الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورقة من مذكرات مهاجر

فوزى سدره

2019 / 3 / 20
الادب والفن



كنت أسمع عن القرعة العشوائية أوما يسمونها "اللوتري" .. فلان فاز في القرعة .. وفلان هاجر إلى أمريكا .. قلت : لماذا لا أُجرب؟ .. ورقة تملأها ببضعة بيانات .. وصورة ومظروف .. وكل هذا لا يُكلف شيئًا..ونسيت كل ذلك في غمرة هموم الحياة .. ويومًا، بعد عودتي من عملي وجدت مظروفًا أصفر اللون في صندوق البريد.
لم أكن أتوقع ما بداخله .. قلت ربما يكون من إحدي المصالح الحكومية .. أو من مصلحة الضرائب .. وكانت دهشتي عندما وجدت أنني فزت في برنامح الهجرة.
انتابني شعور غريب .. وتساؤلات كثيرة في رحلة سأخوضها إلي المجهول .. تبدلت مشاعري وتضاربت .. هل فتح العالم ليذراعاه في مستقبل مرصوف بالأزهار والأحلام الوردية ؟
ثم ينقلب إحساسي إلى حزن وخوف من مجهول لا أعرف عنه شيئًا.. ولا أعرف ماذا ينتظرني ..هل أمريكا هي أرض الأشواك والمعاناة ؟ هل أرضها ستضم قبري؟

جاءت ساعة الرحيل بعد معاناة وإجراءات صارمة .. ترجمة وتجهيز للأوراق وكشف طبيوالتصرف في بعض الأملاك ..وكلام من الناس :
- يارجل . أبعدَ الشهرة والنجاح هنا ؟ . ماذا سوف تعمل هناك ؟ هل تغسل الأطباق بعد كل هذا العمر؟ هل تبدأ من الصفر وقد وصلت إلى ما تصبو إليه في بلدك؟
- أمريكا ليست لأجلك بل من أجل أولادك. ينتظرهم مستقبل باهر لم يحلموا به هنا

نعم . هناك النجاح يعتمد علي الكفاءة والخبرة .. والفرص مُتاحة للجميع بالتساوي.. يكفي أن التعليم مجاني حتي المرحله الثانوية .. مُدعم بوجبات غذائية .. والجامعة مفتوحة للمجتهدين.
فأنا أنقذ أولادي من معاناة الثانوية العامة .. وقرف المواصلات .. والدروس الخصوصية .. والمحاباة .. والواسطة .. فليس ليهنا وزير أعرفه ولا مستشار أقصده.
على بركه الله ...
حان وقت الرحيل .. الجميع حولي يودعونني .. والدموع تنهمر بشدة .. سوف أترك أصدقائي وأقاربي وذكرياتي وأحلامي وقصص كفاحي .
أصرت أمي أن ترافقني حتى المطار .. قالت: اجعلني أشبع منك يا ولدي .. وأهدتني شالها ..أحتفظ به حتي أتذكرها ... كيف لي ألا أتذكرك يا أمي؟ ودعتني بأحضانها الدافئة ودموعنا تجري على خدودنا .. شعركلٌ منّا في داخله أنه اللقاء الأخير والوداع .. كانت أمي تنظر إلي بنظرات لها معنى حزين وتحتضنني بحضن دافئ أفتقدته إلي الأبد .. لم أفهم ذلك إلا بعد أن رحلت عن عالمنا .. وأنا في أرض الغربة .
الغربة لها ثمن وسوف ندفعه .. ندفعه على مر الأيام .. وتذكرت عندما وقفت أمام الموظفة الأمريكية في السفارة .. أقدم أوراقي وأوراق أسرتي.. نظرت لي وقال بعبارات تحذيرية :
- لا تتصرف فيما لك.. ربما لا تعجبك أمريكا .. فترجع لما كنت عليه .
كثير من المهاجرين لأمريكا ليس لهم قريب أو صديق ينتظرهم..والبعض ظل في المطار ساعات وربما أيام لأنه لا يعرف في أي اتجاه يضع قدميه .. وهناك من لم يجد أحدًا يمد له يده..لأن نداء الخدمة مفقود في الغربة.
وطوبى لمن يهاجرعلى باب الله .. لأن بابه أرحم من أبواب البشر .. وها أنا قد وقفت في باب من أبوابه.. خرجت من المطار أنا وأولادي وزوجتي .. وكان في انتظارنا قريبٌ من الدرجة الأولى ..ألح علينا بكل الوسائل أن يستقبلنا بعد أن طلب منّا أن نحمل له بعض الأشياء لم تتسع لها حقيبة واحدة من ضمن حقائبنا .. وجدنا ترحابًا شديدًا في أول أيامنا .. ظل يفتر يومًا بعد يوم .. مع فرض حصار لم يمكننا من البحث عن مخرج لترتيب ظروف معيشتنا .. وانتابنا إحساس بأنه يريد لنا العودة من حيث أتينا.
لا مفر من أن نخرج من هذا الحصار .. حتي ولو كان الشارع مسكنًا لنا .. هربنا بجلدنا .. إلا أن قريبنا طالبنا بأجرة مكوثنا عنده إقامة شاملة لمدة أسبوع.
وكان هذا أول باب من أبواب البشر "أقرب الناس إليك".. وتذكرت السامري الطيب الغريب .. الذي صادف شخصًا ملقى علي قارعة الطريق .. مجروحًا لايعرفه..ولا ينتمي لأبناء بلدته .. فـَرق قلبه الإنساني وحمله على دابته إلي أقرب عيادة ليداويه .. وقام بدفع كافة المصاريف ..
وكان قد مر على هذا الجريح .. رجل حافظ شريعة الله ويُعلمها للآخرين .. وأيضا رجل دين يعظ في الناس بالرحمة والمحبة .. وكلاهما عبر الطريق وكأنهما لم يبصراه ولم يعيراه أي اهتمام.

إذًا . فلُنجرب الغرباء .. تذكرت شخصًا كان يتردد على مقهى البن البرزيلي .. كنا نتحاور سويًا.. في أمور المجتمع والسياسة .. كان ناقمًا على الأوضاع .. يختم حواره دائمًا بكلمة مفيش فايدة في البلد دي .. وعمرها ما ينصلح حالها .. طالما العقول مظلمة ولاتريد أن تفتح شبابيكها..
ثم يعقب ويقول: دي بلد خمسة آلاف سنة يا أستاذ والحال على ما هو .. وبلاد عمرها مئات السنوات والحضارة شملتها .. لكِ الله يا مصر .. تنتظر إيه لو جاتلك فرصة .. اهرب .. امسكها بإيدك وسنانك واتشعلق فيها واهرب.. ويختم صاحبي حديثه بضحكة ساخرة .. ويصيح:
- قالها سعد زغلول !!
غاب صاحبي هذا عن المقهى فترة طويلة .. وفي يوم وجدته أمامي في أحد البنوك
- أين أنت يا أستاذ؟
ضحك وقال:
- خلاص يا صاحبي . أنا مسكت في الفرصة.
- فرصة إيه؟
- أمريكا بتناديني وأنا لبيت .. أشوف وشك على خير..على فكرة .. إدينا عنوانك .. لازم يبقى فيه تواصل بينّا..وعلى الأقل نعرف أخبارك وتعرف أخباري.
بعد غيابه بفترة .. تلقيت منه خطابًا يشرح فيه رحلته بالتفصيل ..ويعرفني بالولاية التي استقر فيها، وقد عمل في أحد فنادقها الكبرى التي توفر له المسكن والمواصلات والمأكل .. وطلب مني أن أرسل له رقم تليفوني .. وأصبحنا نتكلم سويًا كل أسبوع .. ودونت تليفونه في مذكرتي .
تذكرته . فنحن دائمًا ما نبحث عن نجدة في الأزمات .. ونلجأ للغرباء لينقذونا من الأقرباء ..
ولكن هل لازال معه نفس الرقم؟ وإذا بي أسمع صوته يقول:
- أنت فين؟
- أنا هنا في أمريكا و قد مسكت بالفرصة عملًا بنصيحتك.
- هل وجدت سكنًاوعملًا ؟
- لا هذا ولا ذاك .. أنا وأسرتي في الشارع.
- يا راجل.. خذ أول طائرة وقل لي على موعد الوصول وأنا في انتظارك.
قلت في نفسي: هل هذا معقول؟ أم أنه آخر أبواب الصدمات ..عمومًا أمريكا بلد المغامرات .. واللي مايخافشي ينجح.
توكلنا على باب الله .. أنا وأولادي وزوجتي .. وضعنا حقائبنا في أول أتوبيس .. ووصلنا إلى بلد اسمها ناشفيل .. ولم يفهم موظف التذاكر الاسم لأننا لم نتمكن من نطقها بطريقة صحيحة .. فقلنا له "ناشفة" .. وبعد وقت طويل أنقذنا شخص يتكلم العربية فقال يقصدوا ناشفيل .. وعلمت فيما بعد أن هذا الاسم أصبح مشهورًا ومتداولًا في صعيد مصر.
وجدنا صاحبي ومعه آخر في انتظارنا وعرفنا به. قد يقابلك أشخاص في حياتك رتبها الله لك دون أن تعلم .. أشخاص لهم قلوب عامرة بالعطاء وحب الناس .. بدون أية منفعة.
هؤلاء الناس لكي ترد لهم جميلهم وحبهم .. عليك أن تبحث عن آخرين يحتاجون لهذا العطاء والحب؛ لأن أجمل ما في الحياة أن تشعر بأنك تُسعد إنسانًا أو تنقذه من الغرق.
علمت وتعلمت أن الناس الطيبين ..ليسوا بدرجة قرابتهم .. ولا بملابسهم الرسمية .. ولا بما يحملون من علوم مدنية أو دينية.. ولابشهاداتهم.. بل بالقلب الطيب الذي نراه في أفعالهم ..
كان أول تحدٍ لنا هو اللغة .. واللغه هي مفتاح كل الأبواب في الغربة.. وهي المجداف الذي نمسك به في البحر ليصل بنا القارب حيث نشاء.
وهنا تعلمت أنه ينبغي على الإنسان قبل أن يبدأ رحلته للصيد أن يجهز عدته وأدواته .. وعدة المهاجر وأدواته هي إلمامه بلغة البلد المهاجر إليها .. وإلا فليعتبر نفسه مولودًاجديدًا.
بدأت في تعلم اللغة .. وتحملنا ضحكات الناس على لكنتنا الغريبة .. وكان المشوار صعبًا في غربة ندفع ثمنها يوميًا.. بين قسوة الطبيعة وقسوة الناس من حولنا .. ولكن تحدي التغيير والتعلم لهما متعة لا تعادلها متعة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في