الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النّخبة السياسية التونسية تحتاج بوصلة وطنية وإعادة تأهيل ديمقراطي.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2019 / 3 / 13
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


كل ظاهرة تاريخية. وكل مرحلة من مراحل التاريخ لها سماتها المحددة ولها منطقها الداخلي، باستثناء المراحل الانتقالية التي تستمدُّ منطقها الدّاخلي من ملامح المرحلة السابقة وبداية تشكّل أسس المرحلة المقبلة .
بمعنى أن المرحلة الانتقالية تشبه جسم إنسان فقد جلده الذي يحميه وبقيت أعضاءه عارية ومعرضة لكل أنواع المخاطر، للانحلال وللجراثيم وللنزيف. وهو بصدد بناء جلد اخر يمنحه القدرة على الوقوف ويشد أعضاءه بعضها الى بعض.

ولهذا السبب تتسم المراحل الانتقالية بالتسيّب وبالفوضى وعدم الاستقرار والشك وانعدام الثقة وانعدام الطمأنينة والشعور بأن كل شيء غامض، ذلك أنّ ما كان سائدًا وتعوّد عليه الناس منذ زمن طويل قد تلاشى أو كاد، وما سوف يكون لم يتّضح ولم يتشكّل، أو لنقل لم يكتمل بعد.

نحن في تونس بعد 14 جانفي 2014 ، وجدنا أنفسنا إزاء انهيار مؤسسات كانت قائمة. وبانهيارها انهارت جملة من المسلمات والأعراف. وتغيّرت أنماط الوعي ومجمل السلوك وردود الفعل بشكل يكاد يكون مطابقا لانعدام الاستقرار وانعدام الثقة والغموض والشك.

لقد شهدت تونس ما لم تشهده من قبل. وهذا مفهوم لأن كلّ مرحلة انتقالية في التاريخ هي أزمة في حد ذاتها تفقّصُ سلسلة من أزمات على شاكلتها. ولذلك ترافقها أفكار جديدة ورؤى ومشاريع غير معهودة. ولكن ترافقها أيضا أفكار مأزومة ورغبات مرضية في الغلبة وجنوح أعمى للسيطرة على الحكم، ومراهقة جماعية في التعامل مع الواقع. ولعلّ هذا ما يُفسّرُ المشهد السياسي في تونس منذ ثمانية سنوات.

نرى اليوم كلّ جماعة تعتبر نفسها وحدها صاحبة الحق في قيادة الدولة والمجتمع. فتتمحور حول ذاتها بشكل يقترب من الوعي العنصري. حتى أننا لا نعثر على حزب واحد يقوده العقل. بل تقريبا الجميع تقودها أوهامها.

الإسلاميون يتعاملون مع المرحلة الانتقالية بمنطق التمكّن تحضيرا لدولتهم الإسلامية المتخيلة والتي تجعل من بقية الأحزاب ذمّيين، إذ يتعين عليهم في ظلّها دفع الجزية أو الخروج من هذه الأرض بوصفها وقفًا على "الذين جعلهم الله خلفاء وجعلهم الوارثين". وهذا المنطق ينسف تاريخ تونس ومكتسباتها الحضارية لأن هذا التاريخ (حسب الإسلاميين) هو عصر الظلمات، ومكاسبها ليست إلا تغريبا لأرض الإسلام وإبعادها عن سياقها العقائدي.

اليسار عنده نسخة لاهوتية خلاصية نحو المستقبل، فلا يعترف بالمرحلة الانتقالية على اعتبارها (بناء المؤسسات وترسيخ القانون في إطار بناء الديمقراطية الضامنة للتنافس السلمي بين مختلف المشاريع السياسية، والضامنة أيضا لحرية النضال والتعبئة). لا يعترف أو لا يؤمن عميقا بهذه المرحلة الضرورية طالما أنه يرى نفسه (في مسار ثوري وفِي تناقض رئيسي مع الثورة المضادة). وعلى الأرجح سيظلّ على هذا الموقف ما لم يتحول الى أغلبية تمكنه من الاستيلاء على السلطة، وبناء ديمقراطية ثورية تمنع وجود الأحزاب الأخرى على اعتبار أن كل حزب مختلف معه هو ثورة مضادة.

كلاهما النهضة والجبهة يتعاملون مع مرحلة الانتقال الديمقراطي تعاملاً لاهوتيا، يعني على قاعدة أنها مجرّد "جسر مؤقت"، أو "درب من الآلام نحو الخلاص" كما تقول المسيحية. أو هي محطّة في طريق "التحرر من الدنيا" في الفكر الصّوفي عموما.

الدّساترة يعيشون في غيبوبة. يعني يعتقدون أن الشعب الذي خرج ضد نظام بن علي الاستبدادي الفاسد هو شعب عميل وما كان له أن يدافع عن قوته لأن بن علي وطني وعادل وحقق الرخاء للشعب!
وبدلا من إعادة النظر في السياسات التي ثار ضدها شعبهم، مازالوا يتكلمون بنفس منطق النظام البوليسي الإرهابي الذي خرب مقدرات هذا البلد وعاث في الأرض فسادا وظلما، ومازالوا يهددون بطرد التوانسة من بلادهم أو بإدخالهم للسجون. ويعتقدون أن الحل في ليّ عنق التاريخ والرجوع بالبلاد ل 7 نوفمبر.

أما القوميون فعندهم حاجز فكري حديدي سميك بينهم وبين النظر إلى الواقع دون مرايا مُحدّبة. بحيث القضية لا تتعدى "الانتقال الديمقراطي" وحسْب. ولا الدّيمقراطية نفسها وحسب. بل الدولة نفسها مسألة ثانوية. لأنها دولة قطرية مؤقّتة غايتها بناء دولة الأمّة. ولذلك أخفقوا في بناء مؤسسات دولة حقيقية، ونجحوا نجاحا باهرا في تبرير الاستبداد بقضية الوحدة. وأجّلوا مسألة الحريات وحقوق الانسان لمدّة نصف قرن، ليتبين في الأخير أنهم كانو يحكمون كيانات أمنية وليس دولا. ولذلك رأينا كيف تحوّلت شعارات الوحدة والأمة إلى مذابح إثنية وطائفية وعشائرية. وبدل من وحدة الأمة انقسم الليبيون. وانقسم العراقيون الى انتماءات عتيقة ما قبل نشأة الدولة الحديثة. وهكذا فإن الدولة نفسها تم تغييبها. فلا هم حقّقوا وحدة ولا بنوا مواطنة في تلك البلدان. وعليه نجد اليوم أصدقاءنا القوميين علماء كبار في مسألة الأمة، ولكنهم لا يفهمون شيئا في معنى الدولة.

لقد تبين لنا منذ مدة أن علاقة التيارات السياسية التونسية بالديمقراطية هي علاقة صعبة وملتبسة. وهذا في الحقيقة يذكرنا بأوديست كونت حين يُحَقِّبُ التاريخ فيقسمه الى ثلاثة مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تعلل الظواهر بالقوى الغيبية.
والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد الإدراك المجرد.
والمرحلة الوضعية التي تفهم الظواهر عن طريق الملاحظة والتجربة الحسية، وهي المرحلة الأرقى التي ساعدت على بناء العقد الاجتماعي الذي ينظم التعايش خارج منطق الحرب.

للأسف النخبة التونسية مازالت تتراوح بين اللاهوت والميتافيزيقيا، ولم تصل بعد إلى مرحلة الإدراك العقلي لوضع تونس.

أنا أتابع عن كثب مسارات الأحزاب الكبرى منذ 2010 وتبين لي أن آداءها الخاطئ وتعاملها مع الأوضاع كما لو أن البلد مستقر والدولة مكتملة البناء، إنما هو ناجم في حد ذاته عن انهيار أعراف المجتمع قبل نشوء أعراف جديدة تضبطه وتحميه. أي أن آداء الأحزاب يفسّر إلى حدّ كبير منسوب التشوّه القيمي وتشوّه العلاقات بين الناس وفقدان الوجهة والمعنى الناجم عن فقدان المجتمع لمرجعيته الناظمة والمتفق عليها منذ سبعين سنة.
إنها آثار الزلزال الذي جد في بنية الدولة وبنية الجماعة الوطنية وبنية النظام الإقليمي المحيط بنا والذي كان سائدا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

ليس هنالك مرحلة انتقالية بذاتها ولذاتها. بل لكي تكون مرحلة انتقالية يجب أن تتفق النخبة الفكرية والأحزاب السياسية وكل الفاعلين الاجتماعيين على السؤالين التاليين في إطار ميثاق وطني:
من أين ننتقل وإلى أين؟
وماهي ضمانات هذا الانتقال؟
ويلتزم الجميع بهذا الميثاق الذي يوحد أهدافنا جميعا، وفِي نفس الوقت يضبط الآداء ضمن تلك الأهداف المشتركة.
وما لم تتفق النخب على أسس بناء الديمقراطية فإن التعددية تصبح خطرا على المجتمع لأنّها ستتحول إلى شكل من أشكال تعدد الهويات المتصارعة. وسواء تم تمديد المرحلة الانتقالية أو تقصيرها بشكل مقصود وعلى القياس وحسب الحاجة، فالمؤسسات الدستورية التي رُكِّزت، سيجري إفراغها من مضمونها الديمقراطي لتبقى مؤسّسات مصطنعة وشكلية. وستفوّت هذه النُّخب فرصة تحقيق الإجماع على مبادئ الديمقراطية وأسس بناء الدولة الجديدة.

من هذا المنطلق يتعيّن على كلّ الأطراف السياسية أن تتخلّى عن المخاتلة، وعن ذهنية الغلبة والانغلاق واعتقاد كل منها أنه وحدها صاحبة الحق والشرعية، وما دونها أعداء. وأن تتّجه إلى التفاهم حول برنامج تأسيسي يعزّز الدّستور ويحميه ويُفعّله، وليس التفاهم بمعنى المحاصصة مثلما جرى في تونس لمدة ثمانية سنوات.

لا أمل في بناء الديمقراطية دون استيعاب النخب الوطنية لمقتضيات المرحلة الانتقالية، ودون تفضيلها للتفاهم والمفاوضة والمشاركة في صنع القرار الوطني سواء كان قرارا متعلّقا بقضايا تونس الداخلية، أو ما يتّصل بعلاقات تونس بالجوار الجغرافي وبالإقليم وبالعالم.
ولا أمل في بناء الديمقراطية دون التعاون على الأزمة الاقتصادية والمثابرة الجماعية لإيجاد حلول جادّة وحقيقية. ودون تبادل هذه النّخب للسلطة وتقاسمها بتغليبها للمشترك وجعله مركز الالتقاء بدل التشبث بمواطن الخلاف، وجعلها أساسا للشد والجذب وتوليد الاحتقان وخلق مناخ حربي، وخسارة السلطة والدولة وضياع الوطن برُمته.

على النخبة الفكرية والسياسية أن تنتبه الى تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم. وأن تدرسها وتستأنس بها. هنالك تجارب عديدة ومتنوعة : الأرجنتين، التشيلي، جنوب إفريقيا، اسبانيا، البرتغال، أندونيسيا، بولندا ... الخ
كل هذه البلدان رغم اختلافها الشديد، الا أنها تتشابه في كونها اجتازت المرحلة الانتقالية بتفاهم النخب على أسس بناء الديمقراطية.

وبكل الأحوال يجب أن تكون الأمور على غاية من الوضوح. إذا استمرت الأحزاب السياسية في أدلجة الصراع دون إدراك مقتضيات هذه المرحلة، فإن تونس ستغرق أكثر وأكثر. ولن يكون لها مخرجا إلا بعد سنين طويلة وبأيادي الأجيال القادمة والتي ستلعننا جميعا.

ولا يفوتني التّأكيد على أن المثقف التونسي لا يحق له الوُقوف على الربوة وكيل الشتائم للسياسيين بعنوان أنّه غير معني بما يجري. بل عليه مسؤولية تشخيص الواقع القائم. وشرح الواقع المرجو تحقيقه للفاعلين السياسيين حتى يأخذ بيدهم ويثنيهم على العبث ببلاده.

نعم للمثقف دور مركزي في ترميم كسور بلاده وتضميد جراحها، لأنّه هو المطالب بتشخيص الواقع، وتحديد المخاطر، وتقديم الحلول، وفضح كل القوى المعادية للدّيمقراطية. وكل القوى المروّجة للأكاذيب. ودحض الافتراءات والأفكار السّطحية التي تهدم ولا تبني.
وحثّ الناس على الالتفاف حول مشروع عقلاني وواضح لبناء الدولة الديمقراطية.

هنالك عناوين عديدة بعضها إيجابي، وبعضها الآخر سلبي تتعلق بالسّمات الرّئيسية للمجتمع في هذه المرحلة الصّعبة يجب إثارتها وبحثها بعمق وبعقول هادئة، حتى بتمكن السياسيون من نبراس يُسهّل عليهم رسم سياساتهم وبرامجهم.

- تحديد خصوم الانتقال الديمقراطي.
- القوى الاجتماعية التي لها مصلحة قي بناء دولة ديمقراطية.
- موقع الجيش والمؤسسة الأمنية ومدى ارتباطهما بالعصابات الاقتصادية، ومدى تدخلهما في الخصومة السياسية ومخاطر تفكّك الدولة.
- قضيّة استقلال مؤسّسة العدالة كأهمّ ركن في بناء الديمقراطية.
- بنية المجتمع ومنزلقات انقسامه في ظل "التعددية السياسية" قبل اكتمال عملية بناء الإجماع الداخلي والاندماج الكلي تحت وحدانية راية الوطن دون غيرها.
- التهديد التي تتعرّض له الطبقة الوسطى ومستوى التمدرس والتحصيل العلمي وأثر ذلك على توسّع الثقافة الديمقراطية وقيم التعايش ومعاني المواطنة.
- قضيّة تفاقم الفساد بوصفه مركزا لتوزيع المنافع على حساب الدولة والمجتمع. ولأنه كذلك فهو متوثّب على الدّوام لتخريب كلّ محاولات ترسيخ المؤسسات، ذلك أنّه لا يمكنه الاستمرار إلا في ظلّ الاستبداد، أو في ظلّ الفوضى والغموض.
- قضيّة أنّ نجاح الديمقراطية في البلدان النامية أمر مستحيل دون سياسة تنموية تضمن العدالة الاجتماعية، ولنا في ذلك دروس عميقة في تجارب أمريكا اللاتينية.

كلّ هذه الأمور يجب أن تُدرس وتقام حولها الندوات والمحاضرات لترشيد سلوك الطبقة السياسية، وتثقيف الشباب وعموم المواطنين، ولمحاربة اليأس والعزوف العام عن السياسة.

وبصفة عامة، فالمجتمع غير المتفق على مبادئ الديمقراطية مثل تونس، لا يفهم السياسيون فيه موضوع الانتقال الى الديمقراطية سوى استعدادهم للانتخابات. وهذا ما يفسّر تدفّق المال الفاسد وتصاعد التوتّر والتشويه والتكفير والتجريم والوُعود الكاذبة في كل حملة انتخابية.
وبالنتيجة فهؤلاء السياسيون سيجدون أنفسهم في كل مرّة يطيلون المرحلة الانتقالية، ويتخبّطون في مواجهة الأزمة الاقتصادية المرفوقة بموجات الاحتجاجات الاجتماعية، والصّدام مع اتحاد الشغل، وبالاحتقان السياسي، ويُجبرون على مزيد التداين والارتهان إلى الخارج وفقدان السيادة وغياب البوصلة وقلّة الحيلة.

أخيرًا، على التّوانسة جميعًا أن يُدركوا أن الانتخابات لوحدها والصندوق لوحده لا يجعل تونس قادرة على تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية، بل هي تحتاج قبل ذلك إلى تفاهم أبنائها على أسس الديمقراطية. لأنّ المراحل الانتقالية لا تتحمّل سؤال: من يحكم؟ بل: كيف نحكم؟ ولأنّ الأغلبية التي تفرزها الانتخابات غير قادرة - في حالات الانتقال الديمقراطي- على إدارة شؤون البلاد بمفردها، ذلك أن البلاد في الوضع الراهن مُهدّمة ومأزومة، وتحتاج إلى إعادة بناء وليس لمجرد الإدارة. ولذلك فإنّ الإصرار على الاستفراد بالحكم في مثل هذه الأوضاع هو الباب الرّئيسي للفشل وللانقسام والتشظّي ومزيد تدهور أوضاع الناس المعيشية، وتدهور المرفق العمومي. وقبل هذا وذاك تدهور السياسة والأخلاق معًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024