الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحس الاجتماعي التقدمي في قصة -العقدة- للأديبة العراقية/ نهلاء توفيق

محسن الطوخي

2019 / 2 / 17
الادب والفن



البون شاسع بين لفظي امرأة، ومره.
امرأة اسم جنس، وهو دلالة على النوع، و"مره" مرادف دارج لذات اللفظ، أسقط عنه العوام الهمزة للتخفيف.
لكن الألفاظ ليست كائنات جامدة، بل هي كائنات حية، تتطور، وتنمو مع الاستعمال. وإذا كان اللفظان يشيران إلى مدلول واحد، إلا أن كل منهما قد اكتسب حياة مستقله، وسلك طريقاً مختلفاً في مسيرة تطوره.
وأكاد أجزم أن اللفظ الدارج كان أوفرهما حظاً في اكتساب المحمولات،
فبينما لا نجد اختلافاً كثيراً في استخدام اللفظ المعجمي، نرى اللفظ الدارج وقد اكتسب محمولات سلبية تعكس البون الحضاري بين الحضر وبين الريف>
والتقنية المستخدمة هي الإسقاط، فالشخصية الرئيسية في القصة فتاة ريفية لا تخطر لها بطبيعة ثقافتها وتربيتها تلك الأفكار التقدمية التي حركت القلم، لكن دوافع التمرد والرفض لديها، تعد ترجماناً صادقاً لأفكار الكاتبة. لذلك بدت كل الجمل التي تعكس فهم الشخصية لدوافع تمردها تقريرية، على سبيل المثال:
- الجملة الاستهلالية " منذ ولدت وصرت أفهم الكلمات..... الخ ".
- "بين عشية وضحاها صرت امرأة. كرهت هذه الكلمة التي قتلت طفولتي في لحظات وحولتني لكائن لم آلفه، ولا أفهمه".
- "المأساة أني لا أقتنع بكل هذا .... الخ ".
- فقرة " قلت لك أنا لا أعرف ولد ولا بنت"
- فقرة " الزمن يسير ......... الخ".
ترفض الشخصية الإذلال المعنوي الذي يمثل لها إرثاً لا فكاك منه. لكنها لا تستطيع إنكار هذا الإرث أو مقاومته مقاومة علنية. يملك المجتمع - برسوخ تقاليده - سلطة عاتية تكفي لقمع أي محاولة للرفض، بداية من النبذ، مرورا بالعقاب الجسدي، وصولاً إلى القتل باسم العار.
لذلك نرى الأفكار التنويرية المحركة للفكرة تتحول على لسان البطلة الراوية، وتترجم في سلوكياتها على هيئة تمرد داخلي، وإصرار على المقاومة السلبية إزاء الشعور بالدونية.
الموقف العلني الوحيد في النص هو ثورتها على زوجها رافضة مناداتها بلفظ المرة، وهي ثورة على بساطتها انتهت بها الى بيت أبيها مرفوضة، ومنبوذة. وهذا الموقف بالتحديد من أقوي مفاصل القصة دلالة على رسوخ الإرث المعنوي الخاص بقمع النساء. فالأب الذي رأيناه في صدر القصة يقول " روحي يامره .. تعي يامره "، نراه يحنى رأسه مستعطفاً الزوج باعتباره صاحب حق : " عقل النساء صغير، ولا تصلح معه إلا الاحتواءات " . لم يخطر ببال الأب أن يوجه الزوج إلى وجوب حسن معاشرة ابنته. فهو ذاته لا يدرك هذا الحق. إذ أنها في نظره لا تعدو مجرد" مره.
وقد لعب هذا الموقف دوره في سحق إرادة التمرد لدى الراوية، فالأب المرهوب الجانب أرغم على ابتلاع صلف الزوج الذي يقابل لين حميه بخشونة: " لولا خاطرك عندي كبير، فأنا هكذا "مره" لا تناسبني".
من حيث البناء:
تمهد نهلاء لنشوء بذرة التمرد داخل الشخصية بتدرج نلحظه في بدايات وعي الراوية
- " أتواجد كثيرا في الحمام"
للجملة دلالاتها لارتباط الحمام ارتباطا إشاريا بالعلاقات الجسدية المغلفة بالسرية.
-" لقد كبرت بسرعة وصارت مرة "
- "أبي ينادينى: تعاي يامرة "
(صارت مره). فكرة تسيطر على النص، حتى ليمكن اعتبارها أيقونة ترسخ حقيقة التحول من طور إلى طور، حتى الأب يؤكد هذا التحول، هو إذن تحول تؤكده السلطة الأبوية الآمرة الناهية. ولذلك أيضا دلالته في وجوب الرضوخ لاستحقاقات هذا التحول.
- "أمي تخيط لي الملابس الطويلة الفضفاضة".
تعني الملابس الطويلة وجوب الستر، وهو أول تلك الاستحقاقات. لذلك سنرى الشخصية تبادر في سلوك عفوي إلى رفض هذا الاستحقاق، غير مدركة للعواقب. وهي تملك منطقها: " إنهم يعرفون شكل شعري حتى وهو مغطى..".. لكن المنطق الذكوري لابد أن يقمع المحاولة الأولى للتمرد، لأنها مجرد توطئة لمسار طويل من الانتهاكات المعنوية والمادية لآدمية المرأة. مع ملاحظة أن المنطق الذكوري غير موقوف على الرجال، بل تساهم النساء اللواتي خضعن طويلا لهذا الانتهاك - إلى درجة التدجين - بقسط وافر في بسط الولاية الذكورية.
- "فانت الآن امرأة، وهم رجال ".
- "يجب ٱن تضحي، فهم ٱولاد، وأنت كبرت، وصرت مرة".
العبارتان السابقتان على لسان نسوة من العائلة. الأم، والجدة.
- "فخيل إلي أنه لا يعرفني بثوبي الطويل ، وغطاء رأس"
ضمير الغائب في الجملة السابقة يعود على الشارع، في إشارة ضمنية إلى العالم الخارجي. وربما في إشارة أبعد إلى خالق هذا العالم، وجملة "لا يعرفني" هنا لا تنفي العلم - حتى لا يتحسس البعض- بل تعني الإنكار، دلالة على الفكرة المبطنة التي تحرك مسار السرد، وهي أن قمع المرأة يخالف الناموس الطبيعي الذي فطر الله عليه العالم، والذي ترتضيه الفطرة السليمة.
وقد أجادت صديقتي نهلاء
اللعب على لفظي "امرأة" و "مره" . من أجل إبراز الفارق الحضاري الذي يمثله الفارق بين اللفظين بمحمولاتهما.
راوحت بين اللفظين لتؤكد البون الشاسع بين النموذج، وبين الواقع.
والحقيقة أن القصة لا يشوبها أي غموض، أو نقص في اكتمال التجربة الإنسانية، هي فقط محملة بالزوائد التقريرية التي أشرت إليها والتي من المستحسن التخلص منها، بالإضافة الى الملاحظة الأهم التي انتبه إليها الأستاذان حمدي البصيري، ورعد الفندي. وهي ترهل الخاتمة. فلقد توقفت فعلا عند صيحة الأبناء: " أنت أعظم مره ". وقلت هذه خاتمة مثالية لا يجب أن يخط حرف واحد بعدها.
فكل ما قيل بعد تلك الصيحة طمس جمال الخاتمة.
نص القصة
العقدة
منذ أن ولدتُ وصرتُ أفهم الكلمات أُشبعتُ بوصفي امرأة.
كانت حفلةً كبيرةً تلك التي زينوني بها وألبسوني ثوباً أبيضَ في سنّ الثالثة عشرة من عمري. العشاء كان فاخراً والكل يبارك لي وأنا أبتسم كالعروس القروية الخجلى؛ ولكني بصراحة لا أفهم مغزى الحفل وخاصةً أنني أتواجد كثيراً في الحمام.
النساء تتهامس فيما بينها وهي تبتسم: لقد كبرت بسرعة وصارت "مَرَه".
بين عشية وضحاها صرتُ امرأة!.. كرهت هذه الكلمة التي قتلت طفولتي في لحظات وحولتني لكائن لم آلفه ولا أفهمه. أبي يناديني: تعاي يامَرَه، وخالي وأخي. أمي تخيط لي الملابس الطويلة الفضفاضة وتؤكد لي بأنّ عليّ نسيان البيجاما والبنطلون والثوب القصير، وحتى"الّلعابة" التي هي صديقتي وصاحبة أسراري.
أثقلوني بعدها تدريجياً بشغل المطبخ وتنظيف البيت.
- ملابس إخوتك اغسليها واهتمي بطلباتهم ابنتي، فأنتِ الآن امرأة وهم رجال.
- ياليتني كنت رجلاً... هذا ما كنت أحدث به نفسي دائماً وأسائلها عن حظي بكوني أنثى وليس ذكراً.
جدتي أعطتني نصف تفاحة، وإخوتي لكلٍ تفاحة. "لماذا ياجدتي؟ أنا أكبر منهم ولاتشبعني النصف!.. "الولد يأخذ ضعف البنت لأنه يحتاج للقوة بنيتي. ثم يجب أن تُضحِي، فهم أولاد وانتِ كبرتِ وصرتِ "مره".
المأساة أني لا أقتنع بكل هذا، وأذهب لأسرق تفاحتين من جرّور البرّاد فآكل واحدة وأخبىءُ أخرى تحت السرير، أتركها حتى تتعفن؛ انتقاماً لكرامتي فقط.
الشارع يناديني عصراً للّعبِ مع أقراني، ولكني أُمنع وبقوةٍ للحدّ الذي أغافلهم فيه وأهرب إليه، فخيل إليّ أنه لا يعرفني بثوبي الطويل وغطاء رأسي.
الأولاد صاروا يضحكون وهم يؤكدون لي أنهم يعرفون شعري ولا حاجة لتغطيته؛ مما اضطرني لنزعه عن رأسي ورميه.
كم كان تعنيف امي وضربها لي صعباً حينها، وأنا مازلت أؤكد لها أنهم يعرفون شكل شعري حتى وهو مغطىً فلن يفرق الأمر.
.....
زوجي يقومني ويقعدني على: مره... مره...
"اغسلي هاذ يمرة..اكوي يامرة... تعالي يامرة...
إلى أن صرختُ في وجهه يوماً: لا تقل لي"يامرة".. نادني باسمي فقط. وكل مرةٍ ألبس فيها عباءتي فأهرب إلى بيت أهلي، يقنعه أبي بأن عقل النساء صغير ولا تصلح معه إلا الإحتواءات. فيرد بقوله: والله ياعماه لولا خاطرك عندي كبير، فأنا هكذا "مره" لا تناسبني.
فصرتُ حقاً كما يريدون امرأة بمقاييسهم وحكمهم؛ إلى أن كان الأولاد وكانت الأزمات.
.......
- قلت لك أنا لا أعرف ولد وبنت، فكلهم سواسية عندي، فلا تفرقة في المعاملة وإلا وضعت حداً لهذا...
أين العباءة؟!
.....
الأولاد تزوجوا وصاروا يتخانقون... نعم، لقد كبروا.
الكنّة... أنا مع الكنّة، وصديقتي تنعتني بالمجنونة لأني مع كنّتي وضد ابني.
- في حياتي ماشفت مرة تقف ضد ابنها...ها ها ها
......
الزمن يسير... ويدور..يتغير...
وتتغير معه مفاهيم كثيرة لي ولمن حولي.
.........
في عيد المرأة فاجأوني بحفلة وهدايا كثيرة، وقالوا لي: سامحينا.
نعم، لقد سمعتُ زوجي معهم يقولها.
......
في عيد الأم كانت الحفلة أكبر، وكان الأحفاد معهم، فاتفقوا على أن تكون صيحاتهم في وقت واحد وبصوتٍ عالٍ: أنتِ أعظم "مره".
.......
أصرّ الأولاد أن يعملوا عيد ميلاد لي للمرة الأولى في حياتي؛ فقد كنتُ أخجل من هذا وأعدّه مسائل طفولية.
لبستُ بلوزة وبنطالاً، وضعتُ وردةً بشُكّالةٍ على شعري. صاحوا بنَفَسٍ واحد عندما أطفأتُ الشموع: حفظك الله لنا يا أجمل امرأة في بيتنا.
"صراحة أول مرة أحب هذه الكلمة، وأستذوق معناها "
يا إلهي، أين كنتُ أنا من هذه الكلمة! ولماذا لم أكن أحبها!
......
على فكرة، نسيت أن أخبركم أنني لم أعد ألبس العباءة، فأبي رحمه الله أجاز لي لبس الجلباب حينما رآه حلواً وصديقاتي لبسنه.
نهلاء توفيق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه