الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجذور التاريخية للفتوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر*** (10- 3 )

عقيل الناصري

2019 / 3 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الجذور التاريخية للفتوى الدينية في ملاحقة اليسار بالعراق المعاصر*** (10- 3 )

وفي هذه المرحلة بالذات من تاريخ العراق المعاصر حيث : نضوج الأزمة البنيوية العضوية للحكم الملكي بلغت مراحلها العليا ؛ وانتشار الفكر التحرري بين الأوساط المتعلمة والمثقفة ؛ والتطور النسبي للوعي الاجتماعي نتيجة التطور النوعي في قوى الانتاج الاجتماعي، المنعكسة بتأسيس تشكيلات حركة الضباط الأحرار ؛ والتطور الكمي للطبقة الوسطى وصعودها ؛ وعموم الانتفاضات الشعبية في المدينة والريف كعوامل نضوج للظرف داخلي ؛ وفي الظرف الخارجي: أثناء ذروة الحرب الباردة ؛ وظهور حركة الحياد الايجابي ؛ وفي التوسع الهائل والتأثير المتبادل لحركة التحرر العالمية كإنبثاق الصين الشعبية والأزمة الكورية، والعربية المتمثل في إشتعال حركة التحرر الجزائرية (1954) وتأميم قناة السويس ( 1956).
لقد ساهم السفيران البريطاني والأمريكي في الحملة "... ضد الشيوعية بنفسيهما، إذ قصدا مدينة النجف الأشرف وإلتقيا العلماء المسلمين فيها، حيث تقيم المرجعية الدينية الأعلى للشيعة في العالم، بهدف حث رجال الدين والعلماء والمرجعية على التعاون وإصدار الفتاوى ضد الشيوعية والشيوعيين في العراق... "، لكن خاب أملهما.
والإستثاء النادر في عقد الخمسينيات كان"...في صيف عام 1957 (الأصح عام 1953- الناصري) حصلت حركة إضراب للسجناء السياسيين في سجن الكوت وذلك لسوء معاملة إدارة السجن مما دفع بالسلطة إلى ترتيب موضوع مبني على الخديعة لإستحصال فتوى من عالم الدين للمذهب الشيعي في المدينة بتكفير السجناء لأنهم شيوعيين كي يتسنى هدر دمائهم، وبالفعل صدرت الفتوى بكفرهم من عالم الدين في المدينة المرحوم الشيخ هادي الأسدي وراح سبعة من السجناء السياسيين دفنوا يومها في مقبرة اليهود الموجودة في ضاحية من ضواحي الكوت ثم نُقِلَ رفاتهم بعد قيام ثورة 14 تموز إلى النجف الأشرف... ".
واستمرت هذه الحالة إلى ثورة 14 تموز، عندما خرج الحزب الشيوعي إلى العلن، وبالأخص بعد أن لعبت الاوساط الفقيرة والهامشية دورا في العملية السياسية بممارسة ضغطها من الآسفل، وبخاصة بعد إلغاء قانون دعاوى العشائر وصدور قانوني الاصلاح الزراعي والأحوال الشخصية. إذ "... حاولت الحكومات (الملكية) المتعاقبة إصدار الكثير من الفتاوى الدينية ضده (الحزب الشيوعي) من أجل محاربته ليس في الجانب السياسي حسب، بل من الجانب الديني والأخلاقي أيضاً، إذ عجزوا عن تحقيق ذلك عبر القمع السياسي والإرهاب. ولكن حكام العهد الملكي فوجئوا برفض الكثير من شيوخ الدين المحترمين لموقف الحكومة العراقية الملكية وأمتنعوا عن إصدار فتاوى ضد الشيوعية والشيوعيين في العراق وأبتعدوا كلية عن إتهامهم بالإلحاد والكفر، إذ أن هؤلاء الأخيار من شيوخ الدين الكرام أدركوا خمس حقائق جوهرية، وهي:
- إن الشيوعية إتجاه سياسي يقبل في صفوفه المؤمنين والملحدين في آن واحد.
- وإن الشيوعيين العراقيين لم يتحرشوا يوماً بالدين ولم يسيئوا لشيوخ الدين والحوزات الدينية بأي حال من الأحوال، بل كان الاحترام والتقدير ظاهرتين أساسيتين في العلاقة بين الشيوعيين وشيوخ الدين في العراق.
- وإن الشيوعيين العراقيين وطنيون يناضلون ضد الاستعمار والاستغلال والبؤس والفاقة والجهل والمرضى، هذه الآفات التي ابتلى به مجتمعنا العراقي من جهة، وفي سبيل المساوة والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة الحرة من جهة أخرى.
- وإن القوى التي تسعى إلى إدانة الشيوعيين وإتهامهم بالكفر والإلحاد تبغي من وراء ذلك أهدافاً سياسية مناهضة للمجتمع والوحدة الوطنية والتقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.
- وإن كثرة من شيوخ الدين وطلبة الحوزات الدينية المحترمة، كانت منتمية أو مساندة ومؤيدة لنضال الحزب الشيوعي العراقي خلال العقود السبعة المنصرمة. وقد برز هذا الموقف بوضوح كبير لدى المجتهد والفقيه الكبير السيد أبو القاسم أبو الحسن الموسوي الاصفهاني الذي رفض إدانة الشيوعية والحزب الشيوعي العراقي، كما رفض ذلك السيد محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه الموسوم: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون، بغض النظر عن موقفه الشخصي من الشيوعية ... ".
إن توظيف الدين في محاربة الفكر اليساري وبخاصة الماركسي منه، لم تتم مناقشته فكرياً ولا نظرياً مجرداً كمنهج ومضمون لأفتقار المؤسسة الدينية إلى المقتدريين من الذين يحاولون فهم الآخر فلسفياً، بل من خلال الممارسة وعلى وفق المعادلة الثنائية، في هذا المجال تحديدا، الإيمان والإلحاد، إذ "... في البدء لا بد من الإشارة إلى أن معظم مناهضي الحركة الشيوعية العراقية، وظفوا مسألة الدين ضدها بشكل دائم من خلال طرح ثنائية الإيمان والإلحاد والإصرار على أنه لا يمكن تقييم الشيوعية إلا من خلال هذه الثنائية المقترحة... لقد ساهمت ثنائية الإيمان والإلحاد هذه في تحشيد قوى متنافرة فكرياً وموقعياً إلى حد كبير ضد الشيوعية العراقية بدءاً من نظام الحكم الملكي ومروراً بالانكليز وإيران الشاه والأمريكان وجهات عربية والانتهاء بإسلاميين وقوميين وغيرهم كثيرين، وقد أفرز هذا التحشيد كثيراً من الحساسية الشديدة التي طبعت تعامل المجتمع العراقي بصورة عامة موضوعة الإلحاد التي لم تخضع إلى معالجة جادة خارج ساحة الاحتراب السياسي بوعيها التصنيفي المشحون ... ". وبصورة خاصة بعد ثورة 14 تموز1958.
ونعتقد بأن الفتوى الدينية التي تتدخل في مسألة سياسية خلافية ومتغيرة تستفز الأعصاب غالباً، إن لم تكن كل الفتاوى الدينية المعاصرة التي تدخلت في السياسة عكست قصر نظر من أصدرها في الجوانب العملية، وجهله بالسياسة وأساليبها التي لا تتلائم بل ومتناقضة مع ماهيات الاخلاقيات الدينية. وهذا ما تجسد في الاستخدام المادي لهذه الفتوى الدينية بعد انقلاب 8 شباط عام 1963. علماً بأن هذه الثنائية (الإيمان والإلحاد) قديمة قدم الذات الاجتماعية للناس وظهور الأديان، بخاصة السماوية، بمعنى إن الألحاد، كما أعتقد، ظهر مع بدايات ظهور الأديان وتطور مؤسساتها وعلاقاتها، بغض النظر عن ماهياتها، وتصاعد دورها وتأثيرها في عقل المجتمع الجمعي، وهذا ما دللت عليه الدراسات التاريخية العلمية والموضوعية التي لم تربط ظهور الإلحاد بالماركسية، بل إن هذه الموضوعة "...هي قديمة جداَ. فقد وجدت في عهد الإغريق وفي فترة الحكم الأموي والعباسي، كما وجدت في القرون الوسطى في أوربا أو في مناطق أخرى من العالم... ".
ومن تجارب العراق المعاصر فقد سبق وأن قام ضباط التحقيقات الجنائية بالعراق الملكي بالتعاون مع الاستخبارات البريطانية والأمريكية والإيرانية بالتشجيع والتحريض على إصدار الفتاوى الدينية التي تكفر الافكار الشيوعية واليسارية التقدمية، وكذلك لتسفيه الأبعاد التحررية لحركة التحرر العربية أو/و الكردية وقواها وبخاصة ذات البعد اليساري. وقد استخدمت التحقيقات الجنائية، ومن ثم مديرية الأمن العامة، بخاصة في العهد الجمهوري منذ الجمهورية الأولى (14 تموز 1958- 9 شباط 1963)، الرموز الدينية المقدسة وإتهام قوى اليسار والإدعاء كذباً بشتمها، أو/و تمزيق القرآن أو/و سب الرموز السياسية الدنيوية كرئيس الوزراء، كوسيلة للايقاع الاجتماعي والسياسي بحاملي فكرة التغيير من القوى التقدمية والادعاء والزعم بشتمها لهذه المقدسات، بغية إبعاد الناس، بخاصة المتعلمين والمثقفين، عنهم أو على الأقل النفور السياسي والفكري منهم، وبالتالي مما يسمح للسلطة بمعاقبتهم ماديا أو/و معنويا. كما حاولت التحقيقات الجنائية الحصول على فتوى دينية من قبل المرجعية الدينية العليا، بغية خلق رؤى عامة تبعد جمهرة المثقفين والعمال وذوي الدخل المحدود والمتطلعين نحو التغيير في وضعهم الاجتصادي عن الحركات التقدمية اليسارية والماركسية، لكنها لم تفلح في مسعها إلا لماماً.
** من أوائل المجابهات مع المؤسسة التقليدية في العراق المعاصر:
لم تدع الماركسية، على الأقل الكلاسيكية، وبصورة خاصة بالعراق، إلى إدراج الإلحاد في برامج الحركات الاجتماعية ولا الأحزاب الشيوعية، وهذا ما تدلل عليه الوقائع التاريخية لنشاط كل القوى التقدمية في العالمين المتقدم أو النامي، حيث خلت بالمطلق فكرة الإلحاد في برنامجها. بل إن البعد النظري الماركسي قد حذر "... لا بل سخر إنجلز في نقده عام 1873 لبرنامج أتباع بلانكي المنفيين إثر كومونة باريس، من إدعائهم إلغاء الدين بمرسوم. وقد أكدت تجارب القرن العشرين نفاذ بصيرة إنجلز، الذي حذر من (أن ممارسة الاضطهاد هي افضل وسيلةٍ لترسيخ المعتقدات غير مرغوب فيها). مضيفاً ( أن الخدمة الوحيدة التي لا تزال في إمكاننا اليوم أن نقدمها إلى الله أن نجعل من الإلحاد موضوع إيمان قسري... ".
في البدء لا بد من التذكير بأنه في العراق المعاصر وبقية البلدان الاسلامية، قد نمت الأرهاصات الأولى للصحوة الإسلامية في آواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والطهطاوي والشيخ علي عبد الرازق ومحمد رشيد رضا والنائيني وغيرهم، "... من الذين حاول العبورَ من المناهج والمفاهيم والأدوات التراثية في فهم الدين ونصوصه، إلى استعمال مناهج ومفاهيم وأدوات جديدة، وتوظيفها في بناءِ فهمٍ بديل ونقدِ الفهم القديم. وتميز بخبرة رصينة، وشجاعة كبيرة في توظيفها... وإلى ضرورة تبني نمطَ "تدين إنسانى القلب، نبيل العاطفة، يؤدى إلى التعاون البشرى، ولا يعوق الإخاء الإنسانى. تدينٌ لا يعرفُ تلك السلطة الغاشمة التى ترهب العقل الطليق، وتفت فى العزم الوثيق، وتفسد الذوق الرقيق، وتتحكم بجبروت لاهوتى فى الحياة الدنيا، وتسد الطريق إلى الآخرة. تدينٌ لا يخلقُ تلك الطبقة التى تحتكر الدين، وتسد المسالك إلى الله، ولا يعترف بتلك الطبقة التي خلقتها الظروف، لأنه لا رياسة فى الإسلام... " . وإشتد عودها في منتصف الفرن المنصرم وما بعدها، بحيث شكلت الثورة الاسلامية الإيرانية دافعاً قوياً حتى كادت، الأحزاب الإسلامية في معظم البلدان ذات الغالبية المسلمة "... منافسة لليسار وبديلا منه في السعي وراء توجيهة الاحتجاج على (البؤس الحقيقي) وعلى الدولة والمجتمع اللذين يحملان مسؤولية إنتاج هذا البؤس. وهاتان العلاقتان المتبادلتان المتعاكستان- إيجابية في الحالة الأولى وسلبية في الثانية- تؤشران على خلاف عميق بين الحركتين التاريختين المذكورتين ... " .
لم يتحول الدين في معظم هذه الدول، كما في الدول الأمريكية اللاتينية، إلى كونه من لاهوت التحرير ولم يصبح مكوناً من مكونات اليسار أو حتى قريباً منه لإرتباطاته بالقوى التقليدية لإختلاف الظروف الاجتصادية والفكرية وما يلعبه الدين من دور في حياة كلا المجتمعين.. لقد توجهت الكنيسة إلى الناس، بعد أن عزف الناس على الذهاب إلى الكنيسة نتيجة لمواقفها المساندة للحكم التسلطي والدكتاتوريات العسكرية، إزاء هذا الظرف، ولأن اغلب الناس فقراء مما أضطر الكنيسة إلى الذهاب إليهم، للتعبير عن محنتهم تعبيراً عن الاحتجاج للأوضاع الاجتصادية، إضافة إلى البعد التحريضي، بغية إماطة اللثام عن الشكل المقدس للإستلاب الانساني، في ظروف أمريكا اللاتينية، ولهذا ولد لاهوت التحرير.
أما في الدول الإسلامية فإن الناس تذهب إلى الجامع بحركة مناقضة لتوجه الكنيسة في أمريكا الاتينية، كما أن رجل الدين وبخاصة الكبار منهم يعيشون في بحبوحة مادية، أكثر من مستوى الأغلبية من السكان الفقراء، ويلعب الدين ورجاله دوراً مؤثرا في جماهير واسعة من المجتمع، على الأقل من الناحية النفسية طالما إن المعاناة الدينية هي التعبير عن المعاناة الحقيقية، ولهذا لم يصبح الدين مناراً إلى الاحتجاج، بصورة عامة مع استثناءات محدودة، بل أصبح يشكل أحدى أهم الايديولوجية المهيمنة في الوقت الحاضر في عراق الجمهورية الثالثة ( 9 نيسان 2003- ولحد الآن). كما أن شيوع الأمية والأوهام الخيالية الطوباوية والأساطير وما يشاع عنها من خرافات وما ينجم عنهما من الإستكانة والقبول بما رسم لهم من مصير، كل هذا تلعب دورا حاسماً في تبني الأفكار الدينية والرضى بالإستلاب الذاتي في أشكاله غير المقدسة، بغية تحول نقد السماء إلى نقد الأرض ونقد الدين إلى نقد القانون ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة، كما يقول ماركس.
ونظراً لإرتباط المؤسسة الدينية، بمختلف فروعها (الإبراهيمية) وغيرها من الديانات الأرضية، بالقوى والشرائح والفئات والطبقات المحافظة ذات التوجهات والماهيات التقليدية، كذلك الفئات الطفيلية غير المنتجة اقتصاديا، منذ ظهورها في المجتمعات الطبقية من الناحية التأريخية، بل وحتى قبل ذلك بآلاف السنين. إن هذا الدور المستديم وذلك الارتباط العضوي بالقوى المستغِلة مستنبط من منظومة قيمها وأعرافها وإرثها العملي ومن تأريخية ذاتها وماهية تفسيراتها وتطور أنظمتها المستند على الحق الإلهي للحكم، وهو يمثل الجوهر المركزي للتناقض بين الافكار الدينية والأخرى الوضعية، وبالتالي مواقفها المساندة ومنطلقاتها، للسلطة الاستبدادية في أغلب الآحيان، مع استثناءات قليلة، كما يحدثنا تأريخ المؤسسة الدينية ذاتها في أغلب مواقفها.
ومن الواضح أن أول فتوى ضد الشيوعية في العالم العربي والإسلامي، كما يذكر تأريخ مصر االسياسي، سارع الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية عام 1919، عندما نجحت الثورة الاشتراكية في روسيا، في إصدار فتوى بتحريم الشيوعية ولم يكن قد مر على ثورة اكتوبر سوى أقل من عامين، وتعتبر هذا الفتوى الأولى من نوعها في تأريخ المجتمع العربي واعتقد الإسلامي. هذه الفتوى لقت النقد على يد "... المفكر الإسلامي الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الأفغاني وزميل محمد عبده مقالاً في جريدته المنار، هاجم فيها صدور تلك الفتوى، ومما جاء في المقال... إن الشيخ محمد بخيت مفتي مصر، أفتى في جواب سؤال بأن البلشفية محرمة في الإسلام، وفي كل دين، لأنها عبارة عن الإباحة المطلقة للدماء وللأموال والأعراض. وجعلها من المُزدكية والزرادشتية التي ظهرت في أمة الفرس. فرد عليها كثير من الكُتاب الأزهريين وغير الأزهريين، من الجهة التاريخية والدينية وغير الدينية وكثر خوض الجرائد المصرية في ذلك... ".
وقد أثارت هذه الفتوى جملة من المناقشات عبر وسائل الاعلام، وانقسم الناس حولها بين مؤيد للفتوى ومعارض لها، وقد خرجت عن المنظور السياسي وغائيته المتمحورة في الإساءة إلى الثورة البلشفية، بحيث أوعزت السفارة البريطانية إلى الحكومة المصرية والصحف بإيقاف هذه المناظرات، لما كان لها من تأثيرات إيجابية وبخاصة بين الفئات المثقفة وعلى العضويين منهم وعلى الوعي الاجتماعي في تجلياته السياسية والحقوقية والفكرية والجمالية والفلسفية والقبول بمبادئ الثورة الاشتراكية وتحبيذها العلني.
لهذا يعود تاريخية الصدامات الأولى، بين الأفكار التقدمية والأخرى التقليدية في العراق المعاصر، إلى بديات القرن المنصرم، وبالتحديد في عقوده الثلاثة الأولى، إذ نشأ بين المؤسسة الدينية التقليدية والقوى اللبرالية واليسارية والتقدمية بما فيهم المتنورين من النخب الدينية في العراق: كالنائيني وهبة الدين الشهرستاني، وعبد المحسن الكاظمي ومحمد رضا الشبيبي وأحمد الداود ومحمد سعيد الحبوبي وعلي الشرقي وغيرهم، تمحور الصراع حول المنطلقات الحضارية وتهيئة تربة المجتمع العراقي إلى الدخول للعصر الحديث، كتحول وصيرورة تاريخية، وما أفرزه الواقع الجديد من رؤى وأفكار حداثوية نسبية وما تمخض عنه من تطور العلوم، المتناقضة مع الرؤى الدينية التقليدية في التفسيرات الاجتماسياسية والطبيعية للظواهر ولماهيات متطلبات الحياة. ونعتقد بأن هذه الوقائع وتلك الاصتدامات قد رسمت ذلك التناقض بين الحدث المعاصر وبين المؤسسة التقليدية والدينية، نورد بعضها حسب تسلسلها التاريخي:
1- الحركة التي تدعو النساء للتحرر من الجور والظلم الاجتماعيين والمساواة بين الرجل والمرأة، عبر الدعوة إلى السفور في العقد الثاني من القرن الماضي ؛
2- النقد الموضوعي الذي قاده اللبراليين عندما هاجم بعض الشعراء العادات والتقاليد المتخفية وراء الدين، ومن ثم في معركة الحجاب التي اشتعل آوراها في العقد الثالث من القرن المنصرم ؛
3- النقد الذي وجهتها جماعة ( متدراسي الأفكار الحرة) بإشراف حسين الرحال في العقد الثالث ؛
4- النقد العلمي الذي وجهته مجلة الصحيفة، الناطقة بإسم الرواد الأوائل للفكر الاشتراكي، والمتمركز في محاربة العادات والتقاليد الخارجة عن الماهيات الأصيلة للدين الاسلامي في ذات العقد ؛
5- النقد اللاذع الذي وجهته جمعية الأحرار (الحزب اللا ديني ) للمؤسسة الدينية في نهاية العشرينيات؛
6- من تصدي جماعة الأهالي للتقاليد الاجتماعية البالية والضارة والمتلبسة برداء الدين في العقد الرابع ؛
7- الأفكار الجذرية من نقد إلى الأبعاد الطبقية والشكل (المقدس) للإستلاب الإنساني، التي رفعتها الحلقات الماركسية قبل توحيدها، ومن ثم بعد التوحيد وتأسيس جمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار(1934) ومن ثم الحزب الشيوعي( 1935)، مما خشيت كل من: المؤسسات التقليدية والدينية والإقطاعية النامية والقوى المحافظة والسلطة التابعة وقاعدتها الاجتماعية وكذلك مؤسسة العرش. لأن التوعية بمطاليب الناس ورفع الاحتجاج ضد الاستلاب اللا إنساني، كانت سمة لنضال جملة من الاحزاب والحركات الاشتراكية والتي انصبت على اسعادهم في حقيقة وجودهم الاجتماعي.
8- "... عدم قدرة الفئات الدينية القديمة من مواكبة العصر كذلك التحولات الفكرية التي رافقت تاسيس الدولة العراقية عام 1921، بخاصة بعد ان اخذت التطورات الاجتماعية والسياسية في النصف الاول من القرن العشرين منحا تصاعديا، تصعب على الفئات التقليدية مواكبته أو اللحاق به، واصبحت بالتالي تخوض معركة خاسرة امام قوى التحديث ... " والعلمنة.
9- كان هذا الإصطدام الاجتماعي/الفكري/السياسي، قد سبق ظهور الحركات الاسلامية السياسية المعبرة عن تصورات الاسلام السياسي، السنية في البدء، كالأخوان المسلمين وحزب التحرير والحزب الاسلامي في الجمهورية الأولى ( 1 تموز 1958- 9 شباط 1963)، ولا يستبعد توظيفها أثناء المد التحرري لشتى بقاع العالم والاسلامي على وجه التحديد، من قبل المراكز الأوربية في مقارعتها للأفكار التقدمية والاشتراكية ؛ وكذلك الشيعية كالحزب الجعفري (الذي ولد ميتاً) وحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى وغيرها. وقد كانت هذه الأحزاب تستمد شرعيتها (الدينية والسياسية) من مصادرها الأرأسية التي هي: الحق الإلهي في الحكم ومن القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ومن المرجعية الدينية العليا بالنسبة للشيعة. أو بتعبير آخر ــمن الناحية العملية والممارسات الحياتية فـــ"... يستمد العلماء (الفقهاء- المراجع) سلطتهم من ثلاثة مصادر رئيسة مترابطة: معرفة النص المقدس ؛ احتكار تفسيره ونقله من خلال المدرسة الدينية ؛ التصرف بالضرائب الدينية ( ينطبق هذا على فقهاء الشيعة بدرجة أكبر)...
10- كما يوضح تأريخ النظام السياسي بالعراق المعاصر، بأن المتابعات التي أخذت تطبقها المؤسسة الأمنية عبر فلسفتها بصدد الأمن وممارستها العملية، منذ تأسيسها الأول وفي مختلف مراحلها، قد استندت إلى المبادئ العامة التي وضعتها قوى الاحتلال البريطاني الأول، كما سبق وأن ذكرنا، وكانت من أهم هذه المبادئ هو إستخدام الدين في محاربة القوى اليسارية التقدمية وبخاصة الشيوعية منها تحديداً. إذ "... خلال سنوات عدم الاستقرار التي تلت وثبة العام 1948 وانتفاضة العام 1952، حاولت الطبقات الموجودة في السلطة أن تستفيد من الدين للإبقاء على الناس في قبضتها ولصد تقدم الشيوعية.
الهوامش:
*** من كتاب جديد للمؤلف والموسم: فصول من ملاحقة اليسار في العراق المعاصر 1921-1964 .
44 - د. كاظم الموسوي، العراق: صفحات من التاريخ السياسي، ص. 77 ، مصدر سابق
45 - يوسف عطا منصور، مفهوم الشيوعية وفتاوى علماء الشيعة، محمد سعيد الطريحي، ص.179، مصدر سابق.
46 - د. كاظم حبيب، ما هي أهداف، مستل من محمد سعيد الطريحي، الشيعة، ص. 140، مصدر سابق.
47 - الاستثاء الوحيد للسيد محمد باقر الصدر، في كتابيه فلسفتنا واقتصادنا.
48-عقيل عباس، عقدة الدين في الفكر الشيوعي وأثرها على الحوار بين الشيوعيين والإسلاميين ص. 195 ، مستل من محمد سعيد الطريحي، الشيعة والشيوعية، مصدر سابق.
49 - د. كاظم حبيب، ما هي أهداف، مستل من محمد سعيد الطريحي،ص.161، مصدر سابق.
50 -جلبرت الأشقر، الماركسية والدين، ص. 49، مصدر سابق.
51 - د. عبد الجبار الرفاعي، دعوة الشيخ أمين الخولي للتجديد، نشرت في 10/2/2019 في موقعه في الفيس بوك.
52- جلبرت الأشقر، الماركسية والدين ص. 18. ويعتقد ذات المؤلف ويشرح الأبعاد التي ساعدت على انتشار الأصولية الإسلامية، وهو يصنفها:"... تحت عناوين أربعة: هزيمة قومية الطبقة الوسطى وعيوب اليسار الجذري؛ وترويج المملكة العربية السعودية ورعاتِها الأمريكيين سنوات طويلة للأصولية الإسلامية بديلاً عن اليسار؛ التفاقم المتزايد في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط الكبير؛ وفقدان النَّظْم العالي الناجم عن الهجوم النيولبرالي وعن إنهيار الشيوعية السوفيتية معاً. وإلى ذلك كله يجب أن نضيف عوامل ضرفية أخرى مثل: قوة الدفع التي شكلتها (الثورة الإسلامية ) الإيرانية ؛ والهزيمة السوفياتية في الحرب الأفغانية على يد الأصوليين الإسلامين؛ فضلا عن الحافز الضخم الذي اكتسبته الأصولية الإسلامية بسبب الاعتداءات الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير والقمع الإسرائيلي...". ذات المصدر، ص. 38.
53 - المصدر السابق، ص. 17.
54 - راجع، حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق، ص. 213، مصدر سابق.
55- أجتمع الرواد الأوائل للفكر الماركسي وأصدروا أول مجلة ماركسية بإسم (الصحيفة)، صدر عددها الأول في 28/12/1924 "... وفي أثناء ذلك تحولت المجلة خلال أعدادها الخمسة إلى ندوة للفكر الماركسي، إذ عرضت المبادئ الأولى للشيوعية في الاقتصاد والاجتماع، وقد استقبلت المجلة بحملة رفض كبيرة، حتى إن العلامة محمد بهجت الأثري ونجم الدين الواعظ، دعيا إلى قتل الرحال وجماعته بوصفهم ملحدين، وهكذا أغلقت أول صحيفة ماركسية بعد عددها الخامس الصادر في 13 أيار 1924... ". هاجر مهدي النداوي، فهد – يوسف سلمان يوسف، ص.38، مصدر سابق. وقد عادت مجلة الصحيفة للصدور في العام 1927 لفترة قصيرة. "... وسرعان ما وجدت جماعة الرحال الصغيرة نفسها محاطة بهيجان ناجم عن المرارة والامتعاض. وصارت خطب أيام الجمعة في المساجد تصليهم نار حامية واستنكرتهم المضابط الجماعية على أساس كونهم مرتعاً للكفر والإلحاد، وأسكت صوت الجماعة، ولكنها عادت فسجلت نقطة لحسابها... ". حنا بطاطو، ج. 2، ص.47، مصدر سابق.
56- يقول برنامج الحزب اللا ديني"... وفي البرنامج الذي أعلنته الجمعية في الوقت نفسه والذي كان – بالمناسبة- أول بيان معروف للنيات الشيوعية، جاء أن أهداف الجمعية هي: 1-تحرير العقل والروح والجسد ونشر حرية الفكر والفعل بكل الوسائل المشروعة. 2 - أ.العمل بلا هوادة وبكل الطرق القانونية من أجل فصل الدين عن كل الشؤون الزمنية، أي عن السياسة والتعليم والحياة العائلية ... الخ. ب. الاحتجاج بقوة... على أي عمل ديني يضر بوحدة الشعب. 3 - نشر التسامح الديني... في كل البلاد العربية ... 4- يتم تحقيق هذه الأهداف بالتغييرات التشريعية... والمشاركة في الانتخابات النيابية... 5- فضح مدى انحراف رجال الدين فيسلوكهم عن الجوهر الأساسي للدين، مع الأخذ في الاعتبار أن الأديان كانت السبب الرئيسي في التفرقة وأن الهدف الأسمى للجمعية هو توحيد قوى الشعب المبعثرة. 6- عقد اجتماعات عامة بهدف تعريف المناسب أحدث الأفكار العلمية والاجتماعية... واطلاعهم على آخر التطورات الدولية... 7- تحرير المرأة العربية من أغلال الانحطاط والجهل... 8-... ترويج مشاعر الزمالة بين الناس... 9- تشجيع المدارس الوطنية العربية فقط والنظر إلى كل البلاد العربية كبلد واحد...". حنا بطاطو، ج. 2، ص. 58، مصدر سابق. وكان فهد عضو فعال في هذه الجمعية.
57 -سلمان رشيد محمد الهلالي، إشكالية، القسم الثاني، الحوار المتمدن نشر في 13/8/2017.، ومما له علاقة بالموضوع كتب المفكر الإسلامي عبد الجبار الرفاعي مقالاً أسمها: الدمقراطية ليست محايدة ، أوضح فيها: "... فرضت «قوةُ الواقعِ» على من كانوا ينادون بتطبيقِ المدونةِ الفقهية عند تأسيس دولتهم الدينية التنازلَ بالتدريج عن أهم شعاراتهم الأساسية. وأعني بـ «قوةِ الواقع» شيوع ثقافة الحقوق والحريات في مجتمعات عالَم الإسلام اليوم، اثر غزارة ما يتدفقُ من الفضائياتِ ووسائلِ الإتصال والاعلام المتنوعة. لذلك لم تعدْ الدعوةُ لتطبيقِ الشريعة وإقامةِ الحدود حاضرةً في أحاديث وكتابات الجماعات الدينية، فقد تعاطتْ هذه الجماعاتُ معها بمنطقٍ ذرائعي بعد شيوع ثقافة الحريات والحقوق، إذ فرضتْ «قوةُ الواقع» عليها أن تُؤجّل أو تُترك الدعوةَ لتطبيق الحدود والتعزيرات المعروفة في المدونة الفقهية، كقطع اليد والرجم والجلد وغيرها، بل لم نقرأْ أو نسمعْ من معظم الإسلاميين في السلطة منذ سنوات حديثًا يردّد شعارَ تطبيق الشريعة في مؤسّسات الدولة والمجتمع. مع ان هذا الشعارَ كان وما زال أهمَّ مبرّر في أدبياتهم لإقامة الدولة الدينية، والهدفَ المحوري لتأسيسِ هذه الجماعات وانخراطِها في العمل السياسي وصراعِها المزمن على السلطة والثروة... ". جريدة بين النهرين في 4/2/2019، بغداد
58 - فالح عبد الجبار، العمامة والافندي، ص. 241، مصدر سابق. ويكمل هذه الرؤية بالشرح الكاتب عبد الجبار الرفاعي ويقول: "...واحدةٌ من الثغرات التي يُمنى بها التفكيرُ الديني في الإسلام اليوم كثرةُ المتحدّثين والكتّاب باسم الدين، رغم أن معظمهم من غير الخبراء، فكثيرون منهم لم يتعلّموا في الحوزاتِ والحواضر والمدارس والجامعات ومعاهد التعليم المتخصّصة بالدراسات الدينية، ولم يكتسبوا تكوينًا تراثيًا يستوعبون فيه معارفَ الدين. مضافًا إلى أن هؤلاء المتحدّثين والكتّاب "غير الخبراء بالدين"، هم أيضًا لم يتكوّنوا تكوينًا حديثًا في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، ومع ذلك نجدهم يُفتون بما لا يعلمون في مختلف الوقائع، ويتحدّثون بما لا يعرفون، ويكتبون ما لا يفقهون... ". الديمقراطية ليست محايدة، مصدر سابق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تفرض عقوبات جديدة على طهران بعد الهجوم الإيراني الأخي


.. مصادر : إسرائيل نفذت ضربة محدودة في إيران |#عاجل




.. مسؤول أمريكي للجزيرة : نحن على علم بأنباء عن توجيه إسرائيل ض


.. شركة المطارات والملاحة الجوية الإيرانية: تعليق الرحلات الجوي




.. التلفزيون الإيراني: الدفاع الجوي يستهدف عدة مسيرات مجهولة في