الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نداء لأهل العالم –مصائب العالم الإنساني (2)

راندا شوقى الحمامصى

2019 / 3 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يجتاحُ العالمَ في هذه الآونة *ٰ طوفانٌ جارفٌ لا مثيل له في شدتِه وقسوته , مسيرُه لا يمكنُ التنبؤُ به ، تأثيراتُه الفوريةُ كارثيةٌ ومأساوية أما نتائجُه النهائية فهي في غايةِ الجلالِ و الضياء، القوةَ التي تحركُه تزيدُ من توسعِه وسرعتِه بلا رحمةٍ والقوةُ التطهيريةُ الكامنةُ فيه تشتدُ يوما بعد يوم، وقد ابتُلِي العالمُ الإنساني الأسيرُ في قبضةِ قدرتِه المخربة بمظاهرِ قهره التي لا تُقَاوَم. إنه لا يُدرِكُ مبدأه ومنشأه ولا علمَ له بنتائجِه لذلك يراقبُ هذا الصرصرَ العاتي وهو يغزو أكثرَ بقاعِ الكرةِ الأرضية عمرانا بذهولٍ وحيرة لقد زلزلَ هذا الطوفان بنيانَ هذه البسيطةِ فأربكَ توازنها , وشتتَ مللَها وبدّدَ ممتلكاتِ أهلِها وخرّبَ مدنَها ، أجبرَ ملوكَها على الجلاءِ عن أوطانِهم، هَدَمَ قلاعَها المحصنةَ وقلبَ مؤسساتِها رأساً على عقب وقد أخمد نورَها و جرحَ روحَ سكانِها وعذَّبَها.....

هذه المظاهرُ العنيفةُ لهذا الانقلابِ العظيم لا يدركُـه إلا أولئـك الذين آمنوا بديانــةِ حضرة بهاء الله وحضرة الباب، هؤلاء هم الذين يعرفون جيدا من أين يأتي ذلك الطوفان و إلى أين ينتهي. وعلى الرغم من أنهم يجهلون مداه وحجمه فإنهم يعلمون بوضوحٍ تام مبدأه ومنتهاه ويعرفون مسيرَه ويعترفون بضرورتِه, يراقبون تطوراتِ عملياتِه الغامضةِ باعتمادٍ كامل ويدعُون بحرارةٍ ساعين للتخفيفِ من شدته منتظرين في تسكين غضبِه ببصيرة وذكاء ويترقبون برؤيتِهم النورانيةِ الذكيةِ النتائجَ النهائيةَ للخوفِ والأملِ الذي يجبُ أن ينشأ ويحدُثَ بالضرورة من جراء ذلك الإنقلاب العظيم.

هذا القرارُ والحكمُ الإلهي ـــ كما يراه أولئك الذين يقرّون بأن بياناتِ حضرة بهاء الله هي من عندِ الله وأنه أعظمُ مظهر الهي على بسيطِ الغبراء ــ هو في حد ذاتِه فاجعةُ وكارثةٌ عقابية وجزائية وفي الوقت نفسِه تأديبٌ قدسي وسام، إنه عذابٌ وعقابٌ سماوي و وسيلةٌ لتطهيرِ العالم الإنساني، ولهيبُه المشتعلُ يعاقِبُ ضلالَ الجنسِ البشري وانحرافَه ويُصْهِرُ أجزاءَه ليخلِقَ مجتمعاً عالمياً نابضاً بالحياةِ لا يقبلُ التجزئة.....

من جانبٍ آخر يُنذِر حضرةُ بهاء الله بقوله الجليل :

" أن ارتقبوا يا قومُ أيامَ العدلِ وإنها أتتْ بالحق "
" دعوا ما عندَكم وخذوا ما أتى به اللهُ مالكُ الرقاب. اعلموا علمَ اليقين بأنكم إن لم تعودوا عما ارتكبتموه من أعمالِ سوف يحيطكم العذابُ الأليم من جميعِ الجهات ذلك الذي لم تروا له نظيراً " ( ترجمة)

" إنا قد جعلنا ميقاتاً لكم فإذا تمّت الميقاتُ وما أقبلتم إلى الله ليأخذنَّكم عن كلِّ الجهات ويرسلُ عليكم نفحاتِ العذاب عن كلِّ الأشطار"

يتنبأُ حضرة بهاء الله من ناحيةٍ أخرى مستقبلاً مشرقاً ومضيئاً لعالمٍ محاطٍ بالظلام فيتفضل حضرتُه مؤكداً بما مضمونه :

" يُرى العالمُ حبلى ومن السابق لأوانِه أن نرى الأثمارَ المنيعةَ والأشجارَ الباسقةَ والأورادَ المحبوبة والنعماء الجنية " (ترجمة)

" سوف تضعُ كلُّ ذي حملٍ حملَها تبارك اللهُ مرسِلُ هذا الفضلَ الذي أحاطَ الأشياءَ كلَّها عما ظهرَ وعمّا هو المكنون "

وفي التنبؤ عن العصرِ الذهبي للعالمِ الإنساني يتفضل :

"هذه المظالمُ أصابَتْ العالمَ لتهيّئَه لمجيء العدلِ الإلهي الأعظم." 4

هذا العدلُ الأعظمُ هو حقا العدلُ الذي سوف يستقرُ في نهايةِ المطافِ على أساسِه الصلحُ الأعظمُ , وهذا الصلحُ بدورِه سوف يُعلِنُ ويُبَشِّرُ بظهورِ المدنيةِ العالمية، مدنيةٌ منسوبةٌ إلى الاسمِ الأعظم وهو حضرة بهاء الله .

لقد مضى من ظهورِ حضرة بهاء الله مائةُ سنةٍ تقريباً، ظهورٌ شهد له حضرتُه بالتالي:

" لم يُدرِكْ أحدٌ من المظاهرُ المقدسةُ (الرسل) السابقين كيفيةَ هذا الظهورِ بتمامِه إلا على قدرٍ مقدور" (ترجمة)

أمهلَ اللهُ البشريةَ قرناً كاملاً لكي يعرفوا المظهرَ الإلهي لهذا الظهورِ العظيم ويعتنقوا أمرَه ويُعلنوا عظمتَه ويقوموا باستحكامِ دعائمِ نظمِه.

أعلن حضرة بهاء الله حاملُ هذه الرسالةِ السماوية رسالتَه بطريقةٍ لم يَعْلِنْ بها أيٌ من الأنبياءِ السابقين دعوتَهم وذلك ضمنَ مائةِ مجلدٍ من الكتبِ التي هي ثروة للمبادئ والأحكامِ النفيسةِ والقوانينِ الرفيعةِ المستوى والأصولِ الفريدةِ والنصائحِ المؤثرةِ والإنذاراتِ المكررة والنبوءاتِ المثيرةِ للدهشةِ والأدعيةِ الساميةِ الجليلة الباعثةِ على الانجذاب الروحي والتفاسيرِ الجامعةِ المتينة. خاطب حضرتُه في مدةٍ تقاربُ الخمسين عاما وتحت ظروفٍ وأوضاعٍ محزنةٍ ومؤلمة أصحابَ الإمبراطورياتِ والملوكَ والسلاطين والأمراءَ والزعماءَ والدولَ ورؤساءَ الأديانِ والناسَ عامةً في شرقِ العالم وغربِه من مسيحيين و يهود ومسلمين وزردشت بهذه اللئالئ القيمةِ والدررِ الثمينةِ من العلومِ والمعارف والحِكَمِ التي تكمن في بحرِ بياناتِه الفريدةِ الجليلة. تخلى حضرة بهاء الله المظهرُ الإلهي على هذه البسيطة عن كلِّ اسمٍ وشهرةٍ وثروة ، رضي بالحبسِ والنفي ، تحمل الطعنَ و الإهانةَ وأذعنَ للتعذيبِ الجسماني والحرمانِ القاسي والظالم ، عانى النفي والإبعاد من ديارٍ إلى ديار ومن بلدٍ إلى بلد .... وقد شهِد بقلمه على ذلك :

"إننا لم نقصِّر في نصحنا للخلق وبلّغنا ما أمرَنا الله به سبحانه وتعالى ، لو استمعَ الخلقُ بأُذنِ القبول لشاهدوا العالمَ عالماً آخر"(ترجمة)

وفي مقام آخر يتفضل :

" هل بقى لأحدِ في هذا الظهور من عذرٍ لا وربِّ العرشِ العظيم قد أحاطت الآياتُ كلَّ الجهات و القدرةُ كلَّ البريةِ ولكنَّ الناسَ في رقدٍ عجيب"

يجب أن نسألَ أنفسَنا كيف جازت البشريةُ، والتي هي غايةُ تلك العنايةِ الإلهية، ذلك الذي فدى نفسُه من أجلِها ؟ ما هو أسلوب الترحيبِ الذي قابلته به؟ وما هي الاستجابةُ التي أثارتْها دعوتُه ؟ استُقبِلَ هذا الأمرُ وهذا النورُ الإلهي المولودُ في موطنِه بتذمرٍ غاضب وفريدٍ من نوعه في تاريخِ شيعةِ الإسلام....لقد أشعلَ الاضطهادُ والظلمُ شجاعةً وبسالةً لا نظيرَ لهما ــ حسب ما بيّنه لورد كرزن الراحل وهو من الشخصياتِ البارزة ــ فأودى بحياةَ زهاءَ عشرين ألفاً من أتباعِ هذا الأمرِ الجديد في مدةٍ وجيزةٍ لأنهم رفضوا أن يقايضوا إيمانَهم الحـديثَ العهدِ بالعـزةِ والازدهارِ الزائـلين وبالأمنِ والأمانِ في هذا العالمِ الفانـي .....

إن عدمَ المبالاةِ التامةِ من أصحابِ المناصب و ذوي المقاماتِ الرفيعة والضغينةَ والبغضَ الصارم الذي أبداه الروحانيون رفيعو المقام والتهكمُ والسخريةُ من قبلِ الناس الذين ظهر بينهم هذا الأمرُ العظيم والازدراءَ لهذا الدين الذي أبداه أغلبُ السلاطين والرؤساء الذين كانوا موضعَ خطابِ مؤسسِه، الاستنكارُ والإدانةُ الصريحة ، التهديداتُ الملقاة والنفي والإبعاد الذي حكم به هؤلاء الذين تجلى وانتشرَ هذا الدينُ لأول مرةٍ في البلاد التي هي تحت سيطرتِهم والتحريفُ الذي استهدفَ أصولَ دينِه وأحكامِه من قبل هؤلاء الحاسدين الحاقدين في بلادِ وأقطار وبين شعوبٍ تبعدُ من موطنِ نشأتِه وظهورِه ، كلُّ ذلك شواهدٌ على الأعمالِ التي مارسَها ذلك النسلُ الغارقُ في الأنانيةِ ، اللا مبالي بربِه والغافلُ عن الإنذارات والنبوءات والعظاتِ والنصائحِ والتحذيرات المُنزََلَةِ من رسلِه...

لنرى ماذا حدث، وما زال يحدثُ، لأهلِ العالمِ نتيجة هذا الرفضٍ التام والفاضح المهين في غضونِ القرنِ الأول البهائي وخاصةً أثناء السنينِ الأخيرةِ منه والذي كان مشحوناً بمعاناةٍ شديدة وانتهاكاتٍ واعتداءاتٍ عنيفةٍ وقاسيةٍ على دينِ حضرة بهاء الله المضطَهَد. كم من إمبراطورياتٍ انهارتْ وممالكَ دُمِرَت وسلالاتٍ انقرضت , الأمراءُ تلطخت سمعتُهم والملوكُ قُتِلوا , سُمِّموا ،اُبعِدوا وطُردوا وقُهِروا وكُسِرت شوكتُهم في ديارِهم، والقلةُ المتبقية من الأرائكِ والأسرَّةِ الملكيةِ أصبحت ترتجفُ من تداعياتِ سقوطِ رفاقِهم من الملوك...... مما لاشك فيه بأن أي متأملٍ بنزاهةٍ وإنصاف في آثارِ مسيرةِ التمردِ والجموحِ في هذا الوقت القصير نسبياً، لا يسعه إلا الاقرار بأن المئةَ سنةَ الماضية يمكن أن تُعَدْ بالنسبةِ لتدهورِ ثرواتِ الملوك وسلطانهم واحدةً من أكثرِ أدوارِ التاريخ البشري كارثيةً ومأساويةً.

إن التدهورَ والانحطاطَ الذي حلَّ بثرواتِ أصحاب التيجان ذوي النفوذ والسلطةِ الزائلةِ لم يكن أقلَ من عاقبةِ الانحطاط المروِّع في ممارسةِ الزعماءِ الروحانيين لنفوذِهم في العالم, فالوقائعُ الهائلةُ والتي أسفرتْ عن فَناءِ الكثير من الممالكِ والإمبراطورياتِ كانت متزامنةً مع انهيارِ القلاعِ المستحكمة للمؤسساتِ الدينية المتعصبةِ. إن ذلك السيلَ الصارمَ الذي قررَ هلاكَ الملوكِ والأباطرة بصورةٍ مأساوية وعلى وجهِ السرعةِ, وأطاحَ بسلالاتِهم الحاكمة كان سببا في ابتلاءِ رؤساء الأديان أي زعماءِ كلٍّ من المسيحيةِ والإسلام فانتُقصِت هيبتُهم, وفي بعضِ الحالات أُطيح بمؤسساتِهم الرفيعةِ وسُلِبَت العزةُ من طائفتين هما الأمراءُ والعلماء وأظلمَ مجدُ الملوك وذهبت قدرةُ علماء الدين.

لقد أصبح تضامنُ بعضِ المؤسساتِ الدينيةِ متزعزعاً على نحوٍ يتعذر تغييرُه, وغدا ذلك واضحاً وجلياً بحيث لا يسع لأي مراقبٍ ذكي أن يتجاهلَه أو يُخطِئَ فهمَه والصدعُ الذي نشأ بين الأصوليين والمطالبين بحريةِ الأديان ازدادَ اتساعاً مما أدى إلى ضعفِ عقائدِهم ومبادئِهم وفي حالاتٍ معينة أُهمِلت تلك الأصولُ أو تُرِكتْ ونُبِذتْ. وهنت قبضة المؤسساتِ الدينية على سلوكِ وتصرفات الأفرادِ وتضاءل عددُ الروحانيين وخفَّ نفوذُهم فيها، وفي العديدِ من الحالاتِ افتُضِحَ جبنُ الشيوخِ والوعّاظ ونفاقُهم ورياؤهم. توارتْ واختفتْ أوقافُهم في اغلبِ الدولِ وانحطَّت قوةُ تدريبِهم وتأهيلِهم الديني وهُجِرَتْ بعضُ معابدِهم والبعضُ الآخر دُمِّر وهُدِم. لقد كان غفلتُهم عن اللهِ وتعاليمِه وعدمُ علمِهم بالمقصدِ الإلهي وغايتِه سبباً في ضعفِهم فانهالَ عليهم الذلُ والهوان.

إن التدنّي في عالمِ الأخلاق كما هو واضحٌ وجلي لا يقلُ أهميةً عن الفسادِ والانحطاطِ في المؤسساتِ الدينية، وإذا أمعنا النظرَ في أقوالِ الجيل الحالي وأفعالِهم ولو بصورةٍ خاطفةٍ فإنه لا يسعُنا إلا أن نعبِّرَ عن دهشتِنا وحيرتِنا من مظاهرِ الفسادِ والانحطاطِ الأخلاقي المستشرية على المستويين الفردي والاجتماعي من كلا الجنسين الذكور والإناث.

ليس هناك أدنى شكٍ بأن ضعف سلطة الدينِ الذي هو عنوانُ القوةِ الاجتماعيةِ أعقبه ضعفُ المؤسساتِ الدينية والذي يُعَدُ المظهرَ الخارجي للدين مما كان مدعاةً لانتشارالفسادِ والشرِّ المهلك. يتفضل حضرة بهاء الله واصفاً الدين :

" إِذ هُوَ السَّبَبُ الأَعْظَمُ لِنَظْمِ الْعَالَمِ وَاطْمِئْنَانِ مَنْ فِي الإِمْكَانِ. فَإِنَّ ضَعْفَ أَرْكَانِ الدِّينِ صَارَ سَبَبَاً لِقُوَّةِ الْجُهَّالِ وَجُرْأَتِهِمْ وَجَسَارَتِهِمْ. حَقَّاً أَقُولُ إِنَّ مَا نَقَصَ مِنْ عُلُوِّ مَقَامِ الدِّينِ يَزْدَادُ مِنْ غَفْلَةِ الأَشْرَارِ وَيَؤُولُ الأَمْرُ أَخِيرَاً إِلَى الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ." 5

ويتفضل في لوح آخر:

" إِنَّ الدِّينَ هُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وَالْحِصْنُ الْمَتِينُ لِحِفْظِ أَهْلِ الْعَالَمِ وَرَاحَتِهِم إِذْ إِنَّ خَشْيَةَ اللهِ تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُم عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَوْ احْتَجَبَ سِرَاجُ الدِّينِ لَتَطَرَّقَ الْهَرْجُ وَالْمَرْجُ وَامْتَنَعَ نَيِّرُ الْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ عَنِ الإِشْرَاقِ وَشَمْسُ الأَمْنِ وَالاطْمِئْنَانِ عَنِ الأنوار. 6

يجب أن نُذعِن بأن الأفرادُ والمؤسسات قد ابتليت بهذا الوضعِ المؤسفِ على حدٍٍ سواء حيث يتفضل حضرة بهاء الله ويرثي مأزقَ البشريةِ الآثمةِ الغافلةِ بقوله العظيم:

" لاَ يُرَى فِي الْحَقِيقَةِ نَفْسَانِ مُتَّحِدَانِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً. وَمَعَ أَنَّ الْكُلَّ خُلِقُوا لِلاتِّحَادِ وَالاتِّفَاقِ تَرَى آثَارَ النِّفَاقِ مَوْجُودَةً وَمَشْهُودَةً فِي الآفَاقِ." 7

ويتفضل أيضاً في نفس اللوح:

" إِلَى مَتَى الْغَفْلَةُ إِلَى مَتَى الاعْتِسَافُ إِلَى مَتَى الْفَوْضَى وَالاخْتِلاَفُ. فِي الْوَاقِعِ تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ أَرْيَاحُ الْيَأْسِ. وَالْفَوْضَى وَالاخْتِلاَفُ فِي تَزَايُدٍ مُسْتَمِرٍّ." 8

عودةُ التعصبِ الديني ،العداءِ العنصري والغطرسةِ الوطنية ، تزايدُ الأدلةِ على حبِّ الذاتِ والأنانية ، سوءُ الظنِّ والريبة ، الخوفُ والتزويرُ والرياءُ ، انتشار الإرهاب ، والفوضى ، شربُ المسكرات والجريمة ، التوقُ الشديدِ الجامح والسعي الدؤوب لكسبِ المالِ والتهافت على الملذاتِ والغطرسةِ الدنيوية، ضعفُ أساسِ العائلة والتهاونُ في مراقبة الأطفال وانضباطِهم من قبلِ الوالدين، الانغماسُ في الترفِ والبذخِ ،عدمُ الإحساسِ بالمسئوليةِ فيما يتعلق بالزواج مما أدى إلى تصاعدِ موجةِ الطلاق ، الانحطاطُ في عالمِ الفنِ والموسيقى ، سوءُ استخدامِ الأدبِ وفسادُ الصحافةِ، ازديادُ نفوذِ المروجين للعلاقات خارج نطاق الزواج وأولئك الذين يدعون إلى العُرِّي ويعتبرون الحشمةَ والحياءَ أسطورةً خياليةً والذين ولا يقرّون بأن إنجابَ الأطفالِ هو الهدفُ الأصلي والمقدسُ من الزواج ويصفون الدينَ بأنه أفيونُ الخلقِ وإذا ما تُرِك لهم العنانَ فإنهم يسوقون البشريةَ إلى التخلفِ والهمجيةِ وإلى الفوضى والانقراضِ الحتمي. كلُّ ذلك يبدو من السماتِ البارزةِ لمجتمعٍ فاسدٍ منحطٍ ليس له مناصٌ أو ملاذٌ إلا بأن يحيى حياةً جديدةً أو يُبتلىٰ ويُصابُ بالموتِ والفَناء.
نرجو أن لا يُشتَبَه على احدٍ ما نقصدُه، أو يُساءُ فهمُ الحقيقةِ المسلّم بها، والتي هي جوهرُ دينِ حضرة بهاء الله. يعتقدُ كلُّ من يتبعَ الدينَ البهائي بغيرِ تحفظٍ بأن جميعَ أنبياءِ الله لهم منشأ ومصدرٌ إلهي..... ويؤمنُ كذلك بالوحدةِ الأصلية للرسل وبتسلسلَ ظهوراتِهم ويذعنُ للمرجعيةِ الإلهيةِ والارتبـاط ِالمتلازمِ لكتبِـهم ويعتقدُ بانَّ آمالَهم ومقاصدَهم واحدةً ويؤكدُّ على أصالةِ نفوذِهم وتكافئهم. كما يدركُ المصـالحةَ والوفـاقَ المطلـقَ بين تعاليمِهم وأتباعِهـم وفقـاً لما يشهــدُه قلمُ حضــرة بهاء الله :

" تراهم جميعًا ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواءٍ واحد، وجالسين على بساطٍ واحد، وناطقين بكلامٍ واحد، وآمرين بأمرٍ واحد."9

الديانةُ البهائيةُ المُنسوبةُ إلى حضرة بهاء الله تدحضُ أيَّ نيةٍ للتقليل من مقامِ أحدٍ من الأنبياءِ الذين سبقوه أو الحطِّ من شأن تعاليمِهم, أوالتُعتيمِ ولو بصورةٍ ضئيلةٍ على تألقِ ظهوراتِهم وإشراقِها أو إزالةِ حبِّ المظـاهرِ المقدسةِ من قلـوبِ أتباعِهم أو نسـخِ أصولَ شرائعِهم وإبطالها , أو نبِذِ أيٍّ من الكتبِ المنزلَةِ عليهم أو قمعِ الآمالَ والطموحاتِ الشرعيةِ لأتباعِ دياناتِهم. يأبى الدينُ البهائي الإدعاءَ القائلَ بان ديناً من الأديانِ هو آخِرُ الظهوراتِ الإلهيةِ لبني الإنسانِ , حيث لا يعدُُّ حضرةُ بهاء الله دينَه هو آخِر الأديانِ بل يُؤكِّدُ ويروِّجُ القاعدةَ الأساسيةَ وهي نسبيةَ الحقائقِ الدينية و تسلسلَ الظهوراتِ الإلهية والتكاملَ التدريجي للمكاشفاتِ الدينية. غايةُ حضرتِه وهدفُه هو أن يبسطَ أساسَ جميعِ الأديان ويكشفَ أسرارَ الكتبِ المقدسة. إنه يؤكِّدُ على الإقرار التامِ بوحدةِ أهدافِها ويبيِّنُ الحقائقَ الدينيةَ الخالدةَ والموجودةَ في جميعِ الرسالات , ويساوي في مرتبةِ وظائفِهم , يُميِّزُ التعاليمَ الفرعيةَ والتقليديةَ عن التعاليمِ الأساسيةِ ويفصلُ الحقائقَ المنزلةَ من عندِ الله عن الخرافاتِ لعلماءِ الدينِ ويُعلِنُ بناءً على هذا الأساسِ بل يتنبأُ بحتميةَ إتحادِ الأديانِ وتحققِ وإنجازِ آمالِهم الساميةِ الرفيعة.
ينبغي أن لا يُظَنُ للحظةٍ بانَّ أتباعَ حضرة بهاء الله يسعون إلى الحطِّ من مقامِ رؤساءِ الأديان وزعمائِه أو التقليلِ من شأنِهم سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين أو من أي طائفةٍ أخرى ممن وافقت أعمالَُهم ما توجبه عليهم متطلباتُ مهنِهم وكانوا جديرين بالمكانةِ التي يحتلونها .


ويؤكدُ حضرة بهاء الله ذلك:
" في الحقيقةِ العلماءُ الذين.... زُيِّنوا بطرازِ العلمِ والأخلاقِ هم بمثابة الرأسِ لهيكل العالم وكالبصرِ للأمم لم تزل كانت ولا تزالُ ستكون هدايةُ العبادِ بهؤلاء النفوسِ المقدسة." (ترجمة)
وفي الإشارة إلى التحولِ الذي يحدثُ في أفكارِ الناس وأخلاقِهم بسبب تأثيرِ كلِّ ظهورٍ إلهي يتفضل حضرة بهاء الله بقوله الجليل:
" المقصودُ من أي ظهورٍ هو ظهورُ التغييرِ والتبديل في أركانِ العالمِ سراً وجهراً, ظاهراً وباطناً, لأنه إذا لم تتغيرْ أمورُ الأرضِ وصفاتُ وسجايا العبادِ, سيكون ظهورُ المظاهرِ الكليةِ عبثاً ولا يُجدي نفعاً." (ترجمة)

أليس بيانُ حضرة بهاء الله هذا هو نفسه ما تفضل به السيدُ المسيح مخاطبا الحواريين:
" لا زال هناك أشياءٌ كثيرةٌ يجب أن أقولَها لكم ولكن الآن ليس لديكم القدرةُ لتحمُّلِها وحين يظهرُ روحُ الحقِ سوف يدلُّكم إلى كلِّ الحق."

كلُّ ناظرٍ منصفٍ سوف يُدركُ بسهولةٍ من منطلقِ كلامِ السيدِ المسيح عظمةَ شأنِ الدين الذي أظهره حضرة بهاء الله ويعترفُ بالأهميةِ والنفوذِ الباهر للنداءِ الذي أعلنـه..
إذا أردنا أن نكونَ أمناءَ وأوفياء للحقائقِ والمعاني العاليةِ لأمرِ حضرة بهاء الله فإنه يجب أن يُحتَرَمَ ويُجَلّ الدينُ البهائي بصفتِه الرتبةِ الأعلى لكورٍ عظيم ومرحلةٍ أخيرةٍ في سلسلةٍ متتابعةٍ من الظهوراتِ تعاقبتْ حسبَ استعدادِ وتكاملِ البشريةِ كلٌّ منها تلو الآخر. هذه الظهوراتُ التي بدأتْ من آدم وانتهتْ بحضرة الباب قد مهَّدَتْ الطريقَ وبشَّرتْ بمنتهى التأكيد بمجيء يومِ الأيام والذي سوف يظهرُ فيه موعودُ كلِّ العصور....
إن عظمةَ القوى الذاتيةِ المكنونةِ للأمرِ البهائي ــ والتي ليس لها نظيرٌ أو مثيلٌ في التاريخِ الروحاني للبشريةِ والتي تُعَدُ تتويجاً وذروةً لدورةِ الأديانِ في العالمِ وهي قد مُنِحتْ و وُهِبَت ( للبشرية) ــ تُذهِل وتُدهِشُ تصوراتِنا. إن إشراقةَ الألفيةَ ذات المجدِ والجلال والتي يجب أن تُفيضَ بلمعانِها في الوقتِ المناسبِ تُبهِرُ الأبصارَ وإن الظلَ الممدودَ لشارعِه الجليل والذي قد قُدِّر له بأن يلقي بظلالِه على الرسلِ من بعدِه يتعدى تقديرَنا .
لقد أثارتْ عمليةُ المسيرةِ الغامضةِ التي أحدثتْها الروحُ المبدعةُ والخلاقةُ لهذا الأمرِ المباركِ في أقلِ من قرن تحولاً واضطراباً في المجتمعِ البشري حيث لا يمكنُ للعقلِ الإنساني أن يدركَ كنهَه. وعلى الرغم من أن الدينَ البهائي في مراحلِه الأوليةِ يمرُّ بدورةَ فتورِه ورشدِه التدريجي ولكن في نفسِ الوقت عن طريقِ التبلورِ والظهورِ التدريجي لنظمِه البديع قد أوجد هيجاناً وتحولاً في الحياةِ البشريةِ العامةِ قُدِّر له أن يزعزعَ أساسَ المجتمعِ الحالي المتشنجِ والمصابِ بالفوضى والتشويش فيُطهِّرَ حياتَه ويبني مؤسساتِه من جديد ويوجهَه توجيها جديداً و يصوِّغَ الشكلَ النهائي لمصيرِه المحتوم .
إلى أي شيءٍ آخر يمكنُ للعين المراقِبة واليقِظة أو للرأي والفكرِ المنصفِ والخالي من أي تعصــبٍ والمطَّلِع على البشـاراتِ والعلامـاتِ التي تبشــرُ بولادةِ أمـر حضـرة بهاء الله والتي تُلازمُ طلوعَه وارتفاعَه أن تُنسَبَ وتعزو هذه الاضطراباتِ والانقلاباتِ العالميةَ الرهيبة مع ما يرافقها من دمارٍ وبؤسٍ وخوف إن لم يكن لبزوغِ وإشراق نظمِ حضرة بهاء الله العالمي في مرحلةِ تكوينِه والذي تفضل في شانه بقوله الجليل:
" قد اضطربَ النظمُ من هذا النظمِ الأعظم واختلفَ الترتيبُ بهذا البديع."10

إلى أي قوةٍ يمكنُ أن يُنسَبَ منشأُ وأصولُ هذه الأزمةِ المُنذِرةِ ، الهائلةِ ،الغامضةِ والمبهَمَةِ وعلى نحو لا يمكنُ إنكارُها ولم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخِ الجنسِ البشري إن لم تكنْ من تأثيرات الروحِ القويةِ التي لا تٌقاوَم وهي التي تهزَ العالمَ وترجفُه وتزودُه بالطاقة وتُنجيه وقد أقرها وأكدها حضرةُ الباب وذكر بأنها "نبّاضةً في حقائقِ جميعِ الكائنات" ؟
إن التشنجاتِ في المجتمعِ العالمي المعاصر والهيجان في الأفكارِ البشريةِ المحمومةِ ولهيبَ المنازعاتِ العرقيةِ والدينية والطبقيةِ العنيفةِ المشتعلةِ وضياعَ المللِ وخيبتِهم وتدهورَ وسقوطَ الملوكِ وتجزئةَ الإمبراطورياتِ وانقراضَ الأسرِ الحاكمةِ وانهيارَ المقاماتِ الدينية وانحطاطَ المؤسساتِ العتيقةِ وتفككَ الروابطِ العلمانيةِ فضلاٍ عن الدينيةِ التي احتوت وشملَت أهلَ العالمِ في طي القرون والعصور قد ظهرَتْ وتجلَّتْ بخطورةٍ متزايدةٍ منذ اندلاعِ الحربِ العالمية الأولى والتي سبقت مباشرةً سنواتَ افتتاحِ العصرِ التكويني لرسالةِ حضرة بهاء الله , وهي شواهدٌ يمكننا أن نُدرِكَ بسهولةٍ منها الأدلةَ على عنـاءِ عصـرٍ قـارن ظهــورَ أمـرِ حضـرة بهاء الله , عصرٍ تجاهلَ نداءَه ورفضَه والآن وقد بلغَ مرحلةَ آلامِ المخاضِ آن الأوانُ لكي يضعَ حملَه كنتيجةٍ مباشرةٍ للحافزِ والدافعِ من تأثيرِ روحِ أمرِ حضرة بهاء الله الخلاقـةِ الصافيةِ النقيةِ والقادرةِ على التغيير.
على الرغم من أن المشهدَ الذي أمامَ أعيننِا اليوم هو منظرُ عالمٍ وقع في شَرَكِ ( فخِّ) نفسِه يائساً غافلا عن النداءِ السماوي الذي دعاه اللهُ إليه منذ مائةَ عامٍ وهو متذللٌ وصاغرٌ ببؤسٍ شديد لأصواتِ صفيرِ الخطرِ التي تحاولُ أن تغويَه وتستدرجَه إلى هاويةٍ متراميةِ الأطراف فإن اللهَ سبحانه وتعالى يُنجِزُ ويُكمِلُ أهدافَه وخططَه الساميةَ بالتدريج وبصورةٍ خفيةٍ وبدون مقاومةٍ.

غايةُ الله وهدفُه ليس إلاّ أن يبشرَ البشريةَ المنقسمةَ والتي تعاني منذ فترةٍ طويلةٍ باقترابِ عصرٍ عظيمٍ وذهبي ، بطريقةٍ هو وحدُه سبحانه وتعالى يستطيعُ أن يحققَه وهو وحده الذي يعرفُ مدى أهميتِه. وضعُ العالمَ الراهِنَ بل وحتى المستقبلَ القريب مظلمٌ ظلاماً فاجعاً ومؤلماً ولكن مستقبلَه البعيدِ مشرقٌ ومنير ومتألقٌ جداً إلى حدٍّ لا يمكنُ لعينٍ أن تتصورَه أو تتخيلَه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 22222222222222


.. VODCAST الميادين | مع وئام وهاب - رئيس حزب التوحيد العربي |




.. 12345


.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #