الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شارع الحرية 6

هيثم بن محمد شطورو

2019 / 2 / 22
الادب والفن


"ماذا أحس؟ كيف أفكر؟ بماذا أفكر؟ ربما تكون مؤشر زلزال سيهز كياني هزا ولكن كيف؟ كيف ترميني الأقـدار عند محطة باهتة الملامح كهذه؟ كيف يحس قلبي بها؟ ما هي دلالتها في التاريخ؟ ألم ترسو مراكبي نهائيا على مرافئ غادة؟ يا غادتي الجميلة كم احبك ولكن أية أقدار لعينة هذه تعكر أجوائي؟
سلمى.. كم تماثـلها في عينيها وملامح وجهها؟ كأنها هي. فعلا. كان الأمر كذلك اذن. لحظة الحادثة كانت ومضة قصيرة التـقيت بعينيها او بتلك العينين الخالدتين في عالم المثل حسب تصور أفلاطون.
اليوم الأمر مختلف. وجهها كأنه وجه آلهتي والآلهة لا تموت، بل انها تـقبع في أعمق أعماق القلب. كذلك صوتها، ونفس البريـق في العينين، ونفس النداء العذب الرهيب المتصل باللانهائي..
هذا هو سر جرسها في القلب. هذا القلب المجهد منذ سنوات بحب الآلهة..
21 سبتمبر1994"
يضع القلم جانبا ويرفع رأسه إلى السقف فإذ بوجهها المتورد بحمرة الخجل يرتسم كشبح فيهرب من السقف وكالمجنون يرتدي سترته البنية ويخرج من الشقة.
ولكن متى غاب وجهها طوال تلك السنوات.. يتذكرها كل يوم بمناسبة وبغير مناسبة. يتذكرها حتى كطيف يمر في الخيال لمجرد أي فكرة، أما شعلة الأفكار الكبرى والمشاعر الكبرى تجاه الحق والإنسانية والوطن والامة المجيدة وابطالها فإنها دوما ترافـقهم بشكل محايث، بل بروح منصهرة في كل المعاني الكبرى. وجهها البهي.. وجهها الغريب الاطوار. وجهها الإلاهي..
وقف بجانب الكونتوار وطلب قارورة بيرة ثم ألحقها بأخرى..
كان توهج نفسه المعذبة العذبة بحضورها الطاغي يسبح في أطياف الذكريات التي تـتـسابق بلا ترتيب زمني. هو الزمن المطلق..
وتبقى أعظم لحظة في حياته هي لحظة البدء التي يسميها لحظة الجرس الإلاهي الذي أثـقـل عليه لعظمة عذوبته وانخطاف قلبه وتعلقه بها. تلك اللحظة الخالدة لأن كل ما وقع بعدها هو تلك اللحظة والى اليوم والى الغد والى غاية الموت، بل الى ما بعد الموت ربما..
كان الجرس ذات مسابقة بين المعاهد. كان هو من بين جمهور التلاميذ يشجع معهده ضد المعهد المقابل. فتاة تـقـف في المنصة وتـقرأ قصيدة..
لم يسمع الكلمات جيدا نظرا للضجيج.. انما انخطاف عذب فردوسي لذيذ وارتعاد كل ما فيه و انصهار في وجهها.. لم تكن مجرد وجه. لم تكن مجرد انثى.. انها آلهة..
رجع الى شقـته بعد جولة في شارع الحبيب بورقيبة، فالمشي وحده يخفف توتر نفسه.
يجب أن أسيطر على نفسي. جميل ان يكون قلب المرء نابضا بالحب، ولكن الحياة تتطلب إرادة القوة للسيطرة على الواقع..
وهكذا بتـزايد الخطوات المقـتربة الى الشقة تـزايد الشوق الى غادة الغائبة عنه منذ أيام. غادة هي التي تملأ عقله ووجدانه الواقعي المعقول..
***
غادة مثال تـقدمي قافـز في مجتمعنا ليس للمرأة وانما للإنسان. جمالها الجسدي لا يقارن بجمالها الذاتي. انها عنوان العائـش بفكره و تملكه لذاته. لا تـنـتـظر منها ان تـقوم بفعل شيء مخالف لما تـفكر فيه عقلانيا وما تصرح به.
مثال ذلك، انها لا تـفـتح درج مكتبي في غيابي ولا تسألني عما أكتب حتى وان كان في دفتر مذكراتي، بل حتى وان قـلت لها أنى بصدد كتابة أشياء من يومي في دفتر مذكراتي. بل بهذا الخصوص جعلتـني أحس بوضاعتي أمام نفسي باعتباري قد أردت التأكد من عدم اطلاعها على دفتر مذكراتي في فترات غيابي عن الشقة حينما تكون هي داخلها.
كنت أضع مفتاح درج المكتب في قـفله على طرفه وهو نصف مفتوح، بحيث ان أقـل حركة ستسقط المفتاح وعملية إرجاعه الى موضعه لا يمكن ان تكون بنفس المستوى المتعمد الذي وضعته فيه، كما ان فتحة الدرج محسوبة بدقة، بل أوجدت علامة خفية على جانبه من الأسفل، بحيث يكون من المحال إرجاعه حيثما كان بالتمام. كنت أضع دفتر المذكرات مقلوبا ومفتوحا على صفحة معينة ذات علامة خفيفة جدا بقلم الرصاص.. وبالتالي فمن المحال عليها الانتباه الى جميع تلك الفخاخ..
على كل حال الشك طريق الى اليقين، ومن خلال هذه التجربة تأكدت فعلا انها لا تـنـتهك حرية الآخر ولا تـتدخل فيما لا يخصها. انها فعلا كما تـقول ان علاقـتـنا تـقوم على الشفافية والحرية والارتـفاع عن الدناءة، وهي فعلا في مستوى كلماتها. انها حياة العقل السامي..
أما الجنس، فهي جنـتي ومخلصتي من عذريتي وكبتي. انها معلمتي تـقوم به بشغف وشهوة مستعرة وفن. جميع الوضعيات والإيلاج تعشقه في الفم والفرج والدبر، كما ان لسانها يتوهج نارا وعذوبة كتـنين وجعلتـني أتعلم وأتـلـذذ لعـقها من رجليها الى عنقها..
المسألة الجوهرية ليست في التجربة وانما في الوعي. لقد تمثلت في ذهنها أحقية الجنس. هذا الوعي جسدته معي لأني تحدثت في الجنس كأحقية وجدارة برغم كوني لم أكن أمارسه، لأني أعتبر نكاح العاهرات إهانة للذات وتبضيع للجنس وهو أسمى من ان يكون بتلك الطريقة الاستهلاكية الرخيصة. الجنس هو تعبير عن لذة وديناميكية كونية بين الكواكب والمجرات وجميع عناصر الطبيعة. اما ان أغدر بفتاة فهذا ما لا يمكن لي أن أفكر فيه لأنه عمل دنيء ومقرف ومخادع.
لقد تـناقـشنا نظريا في المسألة عدة مرات، ولم تبدأ سيولة الشهوة والتماس الجسدي بيننا الا بعد فترة طويلة من النـقاشات المختـلفة التي من بينها مسألة الجنس.
ان ما يجمعنا هو الفكر والتلهف على الفكر والمعرفة، كما أننا نـتـقاسم رؤية اشتراكية ذات روح صوفية لأنـفـسنا وللعالم. كلانا يخجل من كونه بورجوازيا ونكره البورجوازية. نكره السيارات الفاخرة والفيلات المضخمة وأشكال الترف والاستهلاك الزائد عن الحاجة وعقلية الاستهلاك.
نكره المطاعم الفاخرة والمقاهي الفاخرة الى درجة اننا نكره كلمة "الفاخر" في المظاهر البورجوازية الحقيرة. كم تكون سعادتـنا جلية حين نسخر من تلك المظاهر التي لا تعبر الا عن الكذب والزيف. اننا متـفـقان حول توصيف أصحابها بالضفادع البشرية. انها فاقـدة للمضمون العقلي والروحي، وإنها جد بائسة في وجدانها وجد قـذرة في احلامها ونومها وصحوها وجهلها وأنانيها وضيق أفـقها وامراضها، لذلك يعـشقون الكذب ومظاهر التبرجز تلك كتعويض عن إحساس النقص الفظيع الذي ينخر أعماقهم.. ما أجملها وهي تـنعت أحدهم قائـلة:
ـ أي ضفدع حقير هو. أي ضل انسان.
وقالت لي ذات مرة:
ـ أعرف أنك تكره اللغو. أعرف أنك تخفي ما بيننا حتى عن أقرب اصدقائـك. ذاك أنك لا تعتبر ممارسة الجنس بطولة لأنـك لا تعتبره شيئا محرما، وأنك تحتـقر من يتحدث عن بطولاته الجنسية وأنك لا تُصدق جلها.
فعلا، كان الامر مثلما ذكرت. قلت لها:
ـ ربما كان تحريم الجنس حيلة لتـقوية الرغبة فيه. انظري الى الحيوانات. بما انها غير واعية ولا تحرم بالتالي شيئا فإن الجنس لديها أمر طارئ يفرضه فصل الربيع أي العامل الخارجي. اما الانسان فإنه مهووس بالجنس نظرا لتحريمه وقمع رغبات الجسد..
كانت غادة في الثانوية قد أحبت فتى جميل الطلعة يدرس معها في نفس القسم. كان ناشطا سياسيا وكان له دور بارز في الإضرابات التلمذية المساندة للعراق في حربه ضد الثلاث وثلاثين دولة أو حرب "بوش المجرم" مثلما كانوا يطلقون عليها في تلك الأيام العاصفة بالوعي. في بعض الأحيان يدرسان في منزل اسرتها أو بالأحرى تستدعيه هي بتعلة الدراسة. ذات مرة هاجمته بالقبل. أرادت ان تراه ضعيفا على عكس الصورة التي يـبدو بها في الخارج. وفعلا، فـقد احمر وجهه عند تـلقيه لهجوم القبلات على وجهه وعنـقه. ما ان أسالت فيضا من لمساتها العذبة حتى بدأ يتعرق وهو أبكم لا يتـفوه بكلمة. استعرت نارها لمرآه على تلك الحال، فقبلته في فمه وغاصت يدها في وسطه.. كاد أن يُغمى عليه. ضحكت وقالت متسائلة:
ـ هل أزعجك الأمر؟
ـ لا. بالعكس. ولكن.. لا أقدر على فعل شيء. أنا فعلا أخاف هذه المواقف. ألا تخافين أنت؟
ـ هذا موطن ضعفك اذن. لأجل هذا تـتـظاهر بالقوة في بقية الأمور؟
قال:
ـ لا أتـظاهر بأي شيء. أنا انسان مندفع لما هو حق.
ـ ألا ترى أن هذا حقا؟
ـ لا.. أحس به محرما. أقولها الآن. كل ما في يعبر عن هذا الإحساس، رغم أنى لا أعتبره محرما بالكلمات...
دقيقـتي صمت بينهما قال على إثرها:
ـ يا للهول..

منذ تلك اللحظة أصبحت غادة تـفكر في الجنس بصفة جدية. تبحث في قراءاتها سواء في الكتب او الأفلام او كلمات الناس عن مشروعيته من عدمها. كان الفتح الكبير في سنة الباكالوريا حيث تـتم دراسة مادة الفلسفة. في محور الجسد و "ميرلوبنتي"الفيلسوف الفرنسي القائل أن "جسدي هو أنا"، ثم الثورة الكبرى مع "سغموند فرويد"..
غاصت في فرويد بمثل ما غاص فيه احمد.. يا للغرابة. فعلا، العالم الإنساني كله جنس. ايروس يتوارى ويتمظهر في كل شيء. قالت لأحمد بنبرة مفعمة بالشغف:
ـ يا الاهي. كم هو الانسان منافق؟ ساعتها زالت من أمامي كل غشاوة. الانسان يشرع ما هو ضده. الجنس يتملك الجسد والوعي من خلال اللاوعي نتيجة تحريمه. لماذا؟ لأجل صناعة تاريخ الاستغلال والدم والخضوع والسيادة والعبودية. أي وجود عقيم.
ابتسم وقال:
ـ نعم. لأجل صناعة الجن والاشباح وعذاب القبر والهلوسات والمخاوف. الانسان يكره ان يكون سعيدا مثلما قال فرويد. يكره ان يعيش الأشياء بمثل ما هي عليه.
ـ أي قصة محزنة ابتدأت مع ذكر قوي استحوذ على الجميلات وشرع تملكه لهن بتحريمهن على الضعفاء. الأدهى من ذلك ان يصدق الضعفاء ان لا يحق لهم ذلك. الحقيقة انهم يريدون ان يصدقوا ذاك التحريم لأنهم يخافون مواجهة الأقوياء، ثم أصبحوا يخافون مواجهة أنفسهم في كونهم جبناء فصدقوا أنهم آمنوا بتـشريعات أخلاقية منزلة من السماء او من روح الأجداد.. اننا نعيش هذه المهزلة الى اليوم. الأثرياء لا يحاسبون على اباحيتهم الجنسية بينما الفقراء يحاسب بعضهم بعضا وبعنف.. كم هم تُعساء..
ـ اذن، فلا مساواة فعلية بالقمع الجنسي..
ـ انها قصة الحضارة.. قصة القمع. القصة القائمة على الأمل في الفردوس.. الفردوس هو الحالة الأولى من المساواة والحياة الحرة. ذاك الفردوس المفقود هو الروح المحايث لتاريخ القمع والمأمول في المستقبل المطلق، وما هو الا رغبة في العود الابدي الى البداية..هه.. الى الجنة التي أطرد منها آدم لخطيئته.. ما هي خطيئته؟ هي قابيل وهابيل.. قاتل ومقتول. خائف تجاه مجرم. عبد تجاه سيد. قن تجاه نبيل. عامل تجاه راسمالي. والآن كادحون ضد سماسرة..
ـ العمل الوحيد الجدير بمرتبة الشرف الإنساني هو الصادر عن الرغبة والشغف. الشغف حرية للذات عميقة وانفتاحها الفردوسي على العالم. الشغف ايروس متحقق متجاور مع تحقـقه الجنسي..
لأجل ذلك ضحكت غادة حين قلت لها:
ـ يبدو ان كتابة الرواية يلزمها الكبت الجنسي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير