الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تصبح العلمانية ضحية التحديث والعلمنة؟

فارس إيغو

2019 / 2 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لقد شاع في الآونة الأخيرة اللجوء الى استعمال مصطلح "العلمنة" بدلاً من مصطلح العلمانية الصادم للتيارات الإسلامية والمحافظة، وتعرّف العلمنة على أنها التغيرات والتبدلات التحديثية الهادئة والتي تحتاج نفساً تاريخياً طويلاً لكي تتحقق، والتي تفضي الى التخلي عن المرجعية الدينية لصالح مبدأ المصلحة والعقلانية؛ ويشمل الإدارة العقلانية لشؤون الاقتصاد، والبحث العلمي جون أي مسبقات ميتا فيزيقية وإدخال جرعة من القوانين الوضعية في المدونة القانونية التي كانت تأخذ مرجعيتها من حصرياً من الشريعة الإسلامية، وبالتالي، استقلالية هذه القطاعات عن المرجعية الدينية التي كانت تهيمن عليها في عصور ما قبل الحداثة. ويأمل هؤلاء من أن العلمنة سوف توصلنا الى العلمانية "المنفتحة" دون صراعات ثقافية حضارية تلهينا عن القضية الأساسية، ألا وهي الديموقراطية. وهو موقف بدأه الجابري وحسن حنفي وبرهان غليون، كلٍ على طريقته وأسلوبه، لكن في ذلك الوقت، أي في الثمانينات، كان مصطلح التحديث هو المهيمن في كتابات المثقفين العرب، ولم يكن مصطلح العلمنة شائعاً كما هو عليه اليوم.
العلمنة إذن، هي تحرر المجالات أو الفضاءات الاجتماعية المختلفة عن المرجعية الدينية، وهي تبدأ بالقطاعات الأقل صعوبة كالعلم، الطب، الزراعة والصناعة، الإدارة، ومن ثم القوانين، على أمل أن تؤدي علمنة هذه المناطق الى انطلاق عملية تحرير السياسة والتدين من سلطة المرجعيات الدينية، وهي ما تسمى بالعلمانية، لكن دون إثارة إنقسامات ثقافية عمودية، كما حدث أثناء المحاورة الشهيرة بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون عام 1903، على صفحات مجلة الجامعة التي كانت لسان حال الحداثيين ومجلة المنار الإسلامية التي كان يرأسها رشيد رضا.
مصطلح العلمنة إذن يتداخل في بعض جوانب تطبيقه مع مصطلح التحديث، ومفهوم التحديث يشير في الأصل الى عمليات التطور لدول العالم الثالث التي استقلت حديثاً من الاستعمار الأوروبي، وذلك عن طريق مكننة الزراعة وخطط التصنيع ونشر المدارس والمعاهد الزراعية والصناعية للحاق بالدول والمجتمعات الصناعية.
أما العلمانية فهي التغييرات الواعية والإرادية التي تمس المجالات الأكثر حيوية في المجتمع، مثل مجالات الدستور، السياسة، العائلة، التدين وتنتهي ببروز الدولة الوطنية الحديثة أو الدولة الوطنية الديموقراطية أو الدولة ـ الأمة، وهي دولة ليس لها سياسات دينية خاصة. وتتشكل في نفس الوقت الجماعة الوطنية حيث تصبح المواطنة كاملة، أي حق كل مواطن في إعتلاء أي منصب في الدولة شرط الكفاءة والاستحقاق. وتواجه العلمانية في العالم العربي والإسلامي بمقاومة عنيفة ورفض من جهات وتيارات عديدة في المجتمع ومنها السلطات الدينية الرسمية، وتيارات الإحيائية الإسلامية، والتيارات المحافظة، وقوى أنظمة الاستبداد.
عزيز العظمة و"العلمانية من منظور آخر"
إن العلمانية حسب العظمة "هي جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأيديولوجية، تندرج في إطار أوسع من تضاد الدين والدنيا، بل إنها تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة الأخرى" (1).
فالعظمة يبتعد عن رؤية العلمانية بحصرها في بعدها السياسي والدولتي، أي الفصل بين الدولة والدين، والدين والدولة، بل يراها من منظور مختلف، هو منظور العلمنة (سيكوليريساسيون)، المتداخل بعملية التحديث، بحيث يظهر مصطلح العلمانية في كتابه مفهوماً على أنه العلمنة ومنطق العصر الجديد القائم على العلم، بينما يمكن أن نأخذ بالعلم وتبقى طرق تفكيرنا الاجتماعية والسياسية ونظرتنا للدين أصولية تأصيلية.
ويتكلم العظمة في مؤلفه عن كتابي علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" الذي صدر عام 1925، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" الذي صدر عام 1926، ويفسر الحملة القاسية ضدهما من طرف السلطة الدينية بالقول إنها محطة رئيسة "في سياق الهجمة الدينية على تعميم العقلانية العلمانية وأسس النظر التاريخي على مجالات اعتبرها الدينيون حكراً عليهم" (2).
وطالما أنه لا يعترف بالتمييز الأساسي بين العلمنة والعلمانية، فإنه لا يستطيع أن يُفسر بصورة مقنعة الهجمة على الكتابين، والتي لا تُفهم إلا بالمعركة لإسقاط الخلافة عند علي عبد الرازق، وإدخال المنهج الشكي الديكارتي الى التاريخ الإسلامي عند طه حسين، أي أن المعركة كانت هي البداية لمعركة العلمانية وفصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين التي لم تنجح، ولم تنجح الى يومنا، لأسباب عديدة منها تحالف السلطة السياسية مع السلطة الدينية الرسمية.
عزمي بشارة: التضحية بالعلمانية من أجل إنقاذ العلمنة
عند عزمي بشارة، فإن العلمنة والعلمانية تتفارقان بصورة نكاد لا نلحظ فيها سوى العلمنة، أما العلمانية فهي في متروكة لحكم المستقبل البعيد؛ يقوم المفكر الفلسطيني المشهور في كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" بالتضحية بالعلمانية من أجل العلمنة أو الدنيوة المقبولة نسبياً من قبل القيمين على الشرع والشريعة في الفضاء العربي الإسلامي، على أمل أن تؤدي بنا العلمنة يوماً الى علمنة عالم السياسة والحداثة السياسية بفصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين.
لكن يعي عزمي بشارة تماماً التمييز بين العلمنة التي تعني التحرر التدريجي من المرجعية الدينية للقطاعات التي لا تمس علاقة السياسة والدين، والعلمانية التي تشير الى علمنة السياسة والدولة، فهو يعتبر أن العلمانية مؤجلة الى مرحلة قادمة، بينما هي بالنسبة للمفكر المصري يوسف زيدان باب مغلق تماماً بالنظر الى الخصوصية العربية الإسلامية التي يتصورها زيدان كجوهر ثابت لا يتغير.
هل يمكن تصور العلمنة دون جرعات من العلمانية؟
إن التجارب التاريخية تدلنا على أنه لا وجود لعلمنة دون تقدم ولو بطيئ في إتجاه العلمانية، كما أنه لا وجود لتحديث دون حداثة، وكما أنه أيضاً لا وجود لعلمانية دون ديموقراطية، ولا ديموقراطية دون علمانية، وكل علمانية دون ديموقراطية هي علمانية مشوهة بالضرورة، مما يدل على أن هذه المفاهيم متداخلة ولا يمكننا التفصيل والمفاصلة بينها، وهي في مجموعها تشكل مكتسبات الحداثة في الفضاء السياسي؛ وما يحدث في تركيا خير مثال على عدم وجود هذا التفارق بين هذه المفاهيم؛ فمع إنهيار العلمانية على يد حزب العدالة والتنمية الإسلامي وزعيمه رجب طيب أردوغان، تراجعت العلمنة في المجتمع التركي، بتزايد اللجوء الى حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والعلمية بالمرجعية الدينية والتبريرات الخرافية، كتبرير الزلازل بغضب الله على المسلمين وما الى ذلك من الخزعبلات الفارغة، وفي نفس الوقت تراجعت الديموقراطية والحريات مع تزايد الضغوط على الصحافة التركية والصحافيين الأتراك، الى درجة أصبحت تركيا من الدول التي يُشار اليها في العدد الكبير من الصحافيين المسجونين لدواعي سياسية.
التحديث ليس سيئاً، إذا أتى في سيروة تطور جدلية مع الحداثة الفكرية والسياسية والدينية، أما إذا توقفنا عندها (أي التحديث) فإن مشاكل التحديث سوف تظهر أسوأ من البقاء في التقليد. التحديث دون حداثة، مثل العلمنة دون علمانية، سيفتح علينا أبواب الرجوع الى الماضي لكن بمنهج الأسلمة الأصولي السلفي، يعني أسلمة كل أوجه المجتمع الذي خضع لعمليات تحديثية؛ فمثلاً في الكويت سوف يطالب التيار السلفي في البرلمان الكويتي، ليس بفصل الذكور عن الإناث داخل الصفوف في المدارس والجامعات، بل بأن تكون مدارس وجامعات للذكور وأخرى للإناث، مما سيترتب على الدولة أعباء مادية كبيرة، فاتحة الباب أمام تدمير التعليم الرسمي المجاني، وتزايد اللجوء الى التعليم الخاص برسوم لا يقدر عليها سوى الأثرياء، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.
التحديث دون حداثة، يبقى هشاً، قابل لأن يتحول الى فوضى عارمة، كما هي معظم عواصمنا ومدننا الكبيرة، "هي فوضى!"
وسوف يكون عندنا دكاترة جهابذة في العلوم، لكن بعقول أصولية سلفية، كما هو الحال عند البروفسور زغلول النجار الباحث في علم الجيولوجيا والداعية الإسلامي وأول من تكلم في التاريخ المعاصر عن الإعجاز العلمي في القرآن.
العلمانية ليست وردة تنبت في حديقة العلمنة والتحديث، دون وعي ودون نضالات
يعتقد تيار واسع من المثقفين العرب اليوم، ربما تحت ضغط الواقع الذي تهيمن على مفاصله المعرفية القوى الإسلامية، بأن العلمنة هي سلسلة من الإجراءات التي تتراكم وتتفاعل ويجب أن تفضي في النهاية الى العلمانية؛ هكذا، كنوع من الحتمية الصارمة، دون الحاجة لوعي الفارق والفرق بين المصطلحين، وكذلك دون الوعي والانتباه الى أن العلمانية لا يمكن أن تأتي دون نضالات سياسية من قبل القوى الاجتماعية التنويرية المهيأة للقيام بهذه المهمة الصعبة والضرورية في نفس الوقت.
(1) كتاب "العلمانية من منظور مختلف" لعزيز العظمة، مركز الدراسات العربية، بيروت 1994، ص: 37.
(2) نفس المصدر، ص: 264.
(3) عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، في جزأين:
أـ صدر الجزء لأول عام 2012، تحت عنوان فرعي هو "الدين والتدين".
ب ـ والجزء الثاني صدر عام 2014، تحت عنوان فرعي هو "العلمانية والعلمنة: الصيرورة التاريخية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب