الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات في مفهوم الحرية

رياض الدبس

2019 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قراءات في مفهوم الحرية (دراسة)

المحتويات
1) مقدمة......................................................................................... 2
2) تطور المفهوم................................................................................ 4
3) الحرية في فكر جون ستيوات ميل.....................................................4
4) مفهوم الحرية في الإسلام.................................................................6
5) الحرية من منظور النهضة والتنوير الأروبيين.................................... 8
6) مفهوم الحرية من منظور النهضة العربية ....................................... 9
7) أنظمة الاستبداد والحرية في الدول العربية في القرن العشرين..........10
8) مفهوم الحرية في طروحات عبداللة العروي....................................11
9) الحرية والربيع العربي.................................................................. 13
10) التكنولوجيا وقيود الحرية الحديثة............................................ 16
11) المراجع.................................................................................... 18






1) مقدمة
أميل بداية الى التمييز المنهجي بين المفهوم والتعريف، فالتعريف يتضمن تحديداً لا يقبله المفهوم، وكثيراً ما يتم الدمج أو الخلط بينهما، على المستويين الفكري والمنهجي. والحرية وفق هذا المعني هي مفهوم، ليس فيها أي تحديد يحمل نفيًا، بل هي مقاربات متعددة من من أكثر من زاوية وعلى أكثر من مستوى.
يكون المفهوم أكثر شمولاً واتساعاً من التعريف، الذي يُعتبر أكثرَ دقة ووضوحاً في تحديد المُعرف، ولذلك يكون مجال المفهوم أوسع من التعريف الذي يحدده النفي الذي يتضمنه ويدل عليه.
ولكي نبدأ الحديث عن مفهوم الحرية، نلاحظ أن تناوله لا يستقيم إلا في نسقه، وهو مختلف عن شعار الحرية الذي تقدم على باقي شعارات الربيع العربي، فهذا الأخير ليس إلا تعبيرٌ عن حاجة هذه المجتمعات إلى الحرية.
وقبل الحديث في الحرية ومن ثم بالضرورة عن الديمقراطية، يجب الاعتراف بإنسانية الإنسان، لإزالة الحصار المفروض عليه مادياً وعقلياً، والمتمثل بثلاثية الاستبداد، والأصوليات، والعصبيات.
ينتمي مفهوم الحرية إلى نسق مفاهيمي مترابط ومتكامل (الدولة، المجتمع المدني، الديمقراطية، الشعب....وإلى آخر هذه المفاهيم التي تشكل بمجملها النسق المفاهيمي للحداثة) ويستند الى جملة مقارنه محوريها الزمان والمكان. ويمكن توصيف مجالات بحث الحريه بوصفها مفهوم فلسفي ضمن مسارين أساسيين الأول: هو علاقة الإنسان بالإنسان، أو العلاقة بين البشر. والثاني: هو علاقة الإنسان والمجموعات البشرية بالطبيعة.
وتبدأ الحرية من الحريات الطبيعية الفردية للإنسان (طعام، شراب، لباس، تنقلات، رأي...) وصولًا إلى الحريات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية التي ينظمها عقد اجتماعي.
والحرية ضد الإكراه والإملاء والقسر. لا يندرج الخضوع إلى القوانين في هذه الخانة لأن الأفراد تنازلوا طوعاً عن جزءٍ من حرياتهم الفردية لمصلحة الحريات العامة.
يمكن إجراء مقاربة للمفهوم من خلال نقيضه الذي يتجلى في السلوك الفردي أو الجماعي أو السلطوي. فالحرية نقيض الاستبداد ونقيض العبودية بكافة أشكالها القديمة والمحدثة. "وهي ترتبط بالعلمانية بجانبها الأخلاقي المتمثل برفع الوصاية على عقول الناس". إذاً تتناسب الحرية عكساً مع الاستبداد، وتسير بالتوازي مع القانون، ولا يمكن أن يكون الفرد حراً إلا إذا كان مستنيرا. والاستخدام المعلن للعقل هو وحده الذي ينشر التنوير بين البشر، فالحر يعيش بتوافق وتوجيه كامل من العقل. وهذا ما كان يعكسه شعار عصر التنوير الذي كان مختصراً ومعبرا": "تشجع واستخدم عقلك".
وفي هذا السياق تستوقفني عبارة لمحمد الماغوط "الخوف إنه الشيء الوحيد الذي أمتلك احتياطي منه أكثر من احتياطي النفط في فينزويلا والسعودية". لا حرية مع الخوف، لأنه يهدر امكانات الإنسان وطاقاته وفكره... لا حرية من دون امتلاك إمكانية الاختيار، والقدرة على تنفيذ هذا الاختيار، لا حرية من دون معرفة واعية، لأن فاقد الوعي والمعرفة عبد لجهله. وهذه هي شروط الحرية الثلاثة كما يقاربها سبينوزا.
المجتمع المدني هو مجال الحريات، وميدان التوافق والاختلاف، وممارسة النشاطات في كافة المجالات. وفي الدولة الوطنية الحديثة، دولة الجميع الذين يتساوون في الحقوق والواجبات، تطلق حرية الفرد في إطار المجتمع المدني وتنظم الحريات الموضوعية من خلال سيادة القانون وتطبيقه على الجميع، فالوطن الحر لا يُبنى إلا بمواطنين أحرار.
تعمل النظم الشمولية والاستبدادية والاستبداد "المحدث" في المجتمعات العربية بهدف اختزال الوطن في كيانها الخاص. فالحريات الفردية والجماعية مقيدة في ظل علاقات ما دون وطنيه أو ما فوق وطنيه ، بالإضافة إلى الجهل والفقر والتجهيل. فالعبودية محدثة والاستبداد محدث والفقر والجهل والخوف والهدر معمم مع الفساد.
2) تطور المفهوم:
يعتبر الاجتماع البشري الثورة الأولى في تاريخ البشرية، معه نمت أنماط جديدة من العلاقات، توافق واختلاف، تنافس وصراع، حرية وقيود. وكانت أبرز قيود الحرية في هذه المرحلة وما قبلها هي قيود طبيعية ثم عمقت الثورة الزراعية حالة الاستقرار والعمل والتنافس والصراع،ومع تشكل الامبراطوريات ونمو النشاط الزراعي والتجاري ونشوب النزاعات والحروب كان الرق والعبودية وهيمنة الأقوى، ومصادرة الحريات على المستوى الفردي والجماعي.
واكتسب المفهوم أبعاداً أخرى بعد الثورة الصناعية: حرية اقتصادية، حرية سياسية، حرية اجتماعية، حرية فكرية إلى ما هنالك. ولكن مفهوم الحرية في المجتمعات الإسلاميه والعربية كان مختلفاً عن مفهوم أوروبا الليبرالية، وأخذ معاني متعددة منها أخلاقية، قانونية، اجتماعية، صوفية إلى ما هنالك. وإن كانت جميع هذه المعاني قد تأثرت بالمفاهيم الأوروبية بشكلٍ أو بآخر وذلك بوصفها نتاج إنساني عالمي. في مرحلة النهضة العربية تقدمت الحرية كشعار، وبدأت تتشكل كمفهوم متناسبة مع تطور مفهوم الدولة.
3) جون ستيوارت ميل والحرية .(1806-١٨٧٣ )
عند تناول مفهوم الحرية لا بد من قراءة كتاب جون ميل "عن الحرية" وذلك لأنه رائد من رواد الفلسفة الليبرالية. حيث أعطى أهمية لحرية الفرد، وللتنوع، والعدالة. مستنكراً تقييدها بالعادات والرأي العام. ومهاجماً هيمنة السلطة، والتعصب الديني والتمسك باليقينيات التي أدت برأيه إلى التنازل عن المنطق، ومؤكداً على العقلانية والديمقراطية والمساواة و حرية التملك وحرية الاقتصاد. يقول ميل: " لو كانت الإنسانية كلها مجتمعة على رأي عدا فرد واحد فلا يحق لها أن تُسكت الفرد المخالف لرأيها، كما لا يحق لذلك الفرد، لو استطاع، أن يسكت الإنسانية المعارضة لرأيه" ويرى ميل "إذا اسكتنا صوتاً فربما قد نكون قد أسكتنا الحقيقة، وأن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانبه بذور الحقيقة الكامنة، وأن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص". وعند ميل الفرد حر في أفعاله ما لم يسبب ضرراً للأخرين، وصلاح المجتمع من صلاح الفكر وصلاح الفكر في المناقشة.
طور ميل مفهوم الحرية المحدود كالتحرر من العبودية الجسدية، وصولًا إلى الحرية السياسية، مؤكداً على حقوق الأفراد السياسية، والحرية الاجتماعية للحد من سلطة العادات والتقاليد. وهذا التطور أظهر الحاجة إلى تقييد سلطة الحاكم بضوابط دستوية وذلك للحد من طغيانه . ومع تصاعد المطالبة بالديمقراطية، نبّه إلى طغيان الأكثرية ليس العددية منها فقط، وإنما المجموعات الأكثر نفوذاً أيضاً، والتي يعتبر طغيانها أشد من طغيان الفرد، وكما تساءل ميل عن تطبيق الديمقراطية من دون وعي بها، مركزاً على دور الدولة في التعليم، ولذلك وضع قاعدة لضبط العلاقة بين السلطة والفرد. إذ فرق بين نوعين من الأفعال: أولها أفعال يتعدى أثرها صاحبها، ويحق هنا للمجتمع تنظيم هذه الأفعال؛ والثانية أفعال لا يتعدى أثرها الفرد نفسه، وتدخل المجتمع هنا طغيان. وهذه القاعدة وضعت الحدود الفاصلة بين الحرية الفردية والحرية الموضوعية التي تخضع للتنظيم والقانون، وبين الخصوصية والمسؤولية الاجتماعية، وبين الحقوق والواجبات مؤكداً على حيادية الدولة.
وبحسب فكر ميل يوقف الاستبداد التاريخ والتقدم، ويرى "أن القسم الأكبر من الإنسانية لا يمتلك تاريخاً لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد".


4) مفهوم الحرية في الإسلام
في مجتمع ما قبل الإسلام كان الرق والعبودية ظاهره منتشرة وتجارة رائجة، ويعزو البعض ذلك إلى طبيعة المجتمع القبلي الرعوي التجاري، والذي كان الرقيق فيه جزءاً من هذه التجارة، وعندما أتى الإسلام لم يلغ الرق، ولكنه شجَّع على تقليص هذه الظاهرة بتحسين معاملة الارقاء وعتقهم.
مفهوم الحر في الإسلام هو من ولد لأبوين أحرار أو من كان عبداً وأُعتق، وابن الأمه من رجلٍ حر هو حر، أما الإناث ( الإماء) ينطبق عليهن التصنيف السابق للرق الذكوري كذلك. ﴿والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهن، أما ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين﴾(5-6)"(سورة المؤمنون) تراجع هذا التصنيف بتأثير التغيرات الاجتاعية والقوانين الجديدة والتعاملات الدولية، ولكنه لا يزال في حالة كمون لدى شرائح إسلامويه تتحين الفرص المواتية لتظهر من جديد. وما الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) والنصرة، والقاعدة، وعشرات التسميات المماثلة إلا أمثلة على ذلك.
بقي تصنيف حر وعبد بالمعنى التقليدي مستمراً في بعض الدول العربية والاسلامية حتى الحرب االعالمية الأولى، واستمر في بعضها حتى ستينيات القرن الماضي، ولا تزال العبودية بشكلهاالمحدث منتشرة في بعض الدول العربية والاسلامية وغيرها ايضاً.
تتصدر مقولتا الخليفة عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا"، ومقولة الإمام علي في وصيته: "لا تكن غيرك وقد خلقك الله حرا" خطاب الحرية في الاسلام. وأعتقد أن المقولتين لم تخرجا عن الإطار الزماني والمكاني للمفهوم. (الحر لا يُستعبد، والحر من وُلِد حراً )، حيث المجتمع حينها ينقسم الى عبيد وأحرار، والتمايز بينهما كبير "لا يقتل حر بعبد والعبد يقتل به" ويذكر ايضاً أن الأمة كانت تُضرب اذا تحجبت!! .
لا اريد التقليل من أهمية الدعوة إلى الحرية التي جهر بها الخليفة عمر بن الخطاب، والتي ذكرها لافييه خطيب الثورة الفرنسية قائلا: "أيها الملك العربي العظيم عمر بن الخطاب، أنت الذي حققت العدالة كما هي". وإنما أردت أن اضعها في إطارها التاريخي.
كانت حرية التفكير والرأي متاحة في المجال الذي لا يمكنها ضمنه أن تتجاوز حدود النص، وإرادة الخليفة، أو الوالي، أو السلطان. وتم توظف النص توظيفاً يحقق أجندة ولي الأمر: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرِ منكم﴾(من الآية ٥٩ سورة النساء، فغابت نصوص عدم الإكراه وحرية الاعتقاد.﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾(سورة البقرة الاية ٢٥٦)،" ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاُ﴾(سورة يونس الآية9 ). وتقدمت نصوص تلزم الفرد بالخيارات المقيدة (اعتناق الإسلام، أوالجزية ، او القتل). ومن يرتد يتعرض لعقوبة الرده، ومن يخالف الشرع تلاحقه ولاية الحسبة .
إن نظام الحكم الإسلامي المسمى بالخلافة الذي أسس امبراطورية مترامية الأطراف، ضمت شعوب وقبائل عديدة، هي جزء من التاريخ العالمي وتتضمن ميزات إيجابية كما تتضمن ميزات سلبية.
اتسمت بعض فترات الخلافة بالعدل ( عمر بن الخطاب، عمر بن عبد العزيز، ونسبياً المأمون، والمعتصم بالله المهتدي بالله ...)، وبعضها الآخر بالصراعات والنزاعات والحروب من أجل الثروة والسلطة. واتسمت فترات آخرى ً بالاستبداد والظلم والفساد وكم الأفواه وإسكاتها وكانت هذه ميزة العديد من فترات حكم الخلفاء.
وبدا لنا وباختصار شديد أن خلاصة الحرية في الاسلام كانت في تطبيق الشريعة .
ومع ذلك ظهرت ثورات وحركات تمرد سياسي مثل الخوارج، والزنج؛ ودينية مثل المتصوفة، وأدبية مثل أبو نواس، المتنبي، أبو تمام، المعري؛ وظهرت مفاهيم لها علاقة بالحرية في أدبيات علم الكلام والفلسفة وكانت مرتبطة بالدين والاخلاق، وعلاقة الإنسان بالقهر، أبرزها تلك التي ترتبط بالجبر والاختيار. الجبرية ممثلة في مدرسة جهم بن صفوان، والازارقة والخلافة الأموية. هذه الأيديولوجية الجبرية وظفت النص توظيفاً سياسياً مكشوفاً لتجريد الإنسان من حرية الاختيار، وإبعاد العقل عن المقارنة والتمييز وتكريس الطاعة للحاكم، و تصوير مشيئته على أنها من مشيئة الله. وبالمقابل برز تيار معاكس يقول: أن الإنسان مخير ومسؤول عن أعماله "إنا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفورا" (سورة الإنسان الآية 3 ). تمثله مدرسة الحسن البصري والقدريون الذين قالوا بأن الإنسان مسؤول عن خياراته وأنه يصنع قدره (معبد الجهني، غيلان الدمشقي، عمر المقصود، جعد بن درهم...). وقدّم التيار التنويري للمعتزلة الذي عمل على الحرية الإنسانية بعداً سياسياً للحرية بنشر مقولة (الإنسان مخير وليس مُسير)، وبرز بينهم سجال الأحاديث التي تم وضعها عن الرسول زوراً.
5) الحرية من منظور النهضة والتنوير الأوروبيين
اتسمت العصور الوسطى في أوروبا بهيمنة الكنيسة الإقطاعية والسلطة على كل شؤون الحياة وتقييدها للحريات في كافة مجالاتها، وحربها المعلنة على المفكرين وأصحاب الرأي وانتشار محاكمها الشهيرة، وانتشار الهرطقة والخرافة والجهل والطغيان,
أن مصطلح النهضة هو مصطلح أوروبي، وهو المرحلة التي تلت القرون الوسطى والتي يختلف المؤرخون والفلاسفة في تحديد بدايتها. ويعتبر أكثرهم بدايتها من سقوط القسطنطينية عام ١٤٥٣ ميلادي. ويدل المصطلح أيضاً على التيارات الفكرية والثقافية والفنية التي بدأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر وانتشرت فيما بعد في أنحاء أوروبا. وتتلخص مبادئ عصر التنوير الأوربي بثلاثية العقلانية، والحرية، والعدل الاجتماعي والسياسي.
قُيض للنهضة والتنوير الأوروبيين مجموعة من المفكرين والعلماء الكونيين الذين ارتبطوا بقضايا المجتمع والإنسانية ابتداءً من كوبر نيكوس الذي أحدثت ثورته انقلاباً كونياً، إلى غاليو، ومارتن لوثر، وغيرهم. وصولً إلى ديكارت الذي ربط بين الحرية والارادة: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وإلى سبينوزا الذي كان يرى في الحرية وعي الضرورة، وجون ستيوارت ميل الذي أولى اهتماماً بالحرية الفردية، وجان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي وفولتير رائد التنوير، ومنظر الثورة الفرنسية (حرية وعدالة واخاء) وهكذا كانت الحرية في أوروبا نتيجة تراكم عمل فكري ونضالي شاق.

6) مفهوم الحرية من منظور النهضة العربية
"مشكلة العرب أن عصورهم الوسطى أتت بعد النهضة والتنوير فهي عندهم معكوسة لذلك هم بحاجة إلى نهضة ثانية وتنوير جديد"( آلان تورين ) .
تأثر رواد" النهضة "العربية بأفكار الحرية على طريقة مفكري أروبا ونتاجات الثورة الفرنسية، وذلك نتيجة احتكاكهم المباشر بأوروبا. ووصف جميع هؤلاء الثورة الفرنسية بأنها نقيض للظلم والاستبداد في مواجهة أنظمة الحكم السلطانية في بلدانهم.
منذ آواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ مفهوم الحرية يأخذ أبعاداً أعمق وأشمل في مجال التداول، تمثل في تجاوز الجدل بين الجبر والاختيار والعلاقة مع الله الى تقريب معنى الحرية الأوروبي وإدخاله المجال العربي الاسلامي.على اعتبار أن الإنسان هو من يصنع اختياراته، وهو من يصنع التاريخ، وأن السلطة شأن دنيوي لا ترتبط بالسماء_ بحدود عدم إغضاب المركز الديني وولي النعمة.
بذل النهضويون العرب جهداً لتقريب معنى الحرية ووضعه في التداول بحدود المتاح والممكن كلّ من موقعه. ابتداءً من الطهطاوي الذي جعل الحرية مقابل العدل والانصاف، ومحمد عبدو الذي رأى أن العدالة والحرية تتحققان بوجود مستبد عادل "إنما ينهض بالشرق المستبد العادل ". الى مصطفى عبد الرازق الذي اعتبره الأفغاني أول داعية حرية في الشرق الحديث. بينما ذهب شبلي شميل لتوجيه الملاحظات لما تفتقده السلطنة العثمانية من حريه وعلم وعدل من خلال كتابه "شكوى وامل" الذي قدمه إلى السلطان عبد الحميد. ويعد الكواكبي من أبرز الذين افردوا حيزاً واسعاً للحرية "لا شك أن االحرية أعز شيء على الناس بعد حياتهم، بفقدانها تفقد الآمال وتعطل الاعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين" (أم القرى). وبالتدقيق في تلك المرحلة نلاحظ أن الحرية هي دعوة للتحرر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، وتأخذ منحيين، المنحى الفردي المتعلق بكل ما يخص الفرد وعلاقته بالآخر، والمنحى العام الاجتماعي المتعلق بالمجتمع.
يتردد باستمرار سؤال ماذا حقق رواد النهضة؟ وهل حقاً كانت نهضة؟ أم أنها إرهاصات أو مؤشرات نهضة؟ ما أعتقدة كي نكون منصفين لا بد من تناول الحالة في زمانها ومكانها وليس الزمن الحالي، ونجد أن رواد النهضة هم رواد أبطال واجهوا قوة الأنظمة القمعية التسلطية الدينية التي مارست عليهم ما مارسته الكنيسة والسلطات في أوروبا ضد المفكرين و الرواد الأوائل.
صحيح أنهم لم يحققوا آمال الامة وطموحاتها، ولا حتى هم حققوا ما كان يصبوا إليه بعضهم، ولكنهم وضعوا أسس مرحلة جديدة لم تنضج بعد،لأن مفهوم الدولة ومن ثم مفهوم الحرية، كانا غائبين و مشوهين او متأرجحين.غياب حرية الإنسان، وضياع كرامته، وهدر انسانيته عوامل أساسية في إجهاض أي نهضة. وقد يكون ذلك دافعاً لاعتبارها ارهاصات نهضوية.
7) أنظمة الاستبداد والحرية في الدول العربية في القرن العشرين
"الوطن ليس أرضا تعيش عليها وإنما هواء حرية تتنفسه ".(مالك بن نبي).
كانت بداية القرن العشرين بداية امتزاج الأمل بالخيبة، أمل الخلاص من الحكم السلطاني العثماني الذي صحر كل مناحي الحياة وشكل كابوساً على الحريات،والخيبة المتمثلة بالمشروع التقسيمي للاستعمار الغربي الجديد فارتبط النضال من أجل الحرية في هذه البلدان بقوة بالنضال التحرري وبالمساواة والعدالة. ومن المعروف ان مرحلة الاحتلال العثماني كانت مرحلة هدر حقيقية للإنسان على كافة الصعد وبشكل خاص الحريات العامة والخاصة، والاستعمار الأوروبي الجديد وان كان مختلفا عن العثماني_إلا انه لم يأت ليطبق مبادئ الثورات والحريات المطبقة في بلاده على المستعمرات. فسورية مثلاً التي كانت من حصة فرنسا، وريثة الثورة الفرنسية، لم تطبق مبادئ الثورة فيها، مع الاعتراف أنها أدخلت مفاهيم لم تكن بلداننا تعرفها، مثل الدولة، البرلمان، الانتخابات...
إن اكبر انتهاك للحرية تحت يافطة الحرية، كانت من صناعة بعض الأنظمة التي وصلت إلى السلطة بعد الاستقلال، والتي تنتمي إلى أحزاب رفعت شعار الحرية، ومارست أشد أنواع القهر والهدر للانسان: هدر حريته وكرامته وجسده وفكره وكرست هذه السلطات هيمنة الحزب الواحد والقائد الواحد واعتمدت على قوة العسكر والأمن في توطيد مواقعها، فلا حرية سياسيه ولا اقتصاديه ولا فكريةوتوسعت السجون لاحتواء أي صوت معارض وزاد الفساد والنهب وتعزز الاستلاب والولاء والأهم تم إجهاض مشروع الدولة الوطنية الذي بدأ مع الاستعمار الكولنيالي، لتبرز الدولة السلطانية المحدثة.
وباسم الديمقراطية ومهرجانات الانتخابات والاستفتاءات يجري تنشيط التشكيلات ما قبل المدنية والطائفية، والعشائريه، وتصبح الدولة دولة السلطة؛ فتصادر الحريات الفردية والموضوعية ويبقى شعار الحرية شاهداً على غيابها. وحافزاً لنيلها باعتبارها ملكاً انسانياً لا يمكن التخلي عنة. "من يتخلى عن حريته يتخلى عن إنسانيته، والعكس من يتخلى عن إنسانيته قد تخلى عن حريته." الانظمة الشمولية لا تصادر الحريات فقط بل تفتح الأبواب للتخلف وللفساد والتبعية والتدخل الخارجي، وتفتح الطريق للدول الكبرى لتنفيذ مصالحها على حساب مصالح وحرية شعوبها.

7) الحرية في طروحات عبدالله العروي
" الحرية خارج الدولة طوبى خادعة، وإن الدولة بدون حريه ضعيفة متداعية" (العروي مفهوم الدولة)
يُعتبر العروي من أبرز المفكرين العرب الذين تناولوا المفاهيم ومنها "مفهوم الحرية"، وعبارته السابقة تعبير مختصر عن انتماء الحرية الى نسقها المفاهيمي وتبلورها فيه كبنية متكاملة، هذا اولاً، وثانياً اهتدى العروي إلى تلك العلاقة العميقة بين الدولة والحرية. وإن غياب الدولة بالمعنى الحديث يترافق مع غياب مفهوم الحرية ونظريتها. كلا المفهومين_الدولة والحرية_ نتاج الحداثة في مجتمعات ينتمي الفرد فيها إلى مجال الإنتاج. وحرية هذا الفرد السياسية والفكرية هي محور اهتمام الليبرالية الغربية، أما في مجتمعاتنا العربية الإسلامية كان هذا الاهتمام غائباً، والحرية تنمو وتتجدد في رموز منافية للدولة، إما من داخلها أو من خارجها. وتتضخم الحرية في الفكر بقدر ما تضمر في الواقع. لذلك تنشأ نظرية الحرية الحديثة بعد أن تشهد الليبرالية إخفاقات ولو نسبياً في طرف تاريخي معين. وتعني هذه النظرية تأصيل مفهوم الحرية بعد الوعي بالتناقضات الناتجة عن التطبيق.
ولا تقوم نظرية الحرية حسب العروي إلا بعد تطبيق الفكرة الليبرالية وإدراك التناقض الحاصل عند تطبيقها أي بعد فشل الليبرالية . وقسم نظرية الحرية الى ثلاثة اقسام جميعها تتمثل في الفلسفة الألمانية " الماركسية ، والوجودية، الكلامية الجديدة موضحاً مفهوم الحرية عند بعض الفلاسفة والتداخل أو التباين أو الاستقلالية فيما بينها.
وضع سبينوزا الحرية في إطار المطلق (نطاق مفهوم الله)، وتتحقق الحرية عنده بتوافق إرادة الفرد مع إرادة الله ". فيحدد الحرية الانسانية كالآتي: : إنها حقيقةثابتة يحصل عليها عقلنا بوحدته المباشرة مع الله كي تنتج عندئذ أفكارا تتماشى مع طبيعته". ويتوافق هيغل مع سبينوزا في المطلق، ولكنهما يختلفان في تعيينه؛ فالدولة هي مطلق هيغل وتحقق الحرية عنده يتم بتوافق إرادة الفرد مع إرادة الدولة. فيما لا يؤله ماركس الدولة بل يضع مكانها الطبقة العاملة، فهيالمطلق بالنسبة إليه، والحرية عنده في نهاية التاريخ بعد هيمنة الإنسان على الطبيعة، وليس في بدايته كهيغل. ويرفض كلاهما الحرية الوجدانية، فيما تبدأ الوجودية منها، بلمنها وحدها. تؤمن الوجودية "بترادف الإنسانية والحرية، الحرية هي الإنسان والإنسان هو الحرية، وليس بوسع الإنسان إلا ان يكون حراً_ كما يقول سارتر_ وإن حدود الحرية الطبيعية المجتمع والتاريخ ليست حدودا بالمعنى الدقيق، الحرية هي التي تسبق التصور".
ورأى العروي كذلك أن الكلامية الجديدة هي أشبه برد فعل على حركة قلب الإلاهيات إلى إنسانيات كما عبر عنها فيورباخ، ولذلك فإن المعادلة والتي تتمثل في الحرية هي لمسة إلهية في الإنسان، فيصبح الرب الخالق هو أصل الحرية، وتنقسم إلى ليبرالية ومحافظة.
يلاحظ العروي أن الحرية في العالم العربي ظلت مدة طويلة شعاراً في الميدان الفكري والسياسي، وامتدت هذه الحالة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية لتبدأ عملية الانتقال إلى المفهوم، أي لتبدأ عملية تنظير فلسفي للحرية.
نلاحظ من خلال ما قدمه العروي تأكيده على "جدل الحرية "الذي يكرره في كتابه "مفهوم الحرية"، وذلك الجدل المتمثل في المعادلة التالية: "الحرية توجد حيثما غابت، وتغيب حينما توجد" ونظرية الحرية ماهي الا "كشف" لذلك الجدل؛ وإن كل ما تقوله النظرية أن الحرية يجب أن تعقل ولكي تعقل يجب أن تطلق.
وفي الختام يستنتج العروي أن مفهوم الحرية لا يعبر عنه بالحرية فقط في العالم العربي، بل يشاركه فيه مفاهيم اخرى، كالتنمية، والتحرر، والأصالة، لذلك يؤدي النظر من جانب واحد إلى المفهوم إلى اختزال الحرية.
8) الحرية والربيع العربي
تقدم شعار الحرية والكرامة جميع الشعارات في التظاهرات الشعبية السلمية التي شملت دول عربية عديدة، والتي تمت مواجهتها بقسوة وعنف تفاوت مستواه بين بلدٍ وآخر. وكان الثمن باهضاً والنتائج محبطة. فالأنظمة شمولية متجذرة تملك خبرة في قمع الحريات من جهة، والفكر المتطرف الديني والأيديولوجي بألوانه المتعددة كان في حالة كمون وينتظر الظرف المواتي للتحرك من جهة أخرى. . هذا بالإضافة إلى تواجد قوي لقوى نافذة دولية وإقليمية لها مصالح وأجندات تبحث عن منفذ لتحقيقها.
وفي مقابل هذا كله "شعب " يبحث عن الحرية والعدالة والمساواة والعيش الكريم، ويريد ترجمة شعاراته إلى مفاهيم تطبق على الجميع، ومنها المشروع الوطني الديمقراطي الذي يتمثل في الدولة الوطنية الحديثة، دولة الجميع، دولة الحريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، دوله علمانية تفصل الدين عن الدولة وتضمن حرية الاعتقاد.
اصطدم هذا المشروع سابقاً بالاستعمار، وشغل الأحزاب السياسية بقضية التحرر الوطني والاجتماعي والاقتصادي، مع الارتباط الأضعف بالحريات الفردية والموضوعية. وفي ثورات الربيع العربي التي بدأت بتحرك شعبي، كان سببها المباشر الفساد، والبطالة، والظلم، والفقر، والتمييز، وكبت الحريات الفكرية والسياسية....
واصطدم مجدداً بالعنف الاسلاموي والسلطوي، بتغذية وتوجيه قوى متنوعة بتنوع اجنداتها. أفسد غياب الحرية في الأنظمة الشمولية وأنظمة الاستبداد التقليدي والمحدّث بالأجهزة الأمنية القمعية المتعددة الحياة الاجتماعية وتعزز هذا الفساد بتغلغل ثلاثية النظام الشمولي االمترافقة مع: "الارهاب ، والبروبوغندا، والهيمنة" الأمر الذي ساهم في تشويه المفاهيم، وفي غرس الرعب في النفوس، وساهم في إيقاف التقدم والنهوض والإبداع في مختلف المجالات. باختصار يعني انعدام الحرية طرد الطاقات وإعدام الإبداعات، وتدمير الاقتصاد والسياسة والثقافة والاخلاق.
ولكن الحرية المنتمية إلى مجال المطلق تعمر بها النفوس وتشمخ عند اصحاب العقول المستنيرة، ما أن تغيب في التطبيق حتى تنمو كشعار؛ يذكر الجميع بضرورة تحقيقه وبلورته .وفي قلب معركة الحرية الصعبة المؤلمة يبرز سؤال ملح. متى وكيف نحقق حريتنا؟ والى متى ندفع هذه الاثمان الباهضة؟٠ أعتقد أن وضوح الرؤية، ووعي المفاهيم، وتوحيد الجهود، والوقوف أمام الواقع ومعاينته وتحديده. جميعها تمارين تضعنا أمام حقيقة مهمة، هي أن الحرية قضية إنسانية لها من يناصرها بقوه في عالم فسيح، وأن الإرادة الواعية للشعوب هي المنتصرة، والطغاة هم من أكثر من يعرف هذه الحقيقة. إن الحرية لا تُدرك اإلا في صميم الفعل، في حراك إنساني يتمثل في أحداث اجتماعية أو سياسية أكثرها بروزاً الثورات التي قامت ضد الظلم والاستبداد. في مناطق مختلفة من العالم (سبارتاكوس في القرن الأول قبل الميلاد، الزنج في البصرة القرن التاسع، ثورة الفلاحين في ألمانيا القرن السادس عشر، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية القرن الثامن عشر الثورات الملونة في اوروبا الشرقية، ثورات الربيع العربي....). إن الثورات عبر قرون ليست كثيره أمام أشكال كثيره من كبت الحريات، واعتقد ان ازدياد التناقضات داخل المجتمعات وتنوعها سيخلق حالة جديده من العمل المنظم لتحقيق الغايات بالوسائل الموافقة لهذا التنوع والتي تتقدمها السلمية. ومهما كانت الوسائل وتنوعها اعتقد بوجود بعض القضايا الأساسية والتي تعتبر ركائز لتحقيق الاهداف.
1- كلما توضح المفهوم توضح السلوك.ويقلص وعي مفهوم الحرية لمسافة بين النظرية والتطبيق.
2- الحرية مفهوم ينتمي إلى نسق من المفاهيم التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدولة الوطنية الحديثة، دولة الجميع المستندة إلى مجتمع مدني هو ميدان التوافق والاختلاف...
3- "الحرية تحضر عندما تغيب، وتغيب عندما تحضر" ، وهي حاضرة في مجتمعاتنا لأنها غائبة في ممارساتنا، شعار الحرية مهما ارتفع يبقى مختلفاً عن الحرية.
4- الحرية لا تُمنح بل تنتزع، بتوحيد القوى، ومقاومة الظلم والاستبداد والفساد الداخلي، وكل أشكال الاحتلال والعسف الخارجي،وفرضها علينا وعلى التاريخ ولا حرية إلا بالتخلص من التطرف ومن الخطاب الديني المتطرف.
5- لا تكتمل الحرية الا بالتكافؤ بين الذكور والاناث، في وطن ابناؤه مواطنون وليسوا رعايا.
6- الحرية ليست إرادة السماء إنها إرادة البشر، الذين اختاروا سلطاتهم وفق عقد اجتماعي وضعي في دولة المواطنة، فلا حرية مع التسلط أيا كان شكله مذهبي أو حزبي أو فردي.
7- الحرية إحدى أساسيات العدالة، والعدالة تتعزز بالحرية.
8- الحرية في مضمونها تعني الاخر، فحريته قبل حريتك. ويعطي المستبد لنفسه كامل الحرية ولايبقي لرعاياه أي شيء.
9- الحرية تعني إزالة كل العقبات والقيود أمام الحرية.
10- قد تقيد حرية الحركة لإنسان فتحرمه من العمل الجسدي.... ولكنك لا تسطيع أن تقيد فكره ورأيه وابداعه... إلا بالتعذيب والقتل، وهذا ليس قتل فرد بل قتل إنسانية البشرية جمعاء.
11- إن الموقف السلبي تجاه مواقف وسلوكيات بعض الدول السياسية لا يجب أن يمنعنا من الاستفادة من تجارب شعوبها ونضالاتهم من أجل الحرية. فسؤال الحرية ذو طابعٍ كوني.
12- الحرية لا تنفصل عن مفاهيم أساسيه في المجتمع. الدولة، والديمقراطية، والكرامةوالإنسانية، والعقلانية.
13- "الاعتراف بالخطأ هو اكتشاف للحرية" (جورج زيناتي-الحرية والعنف) هل سمعتم أن مجرم حرب أو ديكتاتور اعترف بخطئه أو ظلمه؟
١٤ حرية الاعتقاد يجب أن تكون مصانة بما فيها حرية الإلحاد أو تغيير الدين.

9) التكنولوجيا وقيود الحرية الحديثة
شكلت نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة مرحلة جديدة ومميزة من تاريخ البشرية، وسببت بتطور سريع في مختلف الميادين، وبتداخلات دولية جديدة ومتنوعة، وتنافس اقتصادي، وتكتلات قديمة تتأرجح وحديثة تتشكل، وبوادر تعددية قطبية في مواجه هيمنة القطب الواحد، ونمو تقنيات التواصل الحديثة، واتساع مجال استخدامها من قبل الأفراد والدول والشركات والجماعات، مما أدى إلى استثمار أنجع للزمن وتقريب للمسافات، وتعدد لمصادر المعرفة والاعلام، واتساع لمجال حرية التعبير والإبداع والابتكار والتواصل من خلال الفضاء الجديد، وتطور كل انواع التقنيات التي تخدم الانسان.
وبالمقابل نمت تقنيات تدميرية أدت إلى دمار البشر والحجر، وزادت القيود المستحدثة على الحريات، وتنامى الصراع على الصعيد العالمي، ليس بين مستغِلين و مستغَلين فقط، وإنما بين الرأسماليات المتجذرة والأخرى الصاعدة. وازداد النزوع الى القوه والعنف بعد مرحلة الحرب الباردة. وانتشرت كل أدوات القتل والتسويق للسلاح وتعميمه. مترافقةً مع انحدار قيمي على الصعيد العالمي، ومتمثلة بظاهرتين كبيرتين: الترامبية والبوتينية. وانعكست بشكل جلي في المؤسسات الدولية الأساسية (مجلس الأمن بالعموم والخمسة أصحاب حق النقض) فشلاً وانحداراً. والتي حسب اعتقادي ساهمت في بداية حالة نكوص جديدة سمتها الأبرز هي تغليب صراع المصالح، ونزعة الهيمنة على حساب البعد القيمي الإنساني الأخلاقي. إن انتشار الاستبداد والفساد والسطوة والانحدار الخلقي وسيادة الجريمة وقبولها وتعميمها، ودعم الديكتاتوريات المحدثة، الفردية منها والدينيه، والأيديولوجية ما هي إلا شكلاً حديثًا لقيود الحرية.
من الملاحظ أن ديكتاتوريات تحكم بانتخابات وتحت يافطة ديمقراطية، وبعضها يأخذ تأبيده في الحكم، وهذه كلها تقييد لحريات الشعوب وهدر امكاناتها وتدمير حياتها معنويا واقتصادياً.
يتطلب هذا الوضع نظرة أعم إلى الحرية من زاوية تركز على كونيتها لتلافي أخطار كارثية قد لا يسلم أحد منها . إنها صرخة الحرية ضد سباق التسلح وضد نشر السلاح والعنف وضد نهب خيرات الشعوب وضد تكتل ودكتاتوريات العالم ضد شعوبها. وضد الهيمنة والصراع من أجلها، هي صرخات من أجل السلام.
وأعتقد ان بعض المفكرين وخاصة الأوروبيين، تناولوا مرحلة ما بعد الحداثة بالدراسة والتحليل والنقد وحذروا من ممارسات بعض الدول والتي تمثل تراجعاً عن قيم ومبادئ الحداثة والتنوير... وبالتوازي مع تقنيات العصر، والتي أصبحت شبه عامة، برزت قيود جديدة للحرية بما يتوافق مع حداثة التقنيات تمثلت بخرق منظم للخصوصيات الفردية والجماعية وحتى المؤسسات والدول. وصعود الأنظمة الشعبوية التي تعمل وفق مبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان"، وأنا اولاً، وتعززت المصالح المغلقة على حساب القيم الإنسانية الواسعة. ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال الجدل الدائر في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي حول التدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب ضد منافسته الديموقراطية هيلاري كلنتون، وأيضاً تجسس أمريكا على مكالمات حلفاء لها أوروبيين، والنقاشات التي يجريها الكونغرس الأمريكي لمنع استيراد أجهزه الموبايل الصينية الحديثة لأنها مجهزة بتقنية كشف خصوصية أصحابها، وما تقوم به الأنظمة من عمليات خرق ومتابعة خصوصيات بعض مواطنيها، يضاف إلى ذلك ازدياد نزعة الفلتان والعدوان والعنف، ونزعة الانغلاق وبناء الأسوار...
تتفاعل قوى الحرية والسلام اليوم في مواجهة هذا الطوفان المدمر بالإضافة إلى قوى حقوق الإنسان والتنظيمات المدنية والسياسية. والنصر حليف الشعوب التي تدفع دمها ثمناً له.
10) المراجع:
١ مفهوم الحرية، عبدالله العروي.
٢ عن الحرية، جون ستيوارت مل.
٣ دراسات حول الحرية. باروخ سبينوزا(١٦٣٢١٦٧٧)
٤ حرية الاعتقاد الديني، مساجلات الإيمان والإلحاد منذ عصر النهضة حتى اليوم، تصنيف وتقديم محمد كامل الخطيب.
٥ مجلة العربي الكويتية، قيمة الحرية في الفكر العربي (نسخة الكترونية) .. الحبيب الجنحاني.
٦.أمة العقل لا أمة النص. محمد حبش مقال على حسابه الشخصي في وسائل التواصل الاجتماعي.
٧ العبودية في الاسلام، موقع ملتقى أهل الحديث.
٨سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات / بحث/
٩ أزمة الحرية الفكرية في المجتمع العربي المعاصر/،منبر حر للثقافة والفكر والأدب/ الكتروني ." نجمة خليل حبيب"
١٠الحريه وأثرها في نهضة الشعوب والأمم / دراسة / د.احمد يوسف ،مستشار لرئيس الوزراء السابق إسماعيل هنيه./
١١طريق إلى الديمقراطية / جاد الكريم الجباعي/
١٢ الضرورة والحرية قراءة في فلسفة سبينوزا / الحاج سواق/
١٣محددات الحرية في الفكر العربي المعاصر / محمود أمين العالم/
١٤الانسان المهدور .. مصطفى حجازي /
١٥ الحرية في المرة القادمة ....جون بلجر
١٦ الحرية والعنف ...جورج زيناتي.
١٧جدلية المعرفة والسياسة -حوارات مع الياس مرقص- جاد الكريم الجباعي. دار النايا دمشق .الطبعة الاولى ٢٠١١

النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينفذ هجوما جويا -بمسيّرات انقضاضية- على شمال إسرائي


.. متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يغلقون جسرا في سان فرانسيسكو




.. الرئيس الانتقالي في تشاد محمد إدريس ديبي: -لن أتولى أكثر من


.. رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما




.. ارتفاع ضحايا السيول في سلطنة عمان إلى 18 شخصا