الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاجرُ موغادور: الفصل الخامس 9

دلور ميقري

2019 / 2 / 20
الادب والفن


نسوة أسرة " كورنو "، كنّ غريبات عن دمها، باستثناء الأخيرة منهن؛ " رومي ". نرد القدر، كان قد لعب لعبته، بحيث لا تنجب أيّ من تينك النساء مولوداً من جنسها. كذلك فإن اثنتين منهن توفيتا على أثر الولادة، أو خلالها، وبالطبع بعد أن وضعت كلتاهما ولداً ذكراً. نفس المقدور، على غرابته، ربما ينسحب على عامل الدين في الأسرة. الجد الأول، " مسيو كورنو "، لم يشأ تعزيز تحوله الدينيّ بزوجة مسلمة من أهالي البلاد. فما أن استقر وضعه في ثغر السلطنة البحريّ، المحصّن بفضل جهوده، حتى بعث في طلب الخطيبة من موطنه الأول. وكذلك فعل ابنه الوحيد، " جاك "، حينَ شبّ وورث عنه مهنة العمارة البحرية. زوجة هذا الأخير، كانت من عائلة نبيلة، رفض كبيرها في بادئ الأمر فكرة تغرب ابنته ببلد مسلم. إلا أنّ الرجل سيفقد ثروته وأملاكه في أيام الإطاحة بالملكية، ولن يجد مناصاً من الانضمام لابنته وصهره على أثر تشتت أفراد العائلة في كل مهب. حال حماتها، الراحلة مبكراً، بقيت الزوجة محتفظة بإيمانها الكاثوليكيّ. وكان إيمانها من العمق، أن طلبت من رجلها يوماً إقناع " صديقه السلطان " بالسماح ببناء كنيسة في موغادور. إلا أنّ السلطنة، الرافعة لواء الجهاد ضد دول النصارى، كان من المحال عليها مجرد التفكير بمنح رعاياهم صومعة عليها إشارة الصليب. هذه الشارة، على أيّ حال، نقشت بشكل فنيّ مموه على ضريح والد امرأة " مسيو جاك ". الرجل العجوز، كان قد دفن في بقعة من عرصة فسيحة، تظلل أشجارها قنطرة باب دُكالة. ثمة، كان عميد آل " كورنو " يملك كوخاً صغيراً، مخصصاً للراحة في أوقات صيد الطيور بالبندقية: ذلك الضريح، سيكون بمثابة حجر الأساس للمقبرة المسيحية الوحيدة في المدينة.
ومن ألغاز هذه العائلة العريقة، مسألة إيمان " مسيو كورنو " نفسه. بعد حياة مديدة، قضى أغلبها بخدمة سلطانٍ مسلم شاء اعتناق ديانته، فضلاً عن ترمله مبكراً، إذا به يموت غريباً في بلد آخر. كان قد توجه إلى ملقة الإسبانية، بغية إجراء عملية جراحية لأحد شرايين القلب، ولكنه لم يعُد منها أبداً. ويقال، أن ممرضات المستشفى استدعين قساً عندما تأكدن من نزع الرجل العجوز. كون المستشفى ملحقاً بدير، فإن جدث مهندس السلطان المسلم استقر أخيراً في المقبرة تحت نصبٍ كبير للصليب. ابن المسيو الراحل، كان إلى جانبه في رحلة العلاج المنتهية بالموت. بدلاً عن العودة مباشرةً إلى المغرب، ركب سفينة متجهة إلى مرسيليا، ومنها أخذ عربة إلى باريس. هذه الرحلة إلى الوطن، ستحول مجرى تفكيره مثلما كان أمر أبيه في مغامرته المغربية. إذ رجع من موطن الأسلاف مدججاً بأفكار ثورته، وبرغم أنها كانت في ذلك الوقت قد خرجت من نفق الإرهاب كي تتخبط في متاهة الصراع على السلطة. صُدم حمو الشاب، وكان قد أصبح شيخاً طاعناً في السن: " أنت حر فيما تؤمن به، ولكنني أرجو ألا تفسد عائلتك بسوسة فولتير الملحد! "، قالها لصهره متنفساً بعسر بعدما تعب من مناقشته.
مخاوف الرجل الأرستقراطيّ، كانت في محلها، طالما أن بذرة الثورة والإلحاد ستنمو مجدداً. والد " رومي "، كان أميناً لأفكار أبيه وهوَ من تعهد نقلها لابنته الوحيدة. كون وعيها تفتح في هكذا بيئة منزلية، فإنها نأت بنفسها عن صُحبة نساء الأغنياء المسلمين ممن ارتبطوا بصداقة مع والدها بحُكم العمل أو الجيرة. إلا أنها بقيت مفطورة على البساطة والتواضع، تنظر بشفقة إلى بنات جنسها اللواتي ينحدرن من الفئات الفقيرة. بمقابل ما وجدته من جهل خارجاً، ارتدَّت إلى داخل منزلها تنهل من مكتبته شتى المعارف؛ وهيَ مكتبة، ظلت تنمو خلال قرن من الزمان تقريباً. وكانت قد انتقلت إليها أيضاً ذهنية أبيها، المنفتحة على العلوم والرياضيات، فودّت لو ترث مهنته. ولكن أنّى لفتاة أن تجد عملاً، كمهندسة، هنا في سلطنةٍ لا تعدُ نساءها سوى بالركون إلى بيت الزوجية، ليمضين حياتهن اليومية بين المطبخ والمخدع. بيد أن " رومي " كانت أكثر حظاً منهن؛ على الأقل، فيما يتعلق بالدراسة. نظراً لعدم وجود مدارس في موغادور سوى لليهود، عمد والدها إلى التعاقد مع مدرس فرنسيّ، كان قد تعرف عليه في سفينةٍ أقلعت من مرسيليا وكانت ستنهي رحلتها في وهران الجزائرية. كان شاباً وسيم الملامح، فارع الطول، من أسرة ريفية تنتمي لإقليم البروفانس، أغرتها سهولة العيش في مستعمرة على الطرف الآخر من البحر المتوسط. ومثلما يحصل أحياناً في أحوال مشابهة، أُغرمت التلميذة بأستاذها الوسيم، لدرجة استعدادها لتقبل الفكرة المألوفة، السالفة الذكر؛ أي انقياد الفتاة لطريق وحيد، يؤدي إلى بيت الزوج. شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد يوم، صارت تنفر من المونسنيور، المتجهم الوجه والحاد الطبع. إلى أن كانا مرة في حجرة التدريس، المحاذية لمكتب سيد الدار، لما انبعث صوت صراخ مؤلم من الساحة القريبة. اندفعت لتلقي نظرة إلى أسفل عبرَ نافذة الحجرة، وإذا هو عبد أفريقيّ مرميّ على الأرض أمام كومة من الحطب، فبدا كأنه أحد الأفرع المقطوعة من شجرة قاتمة القشرة. كان يتضرع لسيّده المسلم بالمحكية الدارجة، بينما هذا يجلده بسوط ذي ضفيرة طويلة.
" ماذا يقول العبد؟ ما المسألة؟ "، سألها أستاذها وقد تكدرت عيناه الزرقاوان الصافيتان ببريق غريب. فلما ترجمت له ما قيل، وكان الصراخ ما يفتأ متصاعداً، فإن المونسنيور علّق مطلقاً ضحكة مقتضبة: " حسناً، إنه يستحق العقاب ". قالت معترضةً وهيَ تتابع المشهد: " لا، ليس عدلاً أن يجلد بهذه الطريقة الوحشية لأنه تعثر بحمله الثقيل ". هنا، رشقها الأستاذ بنظرة كلها لؤم وازدراء، قبل أن يرد: " حريّ أن يشنقا كلاهما، العبد وسيّده المسلم، لو أنهما في مستعمرتنا الجزائرية. كذا هو العدل، أيتها البلهاء الغرة! ". خيّل إليها عندئذٍ أنها أمام ثعبان، يصدر فحيحاً قبيل انقضاضه على الفريسة. برغم ذهولها، فإنها استعادت بسرعة ما عرفت به من بأس ورباطة جأش. قالت له مرتجفةً: " يا لك من ريفيّ جلف، بلا قلب ومشاعر ". انتقل الذهول إليه، فطفق واقفاً يحدق فيها. إلا أنها غادرت الغرفة فوراً، دون أن تتيح له فرصة الكلام. في نفس اليوم، آنَ بلغ ما حدث مسامع سيّد الدار، طلبَ من الأستاذ أن يوافيه إلى حجرة المكتب. ثم ما لبث المونسنيور أن شوهد خارجاً من الحجرة وعلى سحنته علامات الضغينة والحقد، وكان ذلك هو يومه الأخير في المنزل. لم يتردد من بعد ذكرُ الأستاذ المطرود سوى في مناسبة وحيدة، وذلك عندما حضر إلى البيت " العمُ جورج ": هكذا كانت تدعو الفتاة المراهقة صديقَ والدها، القبطان الإنكليزيّ. وكان هذا يقهقه بسرور وسعادة في كل مرةٍ يسمعها فيه تحرّف اسمه.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه