الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدفع الملكي الصامت

مظهر محمد صالح

2019 / 2 / 14
حقوق الانسان


المدفع الملكي الصامت
مظهر محمد صالح

قبل أن ينبلج الفجر وتتنفس بغداد صعداء يومها من سبات ليلها وحتى تضع الشمس أوزارها، كانت خواطر تلك الشخصية العسكرية العالية التدريب الراقية الضبط، المتوسطة الرتبة، تومض كالبرق وتتفاعل مع شدة لمعان مدافعه وهو ما زال يتطلع الى قلب السماء وهي تتفكك رويدا رويدا لتحجب نجومها، ولا احد يستطيع التكهن بما سيكون عليه الحال، إلا التكهن في اللامعنى. وهي فكرة مجردة ذات طابع فلسفي شغلت ذهنه واعتملت في سره في تلك اللحظات التي سبقت عاصفة الدم في ذلك القصر الملكي، وظلت تجول بخاطره منذ أن أنهى تعليمه العسكري في واحدة من أكاديميات الحرب البريطانية والحصول على مركز متفوق بين أقرانه في سن مبكر، وكان يفكر وما زال يفكر وقتها.... كيف كنا قبل الخليقة؟!
رمى ذلك الرئيس (النقيب) بقايا سيجارته التي افتتح بها صباحه، ليأمر رعيل مدفعيته العالي الضبط والاستعداد بالسير لتنفيذ المهمة المكلف بها، وكانت ترافق رعيل مدافعه وحدة عسكرية صغيرة مجهزة بذخيرة البروتوكول التي تطلق الصوت لأداء التحية الملكية، وهم متجهون جميعا في زحفهم شرقا صوب مطار بغداد تاركين قصر الرحاب الملكي خلف ظهرانيهم، والملك ما زال في آخر لحظات غفوته! اقترب الرتل العسكري من المبازل والجداول المحيطة بالقصر لعبورها والتي خلت من كل شيء إلا من صراصر الليل والضفادع، وصوت عجلات الرعيل الملكي المكلف نفسه في التحضير لإطلاق طلقات توديع للملك فيصل الثاني صبيحة يوم الرابع عشر من تموز 1958 وهو يستعد للمغادرة إلى اسطنبول لحضور اجتماع قادة دول ميثاق بغداد، وهو الحلف الستراتيجي الذي ضم دول (تركيا وإيران والعراق وباكستان وبريطانيا وأميركا) ضمن لعبة الحرب الباردة. ولكن الأهم كان عند الملك الشاب هو الالتقاء بخطيبته (فاضلة) التي كانت بانتظاره هناك!
حيى الرعيل الملكي، على نقطة تقاطع القصر الملكي، الثوار المدججين بالسلاح والمدافع المعبئة بالذخيرة الحية والمتجهة غربا الى القصر الملكي من دون ان يدرك ضابط الحرس الملكي انهم من رعيل الجيش المكلفين بالثورة حيث رد الثوار التحية الى رعيل الحرس الملكي المتجه الى مطار بغداد/ المثنى شرقا وهم يعتقدون انهم من قوى الثورة المكلفة باحتلال مكان حساس محدد لهم شرق بغداد وفق خطة تنفيذ الثورة!! وهكذا تقاطعت الأضداد العسكرية على نقطة تقاطع الطريق قرب القصر دونما احد منهم يعلم تحركات الفصيل الآخر!! أكانت حقا واحدة من مفارقات ثورة الرابع عشر من تموز 1958. فالثوار كانوا كالقط لقوة سلاحهم والحرس الملكي البروتوكولي كان كالفأر لخلو عتاده، ولو علم بعضهم ماذا يصنع البعض الآخر لحصلت معركة غير متكافئة تسبق احتلال القصر الملكي، وربما لتبدلت المعادلة باستبدال الضحايا!!.. الله اعلم!
فالجميع كانوا مبكرين وهم يسحبون مدافعهم، ولكن باتجاهين مختلفين. فمنهم من يرمي من اجل الملك والآخر جاء ليرمي على الملك!!! سكت الرجل الذي كان يقود رعيل مدافع حرس الشرف الملكي وغاب بانسجام شامل وهو يحدثني وقتها عن ساعة بدء الثورة، وهو يقود مدافعه البروتوكولية التي ظلت وظيفة الإطلاق فيها هي مجرد إثارة الصوت ليس إلا!! توقفت تلك الشخصية العسكرية اللامعة عن الحديث معي برهة... وبدا لي مصراً على النسيان... إلا انه واصل قائلا: بلغ الرعيلان المتقاطعان مبلغهما بمدافعهم واتجه كلُ حسب مكانه المحدد سواء بذخيرته الحية او الميتة!
أحاط رعيل الثوار بالقصر الملكي/ قصر الرحاب وعزل الملك في نقطة ضيقة في مكان من قصره، وهم مسلحون بقوة نارية مهلكة قبل ان تلتهمه رصاصة قاتلة في رأسه. في حين احتل رعيل الحرس الملكي فراغا واسعا لا معنى له على ارض مطار بغداد في انتظار الملك الذي فقد عرشه وحياته!!
ظل الرعيل الملكي على أهبة الاستعداد من دون وجود الملك، في وقت أخذت الفوضى تدب على ارض المطار والرعيل الملكي بضباطه ومنتسبيه لا يعلمون ما الذي يحدث، وكأنما جاؤوا حقا ليحتلوا موقعا لوجستيا لا قيمة له حتى لحظة استسلامهم للقوة العسكرية الثورية الضاربة التي احتلت المطار وأحاطت بهم من كل جانب، ولم تطلب منهم إلا الاستسلام من دون مقاومة وتسليم عتادها الملكي من ذخيرة البرتوكول الباردة ومدافعها الفارغة النحاسية الخالية من كل شيء إلا من لمعانها!! اتجه الثوار وبصحبتهم رعيل الحرس الملكي الى معسكر الوشاش المجاور للمطار (يسمى متنزه الزوراء حاليا) ليطلق سراحهم قبل غروب الشمس جميعا.
يقول الكاتب نمير أمين قردار في كتابه الموسوم: إنقاذ العراق - بناء امة محطمة الصادر في العام 2009، انه كان شخصيا في تلك الساعات من صبيحة يوم الاثنين، الرابع عشر من تموز من بين الحشود التي اصطفت في مطار اسطنبول (يسيلوكي) بانتظار وصول الملك فيصل الثاني لتحيته!!
كان نمير أمين كما يذكر في كتابه، وهو يظهر حقا من عائلة عراقية شديدة الأصالة والعراقة من كركوك، انه كان صديقا شخصيا للملك فيصل الثاني ومنذ الصغر. وكانا يلعبان ويلهوان سوية ولاسيما في فترة الصبا. حيث كانت هوايتهما المشتركة هي لعبة الشطرنج والتنس ومشاهدة آخر أفلام هوليوود والاستماع إلى الموسيقى، وقد التقى نمير أمين قردار للمرة الأخيرة خلال زيارته بغداد، قادما من اسطنبول، الملك فيصل في البلاط الملكي في نيسان 1958، عندما كان في عطلة جامعية بمناسبة عيد الفصح، وهو يواصل درسته في كلية (روبرت كوليج) هناك، اذ قال له الملك الراحل فيصل الثاني: بانه يتطلع الى رؤيته في اسطنبول خلال الصيف..!! ولكن لم يتحقق ذلك اللقاء بين فيصل ونمير بعد ان ودعه في بلاطه في بغداد والى الأبد!!
ظل نمير أمين ينتظر الملك فيصل في مطار اسطنبول مع حشد كبير من المستقبلين، حيث كانت أعلام البلدين ترفرف في محيط المطار وموسيقى الجيش تعزف بانتظار الملك، وربما كان رعيل مدفع البروتوكول التركي ينتظر، هو الآخر، لحظة البدء لإطلاق واحد وعشرين طلقة مدفع تحية لقدوم ملك العراق!.. لم تمض إلا ساعات على تأخر وصول طائرة الملك من بغداد ليعلن مقتل فيصل الثاني ملك العراق والعائلة المالكة جميعا ويسدل الستار على العرش الهاشمي في بلاد النهرين!!
حقا خمدت أصوات المدفعية التركية من ان تطلق طلقات الترحيب والاستقبال لملك العراق في مطار يسيلوكي في اسطنبول، كما خمدت بالوقت نفسه أصوات مدافع الحرس الملكي على ارض مطار المثنى في بغداد في استعدادها لتوديع ملك العراق والى الأبد!!
سألت ذلك الضابط اللامع قبل رحيله، كيف قضيت حياتك العسكرية بعد ان انتهيت من مدافع البروتوكول التي انتهت هي الأخرى بانتهاء النظام الملكي في العراق؟ أجابني بحسرة، ان مدافعه قد استبدلت هذه المرة بمدافع تعمل بالذخيرة الحية وانه أفنى حياته العسكرية وهو يطلق مدافعه بجدية شاغرة وبذخائر نارية استمرت تتكسر على صخور كردستان وجبالها لسنوات عجاف، والتي سميت وقتها بحروب الشمال، ولاسيما في ستينيات وبعض سنوات سبعينيات القرن الماضي! ولم تخلف له تلك الحروب العبثية الا رواسب راكدة من الذكريات والموت!
توفيت تلك الشخصية العسكرية اللامعة، وغادرنا بسلام وهدوء بعد حياة قضاها بنفسه وهي تسير في دوامة اسمها العمر ليلخصها باندفاع نحو اللاشيء وهو يحارب العدم، ولاسيما عندما تبدلت مدافعه من مدافع صوت بروتوكولية مسالمة الى مدافع حرب طاحنة بذخيرة حية لتدك مجاهيل صخرية تحيا خلفها امة من الناس وهو لا يعلم عنها شيئا!!
ختاما: مات ذلك الرجل المسالم وهو يردد: لقد عشنا في دنيا غريبة الغايات، بل شديدة الغرابة في مساراتها... تداولنا فيها الهموم وهي تحت وقع قدم مجهول.... ولكن كان الكل يريد ان يهرب الى سطح الأرض عسى أن يحظى بالسلام!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوضع الإنساني في غزة.. تحذيرات من قرب الكارثة وسط استمرار ا


.. الأمم المتحدة تدعو لتحقيق بشأن المقابر الجماعية في غزة وإسرا




.. سكان غزة على حافة المجاعة خصوصاً في منطقتي الشمال والوسط


.. هيئة عائلات الأسرى المحتجزين: نتنياهو يمنع التوصل إلى اتفاق




.. مقابر جماعية في غزة تكشف عن فظائع.. ومراقبون: ممارسات ترقى ل