الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد داود -مخيم اليرموك أيام الحصار-

رائد الحواري

2019 / 2 / 16
الادب والفن


كنت قد بدأت بقراءة مذكرات "نمر مرقس" "أقوى من النسيان" وقبلها انتهيت من مذكرات "سميح مسعود" "حيفا برقة" لكن جاءت هذه القصيدة لتخرجني من الماضي ولتعيدني إلى الواقع، واقعنا كفلسطينيين، فنحن "متخصصون بالخيام واللجوء، ولنا الحصة الأكبر من القتل والتشرد والجوع، ونحن الذين كُتب علينا "لنجعلكم لفيفاً في الأرض" ونحن سبب مصائب العرب والعالم، حتى أنه يقول عنا: "كل من يقف مع الفلسطينيين يتخوزق" فنحن اللعنة التي يرسلها الرب على العصاة، فأينما حللنا نحدث الخراب والفساد وننشر الموت والفرقة!، لهذا على الآخرين أن يفعلوا بنا الأفاعيل، ألسنا الطاعون؟ فليحرقونا. ألسنا من يهلك الحرث والنسل؟ فليقتلونا.
وهذا ما كان، الاتراك أخذوا حصتهم من دمنا وعذابنا، فهناك "أحمد باشا الجزار، وجمال باشا السفاح"، والانجليز الذين لهم الفضل في تسليم فلسطين لدولة لاحتلال التي فتحت الباب أمام أول المجازر، في دير ياسين، وبعدها في قبية، واتبعتها بمجزرة كفر قاسم، والحرم الإبراهيمي، هذا عدى التصفيات التي حصلت عندما اعادة احتلال المدن الفلسطينية، ولا ننسى ما يحصل يوميا على الحواجز والطرقات من قتل والاعتقالات والإذلال.
كل هذا يمكن أن نفهمه ونستوعبه لأنه جاء على يد الأعداء، على يد محتلين، لكن أن نقتل في أيول الأسود واحراش جرش وعجلون، وفي تل الزعتر ، وفي صبرا وشاتيلا وبقية مخيمات لبنان، وفي العرق بعد قُدوم (الديمقراطية الأمريكية)، وتأتي ليبيا لترمينا على الحدود ومن قبلها فعلت الكويت، وبعد كل هذه المجازر والشتات يأتي دور مخيم اليرموك الذي تعرض للإبادة السكانية والمحو الجغرافي على يد المتحاربين، إن كانوا معارضين أم من النظام، فهذا هو الجنون بعينة، فكم يا "بلاد العرب أوطاني" تحتاجون لتتخلصوا منا؟، وكم مجزرة تعدونها لنا؟، ألم ترتوا من دمنا؟، هل هو لذيذ؟ ألهذا تستمرون في ذبحنا؟.
هل هي الصدفة؟ أم أن هناك إرادة خارجة تُسيّر أعمالنا؟ لنقرأ أعمال أدبية تتحدث عن واقعنا وما مررنا ونمر فيه.
بكل تجرد لم أكن أتوقع أن تكون قصيدة "مخيم اليرموك، أيام الحصار" بهذا العنفوان، فهناك ثورة على النظام العربي الرسمي، على الارهابيين، على العالم، على الواقع، على الدين ورجال الدين، وهناك مطالبنا، ما نريده من الحياة، وهناك إصرانا على أن نكون، إصرارنا على أن نأخذ حصتنا من الحياة، فلا نريد أن نكون شهداء. كل هذا يقدمه "محمـد داود" بلغة نارية، بلغة شاعر استطاع أن يوظف قدراته في صياغة همومه وهموم شعبه، لهذا سيكون للقصيدة قدسية، قدسية ألم الفلسطيني والعذاب الذي (كُتب) عليه، فلنقرأها بخشوع، وبأذنٍ واعية، فهي "مديح الظل العالي (الجديد)".
يفتتح الشاعر القصيدة:
على هدْي البلاد كم سنمشي
حتى تلاقينا ابتسامتنا مرة أخرى؟.."
أهمية الفاتحة تكمن فيها أنها جاءت بصيغة سؤال، ومن ثمة على القارئ أن يتوقف مفكراً فيما جرى ويجري، فالشاعر من خلال هذه الفاتحة يريد/يطالب بحياة سوية/عادية، كأي إنسان آخر، وهو لا يسعى للرفاهية والترف، بل يطالب بحاجته الطبيعة من الحياة، لهذا ذكر "ابتسامتنا" كتأكيد على عدالة مطلبه.
مصيبة الفلسطيني في:
"بسم البلاد التي أنجبتنا سقطت عوالمنا علينا ..
سقطت بعتمتنا شموس الأرض .."
فعل السقوط له وقع على القارئ، الشاعر يرسم صورة هذا الحدث "سقطت عوالم، شموس الأرض" وكأننا مركز الكون وما فيه، لهذا تجد العوالم والشموس تخصنا نحن دون غيرنا بهذا الخراب، فما هي نتائج وتوابع هذا السقوط؟:
"وانهمرت قصائدنا بديوان العرب
ويحدث أن الشمس تنهض كل يوم
ويحدث أن الروح تبكي بكل شمس
ويُحكى أن الحب يهذي بكل قلب
ويُحكى أن الموت فينا بكل عرس
ويُروى عن الفلسطيني أن رياحه
تخوض الحياة بكل إثم
فتعوي السماء جنوداً حدوداً وبحارَ يأسِ"
استخدام الشاعر لحرف واو العطف يشير إلى حالة تتابع وتواصل وحيوية الحدث، وإذا ما توقفنا عند هذه الأحداث نجدها تبدأ بتقديم صورة جميلة وطبيعية "انهمرت قصائدنا، والشمس تنهض" فالشاعر لا يريد ان يصدمنا بالأحداث العنف والموت، لهذا نجده يقدمنا بالتدريج مما يريد أن يبوح به، فجاء المقطع الأخير هو القاسي لفظاً ومضموناً "فتعوي، جنوداً، حدود، يأس" وهو ناتج عن "انهمرت قصائدنا" والتي تشير إلى (حصة) النظام الرسمي العربي من دمنا، وهنا ذروة المأساة، أن يأتي القتل/القهر/التشريد من الأخوة.
بعد أن دخلنا إلى الجنود والحدود وبحار اليأس، بالتأـكيد سنجد مزيداً من السواد والألم، لنرى كيف قدم الشاعر هذا السواد:
"لا ماء يسكن في السحاب ولا هواء يحمله الندى
لا نار يوقدها المخيم تحت رفاته
ولا نجوم تضيء حلكته "
هل يستطيع الإنسان أن يعيش عندما يتم فقدان أربعة عناصر أساسية "الماء، الهواء، النار، النجوم" فمن خلال هذه المفقودات لن تكون هناك حياة، وعلينا البحث عمن منع/حجب هذا المفقودات عن المخيم، فرغم أن الشاعر لا يبوح لنا بمن منعها إلا أن صورة المشهد تدفعنا للبحث عن الفاعل.
"المخيمات ترتب ليلها الهمجي
ستصحو بعد أيامٍ ولربما سنوات
لتكتب أنها اغتصبت
ومن الجميع
هاهنا بدأ الحصار في اليرموك
مع رجفة الحلم الكسير
وزمهرير البرد في وجع الحديدْ
في الحصار الطويل
يبيع الموتى أكفانهم برغيف خبز"
صورة عامة للمخيمات، وصور مشاركة جميع الجهات التي ساهمت فيما آلت إليه المخيمات، التي تعاني من "ليلها الهمجي، اغتصبت، الحصار، الزمهرير، البرد، الموتى" كلما حاول الابتعاد عن مشاهد القوة والألم، إلا أنها تذكرنا بواقعنا/بحالنا البائس، لهذا على أي شاعر/أديب، يريد التحدث عن هذا الواقع عليه أن يجد طرق/أشكال يمرر بها السواد الذي يريد طرحه، بحيث يُوصل الفكرة التي يرد تقديمها بأقل الأضرار، وهذا الامر هو ما يميز الشاعر المتألق، فالبيت الأخير:
"في الحصار الطويل
يبيع الموتى أكفانهم برغيف خبز"
يبين قدرة "محمد داود" على التصوير الشعري، بحيث جاء جمال الصورة الشعرية ليزيل/يخفف من حدة/قسوة الفكرة، وهنا تكمن عبقرية الشاعر.
في المقاطع السابقة كان الحديث عن مشاهد عامة، متعلقة بالمخيمات وبسكانها، فهي تثيرنا، لكن ليس بحجم المأساة المفردة، لهذا ينقلنا الشاعر إلى صورة محددة تتحدث فيها طفلة فتقول:
" في الحصار الطويل
تسأل طفلةٌ شقيقَ بكائها :
إن متنا بقصف الجحيم على أرواحنا، هل سنصعد للسماء معاً بكل بهائنا؟"
الانتقال من العام إلى الخاص بالتأكيد يثير المتلقي ويجعله يركز على المشهد أكثر، وعندما اختار الطفلة كان يريدنا أن نصل إلى حقيقة ما جرى في المخيم، فالطفلة أنثى، وهي تستميلنا بكونها طفلة وبكونها أنثى وبكونها ضحية، بمعنى أن الشاعر يستخدم كل المثيرات العاطفية والإنسانية ليضعنا أمام حقيقة ما يجري في المخيم، والجميل في سؤال الطفلة أنها تفكر بالحياة الأخرى، بالهناء والسلام الذي لم تجده على الأرض، فنجد في سؤالها الحرمان من الحياة الطبيعية/السوية، لهذا تريد التعرف عليها في العالم الآخر، تريد العيش بحياة سمعت عنها ولم تعشها، فجاءها الجواب:
"قال سنصعد كما المطر الغريب على رمال الشرق
سنصعد قطعاً وسلاسل خوف مكبلةً بلون الصديدْ"
نفي البهاء والهناء في السماء يشير إلى حالة القنوط التي وصلنا إليها، ففعل "الصعود" يشير إلى المشقة والتعب، ونجد "الغريب، رمال، قطعاً، سلاسل، خوف، مكبلة، الصديد" كلها يجعل حال السماء خراب كحال الأرض.
بعد أن قدم لنا الشاعر صورة الألم الشخصي الذي تعانيه الطفلة، وبعد أن صدمتنا الصورة، يدخلنا من جديد إلى الحديث العام، فهو لم يعد يقدر على الاستمرار بالتحدث عن الألم الخاص:
"في الحصار الطويل
يجلس الموت على تلة خبز
يوزع أكفان الميتين سهواً
ويمسح الخذلان عن وجه الشهيد"
فرغم القتامة إلا أن الشاعر يحاول أن يخفف منه من خلال الصورة "يجلس الموت" وجاء "المسح" على "الشهيد" ليضيف لمسة من الهدوء ـ رغم الموت ـ على المشهد، وإذا ما توقفنا عند الصور الشعرية نجد الشاعر يستعين بها عندما تكون الفكرة في غاية القتامة، وكأنه يريد بها أن يخفف عن نفسه قبل أن يخفف عن المتلقي للقصيدة.
يقدمنا الشاعر من مشاهد منتقاة، اختارها ليبين لنا حقيقة ما يجري في المخيم:
"في الحصار الطويل
تسير الأرض حول هدوئها تمسك يد جثة طفلٍ
تغني له تهدهده
وتخزنه كقطرة ماء للزمان البعيد"
تكمن عبقرية الشاعر في صورة الأرض التي أخذت دور الأم "تهدهده" ودور الأرض "تخزنه" وهذا ما يجعلنا نتساءل: "أين أمه الحقيقية؟ وهل أصبحت الأرض هي الملاذ الذي يجد فيه الحنان/الراحة/السكينة بعد أن فقد والدته؟ والإثارة والدهشة تكمن في سير الأرض التي لم تستطع أن تقف جامدة/ثابتة أمام هذا القتل والخراب.
لا يكتفي الشاعر بالحديث عن صورة الطفل، بل يجعله يتكلم فيقول:
"طفل من اليرموك يصرخ:
يا قاتلي مهلاً
أنا لست آدم .. من ورط الشيطان في عصيانه
من أضاع خلوده في قلب أنثى
ورمى أولاده بخطيئة الحب المحرم"
يعيدنا الطفل إلى سفر التكوين، وإلى ما فيه من قصة الخروج من الجنة، فهو يبين أنه ليس سبب الخروج من الفردوس وحرمان البشرية منه، فلماذا يُعامل بهذه الوحشية؟، يستمر الطفل بصراخه فيقول:
"يا قاتلي سفينة الطوفان لم تحمل ذنوباً لي
ولم أجمع الغيم في حلمي
لأعصره فوق الهدهد الموعود بالأرض الأخيرة"
وها هو يستمر في ذات النسق والترتيب الذي جاء به سفر التكوين فيحدثنا عن براءته من حدث الطوفان، وما تبعه من قصة "إبراهيم" والأرض التي أعطيت له، وللنبوة التي كانت في أولاده دون سواهم:
"ولست إبراهيم
من كسر إله الأولين
وقسّم الديانات على أحفاده
من بنى القبلة الأولى
ورمى الصحراء خلف نسائه
وافتدى بالكبش إسماعيل"
فالطفل يبني براءته من النص المقدس، ويبين عدم رضاه عن الطريقة التي أعطيت النبوة لأبناء إبراهيم، وبين أن "إبراهيم" اقترف خطايا بتكسيره كبير الأصنام، وقسم الديانات بطريقة غير عادلة بين أبنائه، ورمى زوجته في الصحراء، وافتدى ابنه بالكبش، فهو يفند النص المقدس الغارق في الخطايا، والمنحاز لطرف بعينه، فهل يمكننا أن نبرر لهذا الطفل هذا (التجديف)؟، أم ندينه ونقيم عليه الحد؟.
"لست أيوب الشهيد
من ابتلاه الله بكل موت
وحاججه على الخسران"
فالطفل لم يعد يقدر على تحمل المزيد من الألم، لهذا يستخدم الفكرة التي يؤمن بها (القاتل/الإرهابي) ليكف عنه:
يستمر الطفل في محاججة قاتله محاولاً أن يقنعه بالكف عن قتله:
"يا قاتلي كذّب العرّاف فلست موسى
من أتاك بسلة في الماء..
لست من قتل الأفاعي كلها بعصا التمرد
ومن جلب البلاء لأهل مصر
لست من شق المياه بقومه ليغزو أولى القبلتين
ويخاطب ربه دون تكلّف"
نجد المنطق الديني والترتيب المتسلسل للأحداث كما جاء في سفر التكوين، فالطفل يستخدم عين الفكرة والشكل الذي جاء به النص المقدس ليبين ويحاجج قاتله بالفكر الذي يؤمن به، وهذا المنطق يتراوح بين تبيان عدم منطقيته في " لست من شق المياه بقومه ليغزو أولى القبلتين" وأحيانا بالتهكم
"لست من قتل الأفاعي كلها بعصا التمرد
ومن جلب البلاء لأهل مصر".
ينتقل الطفل إلى العهد الجديد:
"يا قاتلي لم تلتقطني الحياة بنفخة في الروح برحم مريم
فلا تؤاخذني بذنب من حمل الصليب وسار فوق الماء"
فالطفل يحاول أن يبرئ نفسه من (ذنب) المسيح، فهو لم يولد بنفخة ولم يسير على الماء، بمعنى أنه لم يأتِ ليبين سفاهة أتباع العهد القديم.
إذا كان الخطاب السابق متعلق بأتباع العهد القديم وبمن يؤمنون به، فإنه يخاطب أتباع الدين الإسلامي قائلاً:
" ولست محمـداً
لست من فرض الصلاة على الرعاة
لست من أسقط المعنى عن الكلمات
ليحتفل الشهود من القبيلة
بضياع يثرب في السقيفة وزواج مكة ببني أمية
لست الغفاري
من سأل النبي ماذا عن حقوق الخلق إن سُرقوا وإن قُتلوا؟
ولست من خذل الحسين بوعد مُلْكٍ
ولست من قتله
وأودع رأسه زينة في رحاب الجامع الأموي"
الطفل يكشف حقيقة التاريخ الإسلامي وما فيه من خروقات للسلام، للإنسانية، فهو بهذا التقديم يبين زيف التاريخ الوردي الذي يُقدم لنا، فهناك أحداث دموية مارسها (السلف الصالح) لا تقل دموية عما يحدث الآن في مخيم اليرموك.
إذا ما توقفنا عند منطق الطفل نجده أكبر بكثير من طفل، فهل الشاعر يستتر خلف الطفل؟ أم أن حجم المأساة جعل الطفل يتحدث بهذا المنطق؟.
بعد هذا المكاشفة للفكر الديني وتبيان ما فيه من مخالفات للمنطق وللعقل، يخاطبنا الطفل بلغة جديدة، اللغة التي يفكر بها:
"أنا ما زلت غضاً وما زلت أبحث عن حليبي
وصدر أمي جف"
يبدو وكأن الطفل يريدنا أن نغفر/نتجاوز عما بدر منه، عندما تجاوز/تطاول على الدين، لهذا نجده يتحدث بلغة عاطفية تتناول الحرمان المادي "الحليب" والحرمان العاطفي "صدر أمي" وكأنه بهما يحاول استمالتنا.
"ما زلت أحبو دون جواربٍ
ودون أرض أحددها لتكون لي وطناً أو حديقةً أو حتى قبرْ"
نجد حالة الفقر المادي "دون جوارب" الفقر للوطن، وهذا أيضاً يسهم في جعلنا نتعاطف معه ونتجاوز عن (تجديفه) السابق.
"وأصابعي لا تدرك الكلمات بعدُ
ولا تعي جهة الرياح رمز إشارتي"
وهنا كان الطفل أكثر وضوحاً في اعترافه بالخطأ الذي أقدم عليه، عندما تحدث عن الدين والمقدس بطريقة غير لائقة.
"أسنان الحليب لم تقاتل ثدي أمي"
يعاود الطفل بالحديث غير (اللبق) وكأنه عندما يتذكر فقدان أمه يفقد السيطرة على ما يتحدث به، وهذا يعطينا فكرة، أن حالة الألم التي يمر بها هي من تجعله يتجاوز (حدود) اللباقة، فيتحدث بطريقة ساخرة.
"أنا من أنا فقط طفل من اليرموك
لا نبي ولا ملاك"
وكأن الطفل عرف خطأه، لهذا يعود إلى اللغة المنطقية التي نفهمها.
"ذاك مخيمي"
يحاول أن يعرّفنا على المكان، على الخراب الذي حصل فيه، يعرّفنا على الموت الذي انتشر فيه، لهذا اكتفى "ذاك مخيمي"، فهل لهذا الكلمة أثر على الطفل؟.
"ولدتُ هناك ومازالت مياه الأرض تمنع الروح من التقاط الهواء
كرقص الساحرات على نشيدي
يغني العيد بطعم النعنع البري أضواء الحكاية كلها
والحكايات التي هجرت مضاجعها لتبني صروحاً في الغياب
نادت على المشتاق كن
نادتني فكنت ظلال عيدي"
إذا ما توقفنا عند هذه الأبيات نجد لغة جديدة تماماً، بعيدة كليا عما تحدث به الشاعر أو الطفل، فالمكان له حضوره عند الفلسطيني، وهو من يمنحه الأمان، لهذا نجد هذه اللغة الناعمة والهادئة، "مياه، الأرض، تمنح، الروح، التقاط، الهواء، كرقص، نشيدي، يغني، العيد، بطعم، النعناع، البري، أضواء، الحكاية، نادتني،ـ مشتاق، ظلال، عيدي" فالمخيم هو المخلص للطفل من ذاك التجديف ومن تلك السخرية التي جاءت في السابق، والنقلة لم تقتصر على المضمون فحسب، بل طالت الألفاظ أيضاً، فكانت هذه المقاطع مغايرة تماماً لما سبقها، وإذا ما توقفنا عند أثر المخيم/المكان يمكننا الاستنتاج أن ـ العقل الباطن ـ للطفل المتعلق بالوطن المحتل، بفلسطين جعلته يتقدم من وطنه المفقود ففاضت لغته بنبع من الألفاظ الناعمة والهادئة، وهذه اللغة أسهمت ـ الآن ـ في تهدئة الطفل وتخليصه من واقعه البائس، مما يعطيه طاقة تمكنه من الاستمرار في الحديث عما يوجعه.
ينقلنا الشاعر إلى مشهد آخر للمخيم والذي جاء فيه:
"مخيم اليرموك
فجأةُ وجهٍ وشمته الزرقة حتى نهايات الزمان
ما بين حاجزين ومعبر
تنام الضلالة بأبهى معانيها على تخوم الألم
واقف كالسراب القصي في رمال البداة
يرقب هجرة طفل في رياح الثلج
بعد قافلة حروبٍ وبضعةِ موت
ومائدةِ ضباع على شرف الرعاة"
معاني وألفاظ تشير إلى السواد والبؤس الذي يحل على المخيم وأهله، من هنا نجد مجموعة من الألفاظ السوداء "حاجزين، الألم، كسراب، رمال، هجرة، رياح، الثلج، حروب، موت، ضباع" كافية بمعناها المجرد أن تعطينا فكرة الألم والقسوة التي يعيشها المخيم، ويعود الشاعر إلى الطفل، وكأنه علم أننا تأثرنا به وبالطفلة، لهذا يستخدم ما يشدنا ويجذبنا، والجميل في المقطع السابق أن الشاعر يبدي امتعاضه من الفكر الإرهابي والإرهابيين بصورة شعرية:
"واقف كالسراب القصي في رمال البداة"
بهذه الصورة يبدي الشاعر تناقضه مع البداوة وما أنتجته من خراب وقتل، ويكمل هذا الجمال عندما يجعل هجرة الطفل بهذا الشكل:
"يرقب هجرة طفل في رياح الثلج
بعد قافلة حروبٍ وبضعةِ موت
ومائدةِ ضباع على شرف الرعاة"
حدث الهجرة كان شاقاً من خلال "رياح الثلج، ودوافعه كانت قاسية لأنها كانت بسبب الحروب والموت، والهجرة تعني النجاة، حيث هناك متآمرين "شرف الرعاة" فدوافع الهجرة، والهجرة تشير إلى المأساة التي يعيشها الطفل والمخيم، ويستوقفنا مشهد الهجرة، هل أراد به الشاعر أن يقارن الهجرة النبوية بهجرة الطفل والمخيم؟، اعتقد أن استخدامه "رمال البداة" يشير إلى هذا الربط، وما يؤكد هذا البيت التالي:
"ويسألونك عن المخيم قل : هو من أمر نفسه"
فالشاعر يغرب حدث الهجرة النبوية، من خلال حديثه عن الطفل ورياح الثلج، لكنه يستخدم التناص مع القرآن الكريم، ليثبت عملية الربط بين الهجرتين، هجرة الرسول من مكة، والسبب وراء هذه الهجرة الذي يتوافق مع أسباب هجرة الطفل، فالتناص جاء مع الآية من سورة الاسراء والتي جاء فيها "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85( فحل المخيم مكان الروح، ونفسه ـ المخيم ـ بدل ربي، وكأن المخيم أصبح كائن مُكون بذاته ومستقل عن بقية الكائنات/الخلائق، وهنا يأخذنا الشاعر إلى (التجديف) الذي تحدث به الطفل في السابق، وكأنه تأثر به فاستخدم عين منطقه ولغته.
دائما كان الفلسطيني وحيداً في المواجهة، وليس أبلغ من قول "محمود درويش" في قصيدة "أحمد العربي:" وكنت وحدي/ ثم وحدي/ آه يا وحدي"، فحجم المأساة تجعل الفلسطيني يكفر بمن حوله، لأنهم يقفون مع الجلاد، مع الموت ضده، وليس مع الضحية، وليس على الحياد، وهذا ما أكده محـمد داود" عندما قال:
"لاخيل تعدو قربه ولا مجاز يطيح بالمعنى وبالعواصم حوله"
قلنا أن المخيم كائن مُكون بذاته، لم يُكّونه/يُنشئه أحد، وهذه الصورة تؤكد على وحدانيته عن بقية الكون والكائنات والجغرافيا.
يفصل لنا الشاعر هذه الوحدانية من خلال:
"ظلال أشباح الوجوه التي ولجت من براثن أمة واصلت وأد الحياةْ
ومهاجرٌ هربت مدينتُه عن الجدران
فانكفأت وصايا جدِّه نحو الكهوف
وضاعت مفاتيحُ القبيلة في مياه البحر والمدن الثرية والهباتْ
أطلالُ بيتٍ مسورٍ بحجارةٍ وحفنةٍ من جذور الياسمين
تاهت ذات حضارةٍ في احتضار الحائرين في الحلباتْ ..
والجوع ضيفٌ ثقيلٌ وحشٌ لا يقاوم
ولا يغفو عن الأرواح التي انكسرت بغياب حلم
محكومٌ لها بالصلب الغبي في الشرفاتْ
والمخيم عارٍ إلا من هويته التي دُمغت به
فاستلّها كل حوذيٍ ومخصيٍ غنى بها في مجالسة الطغاةْ
فيضٌ من دموعٍ دامياتٍ
وسمت دهوراً من دمار الأرض والأبناء
في دمجٍ عصيٍ على الكلماتْ
مخيمٌ لم يبقَ فيه من معنى
سوى الضياع المستمر على مرافئ المتوسط الممهور بالخذلان والخيباتْ"
رغم طول المقطع إلا أنه مترابط ومتكامل، وهذا التواصل ناشئ عن طبيعة المخيم الوحدانية، فهو كإله، مقدس لا بد من تقديمه بشكل يليق بهذه القدسية والعظمة.
في البداية يتحدث الشاعر عن علاقة الجغرافيا/المكان بالإنسان، فهناك هجرة وابتعاد عن المكان بسبب "وأد الحياة، مما جعل المدينة تبتعد عن الهاجر، والجميل في هذا المقطع أن المهاجر هو الثابت والمدينة هي المتحركة، وهذا (التغريب) للحدث يشير إلى حجم المأساة التي يعيشها المكان/المخيم.
العقل العربي متربط بالقديم، حتى أنه يقدسه، وهذا القديم نجده يضيع في أتون الحياة الجديدة وما فيها:
"فانكفأت وصايا جدِّه نحو الكهوف
وضاعت مفاتيحُ القبيلة في مياه البحر والمدن الثرية والهباتْ"
الطرح الطبقي وأثر الثراء السلبي على البداوة، وانعكاس ذلك على المخيم وساكنيه وعلى التراث/التاريخ، بحيث فقدنا حاضرنا وماضينا، وأمسينا بلا جذور تثبتنا في المكان/الجغرافيا، فكان اقتلاعنا/تهجيرنا سهل على العدو.
"أطلالُ بيتٍ مسورٍ بحجارةٍ وحفنةٍ من جذور الياسمين
تاهت ذات حضارةٍ في احتضار الحائرين في الحلباتْ .."
مخاطبة المتلقين باللغة التي يفهمونها، باللغة التي اعتادوا عليها، حتى يعلموا حقيقة ما يجري، فالشاعر يبتعد عن المباشرة ويحدثنا من خلال إشارات "حجارة مسورة والياسمين" والتي تشير إلى دمشق، دمشق المدينة الأقدم في التاريخ، دمشق مدينة الجمال والياسمين، تتحول إلى أطلال، وهذا ما يجعل وقع الخراب أكبر على المتلقي، وهنا تكمن عبقرية الشاعر، استخدم إشارات ولغة تتناسب ومكانة دمشق العريقة والجميلة، ثم يحدثنا عنها من خلال "تاهت" فضاع التاريخ، وضاع الجمال والخير الحاضر معاً.
"والجوع ضيفٌ ثقيلٌ وحشٌ لا يقاوم
ولا يغفو عن الأرواح التي انكسرت بغياب حلم
محكومٌ لها بالصلب الغبي في الشرفات"
بعد التنعم بالجمال والخير حل الخراب، فكان "الجوع، ثقيل، وحش، لا، انكسرت، بغياب، بالصلب، الغبي" إذا ما توقفنا عند هذه الصور نجد حجم المأساة التي يعيشها أهل دمشق وساكنيها، لكن الصورة الشعرية التي استخدمها الشاعر خففت من حدة السواد على المتلقي، فرغم أن المقطع الأول جاء في مضمونه غارق في القتامة، إلا أن الصورة الشعرية سهلت على القارئ وصول الفكرة وتقبله لها.
حجم المأساة جعلت الشاعر يقع في المباشرة:
"والمخيم عارٍ إلا من هويته التي دُمغت به
فاستلّها كل حوذيٍ ومخصيٍ غنى بها في مجالسة الطغاةْ"
فهل هذا مبرر؟، أم كان على الشاعر أن يبقى محافظ على رباطة جأشه/لغته وصوره الشعرية عن الخراب والموت؟، اعتقد من حق الشاعر أن يظهر مشاعره ـ كإنسان عادي وليس كشاعر، من هنا يمكننا ان نتفهم هذا الأمر الذي يخدم صدق مشاعر كاتب القصيدة، وتأثره العميق بما يجري:
"فيضٌ من دموعٍ دامياتٍ
وسمت دهوراً من دمار الأرض والأبناء
في دمجٍ عصيٍ على الكلماتْ
مخيمٌ لم يبقَ فيه من معنى
سوى الضياع المستمر على مرافئ المتوسط الممهور بالخذلان والخيباتْ"
في المقطع الأخير نجد تعليلاً لحالة التوتر التي أصابت الشاعر، والتي أفقدته سيطرته على القصيدة، فأخذ يتحدث بصوت عالٍ ومباشر عن المخيم وساكنيه، واعتقد أن هذا (الخروج) عن (الاتزان) والاتجاه إلى المباشرة له علاقة بحديث الشاعر عن التاريخ وحاضر دمشق العريق، فهل يعقل أن يطمس ذاك التاريخ، ويدمر الجمال والخير الحاضر، ويمسيا خرائب خاوية على عروشها؟.
إذن يمكننا القول أن الإنسان العادي في الشاعر (فش غليله) عندما حدثنا بالطريقة السابقة، وها هو يتقدم من ذاته كشاعر وليس كإنسان عادي:
"الفراغ العدمي المثقل برائحة الخلق
يلوك الوقت يمضغه
ويرسله في ريح تضيعها الجهات
الصوت الصدى
يتوالدان يمزقان حبل السرة البدئي
يزينان وهج النشوء قبل كل الذكريات"
رغم السواد، نجد لغة شعرية بكل ما فيها من جمال، حتى أن أي قارئ يمكنه أن يجد الفرق بين اللغتين، وهذا ما يحسب للقصيدة، فلم تكن (شعريتها) نقية تماماً، بل جاءت ـ أحيانا ـ بلغة مباشرة وبصوت عال، وهذا الأمر ينسجم مع فكرة وطبيعة القصيدة، أليست قصيدة دامية، متمردة، خارجة عن المألوف؟ فكان لا بد من تماثل فكرتها مع طريقة/شكل تقديمها، وهذا ما كان.
وإذا ما توقفنا عند "الصوت والصدى" وما تبعهما:
"يتوالدان يمزقان حبل السرة البدئي
يزينان وهج النشوء قبل كل الذكريات" يمكننا الاستنتاج أن ـ العقل الباطن ـ للشاعر اعطاه شارة إلى خروج القصيدة عن مسارها، فاستعان باستخدام "الصوت والصدى، ومن ثم تحدث بصيغة المثنى، وكأنه بهما أراد أن يعطي إشارة إلى أن ما جاء في القصيدة من (ثنائية اللغة) الذي يماثل مع الحالة الطبيعية والسوية.
يتسمر الشاعر في تأكيد تقدمه من جديد من كونه شاعراً: فيقول
"بدأ النشوء من الأغاني
ولد المخيم في الأغاني
بعد أن جمعت غباره ورماده
وتفجرت ببخار موتٍ صاعدٍ
تكاثفت مضغاً من الماء المهين
غنى المخيم في وجع الريح
وانحدرت وصاياه كمطر مالحٍ ملء الفراغ" يستخدم الشاعر "الأغاني غنى"" ثلاث مرات، واستخدم "بخار، الماء، مطر" ثلاث مرات أيضاً، وهذا يشير إلى أنه دوافع الحياة نهضت في الشاعر وجعلته يستخدم لغة البهجة والفرح "الأغاني" ولغة الحياة والجمال "الماء"، فهو هنا شاعر كامل غير مختلط بما هو عادي.
"تمسك الكلمات أصابع بعضها
تراقص النبض الضوئي تلاعبه
تلم حروفها
توسع ما تشقق من جدار الصمت
وتفتح للوجود خروج موت باهر"
يتقدم الشاعر بالقصيدة إلى الأمام، فتنبض بالشعر وبالصورة الشعرية ـ رغم ما تحمله من سواد، لهذا نجد المقطع السابق مترع بالصور وبالألفاظ الناعمة "الكلمات، تراقص، الضوئي، تلاعبه، تلم، حروفها، توسع، تفتح، للوجود، باهر" وإذا ما توقفنا عند: "تمسك الكلمات أصابع بعضها" يمكننا القول أن الشاعر أعلم أنه أحدث (تشويها) في القصيدة من خلال المباشرة، لهذا يركز على هذا الأمر من خلال استخدام ألفاظ بيضاء وناعمة" فقد استعاد كامل عافيته الشعرية، وتقدمت القصيدة من جديد إلى الأمام، متجاوزة حالة الانفعال التي حدثت ـ رغم أنها خدمت فكرة القصيدة، واعطت صورة التماثل/التلاقي بين الشكل والمضمون ـ لكن يبدو أن الشاعر لم يعي هذا الأمر، فاستمر في (التكفير/تصحيح) ما بدر منه من انفعال.
لنرى كيف يحدث الانفعال والتوتر عند الشاعر وليس الإنسان العادي:
"في اليرموك
كان الصيام خياراً واحداً لا شراكة له مع أحد
ولا حضور لأخوةٍ يترنحون بمحفل الرايات
صام المحاصرون وصلوا فرادى على ما تبقى من جياع صاعدين
والوقت يسبق ذاته فيهم
على عجلٍ يشيدون نشيدهم في رحلة المنفى الثقيل
ويصعدون ويصمدون في ليل الصيام
ألفُ شهرٍ مر في صلواتهم ولم تهبط عليهم ليلة القدر
ولم تنزل ملائكةٌ على جهة المخيم
كانت تنتظر القيامة بأمر من هواء الصُوْر المستحيل
في المخيم نادوا بسم الله أكثر ما نادت قريش ولم يبكِ أحدْ
على سواد الروح في وهج العيون
ولا المتخمين يكترثون بالغد الآتي إليهم
فبأي إلحاد المخيم تكفرون"
يبدأ الشاعر "في اليرموك" فالمكان/المخيم يُحدث هزة في وجدان الشاعر، فهو من يذكره بالخراب والموت والهجرة والتشرد، فيقدم الجوع بصورة شعرية مستخدما "الصوم" كفعل يجبر عليه سكان المخيم، وليس فعل عبادة اختياراً، لهذا أعطاه صورة الإله "لا شراكة له" وهذه الصورة تشير إلى حجم الجوع الذي يعانيه سكان المخيم وتفشيه بينهم.
يستوقفنا تركيز الشاعر على فعل العبادة "الصوم" خاصة بعد أن أتبعه بالحديث عن الصلاة:
"صام المحاصرون وصلوا فرادى على ما تبقى من جياع صاعدين"
فهو يريد أن يذكر الإرهابيين بوحشيتهم وبخروجهم عن الفكرة النبيلة التي يدعون أنهم متمسكون بها ويمارسونها، لهذا اختار عين المصطلحات والألفاظ التي يستخدمونها "الصيام والصلاة"، كل هذا جاء بلغة الشاعر:
"على عجلٍ يشيدون نشيدهم في رحلة المنفى الثقيل"
لرغم قسوة الحدث إلا أن الصورة ـ بمجملها ـ جاءت جميلة، وتأكد أن الشاعر يتقدم بقصيدته إلى الأمام.
"ويصعدون ويصمدون في ليل الصيام
ألفُ شهرٍ مر في صلواتهم ولم تهبط عليهم ليلة القدر
ولم تنزل ملائكةٌ على جهة المخيم
كانت تنتظر القيامة بأمر من هواء الصُوْر المستحيل
في المخيم نادوا بسم الله أكثر ما نادت قريش ولم يبكِ أحدْ"
الأحداث ودمويتها جعلت الشاعر ينفعل، لكن انفعاله لم يخرجه من اللغة الشعرية، بل قدم هذا الانفعال بلغة دينية، لغة يفهمها ويعرفها ويستخدمها من يُحدثون الخراب والقتل في المخيم.
ونجد التناص مع سورة القدر: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)" لكن الشاعر يغرب الأحداث من خلال "لم تهبط عليهم، لم تنزل الملائكة" وكأنه بهذا النفي يريدنا أن نشعر بحقيقة المأساة التي يعيشها المخيم، وإذا ما قارنّا فكرة "السلام والأمن" الذي تحمله سورة القدر بما يجري في المخيم، يمكننا أن نعلم أن هناك أحداث لا يمكن أن تعبر عنها الكلمات، وما كانت عملية التناص إلا وسيلة تبين حجم الجريمة التي اقترفها (المؤمنون بالقرآن) وتبيان الجرائم التي اقترفتها أيديهم.
يقدمنا الشاعر من صورة شخصية:
"كم لبثنا في المخيمْ؟
يسأل صاحبي الذي انكسرت حرارةُ قلبه قبل الرحيل بلسعةٍ من موت
كم لبثنا في أظافرنا ؟
في خيام الذل والإنهاك والأمر المُسَلّمْ؟
كم قُتلنا في الخنادقْ؟
كم لبثنا في الشرانقْ ؟
وحين ارتقينا في عصرنا الدوديِ لنكمل رحلة الدورانْ
قتل الإله رياحنا وانطفأت سهام الضوء في حدقاتنا
كم لبثنا في المخيم ْ؟
ونحن نمشي في جنازات الزنابق؟
كم يوماً وكم شهراً وكم سنةً سنحيي الموعد الأولْ؟
وندفع السفهاء ليأكلوا على موائدنا قلوب صغارنا؟
وبعد نحيبٍ حارقٍ سنلفهم بأمواج البيارقْ؟
كم مرة سنرقص حباً بقاتلنا؟ "
الغاية من الأسئلة استنكار من يحدث في المخيم، والملفت للنظر أن الشاعر استخدم "صاحبي" ليثير هذا الاستنكار، فهو ينقل ما تكلم به صاحبه، وهنا علينا ان نقف عند لغة الشاعر التي جاءت فقط من خلال:
"يسأل صاحبي الذي انكسرت حرارةُ قلبه قبل الرحيل بلسعةٍ من موت" فهنا نجد لغة الشاعر، لكن في الأسئلة أيضا نجد فها لغة شعرية، فكيف لنا أن نفسر هذا الأمر؟، اعتقد أن صاحب الشاعر هو أيضا أديب أو شاعر، لهذا جاءت أسئلته بهذه اللغة الأدبية، وصاحبه يتماثل معه باستخدامه للدين: "قتل الإله رياحنا وانطفأت سهام الضوء في حدقاتنا" فالصحبة تشير إلى تماثل وتلاقي الأصحاب في الأفكار واللغة.
"لنرثي خيبة الخطوة الأولى
ونعلن أننا أحفاد طارقْ
صلاح الدين ، الباهلي وغيرهم
ونكمل رقصنا برثاء حجاج العراق
وثأر أحفاد النبي ثم نهرم في الخنادق
كم لبثنا يا صديقي في المخيم؟
هي رحلةٌ من نصف عمرٍ
ونصفها الآخر سيأتي لاحقاً حاملاً نفس السمات والقسمات
فلا تؤاخذني لدمعي أو صراخي
أنا ما زلت قطعةً من ثلجْ
تذوب كلما الأشواق هاجت على موت الحدائقْ"
الانفعال والتوتر واضحة على "صاحب" الشاعر، حيث نجده (يخرج) أحياناً عن اللغة الشعرية، لهذا نجده يستدرك هذا الأمر في المقطع الأخير:
"فلا تؤاخذني لدمعي أو صراخي
أنا ما زلت قطعةً من ثلجْ
تذوب كلما الأشواق هاجت على موت الحدائقْ"
الذي يحاول به أن يعوض حالة (الفلتان) الشعري الذي أحدثه الانفعال والتوتر، من خلال الصورة الثلج والأشواق.
يتأثر الشاعر بما سمعه من "صاحبه":
"يحز سؤال الماء نبض سحابةٍ:"
حتى أنه يستخدم عين الشكل الذي تحدث به:
"أأنا روح السماء أم روحهم؟
أولئك من يجلسون على طلل المخيم"
هذا السؤال يفتح شهية الشاعر ليدلي بدلوه:
"لا يبرحون المكان ولا صرير الزمان في غفواتهم
وفي صحواتهم لا يهدؤون"
الثبات في المكان هو الفكرة التي أراد تقديمها، وهي تعتبر (تراجعاً) ـ شعرياً ـ إذا ما قارناه بالصورة "ومهاجرٌ هربت مدينتُه عن الجدران" التي جعلت المكان متحرك والإنسان ثابت، فما هو السبب وراء (التراجع)؟، هل استنفذ الشاعر الصور بحيث (عجز) عن الإتيان بما يتجاوز تقنية الصورة السابقة؟، أم أن هناك أسباب/مبررات لهذا الأمر؟.
"وهم ينقشون حروفهم على جثث الوجد العربي:
ألف لام ميم خيم
هاهنا تنزيل المخيم لا ريب فيه
هدىً للخائفين الذاهبين مع الزوال
الصاعدين الزاحفين بلا خطى
وبلا خطايا"
اعتقد أن طبيعة المشهد توجب على الشاعر أن يستخدم فعل الثبات وليس المتحرك، فالثبات مقرون بعميلة الكتابة/النقش، لتأكيد حضورهم وسماع صوتهم.
يستخدم الشاعر اللغة الدينية التي يفهمها ويستخدمها الإرهابيين، من خلال التناص مع الآيات القرآنية من سورة البقر: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)" لكنه أيضاً يغرب الفكرة من خلال جعل الآية متعلقة بالخائفين الذاهبين، الصاعدين الزاحفين وليس بالمؤمنين، وأيضاً هو حدد المكان "المخيم" بينما الآية القرآنية مفتوحة على الجغرافية، وهذا التحديد يخدم فكرة الثبات التي جاءت في البداية.
يتماهى الشاعر أكثر من الخطاب الديني والتناص مع القرآن الكريم من خلال:
"وفي قلق المياه يعلو الغراب على الغياب
ويأتي صوته:
يا أيتها النفس المستباحة
هاجري في الماء هاجري للمنتهى
والمنتهى زبدٌ هلاميٌ مؤطرٌ بالرِجسِ والخوف المبينْ
لا شيء يرضيك في جناتنا من سندسٍ واستبرقٍ وزجاجِ ثلجٍ خالصٍ للعابدينْ
لا شيء يرضاك بشرعة العرش المتينْ
فاخرجي من جنةٍ نشوى بغلمان المقاهي تلهو بِحور العِينْ
والثمر النقي موزعٌ بين العبيد الصاغرين الصالحينْ
اخرجي من كل أرضٍ
فالنار موئلك إلى أن يعود إلى جهنمه اليقينْ"
فهناك تناص في أكثر من آية "قلق الماء/الطوفان، يا أيتها النفس، سندس واستبرق، العرش المتين، فأحرجي من جنتي/فادخلي في جنتي، بحور العين، الصالحين، اليقين" وهذا الزخم في التناص أراد به الشاعر أن يحدث توازناً مع حجم وكثرة اللغة الدينية التي أحدثت خراب المكان وموت الإنسان/المجتمع، والخاتمة "فالنار موئلك" جاءت لتعبر عن حالة سخط الشاعر على ما يجري، وعلى أن ما يحدث في اليرموك ما هو ألا الكفر بعينه.
فما هي حيثيات هذا الخراب، هذا الموت؟ وما هو المبرر لهذه الكثافة في التناصات مع القرآن الكريم؟:
"واليوم في اليرموك
تعلو رايةٌ سوداءُ للخذلان فوق شهادة الفقراء"
يرسم لنا الشاعر مشهد الخراب من خلال "الرايات السوداء" رايات إرهابي داعش ومن لف لفهم، وهذا الاشارة كافية لإعطاء القارئ صورة عن هؤلاء القتلة، بعدها ينسحب الشاعر ويتقدم داعشي قائلاً:
"ويهتف قاتلٌ:
لا قول إلا لي
ولا حياة لكم يا حفاة الله حتى في مقابركم
لا موت يجمعكم إلا بما أنزل القهار من فعلي عليكم
والإله الحرب يغوي جنوده:
اضربوا فوق الرقاب واقتلوهم حيث ثقفتموهم
لا تتركوا حجراً .. لا تتركوا بشراً
ولا شجراً ولا جمراً
يضيء عتمة النبض الأخير
على قلوب الهائمين في طلب الحياة من الغياب"
اللغة لغة الدواعش، لغة الانفراد بالرأي والفعل والتنفيذ، وإلغاء الآخرين تماماً، إلغاء رأيهم، وجودهم، جعلهم مجرد (أشياء) يمكن التصرف بها كيفما يأمر الحاكم بأمر الإله، حتى أننا نجده يتلو آية قرآنية تتحدث عن الضرب والقتل، وما يحسب لهذا الصوت أنه مغاير لصوت الشاعر، فرغم أن الشاعر والداعشي يستخدمان لغة القرآن الكريم، إلا أننا نستطيع أن نميز بين اللغتين، فالداعشي يستخدمها بصيغتها الشكلية، والشاعر يستخدمها بصيغة التغريب ليحث القارئ على التوقف والتفكير فيما يقدمه، على النقيض من الداعشي الذي يقدم آيات مسلماً بها، لا يجوز تأوليها بغير المعنى الذي جاءت به.
ينتهي كلام الداعشي ويأخذ الشاعر دوره في الكلام فيقول:
"هكذا يأمر الرب المخلص
هكذا العدل الرحيم يمضي في شهواته
من سيحمينا من دماءٍ كللتنا ونصَّبت ميلادنا أننا شهداء؟"
السؤال استنكاري، فالشاعر يتهكم على منطق الداعشي رافضاً منطقه وقوله وفعله، ونجد لغة مغايرة لتك التي استخدمها الداعشي، فهنا لغة شاعر تتباين تماماً مع اللغة السابقة، فنجد ألفاظ أدبية وطرح غير مباشر للفكرة التي يريد تقديمها.
"وحين تلقانا في سديم الصاعدين في سحبٍ تحاربنا بماء الذل
من يرانا إن سقطت سيوفُ إخوتِنا فوق رقابنا خطأً
وقد وصلنا جنة الله المحارب؟"
يستمر الشاعر في إثارة الأسئلة لنفكر بما يجري، فهو لا يريد أن يقدم (حقائق مطلقة) كما فعل سلفه آنفاً، ورغم قسوة المشهد، إلا أننا نجد في طريقة تقديمه ما يشير إلى شخص يحسن الحديث ويعرف طريقة المخاطبة.
"أما من ملائكةٍ يحملون الصمت بعد كل هذا الخراب"
الخراب وتفشي الموت يوجب حالة من "الصمت" فهو يعبر عن رفض ما يجري، وأيضا يشير إلى (التوقف والتفكير) بما يجري، ودور الملائكة دور الرحمة، وتخليص الشاعر من استمرار الخراب والموت، وما سؤاله إلا إشارة للكارثة التي حلت به وبالمخيم.
"أما من يقينٍ بأن إله الجنود سيتعب عما قليل؟"
يستخدم الشاعر اللغة التوراتية التي تتحدث عن الإله المقاتل/المحارب، الذي لا يبقي نسمة حياة، كشارة إلى القطيعة بين الله الرحمن الرحيم وبين رب الدواعش الذي يأمرهم بالقتل والتدمير، وجاء السؤال ليؤكد على أن من يقومون بالقتل والتدمير ما هم إلا اتباع للإله "يهوه" وليس أتباع الله الرحمن الرحيم.
"كوني رمالاً أيتها الارض كوني غباراً كوني حجرْ
وانثري أشلاء قاتلي في الريح
لتهيم بلا غاوٍ
ولا طريقٍ ليتبعه"
يخاطب الشاعر الأرض وكأنه الآمر الناهي، وهذا الموقف يتماثل مع حالة "الملك لير" عندما فقد العرش، فأخذ يخاطب الطبيعة كأنه إله، فعندما تتفاقم المأساة يصاب صاحبها (بالجنون) بالغضب فيبدأ في الكلام بطريقة غير (منطقية) لكنها تعبر عن مأساته، عما هو فيه، لعل وعسى يكون هناك من يعي حقيقة (الأمر) ليخلصه من أزمته.
إذا ما تتبعنا القصيدة، نجد، كلما وصل الشاعر إلى الذروة يعيدنا إلى البداية، فهناك حالة مد وجزر في القصيدة، والذروة هنا ليست متعلقة بمشاعره/بالأحداث فحسب بل في اللغة وطريقة تقديمه للصورة الشعرية، وكأنه يريدنا أن نشعر ونعيش ما يشعر به ويعيشه المخيم:
"هاهنا اليرموك
قد أتم وحدته
يلم الآن كل طقوسه وشبابه وبناته
يلم كل شيوخه
يجمع كل آنية تبقّت من صهيلٍ ذات عرسٍ
ليحميها من ذباب الصدأ
وكل ما تعفن من مياه في تابوته
ليطهو وليمته يقدمها لابن شهيد"
نلاحظ أن الشاعر يستخدم في فواتح المقاطع "المخيم/اليرموك" وكأنه يستمد منها الطاقة ليستمر في كتابة قصيدته، كأن "المخيم/اليرموك" هما الزاد الذي يتغذى به ومنه، وهو من يلهمه ليكتب، من هنا نجد تعدد الأصوات، وإحاطتنا بكل ما يجري من أحداث فيه، لكن هذه الإحاطة تأتي ضمن لغة أدبية وصور شعرية، وهي من يخفف حدة المشاهد علينا، فهناك ألفاظ ما كانت لتأتي دون حضور "المخيم/اليرموك" مثلا "يلم، يجمع، ليحميها" فمثل هذه الألفاظ جاءت بإيحاء من المكان، من المخيم، فعلاقة الفلسطيني بالمكان علاقة توحد وعلاقة وجود، من هنا يمكننا القول أن الشاعر يستلهم لغته وصوره من المكان، من المخيم/اليرموك.
"هاهنا اليرموك يصهل
يعشق أهله وبيوته وينثرهم كضوءٍ عذبٍ بحبل المسد
قهوة الحسناء
والمشفى المكنى باسم شهيد
وآخر يعلو باسم بلد"
يمكننا أن نتأكد مما قلنا في السابق من خلال الصور التي قدمها الشاعر:
"وينثرهم كضوءٍ عذبٍ بحبل المسد" فأهمية هذه الصورة تكمن في الجمع بين الجمال والتناص مع لعنة أبي لهب التي جاءت في القرآن الكريم، وما كان لهذه الصورة أن تتشكل ـ بهذا التناقض الفريد ـ دون استلهام الشاعر للمكان.
"ساحة الطربوش سينما النجوم مجمّع الخامس فلافل طيبة والمنى
مدينة الألعاب والدوار
يوم الحشر في شارع صفد"
التقدم من تفاصيل المكان بهذا الشكل يشير إلى العلاقة الحميمة التي تجمع الشاعر به، فهو مسكون به، وهذه الحميمية ناتجة عن مجموعة مسائل، منها:
"أغنيةٌ لإياس المتيّم
وقصةٌ من وجد غسان
وياسمين الناي في شجو الحسام"
الثقافة والفن من العناصر التي شكلة ثقافة الشاعر، فبهما يكتب بهذا الشكل المتميز، وما كان ليكون "شاعراً" دون تلك الثقافة التي نهل منها، والجميل في تقديم تلك الثقافة أنها جاءت بإشارات دون تصريح، وكأن الشاعر يستحثنا لنتقدم من تلك الثقافة، وهل هناك أجمل من الأصدقاء وصوت فيروز عندما تغني "سائلني يا شآم"، فالشاعر هنا يتألق بالفكرة التي يطرحها وبالطريقة التي استخدمها.
"نظرةٌ تصب كسلاً صباحياً من عينَيْ أنس
ووجه حسان المكثف باسمه ..
بالأمنيات على رصيف السخرية
بصوت كل الغائبين في الزنازين وعزلة القبر الجماعي
علامةٌ خضراءُ في صدر المخيم
كحرقة النارنج في عين الأبدْ"
المكان ليس مجرد مكان/جماد، بل يشكل (حاضنة) للعلاقات الاجتماعية/الإنسانية، من هنا يستحضر الشاعر "أنس، حسان، الغائبين" وقدمهم بهذا البهاء، رغم "الزنازين والقبر، كحرقة، النارنج"، وهنا ـ بعد أن يتذكر أصحابه وأحبته يستفز/يثار الشاعر فيقول:
"هذا دمي تبخر على حدود المعركة
خذ العناصر كلها من قبر أمي يا دمي
وارمِ صلاتي على حدود الغيب والنسيان"
فنجد "دمي، المعركة، قبر، وارم، الغياب" كلها جاءت بعد أن تذكر هؤلاء الأصحاب والأحباب، وقد استخدم لغة "لير"، اللغة الفوقية، لغة الإله، وهذا يشير إلى حالة انفعال الشاعر وتأثره بالقصيدة.
"دثريني دثريني
إني رأيت الشمس تهتف لي
والبرد مصلوب على طواحين المقابر
يا أم شرياني توقف نبضه
والصوت مسلوبٌ
يغني لحظةً ويهمس لحظةً"
أحيانا كثيرة يكون الالتجاء للتاريخ، للتراث يشير إلى الذروة أو إلى الحضيض التي وصل إليها الشاعر، وهنا نجد السواد بكل قتامته، "الرب، مصلوب، المقابر، مسلوب" لهذا يستعين بقول الرسول لخديجة "دثريني، دثريني" فحالة الرعب/الموت والقتل/ الهجرة والتشرد جعلته يستنجد بأنثى (هي الأم هنا)، فهي من ستمنحه السكينة والهدوء.
وإذا ما استثنينا "الطفلة" التي حدثتنا في السابق، يمكننا القول أن هذا النداء هو الأول الذي يستحضر فيه الشاعر المرأة/الأنثى، وهذا الغياب للمرأة يؤكد عدم سوية الواقع/الظرف/الحال الذي يمر به، بحيث أنساه أن يلجأ إلى المرأة، لمن تستطيع أن تخرجه وتحرره من تلك القتامة.
" دثريني دثريني
لا وقت للهمسات
لا وقت لشهقة أخرى
لا وقت لما يريدون مني وما لا أريد"
يبدو أن الشاعر (تذكر) حاجته للمرأة ودورها في خلاصه مما آل إليه، لهذا يكرر الاستنجاد بها، وجاء تكرار "لا وقت" ليؤكد أن ظرفه لا يمكن أن يؤجل، فحاجته ملحة وضرورية.
يستمر أثر المرأة على الشاعر من خلال:
"همس أصابعي يخاطب الطير المهاجر:
خذني إليك بقايا روحٍ
وانسَ سنيني في بلاد أنكرتك وأنكرتني
فالشجرة التي كانت لنا وطن
سقطت هناك
وأنجبت جيلاً من الحطب المكثف اللاضروري"
فنجد "همس، الطير، خذني إليك بقايا روح" بلاد، فالشجر، لنا، وطن، وأنجبت" كل هذا الألفاظ جاءت بأثر ذكر المرأة "دثريني" فهي كالمكان تلهم الشاعر وتجعله يعيش بشيء من السكينة، وما لفظ "أنجبت" إلا ناتج من هذا الأثر، لكن طبيعة القصيدة القاتمة لا يمكنها أن تحرر الشاعر بشكل مطلق، من هنا نجده يستمر في الحديث عن القسوة والألم.
"أنا من أجرت قلبي المدينة إلى الأعداء
واستأجرت حلمي تزين بي شرفاتها
فزادت الخيبات وانطفأ البريق على قمرٍ يرافقني"
السواد "انطفأ" مقرون بالأنثى "المدينة، شرفاتها، الخيبات" وهذا ناتج عن الحالة القتامة التي يمر بها المخيم/الشاعر.
الشاعر يحدثنا عن همومه، عن مأساته لهذا نجده ينسجم معنا في حديثه، فهو يريد أن يفرغ ما فيه من ألم ليرتاح قليلاً من معاناته:
"لا الغياب أراحني
ولا الحضور يكفيني لأصحو مرة أخرى على رسولٍ
أو ديانةٍ أو على أرقام من غابوا وذابوا في قاموس غربتهم"
في هذا المقطع يعلل الشاعر عدم راحته واستمرار ألمه، فقد جرب الغياب/النسيان، وجرب التذكر/الحضور، ومع هذا استمر ألمه، وهذا التعب/الارهاق/الألم نجده في اللغة التي استخدمها، فهي تبدو لغة عادية وليست بذلك العنفوان الذي وجدناه في السابق، فيبدو وكأنه أخذ يخبو كشاعر.
"ولا أريد من الحياة الأولةْ
ولا أريد من الحياة الآخرةْ
سوى ما يريد أي طفلٍ
أجثو وأنهض علّني أغفو على نشيدي
علّني أمحو خيانتي للغائبين"
إذن، فعلاً بدأت القصيدة تخبو شيئاً فشيئاً، وهذا ما نجده في المقطع السابق، وما تشبه الطفل "يجثو، يخبو، أغفو" إلا تأكيد على هذا الأمر، لكن في البيت الأخير يستعيد الشاعر عافيته الشعرية من جديد، فقد أخذ (استراحة) جعلته قادر على التقدم من الصور الشعرية:
"لا أريد في القيامة رحمةً
تلقي السلام على روحٍ تمر كالغبار في شقوق الهموم
وترنحت من صوتها جثث برائحة العبادة"
مثل هذه الصور ما كانت لتأتي دون الاستراحة التي أخذها، لهذا نجده يتألق من جديد، وما يلفت النظر عدم الرحمة وعدم السلام التي أرادهما الشاعر، وهذا يشير إلى أنه مثخن بالجراح والألم، وهذا التحول عند الشاعر بعدم الرحمة، ناتجة عن أثر المشاهد التي رآها وعاشها وأثرها عليه، فهل أصبح جزء من واقع القتل والخراب؟.
"لا أريد اقتناص القصور
وسكب الخمور على مساماتي
كرشوةٍ عن تعب المسافات"
الشاعر متأثر بالأحداث وبالواقع، لهذا نجده يعزف عن قصور وخمور الجنة التي سيدخلها نظير ألمه في المخيم، وهو ينظر إلى هذا النعيم على أنه رشوة، وهذا يشير إلى أن مأساته عظيمة ولا يمكن حتى للجنة أن تعوضه عن الألم الذي يعيشه.
"لا أريد طعم الوصيفات اللواتي خلقن لراحتي في جنان الخلد
لا أريد هدوء الحياة البسيط
بعد أن غاب مع قوافل الغائبين هناك في اليرموك"
يؤكد هذا الرفض بشكل واضح وصريح، فهو عانى وما زال يعاني، ولا يمكنه أن ينسى أو أن يغفر لاولئك الذين آلموه وأخرجوه وأصحابه من المخيم".
لقد ذكر الشاعر "اليرموك" فهل سيكون له أثر على اللغة التي يستخدمها؟:
"لا أريد ذاك الزمان
حين يضج بصخب المياه تحتي
يغني مع السندس والحرير
موسيقا النصر في طعم العسل
ولا ماء تغسله الضحايا في نار المخيم"
الأثر الجميل للمخيم انعكس على لغة الشاعر فنجد: "المياه، موسيقا، النصر، طعم، العسل، تغسله" كل هذا جاء بعد لفظ "اليرموك" لكن طبيعة الأحداث وما جرى في المخيم تجعل القتامة والسواد حاضر، لهذا لا يمكن أن نجد لغة بيضاء ومضمون أبيض معاً.
يتقدم الشاعر من التراث ليبين ما آل إليه من بؤس:
"(أريد أبي حياً)
هكذا صدحت يمامةٌ ممزوجةٌ بقتيل غدر"
فهو يستخدم هذا القول ليكون مطلبه أيضاً، وليس مطلب اليمامة فحسب:
"وأنا في طرق الخراب أصيح بالفردوس :
أريد أمي تناديني وتحنو علي بمخمل دفئها
أريد عظامها التي طارت شظايا
قبل اندماجها بلظى القذيفةْ"
الجميل أن التناص/التماثل مع "اليمامة وكليب" نجده معكوساً عند الشاعر "الشاعر وأمه" فاليمامة تميل لأبيها، والشاعر يميل لأمه، وهنا نجد ميل طبيعي، الأنثى للذكر، والذكر للأنثى، حسب عقدة "أوديب وإلكترا" التي نادى بها فرويد، فحاجة الشاعر لأمه في ظروف الموت والخراب حاجة ملحة وضرورية، فهي من تستطيع أن تمنحه الحنان والعطف الذي فقده، لهذا نجد الحدية والتشدد في حاجته لأمه.
"أريد مخيمي ثملاً برائحة المشاةْ
وبلا عراة يبللون رفاته بصديد سمْ"
ويؤكد ارتباطه بالمكان، المكان الذي تكوّن ووجد نفسه كشاعر فيه، لهذا يريده يعج بالحياة كما هو مفترض، ولن يقبل أن يكون مكان غير سوي، ولأشخاص غير سويين.
"أريده وطناً صديقاً حيث كان بأهله
أحياء لا شهداءْ"
تأكيد على اصرار الشاعر على الحياة للمخيم وأهله، وعدم رضاه حتى على أن يكون موطن للشهداء، فقد سئم كثر القتل والموت والخراب والدمار، فأصبحت حاجة للحياة والتمع بها.
"أريد أبنائي زهوراً على سياج كهولتي"
يقدمنا الشاعر من الحياة الطبيعة/السوية التي ينشدها كأي إنسان عادي.
"أريد عائلتي التي انكسرت مراكبها في بحر دمْ"
يركز الشاعر على المطالب الشخصية التي يحتاجها، حتى عندما تحدث عن المخيم وأهل المخيم، وهو يرى هذا المطلب من منظور شخصي، كأي إنسان يريد ويرغب في الحياة.
" أريد بيتي وأبوابي وجدراني ومكتبتي ودفاتر الحب العتيق"
إذا ما توقفنا عند مطالب الشاعر نجدها "عادية/بسيطة وهذه العادية والبسيطة تنسجم مع للغة التي يستخدمها، فليس هناك صور شعرية مبهرة، كل هذا يجعل اللغة تنسجم وتتوحد مع المضمون، يجعل المطالب/الحاجات متوحدة ومنسجمة بالشكل والمضمون والألفاظ.
"أريد حديقتي
صلاة الفجر
غناء أحبابي في نبض المخيمْ"
تستمر مناداة الشاعر ومطالبه العادية والمنطقية والطبيعية، بلغة عادية وألفاظ سهلة بعيداً عن المعاجم.
"أريد رسائلي الأولى
وبوح دوريٍ ينام على شريط الضوء في لغتي"
يبتعد الشاعر عن البساطة التي استخدمها في مطالبه وبتقدم من اللعة الشعرية المتألقة، فهما هو السبب وراء هذا الخروج من البساطة والعادية؟، اعتقد ان استخدام لفظ "لغتي" هو الذي ذكر الشاعر بأنه شاعر وليس إنسان عادي، لهذا تقدم من الشعر واللغة الشعرية، ليتناسب والفكرة التي يريدها/يطالب بها.
"أريد سرير اللذة الأولى
بلا كلاب الموت تعدو على حلمي
بالخوف والديدان رائحة الضباع"
نتوقف هنا عند الألفاظ السوداء التي يستخدمها الشاعر "كلاب، الموت، بالخوف، والديدان، الضباع" فهل هناك مبرر لوجودها؟ علماً بأن غالبية ما جاء من مطالب في السابق، كان بعيداً عن السواد والقسوة، لكنه هنا يستحضر "الحيوان والحشرات التي ترمز إلى القسوة، هل هذا ناتج عن تذكره بأنه شاعر تحدث بألم عن مأساته ومأساة مخيمه؟، أم هي (خروج) عن النص؟
"أريد فاكهتي وأغنيتي
أريد صديقتي وحبيبتي صوت السماء على المئذنة"
يتقدم الشاعر من جديد إلى البساطة اللغة عادية المطالب.
"أريد كل من سقطوا كأوراق الذهب من الفصول"
تشدد في الطلب واستحالة تحقيقه، فهل بدأ الدخول في حالة التشدد؟
"أريد كل الراحلين الذاهبين القادمين الغائبين اللاجئين النازحين الجائعين الهائمين الصاعدين إلى العلا مكللين بضعف فراشة وبياسمين"
فعلا أخذت حالة التشدد تظهر لنا في المطالب التي انعكست على الألفاظ القاسية التي استخدمها: "الراحلين، الذاهبين، اللاجئين، النازحين، الجائعين، الصاعدين".
"أريد الآن
كل من باحوا بالسر الشبقي على أدراج دمشق واستنشقوا لغة الحنين"
استمرار حالة التشدد وانعكاسها على اللغة والألفاظ.
يختم الشاعر مطالبه:
"أريد كل من سقطوا قربان آلهةٍ
ينتظرون صوت الصُوْر كالعالمين
أريد حقي الآن فيهم وحقهم بجذورهم
أريد مخيمي بأناسه متكاملين ببعضهم
بلا نقصٍ وبلا شظايا
بلا مياهٍ بلا سفين"
الاستمرار في التشدد، رغم اللغة السهلة والألفاظ العادية، فهل لهذا مبرر أم أن الشاعر (تعب/أرهق) من القصيدة، بحيث فقد سيطرته عليها، فجاءت خاتمتها بلغة عادية ولكن فكرة تحقيق استحالة تحقيق المطالب؟، وهذا يجعل المتلقي يعيش حالة من الاضطراب، عدم الوصول إلى نتيجة حاسمة، وعدم الوصول إلى نتيجة وحالة الاضطراب تتماثل واقع المخيم وأهله، فهم ما زالوا يعيشون المأساة.
القصيدة بوجه عام تغيب المرأة وتغيب القاتل بشكل شبه كامل، وقليلا ما تحدث الشاعر أو الطفل أو الطفلة عن ذكر الأم/المرأة/الزوجة وذكر القتلة، ويعود عدم ذكر المرأة إلى حجم المأساة ودموية الأحداث في المخيم، بحيث أثرت على عقل/تفكير الشاعر الواعي والباطن، فلم يعد هناك مجال لحضورهما في أتون الموت والقتل والخراب والتدمير، وهذا أمر طبيعي، فغيابها عمق فكرة السواد والقتامة التي تحملها، وهذا يحسب للقصيدة وللشاعر.
أما فيما يتعلق بعدم ذكر القتلة بكل أطيافهم من النظام إلى المسلحين، فهذا يعود إلى أن الشاعر لكثرة ما اقترفوه من جرائم ووحشية، تقدم العقل الباطن متجاوزا العقل والواعي ليتحكم في طبيعة القصيدة، فهو يرفض القتل والموت والخراب، ويرفض من يقوم بهذه الجرائم وهذا التوحش، لهذا لا يريد ذكره ـ إذا ما تجاوزنا بعض الاستثناءات ـ ، وهذا الأمر ينطبق على صوت القاتل، الذي جاء في موضع واحد فقط، وبقية ما جاء عنه كان من خلال الشاعر والطفل والطفلة، وهذا التغيب/التجاهل يؤكد على أن العقل الباطن عند الشاعر هو الذي يتحكم بمسار القصيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة