الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضارات المهيمنة، مقدّساتها ومدنّساتها المهيمنة!

سليم مطر

2019 / 2 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الحضارات المهيمنة، مقدّساتها ومدنّساتها المهيمنة!
في السنوات العشرين الاخيرة، ساد في اوربا مفهوم مختلف لمعنى(المقدس)، وما يخالفه اي(المدنّس). فلم يعد هذا المفهوم حكرا على (المتدينين)، بل تم الادراك بأن أي انسان او مجتمع، مهما كانت عقيدته دينية او الحادية، لا يمكنه ان يستمر بالوجود الا بفضل قناعات، واعية او غير واعية، بمقدسات(او ثوابت ومبادئ وقيم) من المستحيل أو من الصعب عليه مخالفتها. ففي المجتمعات الغربية الحديثة هناك مقدسات: (الوطن، الدولة، الحرية، العلمانية، الديمقراطية، الخ..). فها هو النشيد الوطني الفرنسي يقول(: الحب المقدس للوطن، يدعم أسلحتنا الانتقامية!)
هذه بعض من مقولات المفكرين حول الموضوع:
ـ ان الكيان الأكثر قدسية في المجتمعات الحديثة هو (الدولة)، وأن (الدكتاتوريات) ليست سوى التعبير الأكثر تطرفا في هذا التقديس! (يونغ C. G. Jung عالم نفس سويسري)
ـ في المجتمعات "المتطورة"، يتم الكشف عن ( نزعة التقديس) أساسا من خلال (الاحتفالات) و(الحروب). إذ يتحكم بهاتين الظاهرتين المبادئ نفسها: تجاوز القواعد ، وإلغاء المحظورات، وتركيز الطاقة للتعبير عن وحدة المجتمع.
(الفرنسي (روجر كاويوا Roger Caillois) أول من أجرى دراسة مقارنة بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الحديثة).
ـ أن (الدولة والتقنيات) هي من اكبر (مقدسات) العصر. لكن عدم وعي هذا (التقديس)، هو مصدر (إغتراب)
ـ ليست (التقنية) هي التي تستعبدنا، ولكنه (التقديس) غير الواعي الذي اضفيناه على (التقنية).
ـ إنها ليست (الدولة) التي تستعبدنا ، بل هي (تجلياتها التقديسية).
(جاك ايلول Jacques Ellul ـ مفكر فرنسي)

المقدسات الكبرى في الحضارات الكبرى!
طيلة تاريخ البشرية، إمتلكت الحضارات الصاعدة، عاملين اساسيين يبرر ويساعد على توسعها وهيمنتها الحضارية والعسكرية وتكوين امبراطورياتها :
أولا، امتلالكها (عقيدة جديدة ومقدسات كبرى): مثل (عقيدة السلام والتحضر) لدى الحضارات القديمة: المصرية والعراقية واليونانية والرومانية.. الخ. ثم (العقيدة الدينية الالهية) لدى حضارات: الدول المسيحية الرومانية والبيزنطية. كذلك الدول الاسلامية: عربية اموية وعباسية واندلسية، وهندية، وعثمانية.. الخ). اخيرا ومنذ عدة قرون سادت(عقيدة الليبرالية الديمقراطية)، التي تعتمد عليها الحضارة الغربية(اوربا الغربية وامريكا) لتبرير ونشر هيمنتها وامبراطورياتها الاستعمارية. (ملاحظة: التجربة الروسية السوفيتية السابقة، بررت امبراطوريتها بالعقيدة الشيوعية وتحقيق المساوات المطلقة).
ثانيا، (الايمان المطلق بالتفوق وإمتلاك الحقيقة المقدسة): ان هذه الحضارات الصاعدة يجب ان تعتمد على قناعات كاملة لا تقبل الجدل: (نحن متفوقون) على باقي الشعوب التي (تجهل عقيدتنا وحضارتنا)، لهذا يتوجب علينا مساعدتها(بالسلام والحرب) من اجل إكتشاف(طريق الخلاص) الذي إكتشفناه نحن. لهذا فأن جميع الحضارات، بررت اخلاقيا ودينيا، ثم علميا حداثيا، حروبها(المقدسة) لتكوين امبراطوريتها الكبرى التي غايتها: نشر(عقيدة السلام والتحضر)، او (الحق الالهي)، واخيرا (التقدم والديمقراطية والحداثة الغربية)!
المقدّس المدنّس في الحضارة الغربية!
من اهم مميزات(المقدسات الكبرى) قدرتها على تغطية جميع الافعال مهما كانت شنيعة ولا إنسانية، مادامت هي في خدمة هذه(المقدّسات). أي أن (المدنّس) يتم معرفته بمدى إنسجامه ومخالفته لتلك (المقدّسات الكبرى). وهذا واضح في جميع الحضارات الكبرى، التي بررت الكثير من الافعال المنافية للأنسانية بأسم الدفاع عن (العقيدة المقدسة) ونشرها بين الجماعات والشعوب (الجاهلة أو الكافرة، أو المتخلفة)!
لا نريد العودة التي تاريخ الحضارة الغربية، التي بأسم(مقدسات التقدم والعلم والديمقراطية والحداثة) شنت حروبها الاستعمارية التي أبادت بها شعوبا بأكملها وإستعبدت عشرات الملايين من الافارقة. بل هي حتى الآن لا زالت تبرر اشنع جرائم التاريخ، الحربية العالميتين الاولى والثانية، بأعتبارها حروبا دفاعية(ضد اعداء الديمقراطية!؟)، قّتل فيها حوالي 100 مليون اوربي على أيادي اوربيين!
لنبقى في الوقت الحاضر، ونعطي هذه الامثلة البسيطة والقريبة، عن ديمومة هذه (العقيدة وشعاراتها المقدسة والشكلانية) وكيف انها لا زالت، وفي كل لحظة، تمارس دورا سحريا بتعمية ضمائر اشد الناس ملائكية ودفاعا عن المستضعفين:
ـ قبل اكثرمن عام حدثت في فرنسا ضجة كبيرة في جميع الاوساط لمحاكمة الرئيس السابق (ساركوزي) بتهمة استلامه قبل اعوام رشوة من (القذافي) لدعم حملته الانتخابية.
لكن الغريب والعجيب، ان لا احد من اليمين واليسار والمثقفين ورجال الفلسفة والاخلاق والدين، طرح السؤال التالي: انتم تحاكمون هذا الرئيس لأنه قبض رشوة. ولكنكم تسكتون تماما عن جريمة ضد الانسانية اكبر بملايين المرّات ارتكبها بحق شعب ووطن، عندما ارسل رأيسكم هذا، اساطيل (فرنسا) لشن حرب على (ليبيا) وتركها للدمار حتى الآن؟! بل هذه الجريمة ضد افريقيا بكاملها التي كانت تستفيد من ثروات ليبيا.
لكنهم لا يعتبرون كل هذا(جريمة) لأنها تمت بـ (موافقة البرلمان) واحترام (قدسية الديمقراطية)!!؟؟
ـ نفس الحال بالضبط، عندما قام الجيش الامريكي بأجتياح العراق وتدمير دولته وشعبه ونشر الفساد والارهاب والخراب حتى الآن. كل هذا لم يحرك كثيرا ضمائرهم، لأن جيوشهم ما تحركت إلا ضمن (قرارات برلمانية)! لهذا، فجأة ثارت ثائرتهم لمرأى صورة أحد معتقلي سجن (ابو غريب)، لأن هذا (مخالف لديمقراطيتهم) في معاملة السجناء!!؟؟
ـ نفس الحال عندما يسكتون ويشجعون سياسة إسرائيل بأذلال وقتل وحصار ملايين الفلسطينيين، مادام كل هذا يحترم (قدسية الديمقراطية) وقرارات البرلمان!! ولهذا فأنهم سرعان ما يصفقون لـ(إنسانية وديمقراطية إسرائيل) عندما تحاكم جندي قد صفع فلسطيني! او وزير اختلس بضعة دولارات!
وهذا المواقف والممارسات الغير إنسانية، ليست فقط في المجال السياسي، بل هي سائدة ويومية في المجتمعات الغربية وتقبلها بكل (حُسن نية وبراءة وطيبة إنسانية)، مادمت ضمن(قدسية الحضارة الغربية)، وهذه أمثلة بسيطة:
ـ قبل سنوات احتجت النجمة الفرنسية السابقة (بريجت باردو) ضد المسلمين واليهود لانهم يذبحون(بطريقة متخلفة) المواشي ليكون لحمها حلال. وطالبت بفرض الطريقة الاوربية (المتحضرة جدا جدا!!)، أي بقتل المواشي بضرب الرأس بالمطرقة او الصعقة الكهربائية!!!
ـ بأسم رعاية الحيوانات، فأنهم يحشرون الكلاب والقطط في شققهم الضيقة، بل يقومون بـ (أخصائها) لمنع مشاكل الانجاب!!
ـ بأسم (قدسية الحرية الشخصية) يسمحون ويشجعون(افلام الجنس) التي تحط من قيمة الانسان، وخصوصا المرأة، وتحولها الى حيوان جنسي يقبل بكل الممارسات العنيفة والشاذة للرجال!!
ـ باسم(قدسية الليبرالية الاقتصادية والملكية الخاصة)، يسمحون لحوالي 10% من المجتمع بأمتلاك 90% من ثروات المجتمع!
ـ وباسم (قدسية الوطن ومصالحه العالمية) يسمحون بصرف المليارات المليارات على الصناعات الحربية والجيوش والمخابرات وحيك المؤامرات والأستيلاء على ثروات الاوطان الضعيفة!
ـ كل هذا التباكي على (المهاجرين) الهاربين من الفقر والحروب، لا أحد يسأل: طيب وما هو دور دولنا المتحكمة بالعالم، في نشر هذا الفقر وتشجيع الحروب، من خلال بيع الأسلحة وحيك المؤامرات وشراء ذمم المسؤولين وإفسادهم كي يتنازلوا عن ثروات أوطانهم للشركات الاحتكارية العالمية.
ـ أنهم يحسدونا الى حدّ الحقد الاسود، على ثرواتنا البترولية، لكن لا حد منهم يسأل: (( طيب، وأين يتم إستثمار وتّخزين هذه المليارات، هل في داخل اوطاننا المسكينة، ام في مصارفهم الكبرى التي تعيش على الغش والاختلاس وتمويل الحروب والمؤامرات))؟
نعم ان الحضارات الكبرى تعيش على (مقدّساتها الكبرى) التي تبرر وتغطي جميع (مُدنّساتها). بل تبلغ بها (عقدة التفوق) الى إعتبار (مقدّسات) الشعوب المستضعفة، (مدنّسات) يتوجب محاربتها بكل السبل! والاشنع من هذا انها تعمل على اقناع الشعوب المستضعفة بقبول كل هذا، من خلال اقناعها بـ(عقدة النقص) إزاء كل ما هو غربي وحداثي!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحشد قواتها .. ومخاوف من اجتياح رفح |#غرفة_الأخبار


.. تساؤلات حول ما سيحمله الدور التركي كوسيط مستجد في مفاوضات وق




.. بعد تصعيد حزب الله غير المسبوق عبر الحدود.. هل يعمد الحزب لش


.. وزير المالية الإسرائيلي: أتمنى العمل على تعزيز المستوطنات في




.. سائح هولندي يرصد فرس نهر يتجول بأريحية في أحد شوارع جنوب أفر