الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاشجار المقدسة

رماز هاني كوسه

2019 / 3 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أول ما يتبادر للذهن عند ذكر الأشجار المقدسة هو قصة الخلق التوراتية التي يأكل فيها آدم و حواء من شجرة المعرفة التي أوصاه الرب بأن لا يأكل منها أو من شجرة الحياة . فيخالف آدم و حواء الأمر و يأكلان من شجرة المعرفة فيكتسبان العلم و الحكمة . هنا يخشى الرب أن يأكلا من شجرة الحياة فيكتسب آدم و حواء الخلود و يصحبان كالآلهة خالدين و حكماء . لذلك يقرر طردهم من الجنة .
لكن الشجرة المقدسة لم تتوقف عند قصة الخلق التوراتية . فنحن بيومنا الحالي لدى زيارة مقامات الأولياء غالبا ما نرى شجرة ضخمة خارج المقام او عدة أشجار ضخمة فمن أين جاء هذا التقليد الديني . بالإمكان التعرف على جذور قداسة الأشجار من التراث الديني الإبراهيمي و ما سبقه و لنبدأ من الإبراهيميات .
نقرأ في سفر التثنية التوراتي (لا تنصب لنفسك سارية من شجرة ما بجانب مذبح الرب إلهك الذي تصنعه لك( , الخطاب هنا موجه لبني إسرائيل و مضمونه بتوجيههم لعدم التصرف كجيرانهم ممن لا يعبدون يهوه . الرب هنا يطلب بشكل واضح من الإسرائيليين عدم زراعة الأشجار بجانب المذبح في المعبد كما يفعل جيرانهم الكنعانيين بزراعة الأشجار قرب المذابح التي كانت عادة توضع على رؤوس الجبال مثل جبل صافون )جبل الأقرع ) أو حرمون (جبل الشيخ) . إشارة اخرى لهذا التقليد الكنعاني نراها في سفر اشعيا (المتوقدون إلى الأصنام تحت كل شجرة خضراء. القاتلون الأولاد في الأودية تحت شقوق المعاقل ) الإشارة واضحة الى الطقوس الدينية للكنعانيين تحت الأشجار الخضراء .ونستدل على أنهم كنعانيين من الجزء المتعلق بقتل الأولاد في الاشارة الى عبادة الإله مولوخ (مولوك) و الأضاحي البشرية التي كانت تقدم له .
يبدو من الإشارات التوراتية أن الكنعانيين قد ارتبطت عباداتهم بالأشجار او بالقيام بها تحت الأشجار , و نستطيع أن نلمس جذور هذه العبادة في قصة ولادة أدونيس الإله السوري (تموز او دوموزي الرافديني) الذي ولدته أمه بعد أن تجسدت بهيئة شجرة . و ترد الحادثة وفق سيناريوهات عديدة تختلف من مجتمع لآخر . فمن ولادته من زواج أبيه الإله ايل مع زوجته عشيرة لدى الفينيقيين الى ولادته من ابنة ملك إسمها مورا حملت به سفاحا من أبيها بعد ان خدعته و تنكرت بهيئة جارية و جامعته (السيناريو هنا مشابه لقصة يهوذا مع كنته تامار التي خدعته و جامعته لتنجب من بعد موت زوجها ابن يهوذا .... و كذلك مع قصة ابنتي لوط اللتين اسكرتا أبيهما و جامعتاه ليكون له نسل من الذكور) . بعد حملها هربت مورا من بيتها و عند اقتراب موعد الولادة طلبت من الآلهة ان تحولها لشجرة فتحولت لشجرة و هي شجرة المر ) السرو ( المعروفة .
نترك الابراهيميات الآن و ننتقل الى التراث الثقافي الرافديني و نقرأ في الأساطير السومرية قصة إنانا و شجرة الحلبو حيث يرد في افتتاحيتها :
في تلك الأزمان، شجرةٌ، شجرة حلبو
زُرعت على ضفة نهر الفرات
و ملخص الأسطورة ان إنانا عثرت على شجرة الحلبو(غير معروف نوعها ) مرمية في النهر بعد اقتلاعها بسبب عاصفة فتقوم بانتشالها و زراعتها في حديقتها بغرض الإستفادة منها بعد ان تكبر الشجرة لتصنع عرشا لها . في الأسطورة السومرية يبدو ان الشجرة هنا تحمل إشارة الى اكتشاف الزراعة في تاريخ البشرية و هو ما شكل نقطة فاصلة بتطور البشرية ..
بمقارنة قصة إنانا مع قصة ولادة أدونيس من مورا .نلاحظ أن دلالة الشجرة الدينية بالثقافات قبل الإيراهيمية بدأ بالتطور من الإشارة لإكتشاف الزراعة (ولادة الزراعة ... ولادة مرحلة جديدة للبشرية ) لتصبح الشجرة رمزا دينيا للإلهة عشتار ( انانا السومرية ... عشيرة الكنعانية زوجة ايل.... الإلهة الأم ) و يتضح ذلك في أسطورة أدونيس الذي يولد من شجرة المر( السرو ... مورا )التي أشرت لها سابقا و هي التي تمثل الإلهة الأم هنا .
بإمكاننا ملاحظة تأثير مفهوم الشجرة في أسطورة أوزوريس الإله الفرعوني الذي حبسه الإله ست في صندوق و ألقاه بالنيل ليطفو الصندوق و يصل للبحر و يتابع مسيره ليلقى على شاطئ جبيل الكنعانية , هناك تنمو شجرة حول الصندوق ليأتي يوم و يقطع ملك جبيل الشجرة لبناء قصره و يتحرر هنا أوزوريس . ولادة رمزية جديدة لأوزوريس من الشجرة بشكل مشابه لولادة أدونيس من الشجرة كما مر معنا . و الملفت للنظر ان الأسطورة الفرعونية تتحدث عن الولادة من الشجرة في أرض كنعانية و ليس في مصر . في إشارة واضحة لارتباط هذه الفكرة مع الفكر الديني في الهلال الخصيب تحديدا .
من هنا نستطيع القول بأن دور الشجرة و أهميتها الدينية لدى معتنقى الفكر الديني الإبراهيمي قد وصل إليهم من الموروث الديني لمجتمعات الهلال الخصيب الذي تطور من الألف الثالث قبل الميلاد من الأساطير السومرية وصولا للأساطير الكنعانية لتأخذ دلالتها بالإشارة للإلهة الأم التي تتماهي مع (عشتار ... انانا ... عشيرة ) . طبعا هذه الدلالة الدينية للشجرة لم تبقى على حالها في الأديان الإبراهيمية التوحيدية التي رفضت مفهوم تعدد الآلهة و لكن بقي للشجرة دورا لتلعبه في الفكر الديني للإبراهيميات , ابتداء من العهد القديم الذي بقيت الشجرة فيه تلعب دورا كمصدر للمعرفة و الخلود ) شجرة المعرفة و شجرة الحياة ( أو بعبارة أخرى الشجرة الأم للمعرفة و الشجرة الأم للحياة و لو بإشارة غير مباشرة .
إشارات متفرقة لدور الشجرة نستطيع تلمسه لدى قراءة الموروث الديني للمسيحية و الإسلام , في الإسلام تورد السير بان محمد النبي كان جالسا تحت شجرة عندما شاهده الراهب بحيرا و قال (بأنه ما جلس تحت هذه الشجرة إلا نبي) . ولادة يسوع في القرآن تتم تحت شجرة ايضا )فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ( سورة مريم . و الرواية القرآنية تتوافق مع رواية أحد الأناجيل المنحولة وهو إنجيل متى المنحول ( لكن في اليوم الثالث بعد ارتحاله حدث أنّ مريم تعبت في البريّة من شدة حرارة الشمس، فلما رأت شجرة قالت ليوسف: لنسترح هنيهة تحت ظلّ هذه الشجرة، فبادر يوسف وأتى بها إلى تلك النخلة، وأنزلها من دابتها، ولما جلست شخصت بعينيها إلى أعلى النخلة فرأتها ملآنة بالثمر، فقالت ليوسف: يا ليتني آخذ قليلًا من ثمر هذا النخل، فقال لها يوسف: يا للعحب! كيف تقولين هذا وأنت ترين أن أفرع هذه النخلة عالية جدًّا؟ لكنّي في غاية القلق بخصوص الماء؛ لأنّ الماء الذي في قربتنا قد نفذ ولا يوجد مكان نملأ القربة منه لنروي ظمأنا، ثم قال الطفل يسوع الذي كان متكئًا على صدر أمه مريم العذراء ووجهه باش: يا أيتها الشجرة، أَهبِطي أفرعك لتنتعش أمي بثمرك.... اسكندر حديد الاناجيل المنحولة ( ..... هي رواية تتشابه بشكل نسبي مع النص القرآني و تختلف عنه بأن يسوع كان مولودا حينها , في النص القرآني الولادة تحدث تحت الشجرة , أما في منحول متى فالشجرة تمنح الغذاء لمريم , تبدو كاسترجاع لدلالة الشجرة الدينية كرمز للإلهة الأم مانحة الحياة .بالإضافة لذلك تنقل السير الإسلامية عن عبادة العرب للإلهة العزى قبل الإسلام و كان يمثلها ثلاث شجرات قطعها خالد بن الوليد في إحدى الغزوات .
في الفن الديني الإسلامي و المسيحي نرى الشجرة حاضرة أيضا في الرسوم التي تمثل مشهدي دخول يسوع لأورشليم و دخول محمد لمكة , خلفية المشهدين تحوي على جبل أجرد تنبت عليه شجرة خضراء وحيدة , الجبل دائما هو مسكن الآلهة بالفكر الديني قديما , و الشجرة كما أشرنا هي رمز الإلهة الأم التي تمنح الحياة و هي موجودة على الجبل ) مسكنها ( نستطيع قراءة المشهدين بأنهما يمثلان ولادة الدين الجديد تحت أنظار الإلهة الأم في مسكنها . طبعا هذه الدلالة ليس من الضروري أن تكون حاضرة في فكر الرسام المسلم أو المسيحي و لكن قدسية الرمز الديني تبقى حاضرة في فكر الشعوب و تنتقل من جيل الى آخر عبر الزمن بعد أن يتغير مفهوم الرمز المقدس و دلالته ليناسب الوضع الجديد و هو ما نراه بيومنا الحالي ببناء المقامات أو مزارات الأولياء على قمم التلال او الجبال(مساكن الآلهة قديما ) و بجانبها شجرة او مجموعة أشجار خضراء وارفة الظلال التي ترمز للإلهة الأم قديما في عبادات الخصب الزراعية التي كانت منتشرة في المنطقة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا