله على عقله وفكره، بما يمتهنونه من صناعة الوهم ورعايته وتسويقه له ولغيره.
في عام 1992 صاغ روبرت بروكتر (Robert N. Proctor) مؤرخ العلوم من جامعة ستانفورد مصطلح: [ علم الجهل أو الأگنوتولوجيا « Agnotologie »]، المقتبس من الكلمة الانكليزية (Agnotology)، الإغريقية الأصل، وتتكون من (a) وتفيد النفي، و(gnôsis) وتعني المعرفة، و(logos) وتعني الدراسة أو العلم. وهو العلم الذي يعنى بدراسة صناعة الجهل وتسويقه في المجتمعات، أي الإنتاج الثقافي للجهل.
كان بروكتر يتصدى بالبحث للمحاولات الحثيثة التي تقوم بها شركات التبغ لإقناع المدخنين بأن التدخين لا يسبب السرطان، وبذلك تنشر البلبلة والتشويش بين الناس، لأنها بالطبع لا تريد أن يكتشف المستهلكين معرفة أضرار منتجاتها، فتنفق المليارات للتعتيم على حقائق الآثار الصحية للتدخين، فتقوم بطمس الحقائق ونشر الجهل عمدًا بتقديم بيانات علمية غير دقيقة أو مضللة. ويقول  بروكتر ” كنت أقوم باستكشاف كيف أن الصناعات الكبرى يمكن أن تعزز الجهل لبيع بضاعتها. الجهل هو القوة … و” الأقناتولجي “هو تعمد خلق الجهل” ونشره كمنطلق لثقافة عامة.
ويوضح بروكتر أن الجهل غالباً ما يتم نشره تحت ستار النقاش المتوازن بين وجهات نظر متعارضة لا يؤدي أي منها الى نتيجة عقلانية، حيث استخدمت شركات التبغ العلم نفسه لجعل منتجاتها تبدو غير ضارة، كما يستخدم هذا الأسلوب اليوم من قبل منكري تغير المناخ الذين يجادلون ضد الأدلة العلمية. مما يخلق “جوانب عديدة لكل وجه نظر”، بحيث يختلف حولها الخبراء، ومن ثم يتم خلق صورة كاذبة عن الحقيقة، وبالتالي الجهل.
ويقول بروكتر « نحن نعيش في عصر جديد من الجهل المتطرف، والغريب هو أن أي نوع من الحقيقة يمر عبر الضجيج، على الرغم من أن المعرفة متاحة، فهذا لا يعني أنه تم الوصول إليها، على الرغم من أن معظم الأشياء تبدو تافهة »، لأن معرفتنا للحقائق تأتي غالبًا من الإيمان الراسخ أو التقليد أو الدعاية، أكثر من أي مصدر آخر.
وجد بروكتر أن الجهل ينتشر عندما يكون، أولاً : كثير من الناس لا يدركون الحقيقة، وثانيا: عندما تكون هناك جماعات ذات مصالح خاصة - مثل الشركة التجارية أو الجماعات السياسية والدينية - تقوم بالعمل الجاد لخلق البلبلة حول قضية ما.
انطلق بروكتر في أبحاثه من السؤال التالي: كيف ولماذا “لا نَعْرف ما لا نعْرف”؟ مع أن الشروط متاحة من أجل تحصيل معرفة موثوقة ومأمونة الجانب. ووفقا لما توصل إليه، فإن علم الجهل ليس فقط دراسة الجهل، ولكنه يعني أيضا دراسة الممارسات التي تسمح بإنتاجه ونشره وتسويقه. أي أن مفهوم علم الجهل يشمل الإنتاج الثقافي للجهل، يقول بروكتر: علينا أن ندرك أن الجهل ليس مجرد فراغ يتم تعبئته بالمعرفة ولا حدّا لم يعبره العلم بعد. هناك سوسيولوجيا الجهل وسياستها التي لها تاريخ وجغرافيا - ولها بشكل خاص - جذور وحلفاء أقوياء. صناعة الجهل لعبت دورا هاما في نجاح العديد من الصناعات. ذلك أن الجهل قوّة، وهي قوّة لا يمكن مجابهتها إلّا بعلم الجهل عبر تحليل الميكانيزمات المعرفية القادرة على بث روح الارتياب في الرأي العام، وخاصّة تلك الطرق الّتي تستخدمها جماعات الضغط عندما تكون مصالحها مهددة بفعل الاكتشافات العلمية.
Cancer Wars: How Politics Shapes What We Know and Don t Know about Cancer. New York: BasicBooks.(1995), ISBN 0-465-02756-3.

The anti-tobacco campaign of the Nazis. A little known aspect of public health in Germany, 1933-45. In: British Medical Journal. 1996, No 7070, Volume 313
غالبًا ما يصاب الجاهل المركب بالغرور ويسقط فريسة لتأثير دانينغ - كروغر (= وهم التفوُّق The illusion of superiority) الذي يأتي نتيجة لعدم القدرة على إدراك الجهل. وكلما ازداد جهل الشخص تركيبها وتعقيدًا، كلما كانت ثقته بنفسه أكبر، لأن جهله بجهله يزداد كل يوم، فجميعنا نعرف شخصًا ما غير مؤهل أو غير كفء ومع ذلك يميل للمبالغة في تقدير مهاراته أو مستواه المعرفي وذكائه. إنه إذن الانحياز المعرفي الذي يشير إلى الفشل في تقدير الذات لدي الإنسان وعدم مقدرته على تقييم مستوى كفاءته أو عدم كفاءته بشكل دقيق تجاه عمل ما أو مهمة في مجال ما، ويعتبر نفسه أكثر كفاءة لهذا العمل أو المهمة، مما هو عليه في الواقع. إنه لا يملك القدرة الضرورية والوعي الذاتي للتعرف على مدى انخفاض قدراته بالفعل، فينقاد إلى رؤية متفوقة لكفاءته ومعرفته. بكلمات أخرى، يكون في غاية الغباء بحيث لا يعرف مدى غبائه.
لهذا قام عالما النفس الاجتماعي البريطانيين ديفيد دونينغ وجوستن كروجر في عام 1999 بتطوير نظرية عن التحيز المعرفي لوهم التفوُّق لدي طلاب المرحلة الجامعية من خلال دراسة تقييمهم الذاتي لمهاراتهم الفكرية في التفكير المنطقي (الاستقرائي، الاستنباطي، الاحتمالي)، وقواعد اللغة الإنجليزية، وحس الفكاهة. وبعد الاختبار طُلِب من الطلاب تقييم ادائهم. فوجد الباحثان أن الطلاب الأكِفَّاء فعلًا قد قلَّلوا من قدراتهم، لإدراكهم مقدار ما يجهلونه، واحتياجهم إلى تحسين آدائهم، ولافتراضهم الخاطئ بأن المهام التي يسهل عليهم أداءها هي أيضًا سهلة الأداء بالنسبة للأشخاص الآخرين. في حين أن الطلاب غير الأكِفَّاء وأصحاب الأداء السيِّء قد بالغوا في تقدير قدراتهم، لافتقادهم إلى الإحساس بالمهارة التي تنقصهم، فيبقون غافلين عمدًا عن قدراتهم الحقيقية. والنتيجة هي عندما تكون معرفة المرء هي الأداة الوحيدة لتقييمه ما يعرفه، لا يحصل أبدا على تقييم صادق، بكلمات أخرى يجب أن يقوم بتقييم معرفته أشخاص آخرون متخصصون قبل قيامه بعمل ما، كما يحدث دائمًا في مراكز تحصيل العلم.
لا حظ الباحثان في كل مجال اختبروه، أنه مع ازدياد القدرة الإدراكية للذات، ازدادت قدرة المشاركين على تقييم قدراتهم الذاتية بدقة. كما اتضح لهما من التجربة أن الأشخاص الأذكياء أو الأكثر خبرة ومعرفة بشأن ما يعتقدون أن مستواهم أقلّ من مستواهم الحقيقي ويميلون أكثر إلى التواضع والتردد أو الشك باستمرار، كأساس أو منطلق لطلب المزيد من العلم والمعرفة.
وتوصلا إلى أن الوضع الأكثر خطورة هو عندما يكون لدى الناس بعض المعرفة حول موضوع ما وليس عندما لا يعرفون شيئًا عنه..! هنا يصبح وهم المعرفة (الجزئية) أخطر من الجهل. كمثالنا في قيادة الطائرة.
إن تأثير “دانينغ - كروجر” لا يدركه أولئك الذين يعانون منه. فالغالبية العظمى من البشر يشعرون بأنهم ينتمون إلى الفئة “الأذكى” و“الأروع”، إلا أنهم، بحسب الواقع المرير، يكونون الأبعد عن هذه الصفات. فينطبق عليهم رأي العالم تشارلز داروين “الجهل في كثير من الأحيان يولد الثقة أكثر من المعرفة”.
بالطبع، من الصعب جدًا على الإنسان أن يعرف أنه لا يعرف شيئًا. فإذا كان شخص ما لا يعرف مثلًا قواعد المرور، فكيف يمكنه أن يدرك أنه قد خرقتها؟
قد يكون لدي المرء مجالات يعتقد أنه يفهم فيها أكثر من غيره، أو يعتقد أنه أكثر مهارة في شيء ما أكثر مما هو عليه في الواقع. ولكن يجب عليه التحقق من قدراته ومعرفتها قبل التعبير عن آرائه، فضلا عن الأقدام على مالا يعرفه. عليه أن يدرك أن المعرفة الحقيقية هي أن يعلم مدى جهله أولًا؛ فمن السهل جدًا في حياتنا أن نحكم على بعض الأشخاص بالجهل والغباء، ولكن ليس من السهل على الإطلاق أن نتصور أننا قد نكون مثلهم في بعض الأمور دون أن ندري.
لا ريب في أن هناك دائمًا دوافع شخصية كامنة وراء إثارة الشكوك حول الحقائق العلمية والمعرفة الحقيقية، لذا لا يجب علينا أن ننظر إلى الجهل بوصفه أمرا محتوما أو أنه محصلة ضروريّة لأولويات برامج البحوث والدراسات العلمية، أو حتى على أنه فشل للنسق التعليمي، ولكن أن ننظر إليه بوصفه نتاج فعلٍ متعمد، يعمل على إنشائه أساتذة محترفون من خلال استراتيجيات التجهيل والتضليل المستمرين والرقابة والرعاية الدائمين، وصيانته والمحافظة عليه وترسيخه من خلال أساليب الطعن في مصداقية العلوم، هؤلاء الفاعلون المحترفون يتملكهم وهم المعرفة ووهم التفوُّق فقومون بهذا أفرادًا أو جماعات أو مؤسسات حكومية أو أهلية متمرِّسة ومتفرِّغة، تجمعهم جميعًا مصالح مشتركة تحت مظلة واحدة هي صناعة الجهل ومراقبته والمحافظة عليه.
يقول أفلاطون:« إن الجهل هو أصل كلّ الشرور»، فالجهل مع الدين إرهاب، والجهل مع الحرية فوضى، والجهل مع الثروة فساد، والجهل مع السلطة استبداد، والجهل مع الفقر إجرام، وهو أسوأ آفة تبتلى بها الأمم.
وبسبب الجهل ينجم الثراء الفاحش والفقر المدقع بشكل محايث، وينجم الطغيان والخضوع بشكل محايث، وينجم الاستبداد والفوضى أيضًا وبشكل محايث (محرِّض ومعدٍ). الجهل هو أساس الفساد وعدو الإبداع، الفساد السياسي، الفساد المالي، الفساد الفكري والروحي، الفساد السلوكي والفساد الأيكولوجي. ومصيبة الجهل الكبرى عندما تصاب به نخب المجتمع، وتصبح جزءًا لا يتجزَّأ من منظومته الثقافية السائدة، فيصبح المجتمع رازحًا بكامله تحت وطأة أوهام المعرفة، لا يأبه ولا يتمرس بالعلم الذي يكشف له مواطن الجهل. ويظل مواطنوه يعيشون مغمورين في ظلمات الجهل بينما يتوهمون أنّهم يعرفون كلّ شيء فلا يترددون في الإفتاء في أي شأن وإصدار الأحكام على أي أمر، وبالتّالي يعمل الجميع معًا على صناعة الجهل المرَكَّب وتعميمه. فهذا الجهل ليس مجرد مشكلة فردية بل هو خطر ووباء يهدد مجتمعات كاملة وحضارات، فكم من حضارة قضت على الجهل وامتدت لعشرات السنين وكم من حضارة هزمها الجهل وأفناها.
السؤال الأهم لدي النخب الناطقة باللّسان العروبيّ في المجال الفكري والسياسي، يجب أن يركز على معرفة: لماذا لم نعرف أسباب تخلفنا، ونعرف لماذا لم نعرف، عندئذ سوف نعرف أن قسطا وافرا مما نعتقد أننا نعرفه على أنّه علم هو في حقيقته أسوأ من الجهل.
قديمًا لاحظ سقراط أنّ النّاس في كلّ مكان وزمان يتداولون الألفاظ ذات المساس الجذري بحياتهم، مثل العدل والظلم والشّرف والعار والمثل العليا والقيم والأصالة والحقّ والباطل والخير والشّر … دون تحديد دقيق لمعانيها في أذهانهم، مع أنّ الإدراك الصحيح لمعانيها يتوقف على هذا التّحديد الدقيق. هذه الألفاظ وغيرها يتم تحديد معانيها في البلاد المتأسلمة ومنها مصر بواسطة رجال الدين والوعاظ والأئمَّة وأساتذة الكلام والتضليل دون غيرهم، وتبعًا لما تمليه عليهم النصوص الدينية المقدسة منذ ما يقرب من 1500 عام،. تلك النصوص المليئة بالتناقضات والخرافات والوصايا اللامعقولة، بل والاإنسانية، مما يخلق ثقافة معقَّدة من الجهل المقدس، ويدمغ الإحساس بوهم المعرفة والتفوق لدي المواطنين بجميع مستوياتهم، يقول برتراند راسل: « يمكن للمجتمعات أن تكون جاهلة ومتخلفة، ولكن الأخطر هو أن ترى جهلها مقدسًا »
في المقال القادم سوف نحاول معرفة الكيفية التي تبلور بها وهم المعرفة ووهم التفوُّق في نخبة تحكم البلاد وتذل العباد منذ 67 عام، والتي رمت نفسها عمدًا في خضم السياسة دون أن تكون قد تثقفت وقرأت شيئًا عنها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص