الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسألة القيم في الفكر الحداثي وأزمة الحضارة الغربية

عبد الكامل نينة
(Abdelkamel Nina)

2019 / 3 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا يختلف إثنين اليوم على أن ما بلغته الحضارة الغربية من تقدم وتطور في شتى مجالات الحياة، فالحضارة الغربية اليوم بلغت ان صح التعبير حدودها في الترف والرفاهية، يتجلى ذلك في التقدم التقني والتكنلوجي الذي توغل وساعد في رفاهية جل مجالات الحياة الاجتماعية، من خدمات طبية، كذا الخدمات المنزلية، كذا الاجتماعية... وغيرها الكثير الذي لا يمكن حصره، إلا ان هذا التقدم أدخل الإنسان الغربي في متاهات عميقة لا يكاد يدرك انه يعاني منها، واذا أراد أي ناقد للفكر الحداثي أو الحضارة الغربية، تلخيص متاهات أو سلبيات هذا الفكر أو هذه الحضارة، سيلخصها في عاملين رئيسيين، مرتبطين ببعضهما، وهما، عامل تقديس أو تسييد العقل، وعامل اللاأخلاقية، واللذان يتجليا في عناصر الحداثة المتمثلة في العقلانية والذاتية والحرية .

1- مشكلة الحرية وتسييد العقل في الفكر الحداثي:
لعلى عنصر العقلانية، أو تسييد العقل، ميزة من ميزات الفكر الحداثي، بإعتبار ان هذا الأخير إنطلق من ديكارت (1) تحديدا، الذي حطم ان صح التعبير سيادة الفكر الديني أو فكر الكنيسة المسيحية، في مقابل ذلك أنتج البديل ألا وهو الفكر العقلاني، انطلاقا من ما يعرف بالكوجيتو الديكارتي – أنا أكر إذن أنا موجود – الذي يؤكد على أن الذات يتجلى وجودها من خلال التفكير، فالتفكير العقلاني في مقابل نقض التفكير الكهنوتي أو اللاهوتي بصفة عامة المبني على الميتافيزيقا، أدى ذلك بالإنتقال بالحضارة الغربية من نسق اعتماد الأفكار الدينية، المأخوذة من الميتافيزيقا أي من الوحي الإلهي المتمثل في الإنجيل كلمة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، إلى نسق ثاني وهو كلمة العقل. فأصبح الإنسان الغربي متحررا مما هو ديني، متحررا بفعل التفكير، هذا الذي أدى إلى التطور والتقدم نعم، لكن مع هذا التقدم، وقع الإنسان الغربي في تقديس ثاني وهو تقديس العقل، بإعتبار هذا الأخير غير قادر على الإحاطة بكل نواحي الحياة الإنسانية، إلا ان الحضارة الغربية اعتبرته – إله – ينتج الحقيقة يصيب ولا يخطئ، الأمر الذي ادخل هذه الحضارة في وهم الحياة المثالية، خاصة كون الواقع الاجتماعي في ظاهر الأمر تسوده الرفاهية والترف المصاحب للتقدم التكنولوجي والتقني.
هذه الحال التي تسير نحو تدهور حالة المجتمع بفعل تسييد العقل على حساب ما هو أخلاقي، يؤكد عليها مفكري الغرب قبل غيرهم، يقول سوركن : " ... إن السعي وراء اللذة يحطم التوازن العقلي والأخلاقي".(2) فحركة التنوير التي بدأت من ديكارت أخرجت الإنسان من أوهام الكهنوت الديني، أين أوقعته في وهم ثاني ألا هو وهم العقلانية البحتة، التي قادت الإنسان الغربي إلى الحرية المطلقة، إلى الفوضى الاجتماعية، إلى التفلت من القيم الإنسانية، فظهرت عديد المشاكل الاجتماعية، كظاهرة الانتحار الناتجة على الرفاهية بالذات، فالإنسان حينما بلغ الرفاهية التامة أصبح الموت يحكم تفكيره بسبب الفراغ الروحي، فأصبح الموت كغاية عند من بلغ الرفاهية والترف، وظواهر أخرى تتمثل في اعتزال الأخلاق تماما، وهذا ما سنراه في العنصر الموالي، عامل اللا أخلاقية.

2- عامل الأنانية واللا أخلاقية في الفكر الحداثي:
هذا العامل – اللا أخلاقية – يعتبر نقطة الإرتكاز لمنتقدي الفكر الحداثي، كما ان هذا العامل يعتبر كذلك نتيجة حتمية لتسييد العقل، حيث عندما قام الغرب بإعتزال الدين، منتقلين إلى عبادة العقل والخضوع له، نتج بذلك اعتزال الأخلاق والقيم الإنسانية، حتى وإن كان هذا الاعتزال غير مقصود، إلا انه، اصبح واقع معاش في أوروبا، فأصبح ما يهم هو المادة، وما يقابلها من إنتاج صناعي وعلمي وغيره، على حساب ما هو روحي وأخلاقي، وهذا ما أدى بالغرب في الوقوع في الفراغ الروحي، الذي يؤدي بالضرورة إلى التفكك الاجتماعي، بين الأفراد في داخل أوروبا، كذلك بين المجتمعات على المستوى الأوروبي، وحتى العالمي، فأوروبا ترى في نفسها انطلاقنا من الكوجيتو الديكارتي، فأنها من يفكر، بأنها من يحق له الوجود، في المقابل تعطي الحق لنفسها بدافع الأنانية والمركزية الأوروبية، إلى إقصاء الآخر، المتمثل في مجتمعات العالم الثالث، بالتحديد العالم الإسلامي على وجه الخصوص.
هذه الأنانية واللا أخلاقية، التي إستحوذت على الفكر الغربي الحداثي، مما لا شك فيه، حسب استقراء واقع أوروبا، وحسب دراسات المفكرين، الغربين قبل غيرهم، هي معاناة مجتمع مسكين، يظن انه بلغ المثالية، في حين هو يتجه في طريق مستقيم نحو التحطم والتفتت، وهذا بفعل الانحطاط الأخلاقي بدرجة أولى، يقول سيمون جارحي: " إن الغرب فقد المرتكزات الروحية والثقافية والدينية التي كان يرتكز عليها، فلم يعد هناك شيء يرتكز عليه، فالديانة النصرانية فقدت مقوماتها، والتَّوق إلى الروحانيات انتهى واضمحل في النفوس، وأصبح الغرب في نوع من الفراغ، ونوع من الضياع الشامل تكتوي به الأجيال الشابة"(3) وحسب أرنولد توينبي(4) ، "ان الملاذ الأنسب للإفلات من هذا الضياع والتيهان، هو الانتحار" (5). فالتقدم الذي لحظه المجتمع الأوروبي، والحرية التي بنيت على أنقاض الفكر الديني، التي يقودها العقل – المقدس – قلب وضع أوروبا رأسا على عقب، مؤديا بها إلى الدمار والزوال الحتمي، في أحسن الأحوال أوروبا متجهة إلى المجهول الذي تسوده الفوضى، وهذه الفوضى الاجتماعية، والأخلاقية، التي نتجت عن أزمة القيم الحداثية، استوجبت الإسراع إلى إيجاد بديل، فكان لفلاسفة ما بعد الحداثة نصيبا في نسج النظريات والفلسفات في محاولة توجيه أوروبا إلى طريق النجاة، هنا يأتي دور الفيلسوف الفرنسي إدغار موران(6)، من خلال فلسفته المبنية على الفكر المركب، محاولا ابتكار قيم جديدة للإنسان الأوروبي، والإنسانية عامة، فما هي أبعاد القيمة في فلسفة ادغار موران؟


______ تهميش ________
1 - ديكارت رينه (Descarte René)، 1596-1650 أول فيلسوف محدث وواحد من أعظم الرياضيين في الأزمنة قاطبة، وحسب كارل ياسبرز هو مؤسس العالم الفلسفي الجديد الذي بني في القرن السباع عشر وفق قواعد المنطق. أنظر معجم الفلاسفة لجورج طرابيشي.
2 - بوزبرة عبد السلام: طه عبد الرحمان ونقد الحداثة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط1، 2011، ص 135،134.
3 - نفسه، ص 135.
4 - أرنولد توينبي (Toynbee، Arnold): مؤرخ وفيلسوف تاريخ إنكليزي 1889-1975، أكد في مؤلفة الرئيسي، دراسة في التاريخ من 12 جزء، إرادته في بناء فلسفة في التاريخ انطلاقا من دراسة احدى وعشرين حضارة، قال بدورية الحضارات وبتوالدها من بعضها البعض، من مؤلفاته أيضا الفكر التاريخي اليوناني، الحضارة في محنة، الحرب والحضارة، العالم والغرب. أنظر معجم الفلاسفة لجورج طرابيشي.
5 -بوزبرة عبد السلام: طه عبد الرحمان ونقد الحداثة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط1، 2011، ص 135.
6 - إدغار موران: Edgar Nahoum Morin فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ولد 8 جويلية 1921 بباريس، اهم كتبه المنهج في ستة أجزاء والذي يعتبر قاعدة إستند عليها لتأسيس الفكر المركب، من كتبه كذلك الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، تربية المستقبل.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت