الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدالة كسلام

حسن عجمي

2019 / 3 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تتنوّع نظريات العدالة و تتصارع. لكن لا تتحقق العدالة بأي من أنواعها أو بكافة أنواعها من دون وجود سلام. لذلك تكمن العدالة في السلام. و هذا أساس نظرية العدالة كسلام.

من نظريات العدالة نظرية الفيلسوف أفلاطون التي مضمونها أنَّ العدالة هي الانسجام كالانسجام بين الطبقات الاجتماعية. يعتبر أفلاطون أنَّ العدالة كامنة في أن يقوم كل فرد بما هو مُؤهَّل للقيام به ما يحتِّم أن توجد ثلاث طبقات اجتماعية لا بدّ من وجود انسجام فيما بينها لكي تتحقق العدالة الحقة. الطبقة الأولى طبقة الحكّام الفلاسفة و الطبقة الثانية طبقة المحاربين و الطبقة الثالثة طبقة المُنتِجين كالمزارعين و العمّال. و لا توجد العدالة كانسجام , بالنسبة إلى المدينة الفاضلة لدى أفلاطون , سوى بأن يحكم الفلاسفة (بسبب امتلاكهم للمعرفة الحقة) و أن تأتمر طبقة المحاربين بأوامر و قوانين الفلاسفة الحكّام و أن تطيع طبقة المُنتِجين أوامر طبقة المحاربين فأوامر الملك الفيلسوف أو الملكة الفيلسوفة.

فقط من خلال هذا الانسجام بين هذه الطبقات المبني على طاعة الأقل معرفة لصاحب الأكثر معرفة توجد العدالة. في مدينة أفلاطون الفاضلة كل فرد يقوم بما هو مُهيَّأ للقيام به طبيعياً و تربوياً ما يؤدي إلى الانسجام الاجتماعي و العدالة معاً. فالمُهيَّأ للحكم (بسبب أنه فيلسوف عالِم) يحكم و المُهيَّأ للعسكر يتعسكر بسبب قدرته على ذلك بينما المُهيَّأ للانتاج الزراعي أو الصناعي إلخ فيُنتِج ما هو قادر و مُهيَّأ لانتاجه ما يحتِّم وجود الانسجام بين هذه الطبقات من جراء أنَّ كل فرد يقوم بما يجيد القيام به على ضوء ما هو مُهيَّأ له بطبيعته و علومه.

تطوّر مفهوم العدالة عبر التاريخ و اتخذ مضامين متنوّعة كالعدالة المتمثلة في احترام الحريات بأنواعها كالحرية السلوكية و الفكرية. مثل ذلك نظرية العدالة كحرية لدى الفيلسوف روبرت نوزيك الذي يصرّ على أنَّ العدالة كامنة في احترام حريات الأفراد و عدم التدخل في شؤونهم و أنَّ الضامن الوحيد لحريات الفرد هو عدم فرض إعادة توزيع الثروة في المجتمع و محدودية السلطة الحاكمة و حق كل فرد بالتصرّف كما يشاء بما يملك و إلا خرقنا حق كل فرد في أن يكون حُرّاً في فعل ما يريد بنفسه و بما يمتلك. يعتبر نوزيك أنَّ فقط الحكومة الصغيرة و المحدودة الصلاحيات و المهتمة فقط بحماية المواطنين من ممارسة القوة و القمع و الاحتيال و السرقة إلخ مُبرَّرة حقاً لكونها لا تخرق حقوق المواطنين كحقهم الأساسي في التصرّف بحرية مطلقة بلا اعتداء على الآخرين. و بذلك , من منظوره الفلسفي , توزيع الثروات هو توزيع عادل فقط متى تمّ بالتبادل الاقتصادي الحُرّ و إن أدى إلى اللامساواة الاجتماعية و الاقتصادية. هكذا , بالنسبة إلى نوزيك , الرأسمالية الخالية من أية قيود هي الكفيلة بتحقيق العدالة الحقة القائمة على احترام الحريات أولاً و أخيراً.

ثمة عدالة أخرى هي العدالة كانصاف. يقول الفيلسوف جون رولز إنَّ العدالة تتكوّن من مبدأيْن هما أولاً المساواة في الحريات الأساسية و ثانياً مبدأ أنَّ اللامساواة مقبولة فقط إذا أدت إلى تحقيق النفع الأكبر للأقل حظاً في المجتمع بالإضافة إلى المساواة في الفُرَص. و هذا ما يسمّيه رولز بالعدالة كانصاف. بالنسبة إليه , اللامساواة الاجتماعية و الاقتصادية غير مقبولة في حال أدت إلى عدم إفادة الأقل حظاً اجتماعياً و اقتصادياً. و بذلك العدالة كانصاف تسعى إلى إقلال درجة اللامساواة الاجتماعية و الاقتصادية ما يجعل هذه العدالة حقاً عدالة كانصاف. مثل ذلك أنه في نموذج العدالة كانصاف يجب أن تُبنَى المؤسسات على أساس إفادة الأقل حظاً و إلا أمست اللامساواة الاجتماعية و الاقتصادية مرفوضة. فحين تُبنَى المؤسسات لنفع الأقل حظاً تتقلص الفوارق الاجتماعية و الاقتصادية ما يحتِّم نشوء العدالة كانصاف. و هذا نوع من أنواع الاشتراكية الممكنة.

أما العدالة لدى الفيلسوف كارل ماركس فهي العدالة كمساواة بمعنى المساواة في الحقوق و الواجبات و المساواة المتحققة من جراء القضاء على الحكم الطبقي. في الماركسية , فقط المجتمع الذي بلا طبقات هو المجتمع العادل. و بذلك لا تتحقق العدالة الحقة سوى بتأميم وسائل الانتاج و الغاء الملكية الفردية. هذا لأنَّ أي حكم لأية طبقة اجتماعية يُسبِّب عدم المساواة بين الأفراد المنتمين إلى طبقات اجتماعية مختلفة ما يدلّ على أنَّ العدالة كمساواة لا توجد إلا بالقضاء على الطبقات الاجتماعية المتصارعة فسيادة المساواة الاقتصادية بين الجميع ما يحرِّر كل فرد من سلطة الرأسمالية و تناقضاتها. هكذا لا عدالة حقة بلا مجتمع شيوعي و دولة شيوعية خالية من الطبقية و حكم رؤوس الأموال. بالنسبة إلى الماركسية , المساواة الاقتصادية هي الأساس لكل أنواع المساواة الأخرى و بذلك هي أساس العدالة كمساواة. فمثلاً , من المستحيل وجود مساواة في الفُرَص بلا أن نبدأ بمساواة اقتصادية بين جميع الأفراد فبلا مساواة اقتصادية يمتاز فرد على آخر فتزول المساواة في الفُرَص.

لكن لا تتحقق العدالة كانسجام من دون سلام. فالأوطان الخالية من السلام تعاني من عدم الانسجام فالحروب تدمِّر المجتمعات فتقضي على أي انسجام اجتماعي. كما أنَّ الشعوب الفاقدة للسلام فاقدة للحريات. في زمن الحروب يخسر الفرد حرياته و حقوقه من جراء أنَّ الحروب تقيِّد تصرّف الأفراد و تقتل آخرين. من هنا , من المستحيل تحقيق العدالة كحرية بلا وجود سلام أولاً. من المنطلق نفسه , من غير الممكن وجود العدالة كانصاف مع وجود صراعات و حروب بما أنَّ الحرب تمنع احترام الحقوق الإنسانية بقتلها للمواطنين و تقييد حركتهم فتمنع توزيع الحقوق بتساوٍ و تقضي على إمكانية إفادة الأقل حظاً تماماً كما تلغي إفادة معظم أفراد المجتمع بسبب ما تنتج من دمار و قتل. بذلك لا توجد العدالة كانصاف من دون وجود سلام.

هذا ما يصدق أيضاً على العدالة كمساواة. في زمن الحرب تزول كل أنواع المساواة الممكنة بين الأفراد لأنَّ الحرب عبارة عن قاتل و مقتول و مُدمِّر و مُدمَّر و منتصر و منهزم و لذا تتصف الحروب بالضرورة بخرق المساواة بين البشر و خرق الحقوق الإنسانية كافة من جراء ما تنتج من دمار و انهيار اجتماعي و اقتصادي و أخلاقي. من هنا أيضاً لا عدالة كمساواة بلا سلام. كل هذا يرينا أنَّ السلام هو أساس إمكانية تأسيس العدالة كانسجام و كحرية و كانصاف و كمساواة. و بذلك تكمن العدالة الحقة في السلام لأنَّ السلام هو الطريق الوحيد لبناء العدالة بأنواعها كافة كالعدالة كانسجام و حرية و انصاف و مساواة.

على هذا الأساس , العدالة الحقة ألا و هي العدالة كسلام تؤسِّس للعدالة كانسجام و حرية و انصاف و مساواة تماماً كما أنَّ الانسجام و الحرية و الانصاف و المساواة تؤسِّس للسلام. إنسانٌ بلا سلام إنسانٌ بلا عدالة. و إنسانٌ بلا عدالة و سلام شبهُ إنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس تواصلت مع دولتين على الأقل بالمنطقة حول انتقال قادتها ا


.. وسائل إعلام أميركية ترجح قيام إسرائيل بقصف -قاعدة كالسو- الت




.. من يقف خلف انفجار قاعدة كالسو العسكرية في بابل؟


.. إسرائيل والولايات المتحدة تنفيان أي علاقة لهما بانفجار بابل




.. مراسل العربية: غارة إسرائيلية على عيتا الشعب جنوبي لبنان