الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في رواية -جابر- ..الكل فصيح ..الكل يؤرخ

محمد القصبي

2019 / 3 / 16
الادب والفن


ماعاد النقاد يبالون بجماليات اللغة في الحكي الروائي ..وكم أحزنني هذا ..كُثر منهم تعرضوا لأعمالي
الروائية، قدحاً ومدحا، من خلال رؤيتهم لأمور أخرى في البنية المعمارية ، وأحياناً جوهرها الفكري ..لكن قلة ..من استهوتهم جماليات اللغة ..مثل د.أماني فؤاد ، د. محمد حسن عبد الله ،د صلاح رزق الذي قرر تدريس روايتي " عراف السيدة الأولى" لطلاب كلية دار العلوم في جامعة القاهرة .. د أسامة أبو طالب ،د.شريف الجيار ، د.حسام عقل ، ربيع مفتاح ، شوقي عبد الحميد .
وإن لم تخوني الذاكرة فلقد عاب أحدهم ..لاأتذكر اسمه خلال مؤتمر أدبي ..على رواية لأحد كتابنا ..عاب عليه ماذا ؟ الإجابة المفجعة ..شعرية اللغة !!
فإن كان السلف قد أورثونا حكمة إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب ، فلقد شعرت أن الصمت إزاء هذا الباحث جريمة ..فصحت أن الرواية أدب ..وعماد الأدب اللغة ..وما تقنيات البنية المعمارية إلا من مستحدثات العصر ، وتضيف بالفعل ..رونقاً على فن الحكي ..لكن هذا لايعني أن نتغافل عن محورية اللغة بل وارتباطها الجيني بمعمارية العمل..
وقلت أيضا :أنني كقاريء أشعر بالألم لاحتفاء النقاد بأعمال روائية ل "كبار" ..تفتقد كل عناصر الجاذبية اللغوية ..
وزدت :بالطبع لاينبغي للكاتب أن يتصنع ماقد يظنه جماليات لغوية ..إنما يترك العبارات تنسال بعفوية كأنها بكارة ضي الصباح ..
هذا ما قلته تفصيلاً - إن لم تخني الذاكرة- في أحد المؤتمرات منذ سنوات .
فإن كان بعض من الحضور استحسنوا ماقلت فآخرون بدا من صمتهم أنهم يضمرون شيئاً من التحفظ ..
وإني كمتلق تجذبني جماليات اللغة ، بل إزاء غواية سحرها قد أغمض عيني على نحو ما عما يبدو لي اختلالات فنية
وهذا حالي مع أعمال الروائية مهضومة الحق - مثل كل بروليتاريا الأدب في مصر- نجلاء محرم ..التي تنتمي لقلة ممن يسحرون قراءهم عبر كل أعمالها القصصية والروائية بلغة شهية بفيوضاتها الجمالية ..
ومنذ عدة سنوات نشرت رؤية نقدية عن روايتها "رنزي ياظل الإله" في مجلة الهلال..كان محورها جماليات اللغة ..
وها أنا إزاء كنز آخر من تلك الجماليات في روايتها الجديدة "جابر".
المسرح الزمني للرواية بدايات القرن السادس عشر الصاخبة بالأحداث الجسام ..والتي مازالت مصر تدفع ثمنها- ولاأبالغ- حتى الآن !
المكان ..ممتد من الأستانة شمالا وحتى القاهرة جنوبا ..
الشخوص ..السلطان العثماني الدموي سليم الأول المفتون برائحة الدم .. وكبير المماليك في مصر السلطان الغوري وخلفه طومان باي ،
..فإن كان السلطان العثماني صانع الأحداث الجسام ..غزو مصر وشنق المحبوب الشجاع طومان باي
فهناك مايحسب للروائية نجلاء محرم..إنها لم تكتف في تأريخها الروائي بما يدور خلف الجدران الشاهقة لقصر الباب العالي ، ولا بالميادين الحربية..بل لاذت أيضا بالعوام .. ليبوحوا برؤية تغاير تماماً رؤية الحكام .. من مصر صانع الأرابيسك المصري الأسطى جابر ، زوجته زينب ، ابنه حسن ، ومن الأستانة الضابط أصلان وكنان وفرحات ومهتاب وآيفر وغيرهم ، حتى أن هؤلاء البسطاء
يقولون مالايمكن أن يرد على ذهن السلطان ..
ففي الوقت الذي كان قصر الباب العالي يعيش ليلة صاخبة ابتهاجاً ب"فتح" المجر ،كان كنان العثماني يغرق في أحزانه بعد أن داهمه خبر مقتل أخيه "شوكت" خلال الحرب..استغرق الأسطى جابر،وهو في منزل كنان مواسياً ، في تأملاته وهو يتابع المشهد المنشطر إلى عالمين يجسدان مايراه مفارقة مذهلة. فعلى الضفة الأخرى من خليج القرن الذهبي ،وفي محيط الباب العالي تأتلق المشاعل وتتفجر الألعاب النارية احتفالاً بالنصر على المجر ..يتأملها جابر، ويتمثل بريقها دموعا تلمع في ظلام الليل الساجي ! هناك ..في المقر السلطاني ..تصدح الموسيقى وترفرف الرايات وتتوالى وفود المهنئين ..وهنا " بيت كنان "يعلو النشيج،وتذرف الدموع ويتوافد المعزون.
على كلتا الضفتين
يتأمل جابر صديقه المهدود حزناً المطوي الكفين ..المحني الظهر ..ويتصور زهو هؤلاء الفرحين بالنصر على الضفة الأخرى" يا هؤلاء..هاهنا دموع تذرف على رجل مات لكي تفرحوا "
هذا هو التاريخ الموازي لتاريخ السلاطين وانتصاراتهم وانكساراتهم ..لكن تأريخ جابر للأحداث – لو ندري – أكثر دقة وعدلا من تأريخ مؤرخي القصور!!
بل أن التاريخ الذي تؤرخ له نجلاء محرم على لسان البسطاء أكثر دفئا وشجنا من تاريخ مؤرخي السلطة ..إلا أن مايشد الانتباه في تأريخ العوام –وأراه مأخذاً على الروائية نجلاء محرم- أنهم يتمتعون بمستوى فكري رفيع يجعلهم يقفون وكبار المؤرخين والمفكرين على خط واحد ..حتى أنه لو حذفت أسماء القائلين لن يرد إلى ذهن المتلقي أن هذا نطق أسطى من ارباب الحرف في مصر ..
" انصرف جابر لورشته وبقى كنان يؤنب نفسه ..ويشتد في لومها ..ويشفق على صديقه المثقل قلبه بالهم والألم ..ويسأل نفسه :
- ماالذي جعلنا أمماً شتى وجعل انتقالنا من مكان لمكان غربة وفراقاً ولوعة ؟ أولم يخلق الله الانسان حراً، يسكن من الأرض ما شاء ؟لماذا تقف هذه الحدود بيننا ؟ لماذا نتمترس في أماكننا ؟ أهو الولاء للأرض ؟أم أنهم الملوك يحرسون ملكهم بأسوار تحجز الناس عن الناس وتزكي نعرة الاختلاف ؟ صفحة 222
وعودة إلى مايشدني في أعمال نجلاء محرم ونوهت إليه في استهلالية سطوري هذه ..جماليات اللغة ..
وأجزم بأنه لاتوجد صفحة ..فقرة لاتعبق بشيء من تلك الجماليات
"آه ياجابر!تخاطب المجهول القابع وراء البحر ، ولاتعلم عنه شيئا! " ص278"
"قفلت زينب باب قلبها على جابرها ..وأيقنت أنها لن تجد عوضاً عنه بين الناس ولا من الناس ..وأطلقت روحها تتلمس في أفق المحبة روحه ..وأقنعت نفسها بأنهما قد التقيا " – صفحة 237-
"السلطان الذي قطع المسافات البعيدة..وطاف بالبلدان فاتحا ..وأنفق العمر غازيا ..لم يجد وقتا ليتم قبره"- صفحة 218-
نجلاء محرم لاتكتب بل تعزف على أوتار قيثارة فصحانا لتستنطق مكنوزها من جماليات قد تستعصى على كثير من الكتاب .
لكن ثمة مايؤرقني كمتلق : هل كانت مثل هذه اللغة المكثفة المفعمة بكل صور البلاغة هي السائدة في ذلك الزمن ؟
يقينا لا..فكما هو معروف انهارت اللغة مع هيمنة المماليك وبعدهم العثمانيين ..فاتسمت بالركاكة ،والتزاوج الذي يشبه علاقة الزنا بين العربية ولغات وسط وشمال آسيا، وشرق أوربا التي أتى بها الغرباء ..
أما ما ورد في رواية جابر فهي لغة نجلاء محرم ..
بل أن هذا المستوى الرفيع من جماليات البلاغة نراه ينسال من كل الألسنة ..دون مراعاة لفروق بين متعلم وغير متعلم، طبقة حاكمة وعوام ، طفلة ورجل ..
وعودة إلى الفقرة التي وردت في صفحة 222 ،وتضمنت كلمة "نتمترس "
لقد كتبت مرة عبارة "يمترس الطريق " في مقال لي في إحدى الصحف ، وعشية النشر اتصل بي مدير التحرير المناوب ليسألني عن معنى العبارة !!!!
وهانحن في رواية "جابر " نرى كلمة "نتمترس" تنساب من دواخل انسان عثماني بسيط
وأخيرا أخشى أن ينتهي القاريء بأن هدف نجلاء محرم من روايتها " تبييض "وجه الدولة العثمانية التي يحاول البعض الآن ، حتى هنا في مصر " التغزل " بمحاسنها عزفاً على وتر الحلم الساذج ..استعادة الخلافة الإسلامية ، وماعرف الإسلام خلافة إسلامية أكثر من 40 عاما ،حتى زمن علي بن أبي طالب ، وكل ماجاء بعد ذلك لم يكن سوى امبراطوريات اتكأت على الغزو والقمع والفساد ، بدءاً من الأمويين وانتهاء بالعثمانيين الذين يعدون أحد أسوأ أشكال الاستعمار عبر التاريخ..
وكما نرى تفوح بنزعة الإيمان ، بل والمشاعر الانسانية لدى السلطان سليم الأول ، والذي أمر – على سبيل المثال - قائد جيشه وهم في طريقهم لغزو الشام بالتوقف وتفتيش رحال كل الجنود ..
لماذا ؟هذا ما يكشف عنه الحوار التالي بين السلطان والصدر الأعظم حيث يسأله الأخير:
- علام نبحث ؟
يجيب السلطان :
- اخترقنا في طريقنا بساتين فاكهة شاسعة يا سنان باشا
- وماذا في هذا ؟
- ربما تكون نفوس بعضهم قد سولت لهم قطف بعض الثمار
- وما الضير في هذا؟
- الضير في هذا أن تكون موليا وجهك للفتح طامعا في رضا الله ..بجيش من اللصوص "صفحة 50"
لكن سليم الأول هذا الذي لملمت عيوننا تفاصيل نزعته الإيمانية، عبر سطور نجلاء محرم، مغاير لسليم الواقع الذي تقلد زمام الأمور عام 1512 ، ونعته الفرنسيون ب " سليم الرهيب "
Selim le terrible
حيث قتل اخوته ، كل أخوته ، وأولادهم ، كل أولادهم ،
وساق أرباب مايقرب من 55 حرفة من مصر إلى الأستانة ..
وماذا عن شنق السلطان طومان باي ؟
ثمة قراءة أخرى للتاريخ عبر سطور الرواية غير ما يدرس في مدارسنا ، فالرواية تقول إن شنق طومان باي ماكان قرارالسلطان سليم الأول ..بل قرار الحاشية ..
"لما خلا السلطان العثماني لرجاله ، صارحهم بميله إلى العفو عن السلطان طومان باي..وبدا في حديثه قدر كبير من التبجيل "-صفحة 155-
"توالت الوسوسات ..
-طومان باي لن ينسى أبدا أنه كان سلطانا ،ولن يكف عن محاولة استعادة ملكه !
- كيف نكافيء قاتل الصدر الأعظم سنان باشا؟وكيف ننسى أنه قتله ظنا منه أنه أنت يا مولانا السلطان! سلطانان في دولة واحدة !" صفحة 156
فإن كان سليم الأول أمر بشنق طومان باي تحت وطأة وساوس الحاشية ، فهل ترك جثته تتدلى من باب زويلة لمدة ثلاثة أيام ، بإيعاز أيضاً منهم !!
..لكن روح التسامح والضعف الانساني ظهرت عقب دفنه حيث أمر السلطان سليم الأول رجاله بتوزيع النقود الذهبية على فقراء مصر تطييبا لروح السلطان طومان باي رحمه الله
هل كان ضعفا انسانياً حقيقيا ؟
بل تظاهرا بالضعف ، خشية من ثورة الرعية التي كانت تكن حبا عظيما لسلطانها طومان باي المشنوق !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با