الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بأيّ ذنبٍ رَحلَتْ؟ رواية تستبطن الشخصية المغربية المثقفة

عدنان حسين أحمد

2019 / 2 / 20
الادب والفن


عدنان حسين أحمد
صدرت عن "المركز الثقافي للكتاب" في الدار البيضاء رواية "بأيّ ذنبٍ رَحلَتْ؟" للباحث والروائي المغربي محمد المعزوز المتخصص في الأنثروبولوجيا السياسية وعلم الجَمال والحائز فيهما على درجتيّ الدكتوراه تباعًا من جامعتيّ "السوربون" بباريس و"محمد الأول" بمدينة "وجدة" المغربية. وقد سبق له أن أصدر رواية "رفيف الفصول" ونال عنها جائزة المغرب للكتاب عام 2007 عن فئة الكتابة الإبداعية، وله كتب أخرى في المسرح والسياسة وعِلم الجمال.
أوردنا هذه المقدمة لأنها تُوحي للقارئ الكريم بأن هناك أصداء للسيرة الذاتية لكاتب الرواية ومبدعها ليس بالضرورة أن تتطابق مع أحداث النص لكنها تستوحي منه العديد من المظاهر الفكرية والاجتماعية والسياسية، ولعلها تذهب أبعدَ من ذلك حين تتكئ على الرسم والموسيقى والفلسفة وعلم الجمال وتتخذ منها ثيمة رئيسة للرواية التي تزدان بالشخصيات المثقفة التي يشرّحها الكاتب، ويكشف عن أسرارها العميقة بُغية إدراك إشكالياتها الوجودية، وملامسة اختلالات القيم التي عصفت بالمجتمع المغربي على وجه التحديد من دون أن نغفل التحولات الكبيرة التي شهدها العالم برمته منذ ستينات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر.
لم يرِد محمد المعزوز أن يقدّم لنا نصًا كلاسيكيًا لذلك استعان بالراوي العليم الذي يسرد الأحداث الروائية بزمن دائري يبدأ من منتصف الرواية ثم يعود بنا إلى زمنها الخطيّ المستقيم الذي يبدأ من باريس وينتهي في مدينة "وجدة" المغربية التي تحتضن أبطال الرواية وبعض الشخصيات الهامشية الأخرى التي تؤثث المتن السردي وتمدّه بنسغ الحياة على أصعدة مختلفة لكي يتكشّف اللغز الوحيد الذي تقوم عليه هذه الرواية التي توسّل فيها الكاتب التقنية البوليسية التي ينجلي فيها السرّ في خاتمة النَصّ ونهايتة المدروسة بعناية فائقة.
وعلى وفق البنية الدائرية التي تبدأ من المنتصف نجد أنفسنا أمام شخصية عبدالله الذي يعمل في المخبَز ويقدّم أرغفته الطازجة إلى الناس لكنه ينعزل في هذا المكان ويتوحّد فيه بعيدًا عن مجتمع مدينة "وجدة" في أقصى الشمال الشرقي من المغرب. وعلى الرغم من أنّ عبدالله لا يختلط بالناس ولا يتكلم كثيرًا لكننا سنتعرّف على شخصيته المتكتّمة التي تثير الانتباه، وربما تكون اللوحة الفنية التي يعلّقها على أحد جدران المخبز هي التي ستُخرجه من صمته حين تسأله راحيل عن سرّ اغتيال التوقيع الذي يذيّل اللوحة المعبّرة لكنه يمتنع عن البوح باسم الرسّامة التي أبدعت هذا العمل الفني اللافت للانتباه.
ولكي نضع القارئ في صورة الحدث الروائي لابد من العودة إلى شخصية عبدالله المنهمك بالفلسفة ودراستها في باريس، فهو متزوج من راشيل، الرسّامة الفرنسية التي لا تعوّل كثيرًا على المؤسسة الزوجية، فقد اعترفت له بارتكاب خطيئة فادحة عندما أنجبت طفلة منه، وفي لحظة هستيرية أحرقت لوحاتها الثلاث ولكنه تمكّن من إنقاذ إحداها بعد أن امتدّت ألسنة النيران إلى الورشة برمتها.
يتلقّى عبدالله مكالمة هاتفية من شقيقه في "وجدة" ليخبره بأنّ زوجته الفرنسية راشيل قد جاءت رفقة طفلتها إلى بيت والده تسأل عنه وحينما وصل اكتشف أنها توارت عن الأنظار قبل مجيئه بساعات. لم يستغرق بحثه زمنًا طويلاً، إذ أخبرته الشرطة بأنه تمّ العثور على زوجته منتحرة بعد أن قطعت شريانيّ معصميها لتتركه نهبًا للعزلة والانطواء في مخبزه الذي يحتضن لوحتها الوحيدة المتبقية التي جلبها أحد أصدقائه من بيته في باريس بعد أن فسخ عقد الإيجار. تأخذ الرواية منحىً بوليسيًا إثر اختفاء ابنته راحيل، وسوف يتعرّف القارئ تدريجيًا على شخصية الأب عبدالله، وعلى ابنته راحيل، وبقية الشخصيات الأخر التي تدور في فلكيهما. فإذا كان الأب غارقًا في الفلسفة، والأم رسّامة فإن البنت المفقودة قد أصبحت عازفة موسيقية ومغنية أحبّت خالدًا، المناضل السياسي وتزوجته لكنهما وصلا إلى طريق مسدود أفضى بهما إلى الانفصال من دون أن يتطلّقا. ربما تكون راحيل هي الشخصية الأكثر إغراءً في الرواية، ولعلها تقف بموازاة شخصية الأب المنطوية التي يلفّها الغموض، وقد عمد الروائي إتّباع تقنية الاسترجاع للكشف عن حياة راحيل المُبهمة أيضًا لكن هذا الالتباس سوف يُزال تباعًا فنعرف أنّ "عيشة" المتسوّلة قد سرقت الطفلة راحيل تاركة وراءها جثة أم مضرّجة بالدماء. وبما أنّ "عيشة" كانت ترتاد حلقات الذِكر وتسقط مغشيًا عليها وهي تنشد كلمات عبدالقادر الجيلاني، ونصوص الحلاج وابن عربي فإن هذه الطفلة قد شُغفت بسماع الذِكر والإنشاد وأن المتسولة قد أطلقت عليها اسم "رابعة" تيمّنًا برابعة العدوية. قبل أن تواجه "عيشة" مصيرها المحتوم سلّمت راحيل إلى دار الأيتام حيث تعلّمت العزف والغناء على يد امرأة مُسنّة تُدعى زينب، وبما أنّ هذه الأخيرة مُصابة بالسلّ وعلى وشك أن تغادر الحياة فقد سردت لها قصة حياتها منذ انتحار أمها حتى لحظة تواجدها الأخيرة في الميتم وسلّمتها حقيبة تحتوي على لوحة فنية بديعة ملفوفة بقماش من حرير إضافة إلى صورة كُتب على ظهرها:"أُهدي هذه الملامح المتصارعة إلى ابنتي التي ستدرك بأنّ الأمومة أكذوبة وأنّ الإنجاب تكرار لفصيلة من الكائنات التي فقدت كينونتها وجهلت سرّ خلقها".. قصدت راحيل المخبز لتشتري رغيفين لكنها صدمت حين شاهدت لوحة معلقة على الجدار تحمل توقيعًا مموهًا أو مطموسًا. شعرت وكأنها تعرف هذه اللوحة، وتمتّ إليها بصلة ما لأنها "تلبس كل المعاني التي لها دلالة على الوجود والامتداد".
ترتبط راحيل بخالد الذي يدعم المقاومة الفلسطينية ويجمع لها التبرعات، وذات مرة يطلب منها أن تبيع اللوحة التي ورثتها عن أمها وتتبرع بأموالها إلى المقاومة فترفض مفضّلة الانفصال على بيع الأثر الوحيد الذي خلّفته لها الوالدة بعد انتحارها، وعندها أدركت "بأنها لم تكن في عالمه إلاّ شيئًا مُلحقًا، أو أنه لم يكن يرى فيها أكثر من مجرد موضوع للأنس والألفة".
تنظّم راحيل حفلاً موسيقيًا وغنائيًا يحضره جهور غفير بينهم عبدالله، وخالد، ووليد، وجيهان وتعزف وتغنّي من أعماق القلب غناء يثير الشجون لكن رأسها يسقط على المفاتيح الوسطى للبيانو وتفارق الحياة وسط شهقات الحاضرين لتصرخ جيهان بصوت عالٍ وهي تتجه نحو عبدالله مفزوعة لتخبره بأن الحقيقة قد انكشفت وأنّ راحيل هي ابنته التي فقدها بعد انتحار زوجته راشيل عندها يختتم الرواية متسائلاً:"ماذا يختبئ بعد وراء الستار؟".
ثمة شخصيات تمدّ الرواية بقصص جانبية مثل رؤوف السياسي الذي يمثل الانتهازية في أعلى درجاتها وقد سافر مع جيهان إلى ألمانيا واعتدى عليها بذريعة إباحة الجنس للذوات البشرية. وهناك عبد العزيز الوجدي الذي دخل السجن وتعرّض لمختلف أنواع التعذيب مذكرًا إيانا بأدب السجون والمعتقلات. وهناك استحضار لشخصية جان دارك من عمق التاريخ الفرنسي حيث رأت في منامها ملاكًا يأمرها بنصرة شارل السابع وتحرير فرنسا من هيمنة الإنجليز.
ما يميز هذه الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية هو ثيماتها المتعددة التي تجمع بين الفلسفة، والفن التشكيلي، والموسيقى والغناء، وتغوص في أعماق الشخصيات العربية والفرنسية وتكشف عن جذورها ضمن حبكة درامية رصينة تأخذ بتلابيب القارئ منذ الصفحات الأولى حتى خاتمة هذا النص الروائي المحكم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة