الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قن الدجاج

عباس عباس

2019 / 3 / 16
الادب والفن


ككل إمرأة ريفية، عجَّنت الوحل مع التبن الناعم بقدمين حافيتين, لتصبه بعد ذلك في قالب خشبي مستطيل صغيٌر نسبياً، مقارنة بقالب صب اللبن المتداول بين الكرد في تلك المنطقة والذي يتجاوز حجمه ثلاث أضعاف القالب الذي بين يدي نازلي الأرملة العجوز، والذي صنعه لها بعد إلحاحٍ و رجاء رجلٌ من القرية ماهرٌ بحرفة النجارة!…..
بعد أن تيقنت من كفاية العجن، صبته في القالب لبنة بعد لبنة, وبعد إتمام وتقسيم ما لديها من الوحل، كان هناك على الأرض ما يقارب الخمسين لبنة بحجم اقدامها المسطحة!….وتركتها لتجف تحت أشعة شمس صيف كردستان الحارق!...
في فترة إنتظار جفاف اللبناة بماذا كانت تحلم نازلي؟....
سؤال لو طرحناه على الأرملة العجوز، هل كنا سنحصل على جواب مقنع كما نتوقعه من أية امرأة تعيش في أمان؟.
لا أظن!..
في أية بقعة من الأرض بعيداً عن كردستان, سيكون هدف المرأة الريفية من بناء قنٍ للدجاج هو الربح في زيادة عددها، أما مع نازلي العجوز ولأنها تعيش في كردستان، فالهدف الأول والأخير هو الأمان لدجاجاتها من المفترسين، ثعلبٌ كان أو ذئابٍ بجلودٍ مستعارة!…وللأسف الشديد ذلك هو المتوارث التاريخي منذ قرون!...الخوف وعدم الأمان، ولا ذنب للسيدة نازلي فيه!.....
في زاوية قصية من الحوش، بدأت برصف اللبناة الأولى على الأرض حتى بدأت الجدران ترتفع حسب معرفتها بالبناء، وعلى أرتفاع قامة الدجاجة وعرضها تركت باباً، وبدون أية كوة للتنفس أكملت البناء حتى انتهت من بناء القن....الحلم العاجي!....
بعد ذلك وبمجرد النظر الى ما بنته، سيخطر على بال السؤال التالي, ألم يكن هناك ما يكفي من الوحل حتى انتهت الى ما عليه من بناء؟!...وكردستان كلها وحل بوحل!......
الأرملة نازلي قد تملك الايجابة عن سبب بناءها للقن القزم, والاستنتاج الأوفر حظاً هو الخوف من المجهول والخوف بحد ذاته يُقنن الأمال الكبيرة، ويحدُّ من ملكة التفكير بالأعظم!..... ولهذا كله أتت على بناءِ قزمٍ بحجم حلم انسان، الخوف القصي في أعماقه أتت على أمانيه الكبيرة!….
في العشاء وقبل أن يبسط الليل أوزاره، جمعت نازلي مالديها من الدجاج أمام القن وهي تدفعهم نحو فوهتها المظلمة!….لم تفلح باقناعها بالولوج الى ما هو جديد ومجهول، وحاولت مراراً وتكراراً!.....الا أنها أبت الدخول الى قن الأمان!.....وأخيراً فتق ذهنها عن خديعة!….أمسكت باحداها وادخلتها في القن ومن ثم عاودت الكرة مع ما تبقى من دجاجات الى أن اقتنعت ودخلت الحصن المنيع!....ولكن ولسوء الحظ ، أبى الديك الوحيد الولوج الى القن مع الدجاجات!....حاولت المستحيل اقناعه، حاولت خداعه ببعض الفتات من الخبز وبعدها بحفنة من القمح!....التقطها على عجل ومن ثم ابتعد ثانية تاركا العجوز في غيظها تثور وهي تتوعده بذبحه!....ولما لم تفلح معه تركته حراً ونامت على غضب!....
سكن الليل وغابت نازلي عن الأعين، حينها قرر الديك الإقتراب من دجاجاته، فإتخذ سطح القن مكاناَ له!..... وعلى الزاوية المشرفة مباشرة على باب القن!....نام ونامت دجاجاته، وكذلك نامت العجوز قريرة العين وهي مطمئنة على سلامة دجاجاتها من أي ثعلب مكار أو ذئبٍ غدار بجلدٍ مستعار!.....
في الطرف الأخر من جدار الحوش المرتفع نسبياً, ثقبٌ بحجم بوابة القن, وهو سبيلٌ لطرح الماء الجاري من الحمام وغسل الأطباق!.....ونازلي غافلة عنه كلياً ولا يمكن لها أن تتخيل يوماً بولوج ثعلبٍ منه يعكِّر صفو الهدوء والأمان لدجاحاتها!....خاصة بعد أن بنت لهم القن!....بالإيضافة الى ذلك، هي تسد باب القن بعد ولوج الدجاج اليه بقطعة حديد, وهي عبارة عن قذيفة لمدفع ثقيل من ميراث ما تبقى من الحروب في كردستان!....
الخريف في أوائله، والظلمة في بداية الليل تكبس الأنفاس، فتعجل الكبار بالولوج الى الفراش، وكذلك نازلي نامت في أول الليل حيث لايعكر صفو هدوئه شئ، وهي مطمئنة على ما تعتبره انجازٌ عظيم ٌ ضد الأخطار المحدقة بدجاجاتها!....الا ان الأمرعند الثعلب الذي غفلت عنه كلاب القرية شئ أخر!.. كيف حدد هدفه؟!.... كيف تجاوز الكلاب الجائعة السائبة؟!…. أمرٌ لا يعرفه الا الثعلب نفسه!.... تجاوز الحائط بالعبور عبر الثقب ذاك، وأول من لاحظه كان الديك!....
مع صرخة المستغيث الخائف ترك سقف القن بقفزة واحدة، ليستقر فوق سطح البيت المجاور القريب!....وعلى صرخاته المرعوبة المتكررة فاقت نازلي وانتبهت على حدث غير طبيعي!....خرجت مسرعة وهي تحمل مصباحاً في يدهها، الا أن الثعلب كان أسرع من أن تلاحظ وجوده حتى إختفى ثانية!…. وانقضى الليل وانبزغ النهار بدون خسائر، إلا أن الثعلب لم ينسى ذلك للديك أبداً!.....
تكررت زياراته للديك، وتعوّد الديك أيضاً على النوم فوق المرتفعات التيٍ لايطالها الثعلب الى أن لاحظته العجوز ذات ليلة، فقررت عدم المغامرة بالديك، حتى بعد أن ضيقت الثقب ذاك لدرجة بلكاد يمر منه الماء!....ثم استجارت ببعض الأطفال لملاحقته حتى تمكنوا منه ليضعوه بين يديها لتحشره هو الآخرمع الدجاجات في القن!....
في مترٍ مكعب بدون مجال للتنفس أمضى الديك ليلته وهو يتحمل غلاظة وبلاهة الدجاج المغلوب على أمرهها، وتجاوز الفجر بدون أن يقوم بما أورثته الطبيعة، وأخيرأ كان القرار الحاسم التالي!....ألا ينام ثانية الا على مرتفع!....
خلفية هذا القرار كان وبالاً على الديك، ليس من الثعلب انما من العجوز نفسها!….. الثعلب يتربص به للأنقضاض عليه في كل فرصة سانحة، والعجوز تطارده بمساعدة أطفال القرية لتعيده للقن سالماً!....وكنتيجة لهذه المطاردة المستمرة، أصبح الديك وحسب القرار الذي اتخذه، طائراً متنقلاً من مرتفعٍ الى مرتفع فوق أسطح أبنية القرية!......والأستمرار على الشئ يعتاد عليه!..... والديك اعتاد الطيران بين اسطح الأبنية المتباعدة، وللملاحقة المستمرة من الثعلب والعجوز وهو ينتقل من سطح الى أخر اتقن الطيران لمسافات، وفي بداية ليلٍ عاصفٍ شديدُ الريح وبينما تطارته العجوز طار بعيداً.....طارعالياً.. عالياً.. وليحدث المستحيل!….












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى