الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة كوسيلة لإثراء المعنى في القصة القصيرة -مازال يحلم بلغته الأم- للأديب العراقى / عامر العيثاوى

محسن الطوخي

2019 / 2 / 12
الادب والفن


تجربة حياة كاملة انتهت إلى خواء كامل. إلى أين يقودنا الأمل فى تحقيق حياة أفصل بالهجرة خارج الوطن. تمر الحياة سريعة، بينما تستغرقنا أشواق الاستقرار وتأمين المستقبل، لينتهى كل شىء، يكبر الصغار، ويستقلون بحياتهم. ينشغلون عنا بمواصلة اللهاث وراء الاستقرار المنشود، وترحل رفيقة العمر، وتتقلص، أو تتلاشى فرص العودة إلى الوطن، لينتهى العجوز كغصن وحيد مهمل على مقعد وحيد فى منتزه بات يمثل تسليته الوحيدة المتبقية. يفارق الحياة فى ضحى يوم بارد من أيام كانون الثانى وحيداً بلا أثر، إلا ثقوباً تركها طرف عصاه فوق سطح الجليد الذى غلف الأرض كما غلفت الوحدة حياته.
رحلة حياة كاملة. كيف استطاع الكاتب أن يتجنب الحكى الممجوج، ويصنع نصه الرائع ؟ . إنه الخيال والمعايشة، والمهارة فى اختيار اللحظة القصصية، والوقوع على التكنيك المناسب للتجربة الانسانية.
بداية .. (خلق) عامر إنسانه .. نموذجه الفريد الذى لا يشبه أحداً إلا ذاته، شخصية رغم أنه لم يمنحها اسما، إلا أنه رسمها بدقة متناهية. شخص بذاته يمكنك أن تلمح فيه قريباً أو صديقاً . أو حتى نفسك. إنه واحد من أولئك الطامحين إلى حياة أفضل من أبناء المجتمعات الشرقية الطاردة ، ورغم أنه لم يحدد جنسيته، إلا أن القاريء يلمح روح الببيئة العربية البسيطة الفقيرة، تبدو فى خلفية المشهد من خلال ذكرياته التى يجترها وحيداً، فى ذلك الضحى المكلل بالغيوم فى مدينة أوروبية التهمت عمره. حرص النص على إبراز المدينة الأوروبية فى صورتها المجللة بالضباب تجاهد الشمس لكى تبرز من بين طيات الغيوم. فى إيحاء فنى إلى فتور العلاقات الإنسانية , وتراخى الروابط الوجدانية بين البشر, وربما كان ذلك هو قوام التجربة التى يعالجها النص.
ثانيا : سلط الكاتب الضوء على اللحظة القصصية بمهارة وحنكة, فصنع ذلك الضحى الشتائى الأوروبى, ووضع شخصيته فى المنتزه البارد، شيخا مسناً بعد فرار العمر وتنائى الأبناء, ورحيل الزوجة, حيث لم يتبق له من رفقاء إلا عصاه, وذكرياته , وحنينه
إلى الوطن، لتدور فى ذهن الشخص كل مراحل حياته بحرفية خلال فترة زمنية قد لا تتجاوز سويعات من ذلك الصباح الشتائى. واستخدم عامر أدواته بروح فنان وخيال مبدع . فالعصا رفيق شيخوخة المهاجر لا ترد فى القصة كمجرد أداة، إنما كشخصية فاعلة، فبينما انتهى دور المهاجر الفعلى فى الحياة، تظل العصا رفيقته تصنع الثقوب التى يتسلى بإحصائها فى غدوه ورواحه، ولتكون شاهداً على الثقوب والرتوق التى شابت حياة انتزعت من تربتها الأصلية لتنمو نمواً لا يثمر إلا الحنظل فى أرض غريبة. ،
كذلك الوشم حول فم الأم الذى يتذكره المهاجر العجوز مقترنا بحزنها، والذى يعود إلى تذكره فى الختام، ما يمنح القارىء إشارة إلى دلالته العميقة فى التجربة. فالوطن هو كالوشم على قلب المهاجر تظن أنه يمكن أن يزول أو يبهت بمرور الزمن، لكنه لا يزداد إلا رسوخاً وعمقاً . فالمهجر يمضغ حياة المرء ويلتهمها، فإذا امتد به العمر وخلا إلى شيخوخته افتقد دفء العلاقات الإنسانية الحميمة، ولا تبقى له إلا ذكريات باردة، وأشواق عصية على التحقق. ويمثل الموت وحيداً على مقعد بارد فى منتزه مجلل بالغيوم النهاية الحزينة التى ربما هى هاجس المهاجر، فهو يوصى زوجته بألا تتركه وحيداً عندما يموت. أما هى فترفه عنه بالفكاهة ، زاعمة أنها ستحشد أقاربها ليشيعوه، لكنها الفكاهة التى تكشف مدى الرعب الجاثم على قلوب أولئك الذين افتقدوا دفء الأهل والعشيرة. حبكة نموذجية، ونص مفتوح على كافة ضروب الاستقبال، متعدد المستويات، يطرح ببساطة رحلة حياة إنسان وحيد، ويغوص بعمق فى قضية أجيال من الباحثين عبثاً عن الاستقرار. أولئك الذين فروا من أوطانهم، مابين راغب، ومضطر، تحت وطاة إهمال الحكومات، وعبثية الأنظمة الشمولية.
ولنتأمل المهارة والحرفية التى تجعل النص واضحاً مكشوفاً بلا تقريرية ولا مباشرة، و هو الأمر الذى يرد بفنية عالية على
أولئك الذين يزعمون أن الحكى المباشر التقريرى هو ميل منهم إلى البساطة وتجنب التعقيد. هاهو نص مغرق فى البساطة ، دون أن يهمل بناء الحبكة، ولا رسم الشخصيات. ويناقش قضية إنسانية بالغة العمق.
أما اللغة فهى البعد الحقيقى لتميز النص. فعامر لا ينسى قط أن القص هو عمل
إبداعى فى اللغة، والقصة القصيرة تحديداً بقوامها المحدود، لا غنى لها عن لغة راقية متميزة. إذ تنفر القصة القصيرة من اللغة العادية, أذا صيغت القصة القصيرة بلغة الحياة العادية , أو لغة الصحافة تفقد الكثير من رونقها، وتألقها .
فتأمل لغة عامر, لغة شفيفة , يسرى فيها إيقاع دفين, تخاطب الوجدان بتعبيراتها الراقية، ليس فيها لفظ أتى بلا غاية , وهى بعيدة كل البعد عن تلك اللغة المسطحة العادية التى لا تشير الا لدلالاتها المباشرة , توحي لغة عامر، وتضمر , " ومحيا أمه الأسمر البشوش " , فالمحيا هو الوجه , لكن اللفظ شبيه بلفظ ( المحيا ) بفتح الميم وتسكين الحاء, وهو المصدر الميمى من حى, وحياة . ووقوع اللفظ بدلالاته بين شمس بلاده , وذكرى أمه يشى بالبراعة وغنى القاموس اللغوى الذى يستمد منه عامر قدرته على تحميل الجملة أكثر من مجموع كلماتها . ( ليلة البارحة كنت تحلم بوطنك ) .. والبارحة هى ليلة الأمس . والمبارحة فى المعجم هى المفارقة, وهى المكاشفة. فانظر إلى أى حد ساهم اللفظ فى إثراء الجملة بالإيحاءات التى تدور فى فلك اللحظة القصصية, فالزوجة التى تحدثه عن حلم ليلة أمس, هى ذاتها الزوجة الراحلة, واللحظة هى لحظة مكاشفة ومناجاة . هذان مجرد مثلان يعبران عن براعة عامر فى استخدام اللفظ وصولا بلغته إلى درجة مثلى من التوصيل والإيحاء ومعايشة اللحظة القصصية.
نص القصة
مازال يحلم بلغته الأم
دون رغبة كبيرة تذكره شمس الضحى المتطلعة بخجل بين أسراب الغيوم بشمس بلاده الدافئة، ومحيا أمه الأسمر البشوش ودمعة على خدها
"يمه دير بالك على نفسك".
يغمض عينيه بتأمل عميق، مستعيداً كلمات زوجته المتوفيه قبل عام وأربعة شهور وخمسة أيام: (ليلة البارحة كنت تحلم بوطنك)، فيلتفت نحوها مبتسماً ومستغرباً.
مؤخراً لم يعد لديه الكثير بمسودات يومياته، فهو دائم الجلوس على مقعد خشبي في حديقة ألعاب عامة، يمسك بيدين مرتعشتين مقبض عصا شيخوخة مكسوة بلون "صاج غامق"، مجتراً ذكرياته بهدوء ووجع.
بمثل هذه الأيام من كانون الثاني تُغطى الحديقة بطبقة ثلوج ناصعة البياض، وغير بعيد يقف رجل ثلجي صنعوا له أنفاً من الجزر،وفماً وعينين من ثمار الزيتون، وثمة أطفال بعيون ملونة وشعر أشقر وكستنائي.
يشرق منظرهم بذهنه بمشهد من طفولته الغابرة، حيث طرقات قريته الترابية وزمرة أطفال آخرين أغبرّت وجوههم لتقاذفهم اللعب بقبضات التراب، تمطت تجاعيد وجهه السبعيني ابتساماً للذكرى الدافئة، وضحك على نحو خافت.
لكن ذلك أصيلاً وموجعاً: (البارحة كنت تحلم بوطنك)، يسألها: (كيف عرفتِ..؟)، فتجيبه بأنه كان يتحدث أثناء نومه، فيضحك: (يقول علماء النفس بأن اللغة التي تحلم بها هي لغتك الأم)، اليوم ما عاد أحد يخبره بذلك منذ أن ودعته بنظرة اعتذار بأنها لم تتمكن من الإيفاء بالعهد بينهما.
فهو يمضي أيامه برفقة عصا شيخوخة بجولات الضحى، وفي الأسابيع الأخيرة غدت تسليته المحببة حساب الثقوب التي تخلفها عصاه في كثبان الثلج المتراكم في طريق نزهته ذهاباً وإياباً.
كان قد تعرف عليها في أول سنة دراسية عند جدول الحصص، ملامحها هادئة تنمّ عن طيبة صادقة، أما هو فكان شاباً خجولاً أسمر المحيا، قدم من خلف البحار بأربعة حقائب سفر متخمة، أحداها ممتلئة عن آخرها بالطعام للقلق الزائد من الوالدة، وسألته للمرة العاشرة: (هل بعيدة كثيراً هذه أوربا).
كانت تضع على رأسها "فوطة" سوداء و"عصابة" بحوافها خيوط أشبه بضفائر صغيرة،وفي وجهها الموسوم بوشم بحنكها الكثير من الحزن، قبّلها من رأسها، وقال مبتسماً، كمن يعرف إلى أبعد نقطة كان يمتد ذهنها: (إنها قريبة من لبنان).
- سمعت أنها باردة كثيراً، تغطَّ جيداً في الليل.
لطالما زاره حلم العودة، لكنه كان يؤجله لما بعد استقرار أوضاعه، تأمين مستقبل الأولاد، تعليمهم، وحاجاتهم المتزايدة، فيما تتسرب السنين بتؤدة من بين أصابعه،نبأ وفاة الوالدة، وتشرذم مصائر الأشقاء، حتى غدا حلمه الوحيد بأن يدفن رفاته في الوطن.
لكن الفكرة الموجعة راودته ذات مساء والولدان قد استقلا بمنزل خاص ولم يعوداه منذ شهر، فقال لزوجته وفي طرف عينه دمعة: (في الأدب البابلي من ليس له أقرباء يبكونه يكون حزيناً في قبره).
ربتت على رأسه، وعاهدته مبتسمة والدموع تغسل وجهها: (سأجعل من جميع أقربائي يمشون خلفك)، شد على يديها: (عديني إن متّ قبلك لا تجعليني أشعر بكثير من الغربة).
وها هي الأيام تغدو دونها أكثر صعوبة لرجل سبعيني يخفي بجوفه غربة مؤلمة، جل تسلياته صنع ثقوب على صفحات الجليد، والجلوس في حديقة ألعاب متجمدة.
أحس بضيق موجع بصدره، رأى نفسه وقد عاد شاباً، وبجانبه أمه بمحياها الأسمر وصورة الوشم، بدت رؤيا مكررة عدا أنها جرت على نحو معكوس،فقد أفرغ حقائبه الأربعة، وكأن ما كان بعد تلك اللحظة لم يكن له وجود، فيما ابتسامه متصلبة على جانب فمه، وشحنة باردة دبت بين راحتيه أسقطت عصاه حيث لن يرفعها مجدداً.
عامرالعيثاوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق