الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغم والحرية

عيسى طاهر اسماعيل

2019 / 2 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


اللغم والحرية
وظيفة اللغم
اللَّغَم : هو علبة أوشبه صندوق، تحشى بمواد متفجرة، ثم يوضع مستورا في الأَرْض فَإِذَا وطئه واطئ انفجر، واللُّغْم الضَّغطيّ هو الذي ينفجر بضغط الماء الذي تحدثه السّفينةُ عند مرورها.
واللغم هو آلة مصممة لقتل الأفراد كما لتدمير وعطب الدروع ووسائل النقل الأخرى، وهناك من الألغام ما تستهدف الأطراف من الجسد تحديدا، محدثة عطبا كبيرا تشل حركة الجسد أو مبقيّة إيّاه في دائرة من المكان ضيّقا.
قد يكون مبعث وحيّ صانعي اللغم، الفخاخ التي تنصب للحيوانات تصطادها، لكن على نحو أكثر دهاء ومكرا في حساب للوعي البشري في فطنته واحتراسه لما فيه هلاكه، إذ أن فخاخ الحيوانات بيّنة مرئيّة على نحو يرى، إلاّ ما خلا الفخاخ التي لا طُعم يوضع فيها؛ إذ تدفن قليلا في الثلج أو توضع عليه حشائش سترا؛ الطُعم الموضوع في الشرك، يغشي عين الحيوان وتعميه عنه وتسرح مقدار الحذر اليسير في غريزته، فيستجيب لنهش الجوع عنده، غير عابئ إلا أن يسد رمقه.
اللغم ينجز مهمتين: المهمة الأولى، هي القتل وإحداث العطب في الجسد ووسائل النقل؛ وهي فيما أرى، مهمة ثانوية مقارنة بالمهمة الثانية.
المهمة الثانية للغم والخطيرة في نظري، هي تحجيم وتضييق مساحة الحركة، التضييق على الفضاء الواسع للحركة وتحجيمه، أي أن ما يستهدفه اللغم أولا وبشكل رئيسي، ليس القتل وإنما تضييق الفضاء الموجود للحركة.
ماذا يعني تحجيم فضاء الحركة؟
الإنسان كائن يسير ويتحرك طلبا للطعام والجنس والمأوى، وهو ليس كالشجرة لا تغادر أرضها، والمكان في اتساعه وفي تضييقه، يوسع ويضيق حركة سيره؛ فيرى في مقدار ومساحة الضيق، شلا وتكبلا لحركته وفي عرضه وفسحه انطلاقا له من كل قيد؛ لذا لا غرابة أن يرى الإنسان في تحجيم المكان له، أسرا وتكبلا وقيودا فيربط ذلك بعبوديته وحريته؛ فالسجن في إحدى دلالاته ووظيفته، تحجيم لمساحة الحركة وتضييق لها، وما يضاده، هي الفسحة والتي وإن تكن محدودة الزمن، إلّا إنّها تفسح ما ضاق عليه من المكان إلى مكان أرحب بقليل.
فيكون اللغم أول ما يستهدف هو حريّة الإنسان في حركته؛ فيلجمه ويجعله حذرا متيقظا يحسب لكل خطوة ألف حساب، والحرص الشديد يقيد وينزع قدر السرحان اليسير الذي يشعر الإنسان به أنه حرغير مكبل بأصفاد، ففي القدر اليسير من السرحان حرية ينزع إليها الإنسان كما أن في القدر الكبير من الحذر والحيطة قيود وتكبيل.
واللغم إن ظهر وبان ولم يرفع ضيق المكان لكنه ضيق يمكن التعود عليه وإيجاد فسحة لحين رفعه، أما المدفون الذي لم ير بعد ولا حدد مكانه إلا تخمينا، فإنه مبهم يبهم المكان ويضفي من إبهامه شعورا بالهلع والرعب على الحيز المكاني الموجود فيه ويجعل من حضور زمن المكان غير الملغوم قبلا، حضورا طاغيا بما يحمل في الذاكرة من فسحة وحرية للحركة دون خوف. وقد ألقى مدلول لفظ اللغم ظلاله على اللغة، فترى من معاني اللغم ما يدل على إبهام وعدم يقين وخفاء، بما أن كل خفاء هو غموض وإبهام؛ لذا كان من دلالات كلمة اللغم في اللغة العربية ما يدل على الإبهام والغموض.
مما جاء في معجم لسان العرب لابن منظور عن مادة اللغم ما يلي:
" لَغِمَ لَغَماً ولَغْماً : وهو استِخْبارُه عن الشيء لا يستيقنه وإِخبارُه عنه غير مستيقن أَيضا ولَغَمْتُ أَلغَمُ لَغْماً إِذا أَخبَرْت صاحبك بشيء لا تستيقنه .
وجاء في قواميس أخرى(المعجم الوسيط والغني وغيرهما):
اللغم لغة: لَغَمَ الرَّجُلُ: أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ لاَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ ثِقَةٍ. لَغَمَ الْمُتَحَدِّثُ : تَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ خَفِيٍّ.
وكما يمكن استنباط القلق والخوف مما هو مبهم ومجهول وغامض وكل المعاني التي تدل على خوف الإنسان مما لا يعرف ويجهل، كان اللغم بما هو غير مرئي ومجهول، مصدر فزع وهلع، حيث يضيق حيز الحركة ويقيد الإنسان بأغلال لا ترى، ومن هنا يمكن أن نفهم مبادرة ألفرد نوبل، مخترع الديناميت، عندما أوصى بعظم ثروته التي جناها من الاختراع إلى جائزة نوبل التي سميت باسمه، فلك أن تتخيل مدى تأنيب الضمير الذي لازم نوبل ودفعه إلى اختراعه الجائزة، تكفيرا وتطهيرا عن القيود والقتل والدمار والعبودية التي جلبها اختراعه للعالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمجد فريد :-الحرب في السودان تجري بين طرفين يتفاوتان في السو


.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال




.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟


.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال




.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا