الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط الدائري للمجتمعات المتخلفة حضارياً

منال شوقي

2019 / 2 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في عصور ما قبل التاريخ كانت المجتمعات علي إختلافها ذات نمط دائري ، و المجتمعات الدائرية هي تلك المجتمعات التي يلتحم فيها المستقبل بالحاضر بالماضي ، فالمستقبل و الحاضر مرهونان بالماضي . تلك المجتمعات يصح أن نتصورها كمجتمعات تنظر للخلف كي تخطو للأمام و بشئ من المبالغة اللفظية ، هي مجتمعات تسير للأمام بظهورها . و غني عن القول أن من يسير بظهره عُرضه للسقوط و علي أقل تقدير يمشي ببطئ كي يتجنب السقوط قدر المستطاع.
المجتمعات الدائرية لم تنقرض ، فالمجتمعات التقليدية الدينية هي مجتمعات دائرية بامتياز.
خصائص المجتمعات التقليدية الدينية ذات النمط الدائري:
المجتمعات الدائرية بدأ ظهورها منذ عصور الجمع و الصيد أي عصر المجتمعات البدائية المتنقلة ( الرحالة ) و التي كانت تعيش علي الصيد و جمع الفاكهة و الخضر من الغابات و هي مجتمعات لم تكن تعرف الكتابة بالتأكيد و اعتمدت في إستمراريتها و نجاتها علي معولين ثقافيين ، أولهما النقل الشفهي للخبرات المكتسبة من خلال الممارسة و ثانيهما علي الذاكرة الجمعية للمجتمع .
أما عن النقل الشفهي فقد كان يمثل عنصراً في منتهي الأهمية لنجاة القبيلة أو العشيرة حيث يحتفظ كبار السن في تلك المجتمعات بمعين من الخبرات المكتسبة عن طريق التجريب و الممارسة تمكن القبيلة من مواجهة الأخطار و التصدي لما يواجهها من مصاعب و أزمات تهدد حياة و سلامة أفرادها و لا شك أنه من الطبيعي أن من عاش أكثر يعلم أكثر بالتجربة و الممارسة في ظل إنعدام أي وسائل أخري للمعرفة كما هو الحال اليوم حيث يقوم الكتاب بدور شيخ القبيلة المسن في نقل المعلومات .
و بمقتضي هذا الدور ( النقل الشفهي للخبرات ) تعاظم دور المسنين و تبجيل المجتمعات البدائية لهم في المجتمعات التي لم تكن تعرف الكتابة و لذا كان من البديهي أن يواجه إنسان تلك المرحلة الحاضر بالنظر في الماضي ليتعلم من تجارب و أحداث هذا الماضي و يستعين في حاضره بالدروس المستفادة من تلك التجارب و بالتالي فالحاضر مرهون بالماضي و المستقبل يتوقف علي الأمس و ليس علي اليوم .
أما عن المعول الثاني ألا و هو الذاكرة الجمعية للمجتمع فقد تتمثل في حدث أو مكان أو تاريخ أو كارثة طبيعية أو منعطف محوري أو شخصية حقيقية أو أسطورية ، و الذاكرة الجمعية إنتقائية بمعني أن المجتمع يتفق فقط علي نسيان ما لا يريد أن يتذكره في حين أن نفس المجتمع يختلف فيما يريد أن يتذكره و من هنا نستطيع أن نفسر لماذا تاريخ الأمم مشوهاً أو مبتوراً أو لا يتسق مع بعضه كأن تقرأ عن موقعة حربية جرت بين شعبين فتجد الأحداث مختلفة في كليهما و بشكل أكثر تبسيطاً ، كأن تسمع روايتين مختلفتين للأحداث من شخصين حدث بينهما نزاع .
و الذاكرة الجمعية لمجتمع ما هي التي تشكل الخطوط العريضة لثقافة و شخصية هذا المجتمع إذ يستقي أفراد ذلك المجتمع الحد الأدني من تشابههم الثقافي من هذه الذاكرة و التي كانت أحد أهم أسلحة النجاة و الإستمرار عند الشعوب البدائية في عصور ما قبل الكتابة .
هذه الذاكرة الجمعية كانت و مازالت رمزية أي يتم التعبير عنها و تتجذر في الذاكرة من خلال الرمز، حركات الصلاة في كل الأديان علي سبيل المثال هي نموذج لرمزية الذاكرة الجمعية .
إنتقال الذاكرة الجمعية عبر أزمنة طويلة عن طريق الرمز يكون كفيلاً بإعادة تشكيل و صياغة مدلولات هذا الرمز بما يتناسب مع المرحلة التي تطورت لها ثقافة و معارف المجتمع. فمكانة الهلال عند المسلمين كرمز ديني علي أقبية المساجد شاهد علي انتقال الذاكرة الجمعية لمجتمعات الرعاة الرُحل الذين قدسوا القمر كمصدر وحيد للإضاءة ليلاً يحمي من مخاطر لا حصر لها سواء كانت تلك المخاطر هجوماً من قبيلة أخري بهدف سرقة الأغنام و الماشية أو هجوم حيوانات ضارية أو مجرد أن تضل القبيلة طريقها في الصحراء في أثناء تنقلها المستمر خلف الكلأ و الأمطار.
و لا يخفي علي أحد أن جذور الإسلام يهودية و قد كان اليهود رعاة مزارعون agropastorals يعرفون للقمر قيمته في الحفاظ علي القبيلة و ما تملكه من حيوانات و محاصيل موسمية تختلف باختلاف الأرض التي يسكنونها باختلاف المواسم.
.
المجتمعات الدائرية هي مجتمعات ضد التغيير لأن التغيير يهدد نمطها الدائري و بالتالي يهدد ماضيها الذي تستقي منه أمان الحاضر و المستقبل. و لذلك نجد أن المجتمعات الشرق أوسطية و التي هي مجتمعات تقليدية دينية ذات نمط دائري بسبب هيمنة الدين عليها تنظر للخلف و تُعلي من قيمة ماضيها إلي الحد الذي يصبح فيها هذا الماضي بكل عناصره مقدساً و يصبح المساس بهذا المقدس بمثابة تهديد للحاضر و المستقبل و كلما إزدادت العوامل التي تهدد أمن المجتمع كالمشكلات الإقتصادية و الإحتماعية و السياسية كلما إتسعت دائرة التقديس و شملت ما لم يكن مقدساً في عصور سابقة و كلما إزدادت درجة التقديس لما كان مقدساً بدرجات أقل في الماضي.
فتقديس كتاب البخاري و اعتباره ثاني أهم كتاب عند المسلمين علي ما فيه مما يختلف مع العقل و المنطق بل و مع القرآن نفسه يُعد مثالاً علي تقديس ما لم يكن مقدس ، فالبخاري كان له منتقدون صريحون في عصره و في الفترة الزمنية التي تلته مباشرة و لم يكن ذلك النقد يخرج صاحبه من الدين كما هو الحال الأن و لم يكن المساس بكتاب البخاري جريمة تستوجب الهياج و التنمر الذي نراه الأن كما أن رفع البخاري لتلك الدرجة من التقديس دليلاً علي حالة الهلع و عدم الأمان التي يستشعرها المجتمع و إدراكه و لو بشكل لاواعي inconcieusement بالأخطار التي تتهدده و تهدد بقاءه و سلامته كتفشي الجهل و التأخر العلمي مقارنة بمجتمعات أخري و إنحطاط مستوي الثقافة المجتمعية و المشكلات الإقتصادية كالفقر و البطالة و انتشار الجريمة و انعدام الشعور بالأمان و عدم تحقيق الذات إلخ...
.
الأمثلة كثيرة علي نمط التفكير الدائري في المجتمعات المتخلفة عن ركب الحضارة الغربية و لا تقتصر علي الإلتصاق بالرمز الديني و المبالغة في تقديس المحتوي الموروث مهما بلغت تفاهته و عدم إتساقه مع العقل و المنطق السليم كتقديس صحابة محمد و اللإقتداء بأفعالهم و الدفاع عنها مهما كانت سخيفة بل و مشينة كالدفاع عن أبي بكر و التبرير له عندما قال لأحدهم : أمصص بظر اللات أو عن عمر بن الخطاب حينما ضرب جارية لارتدائها غطاءً للرأس و تشبهها بالحرائر أو حتي تقديس شخصية كعمرو بن العاص كان موضع سخرية و تهكم معاصرية بل و معايرتهم له بأصله و نسبه و تذكيره من حين لأخر بمهنة أمه ، نجده اليوم و قد تحول لشخصية مقدسة أو علي الأقل شخصية مباركة و موضع تبجيل و إجلال.
مازال الدائري الذي يدور في حلقة مفرغة منطلقاً من نقطة ما علي تلك الدائرة بفعل دفع الزمن له و عينه علي النقطة التي يقبع فيها الماضي ليعود لتلك النقطة ليس زمنياً و لا مكانياً لأن ذلك خارج عن إرادته و لكنه يعود لها ، لذلك الماضي بوجدانه و أفكاره و أفعاله و أحكامه و منطقه ليفسر وجوده و ليضع أهدافه و ليحدد حاضره و مستقبله بما يتسق مع هذا الماضي و يحافظ عليه كسلاح ضد التغيير ، التغيير الذي يهدد بقاءه و أمنه و تلك طبيعة الشعوب الدائرية لأنها شعوب تفتقر لعوامل ثلاثة كانت كفيلة بإقامة الحضارة الغربية ألا و هي الإعتماد علي النفس و الفردية و الثقة ، بالنفس، الإعتماد علي النفس و الذي يمحيه سيطرة الهيمنة الأبوية فمجتمعات الشرق الأوسط أبوية بامتياز و تنزع إلي التقليل من قدر الشباب في مقابل إعلاء قيمة الشيوخ بدعوي رجاحة عقل كبار السن الغير قابلة للنقاش و نزق الشباب الذي يفتقر للخبرة و هو ما ليس صحيحاً بالمرة و الأمثلة لا حصر لها ، أما الفردية فهي غائبة بشكل مطلق بل تنتصر المجتمعات التقلدية الدائرية لثقافة القطيع ، فالمختلف و الذي يشذ عن معتقدات و أفكار و ثقافة و ممارسات الجماعة القطيع هو موضوع إنتقاد و لوم بل و استياء و نبذ للمختلف ، و أخيراً تأتي الثقة في النفس و غيابها في المجتمعات الدائرية يشهد عليه تشبث هذه المجتمعات بماضي صنعته عقول أخري و تقديس أصحاب تلك العقول و إضفاء هالة من التبجيل و الإحترام عليهم و يشهد عليه كل الجهود المبذولة لمحاربة أي تغيير محتمل و العزوف عن التجريب و استكشاف الجديد و التعلم من التجربة لافتقار الثقة بالنفس .
ليس غيباً أبداً أن نجد مجتمعات تتفنن بالتغني بالماضي و تعتبره هويتها رغم أن هذا الماضي نفسه و الإستغراق فيه و التماهي معه هو العائق الذي يمنع تلك المجتمعات من الخروج من الدائرة و المضي قدماً للأمام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الي Ibrahim Thalji
محمد البدري ( 2019 / 9 / 26 - 11:12 )
المعلق Ibrahim Thalji في الفيس بوك
عليك بقراءة نقدية وليس الترديد الببغائي لما جبلت علي سماعه ترتيلا وتجويدا.
الاسلام هو اعادة انتاج لليهودية مع فارق واحد ان حكاوي القهاوي التي وصلت لمحمد لم تكن بذات الحبكة التوراتية اضافة الي ان صياغته لها لتطرب السامعين من قريش اضطرته بالايقاع والقافية في بعض الاحيان لان يكسر منطق الاحداث باكثر مما هي مدشدشة في التوراه.
كان لمحمد عقل يحاول به ترميم ما يستحق الالقاء في سلة المهملات

اخر الافلام

.. التصعيد بين إيران وإسرائيل .. ما هي الارتدادات في غزة؟ |#غرف


.. وزراء خارجية دول مجموعة الـ7 يدعون إلى خفض التصعيد في الشرق




.. كاميرا مراقبة توثق لحظة استشهاد طفل برصاص الاحتلال في طولكرم


.. شهداء بينهم قائد بسرايا القدس إثر اقتحام قوات الاحتلال شرق ط




.. دكتور أردني يبكي خلال حديثه عن واقع المصابين في قطاع غزة