الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جلال أمين في -محنة الدُّنيا والدين في مصر- ازدواجيةُ الطَّبقة الوسطى المِصريَّةِ وثيقةُ الصِّلةِ بترييفِ المدينة

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2019 / 3 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


جلال أمين في "محنةِ الدُّنيا والدِّين في مِصرَ": ازدواجيةُ الطَّبقةِ الوسطى المِصريَّة وثيقةُ الصِّلةِ بترييفِ المدينةِ
أسامة عرابي
عُنيَ المفكر المصري الراحل"د.جلال أمين" في كتابه السابع والثلاثين الصادر عن "دار الشروق"(2013)، "محنة الدنيا والدين في مصر"، بطرح أسئلة ثورة يناير الشعبية في التغيير الراديكالي لبُنى الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنمية والتخطيط الوطنييْن والديمقراطية الحقيقية، وإنهاء حكم العسكر، والتوصُّل إلى دستور يكفل تمثيلًا منصفًا لكلِّ فئات الشعب؛ بما يفتح أمام البلاد آفاق التطور المسدود، ويُتيح لقواها الوطنية الديمقراطية المشاركة في صياغة مستقبلها، وصيانة مصالح المصريين المشتركة، وتعزيز الاستقلال الوطني وتصفية كل مظاهر التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية، مضيفًا إلى ما سبق في جديده "محنة الدنيا والدين في مصر"، ضرورة تعميق أواصرالقربى بين الدين والواقع ، وألَّا يحلَّ التراث محلَّ التاريخ ، وألَّا يجريَ التعاملُ معه (التراث) بشكل انتقائي أو كلحظات زمنية منفصلة، بل يتعيَّن النظرُ إليه بوصفه إحدى محصلات السيرورة التاريخية ؛ ومن ثم ؛ ربط التجديد بالاجتهاد ودرء المفاسد وبالإصلاح الديني ، وذلك عبر فصول خمسة اتخذتِ العناوينَ الآتية: ازدواجية الطبقة الواحدة.. الدين والديمقراطية.. الدين والتحديث.. الدين والأخلاق.. الدين والمجتمع الاستهلاكي.. ثم خاتمة تتلمس الجذور التاريخية لمحنة المصرية في الدنيا والدين، مُرجِعًا محنتها الاقتصادية إلى ضرب تجربة محمد علي الوليدة في التصنيع والنهوض بالزراعة والتعليم، بتدخُّلٍ عسكريٍّ خارجيٍّ عام 1840، وعزا محنة الانقسام في الموقف إزاء الدين إلى العشرينيات من القرن العشرين؛ عندما فجَّر المشكلة علي عبد الرازق وطه حسين بكتابيْهما: الإسلام وأصول الحكم وفي الشعر الجاهلي، ومن يومها إلى الآن لم يُحسمْ ذلك الخلاف المستعر بين الفكر السلفي والفكر العَلماني . وبذلك غدا محوراها الرئيسان : الاقتصادي مُكبَّلًا بالطبيعة الاستقطابية لمنطق التوسع الرأسمالي، وما يُفضي إليه من تنمية مشوَّهة تُعيد إنتاج الأنماط الكولونيالية واللامساواة والقمع الاقتصادي.. والفكري عاجزًا عن إعادة تنظيم العلاقة بين الروحي والزمني أو بين الدين والمجتمع ، وعن إعادة تشكيل منظومته العقائدية بشكل جذري، وتحقيق استقلالية عقله تُجاه ضغوط موروثاته؛ فانشغل بالدفاع عن الذات ضد الغزو الفكري، وقنع باستيراد النماذج الجاهزة من الغرب ؛ فافتقد وعيه التاريخي، ولم يستطعِ الاهتداء إلى نموذج تنويري يقوده إلى الاكتشاف والقطيعة الإبستمولوجية مع الخطاب العمومي والإيديولوجي .. أو بتعبير د.جلال أمين :"كان سببُ الفشل في الميدانيْن واحدًا في رأيي، وهو أننا كنا نحاول تحقيق النهضة الاقتصادية والتنوير في ظل تبعية صارخة للغرب ؛ في ظلِّ الاحتلال العسكري تارة؛ ثم في ظل التبعية الاقتصادية والسياسية بعد انتهاء الاحتلال تارة أخرى. فلم يسمحْ لنا الغرب طوال المائة والخمسين عامًا الماضية إلا بتلك التنمية المشوَّهة والعرجاء. كما أحسَّ معظم مفكرينا بالتخاذل أمام قوة الغرب؛ فعجزوا عن الاهتداء إلى نموذج سويٍّ للتنوير". وكما نعى د.جلال أمين على ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 في كتابه "ماذا حدث للثورة المصرية ؟"(2012) عدم نهوضها بوضع قضية التحرُّرِ والسيادةِ الوطنييْن على سُلَّمِ أولوياتها السياسية، قائلًا:"ما فائدة ثورة يناير إذا لم تمكنَّا من التخلص من التبعية" لأميركا وإسرائيل، عُنيَ في كتابه الأخير هذا بكشف "ازدواجية الطبقة الواحدة" التي أصابت شرائحَ عديدة من الطبقة الوسطى خلال مائة العام التي انقضتْ منذ ثورة 1919 ؛ وذلك "لتمييزها عن الازدواجية القديمة التي كان يتسم بها المجتمع المصري قبل ثورة 1952 بين الطبقتيْن العليا والدنيا (إذ كان استقطابُهما يكاد يتطابقُ مع الاستقطاب بين الريف والحضر) ، وتتبُّع أثر نمو هذه الازدواجية على محاولة المصريين تحقيق الديمقراطية السياسية ، وتحديث المجتمع ، وعلى المعايير الأخلاقية السائدة، وعلاقة كل ذلك بما طرأ من تطور مذهل على النظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا".. راصدًا ماهية التشوُّهات التي وسمت المجتمع المصري بميسمِها من تعصُّبٍ وطائفيةٍ وتحيُّزٍ على أساس النوع والدين والأصل والمكانة الاجتماعية، رائيًا أن "ظاهرة ترييف المدينة المصرية وثيقة الأصل بما طرأ على تفسير شرائحَ واسعةٍ من الطبقة الوسطى للدين؛ وهو تفسير يتسم بدرجة أكبر من اللاعقلانية، ومن الاهتمام بالشكليات على حساب جوهر الدين، وبدرجةٍ أقلَّ من التسامح مع الأقليات الدينية"، وذلك في ظل"فشل ذريع في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية بالسرعة التي تتطلبها زيادة السكان".. وهو ما يلفت نظرنا إلى حيوية العلاقة بين التنمية والديمقراطية، خصوصًا أن التفاوت الكبير في نمو الدخول، وسوء توزيع الثروة القومية، والبطالة الكثيفة، وظاهرة تهميش فئات واسعة من المجتمع، تلعبُ دورًا كبيرًا في إضعاف التطوُّرِ الديمقراطي؛ بالإضافة إلى أن خطط التثبيت الماكرو- اقتصادي وبرامج التكيف الهيكلي المصمَّمة من قِبل صندوق النقد الدولي تتطلبُ دولة بوليسية لفرضها وتمريرها ؛ نتيجة إضرارها بالحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للطبقات الشعبية. الأمر الذي يقتضي "دمقرطة الحياة السياسية" في عملية تنساب من أسفل إلى أعلى وبشكل مباشر ، وعلى نحوٍ يُشاركُ فيه السوادُ الأعظمُ من أصحاب المصلحة، وفي سياق ينتفي فيه التمييز بين الكافَّةِ، وتنقية الدستور من القيود التشريعية التي تعوق الإسهام الفعَّال للجميع في الشأن العام، ونشر الثقافة السياسية لحركة التحرُّرِ الوطني التي تُركِّز دومًا على قيمة التضامن الذي يجمع الشعوب ضد عدوٍّ مشتركٍ واحدٍ. وهنا يُميط د.جلال أمين اللثامَ عن "ظاهرة الهوس الديني" التي رافقت بزوغ ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، والتي بدأت "بهجوم على إحدى الكنائس، ثم السير في جماعة كبيرة من الناس للاعتداء على كنيسة أخرى"؛ وهو ما يحملُ المرءَ على الاعتقادِ أو اليقينِ بأن الأمر جرى"ترتيبه من قِبلِ جهاتٍ لها مصلحةٌ في إفشالِ الثورة"، ثم يُضيفُ مؤكدًا : "ومن الصعبِ تصوُّرُ أنْ يُحدُثَ الهوسُ على انفرادٍ"؛ ذلك أن"الهوس يفترض وجود شركاء، أو على الأقلِّ وجود متفرجين". وهي ظاهرة أخذت في التمدُّدِ والتوسُّعِ لتُسْقِطَ المجتمعَ في إسارِ المنظورِ الطائفيِّ أو المذهبيِّ أو الدوغمائيِّ ضيِّقِ الأفقِ. ألم تنتقلِ الإيديولوجياتُ على مدى التاريخِ عبر أشكالٍ بصريةٍ وتصويريةٍ؛ بفضل اختراع السينما والتلفزيون والإنتاج الضخم من الفن والإعلان، والأثر السمعي للهدير بتحايا النصر، واستغلال الجماهير من لدُنِ الحركات الأصولية المتشدِّدةِ في إثارة المشاعر والأحقاد وكراهية الآخر المختلف، أو بتعبير المفكر الفرنسي"جوستاف لوبون" في كتابه ذائع الصيت"سيكولوجيا الجماهير" : لا يهمُّ أن تكذب على الجمهور؛ لأنه لا يطلب الحقيقة أصلًا. المهمُّ هو أنْ تعرفَ كيف تُحرِّكُ هذا الوحشَ الرهيبَ لتحقيقِ أهدافِك السياسية؟". وهو ما عَدَّدَ مظاهرَه وصورَه د.جلال أمين على أكثرَ من صعيدٍ ومَجْلى من خلال قيام "عضوٍ بمجلس النواب السابق في إحدى الجلسات الأولى لانعقاده، بالأذان للصلاة.. وحادث الاعتداء بالقتل على طالبٍ جامعيٍّ بالسويس، جريمتُهُ أنه كان يمشي في الشارع مع خطيبته.. ثم وقعتِ المظاهرة الكبيرة أمام السفارة الأمريكية في القاهرة؛ احتجاجًا على ظهور فيلم سينمائي في الولايات المتحدة يُسيءُ إلى الدين الإسلامي، وقام أحد المتظاهرين بحرقِ نسخةٍ من الإنجيل أمام السفارة.. وبلغ الاحتجاجُ على نفس الفيلم في ليبيا، درجة قيام البعض بقتل السفير الأمريكي هناك.. وما وقع من اعتداءٍ لفظيٍّ على ممثلةٍ مشهورةٍ؛ بزعمِ الاحتجاجِ على نوعٍ معيَّنٍ من الأفلام التي تقومُ بالتمثيل فيها، واعتباره منافيًا للدين والأخلاق.. وما قامت به إحدى المُدَرِّسات في الصعيد من قصِّ شعرِ تلميذةٍ صغيرةٍ من تلميذاتِها، رغمًا عنها؛ بحجةِ أنها لم تحتشمْ بالدرجة الكافية فلم تُغَطّ شعرَها بحجابٍ". وهكذا بدلًا من حلِّ معادلةِ الفردِ والمجتمعِ حلًّا جدليًّا في إطار اللحظة التاريخية؛ بوصفِها الناتجَ الموضوعيَّ للمجرى العامِّ للتاريخِ المعاصر، جرى إغراقُ المجتمعِ بأسرِهِ في تصوُّراتٍ مُتحجِّرةٍ لاعقلانيَّةٍ، ومفاهيمَ عدوانيَّةٍ تجترُّ المقولاتِ المعادية للعقلِ والتسامح. لذا يُطالب د.جلال أمين بمراجعةِ ما تنهضُ مدارسُنا وأجهزةُ إعلامِنا ببثّهِ من أفكارٍ ورؤًى"تُعطي الدينَ أكثرَ من حجمِهِ الطبيعيِّ" على حدِّ تعبيره؛ مما أدَّى إلى تطوُّرِ"التطرُّفِ إلى إجرام، سُميَ على سبيل التساهل بالتطرف"، ودُعيَ"التطرُّفُ بالتديُّنِ"؛ نتيجة الموقف المتشنِّجِ والطائفي المتخلّف من الدين والتراث الإسلامي.. موضحًا بجلاءٍ كيف يُمسي الدين طريقًا مفضية أو قوة دافعة إلى النهضة والتقدُّمِ الاجتماعي، وليس إلى الدروشة والانهيار النفسي ومحاكم التفتيش والهزيمة الحضارية وانتصار أهل التقليد والغلوِّ على أصحاب العقل والتنوير والموقف النقدي من الذات؛ وذلك حين يكونُ "التديُّنُ الذي يبني الأمة، هو الذي يبقى جزءًا من الحياة ولا يبتلعُها ابتلاعًا، واحترامُ التراثِ الذي يمكن أنْ يكونَ نقطة انطلاقٍ نحو الإبداع، هو احترام تراث الجميع؛ مسلمين وأقباط، وليس احترام تراث البعض، ولو كانوا أغلبية، وتحقير تراث الآخرين"، كما يفعلُ بعضُ مشايخ الفضائيات. ويتوقف د.جلال أمين مليًّا عند أزمة المثقفين الإسلاميين الذين يُصنَّفَ بعضُهم عادة في خانة المستنيرين، وإن كانوا- في جُملتهم- محافظين.. ماضويين، يكتبون ويفكرون داخل أسوار المؤسسة الدينية الرسمية، حتى إن واحدًا منهم صارحه في أثناء انعقاد إحدى الندوات منذ ما يربو على العشرين عامًا، في أعقابِ أحداثٍ مؤسفةٍ للفتنة الطائفية في صعيد مصر، بأنه يَشتمُّ فيما يكتبه عن ضرورة مراجعة ما تُدرِّسه المدارس للتلاميذ، وما تبثُّه وسائل الإعلام على الناس لتخليصهما مما يفسد العقول، ويدسُّ بذور الفتنة الطائفية في النفوس.. اشتمَّ فيه دعوة إلى ما يمكن تسميته بـ"تقليل الجرعة الإسلامية في المدارس ووسائل الإعلام"، وهو ما لا يوافق عليه.. بينما أفضى مشترِكٌ آخرُ في الندوة إليه "يوصفُ عادة بالمفكر الإسلامي المستنير"، بأن "هذا ليس موضوعك، قاصدًا أنني لستُ من المتفقهين في الدين، وأن من الأفضل لي أن أكفَّ عن الكلام في هذا الموضوع"! وهنا أتساءل بدوري: أليست هذه دعوة إلى احتكار الحديث في الدين وعن الدين وتفسير الدين من قِبل حَفْنةٍ من الناس نصَّبوا أنفسهم أوصياءَ على عقولنا، وادعوا امتلاك الحقيقة المطلقة والقول الفصل في الدين وغير الدين؟ هل هذه دعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد، والتوقُّفِ عن التفكير الحر المستقلِّ، والركون إلى الكسل العقلي والقابلية للاستعمار وتكفير المفكرين؟ رحم الله الفيلسوف الألماني"إيمانويل كانط" الذي قال لنا في نصِّهِ الشهيرِ"ما التنوير؟": لتكنْ لك الشجاعةُ والجرأةُ على استخدام عقلك أيها الإنسان" إذ "ليست هناك إلا طريقةٌ وحيدةٌ لنشر الأنوار هي : الحرية. ولكن ما إن ألفظ هذه الكلمة، حتى أسمعَهم يصرخون من كل حدبٍ وصوبٍ: لا تفكروا! حذارِ من التفكير! الضابط يقول:لا تفكروا، تمرّنوا، وجابي الضرائب يقول: لا تفكروا، ادفعوا، والكاهن يقول: لا تفكروا، آمنوا".. لهذا سكَّ د.جلال أمين مفهومًا دقيقًا وحيويًّا يُبلورُ هذه الإشكالية، ويضعها في سياقها الصحيح بقوله : الدين، فيما يبدو لي، ليس هو الحياة ، ولا يمكن أنْ يكون، بل هو جزء منها، ويجب أن يبقى كذلك، بل هو في الحقيقة دائمًا كذلك شئنا أم أبيْنا، برغم غرام الكثيرين بالتظاهر بعكس ذلك"، ويضيفُ مشددًّا: معاملة الدين، إذن، وكأنه هو المورد الوحيد لإشباع مختلف الحاجات الإنسانية ، من تغذيةٍ لعواطفه، إلى قضاء حاجات جسده، إلى إشباع حب استطلاعه ونهمه الرائع للمعرفة؛ هذه النظرة للدين هي نظرة قاصرة وغبية ومدمرة... والأديان كلها تعترفُ بحاجات الإنسان المتعدِّدة والمتنوِّعة".. لهذا عَدَّ التمسُّكَ بتفسيرٍ"واحدٍ معيَّنٍ يقولُ بأن الإسلامَ دينٌ ودنيا، تمسُّكًا سقيمًا ومرفوضًا". وهو الرأي عينُه الذي أخذ به نفرٌ من خيرة المفكرين الإسلاميين المستنيرين؛ كالشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الوهَّاب خلاف والشيخ علي الخفيف (وقد تتلمذ د.جلال أمين على الشيخيْن الأخيريْن في كلية الحقوق)؛ فهؤلاء"لم يكونوا قطُّ يتعاملون مع الدين وكأنه هو كل الحياة، بل كانوا يُعطون للدين"حجمه الصحيح"، ولا يُنكرون على الناس طيبات الحياة؛ لمجرد أنها لا تندرج تحت عباءة الدين : الدين يعترفُ بها ولكنه لا يحتويها". ومن ثّمَّ؛ لم تأتِ استنارتُهم من فراغ، ولا من تفلُّتٍ أو تحلُّلٍ من القيم والمبادئ العامة التي وقرت في النفوس وطبعت السلوك، بل جاءت من تكاملٍ في الشخصية يعي ما في الحياة من تنوُّعٍ وتعدُّدٍ ثرييْن يدفعانهم إلى الاغتراف من طيبات الدنيا في اعتدال، والإقبال على ضروب المعرفة كافَّة من دون تحيُّزٍ أو موقفٍ مُسبقٍ، والإفادة من نظراتها ومنطلقاتها الجمالية واتساع أفق رؤيتها، والتيقُّن من لايقينِهم، وإدراك الجوهر الحقِّ للطبيعة الإنسانية في تعقدها وقلقها وتشككها وحساسيتها الطافرة بالدهشة وروح المغامرة، أي أنهم كانوا يمتلكون وجدان فنان أصيل، رائق المزاج ، سَويّ التكوين ، شاعريّ الأسلوب ، صاحب سخرية نقدية راقية ، أو بتعبير د.جلال أمين نفسه:"هؤلاء الرجال العظام كانوا يتمتعون فيما كانوا يتمتعون به ، وفضلًا عن الذكاء والعلم والحكمة ، بالقدرة على تذوُّقِ الأدب وفهمه والاستمتاع به، وكلهم كانوا ممن يمكن وصفهم الآن بأنهم"أصحاب نكتة"، يعرفون كيف يضحكون ولا يستحون من الضحك ، ولا يتظاهرون بالتجهُّمِ ليضحكوا في الخفاء. بعكس هؤلاء الذين رزقنا بهم في آخر أيامنا ، من أصحاب الوجوه المتجهمة أبدًا، أو الذين يتجهمون عمدًا لأن "الحياة يجبُ أنْ تكونَ كلُّها دينًا". وهنا يتذكرُ د.جلال أمين فقرة ذات دلالة وردت في مقدمة كتاب "هارون الرشيد" الذي وضعه والدُه الأستاذ "أحمد أمين" يقولُ فيها : طُلبَ إليَّ أنْ أضعَ كتابًا عن هارون الرشيد ؛ فاغتبطتُ بهذا الطلب لأنني أحبُّه. وربما كان سبب حبي له أنه رجل عاطفي ذوَّاق ، يخضع للمؤثرات الوقتية ". . مسوِّغًا ذلك بأشياءَ دينيَّةٍ ودنيويَّةٍ مُفادُها : أنه كان يصلي مائة ركعة كلَّ يومٍ ، ويذهبُ إلى الحجِّ ماشيًا على قدميْهِ، وأنه كان ذا حاسة فنية قوية ؛ فيقدِّر الجمال ويطرب للغناء الجيد. فإذا حدَّثه أبو العتاهية حديثَ الزهد؛ بكى حتى تخضلَّ لحيتُه، ولكنه أيضًا إذا قال له ابن أبي مريم نكتة ضحك لها حتى يستلقي على قفاه".. ويخلص أحمد أمين من سرده هذا إلى ماهية شخصية هارون الرشيد وما يُشكِّلها ويؤلّفُ طبيعته ونوعية دوافعه وقراراته ؛ فيقول:"رجل كهذا يكون عادة صريحًا صادقًا".
وبذلك يُمسي مناخ كهذا "يعطي الدين أكثر من حجمه الطبيعي" أدنى إلى السوبر ماركت الذي "تتحوَّلُ فيه المدارسُ ووسائلُ الإعلامِ والثقافةِ إلى وسائلَ لا لنشرِ قيمِ الدين ، بل للدعايةِ الدينيَّةِ الأشبهِ بوسائلِ ترويجِ السلع ، ويتحوَّلُ فيه نشاطُ النقابات إلى نشاطٍ دينيٍّ...إلخ".. ويُصبحُ فيه "القبطي محلًّا للإجحاف والظلم في كل لحظة"، أي يختفي منه التسامح الديني ، ويصبح عُرضة لمُخْتلِفِ صور العدوان.. ويتساءل د.جلال أمين بحقٍّ : "إذا كانتِ الدعوةُ إلى العقلانية تُوصفُ بأنها "تقليلٌ للإسلام"، فأيُّ فارقٍ بين هذا وبين الإرهاب باسم الدين؟ وأيُّ فارقٍ بين هذا الموقف وموقفِ متطرفي الحركات الاشتراكية الذين كانوا يواجهون كلَّ دعوة للتعقُّلِ بوصفِ صاحبِها بأنه"عدوُّ الشعب"؟ وعلى هذا النحو، وجد مفكر إسلامي "مستنير" "في دفاعه عن فرض الحجاب على بناتٍ لا يتجاوزُ عمرُهن خمسَ سنواتٍ في بعض المدارس المسمَّاةِ بالإسلامية "نوعًا من المظاهرة السياسية التي قد تُساعدُ مع الوقت على وصول تيار الإسلام السياسي للحكم".. بل وجد بعضُ من يحلو لهم توشية أعناقهم بقلائد الاستنارة من دون مضامينِها وتبعاتِها الموجعة ، الفرصة سانحة لتمرير"دفاعهم عمَّا جرى مؤخرًا في نقابة الأطباء من محاولة إخضاعِها للسيطرة التامَّةِ للجماعات الإسلامية ، ولو على حساب حقِّ الأقباط في الاشتراك في إدارة نقابة هي نقابتُهم ، بمقدار ما هي نقابةُ الأطباء المسلمين". لذا رأى د.جلال أمين أن ثَمَّ "تطوُّرًا إلى الأسوأ قد لحق النظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا" في خطاب التيار الديني بعد ثورة 25 يناير 2011، برغم اعترافه بأن هذه الثورة قد أسهمت في "كشف الغطاء عمَّا حدث خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية من ازدواجيةٍ نمت وترعرعت داخل الطبقة الوسطى المصرية ، ليس فقط في الزيِّ وأنماطِ السلوكِ، بل أيضًا في أماكنِ السُّكنى التي تداخل فيها الريف والحضر"، وعمُقَ الشرخُ بين أنصار التيار الديني وأنصار التيار العَلماني، على نحو ما نلمسه، مثلًا، في طغيان قضية هُوِيَّةِ الدولة (الدولة الدينية والدولة المدنية) على ما عداها من القضايا السياسية التي علا فيها صوتُ الداعيةِ على صوتِ السياسيِّ، وبرز فيها الخطابُ الدينيُّ المحافظُ الذي يُوظَّفُ في تجييشِ الأحقادِ نحو القوى الليبرالية واليسارية والقومية بغية إقصائها، وفق ما صرَّح به يومًا أحد قيادات حزب النور بأنه يرفض" الفكرة الفلسفية للديمقراطية في أن الشعب هو مصدر السلطة التشريعية "، وأنه يقبلُ بآليات ديمقراطية "منضبطة بضوابط الشريعة"، وأنه وأتباعَهُ ملتزمان بمنع السياحة الشاطئية، وتغطية التماثيل الفرعونية بالشمع لأنها كالأصنام التي كانت تُحيطُ بالكعبةِ في الجاهلية ، وقبله أعلن د.رءوف عبيد أستاذُ القانونِ الجنائيِّ بجامعة عين شمس، ورئيسُ جمعية الأهرام الروحية : "أن تَكرارَ ظهورِ السيدة العذراء يؤكدُ أن المعجزة ستستمرُّ حتى تعودَ القدسُ عربيةً ، وتتحرَّرَ من الإرهابِ الصهيونيِّ". لكنَّ هناك خطرًا آخرَ يُهدِّدُ الحياة السياسية المصرية، وينالُ من تماسكها وعافيتها، يأتي مما يدعوه د.جلال أمين "الإرهاب بالمصطلحات"؛ حيث يعمدُ المتطرفون إلى تفسير بعض المصطلحات على هواهم ، مستبعدين أيَّ احتمالٍ لتفسيرٍ مخالفٍ ، مستخدمين في ذلك درجة لا يُستهانُ بها من العنف في فرضِ آرائهم على الآخرين، من خلالِ لغةٍ متعاليةٍ خاويةٍ من أي محتوًى معرفيٍّ حقيقيٍّ .. بيْد أننا مازلنا نستخدم الخطأ عينَهُ "عند استخدامِ عباراتٍ مثل "تطبيق شرع الله" و"النهي عن المنكر"، ليس في إشاعة العدل والرحمة، بل في التنكيل بالخصوم.. وأصبحنا أمام مجموعةٍ من الناس يدَّعون أنهم يمثلون الشعب المصري ( أغلبية اللِّحى).. عاملين على إقناع الناس بأن أسهل طريقة للتمييز بين الآراء المختلفة والبرامج السياسية المتباينة، وكذلك بين القادرين على تحقيق نهضة المجتمع وغير القادرين، هي تمييز الملتحين عن غير الملتحين. وبهذا تتراجعُ كلُّ معاييرِ التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، فإذا قَبِل الناس ذلك المعيار، فما أسعدَنا في هذه الحالة إذا ظفرنا "بأغلبية اللِّحى"!". وفي هذا السياق، يُحذّرُنا د.جلال أمين من عائقيْن رئيسيْن يُحولان دون إرساء ديمقراطية ناجزة ومكينة يلخصهما في : أولًا: الرضوخ دائما لرأي الأغلبية . وهي مسألة لا يُمكنُ التعويلُ عليها باستمرارٍ للوصول إلى الحقيقة ، أو لتحقيق الصالح العام.. مستشهدًا بكتاب المفكر الفرنسي الكبير "أليكسي دي توكفيل" الشهير "الديمقراطية في أمريكا"الذي يُحذّرُنا من طغيان وظلم الأغلبية لمن عداهم. حتى إن مفكرًا أمريكيًّا معاصرًا وصف الديمقراطية الأمريكية ساخرًا بأنها "أفضلُ نظامٍ سياسيٍّ يمكن شراؤه بالنقود"، أي أن النقود تقومُ بدورٍ أساسٍ في تشكيل عواطف الأغلبية سواء بالحق أو بالباطل. ثانيهما : يتمثلُ في سطوة الشركات متعدية الجنسيات على العالم ، وقدرتها على بسط هيمنتها من خلال نمو ظاهرة المجتمع الاستهلاكي التي تناولتها كتابات كثيرة "أشهرها كتاب هربرت ماركوزة "ماركيوز"(الإنسان ذو البعد الواحد)، وما كتبه إيزر ميشان في إنجلترا عن تكاليف النمو الاقتصادي، والافتتان أكثر من اللازم بالتكنولوجيا أو لعبة العصر، كما فعل جاك إيلول في فرنسا ، والعودة إلى الحجم الصغير في كل شيء، كما رأيناه عند فريتز شوماخرفي إنجلترا". غيرأنه مع مجيء الانفتاح الاقتصادي الاستهلاكي غير المنضبط ، نشأت مشكلات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وجمالية وانتشرت اللامبالاة...إلخ ، لكن د.جلال أمين يرى أن موقف ممثلي التيار الإسلامي أو السلفي من القضايا الثلاث : الروحية والاقتصادية وقضية الهوية ، يَدلُّ على أولوية قضية الهوية لديهم على القضيتيْن الأخرييْن : الروحية والاقتصادية.. وإن جاء فهمُهم لها "قاصرًا جدًّا في تحديد هذه الهُوِيَّة، وطريقة الدفاع عنها، وهو ما أجده مدهشًا بمقدار ما أجده داعيًا للأسف".. وهنا يتوقَّفُ د.جلال أمين عند دور جماعة الإخوان المسلمين في تعميق مأزِقِ الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي شكَّلَ ساحة لصراعٍ إيديولوجيٍّ ضارٍ، يعكسُ صراعًا على الحاضر والسيطرة عليه ، فوجد أن"التعاطفَ الحقيقيَّ لدى قادة جماعة الإخوان المسلمين، ومن حكم مِصرَ منهم ، ليس مع فقراء المصريين؛ ومن ثم فإن سياستَهم في التنمية الاقتصادية ليست من النوع الذي يمكن أنْ يُفيدَ الفقراء.. كما رأى أن كثيرين من قادة وممثلي التيار الديني والسلفي في مصر ، وهم يؤكدون على تمسُّكِهم بالهُوِيَّة ، يُبدون استجابة وترحيبًا مدهشيْن ببعض مظاهر المجتمع الاستهلاكي التي لا تُمثِّلُ قيد أنملة أيَّ سمةٍ من سماتِ الهُوِيَّةِ المِصريَّةِ، بل قد تُمثّلُ تهديدًا حقيقيًّا لبعض هذه السمات.. وقد حضر د.جلال أمين بعضَ الأفراحِ التي أقامتها ثُلة من ممثلي التيار الديني والسلفي ، فهاله هذا الانغماسُ الشَّديدُ في الاستهلاك الترفي، والخروج الصارخ عن عادات المصريين في الاحتفال بالزواج ، فإذا نحنُ بصدد عُرسٍ لا هو بالشرقيِّ ولا هو بالغربيِّ، وإنما هو مسخٌ منهما، يتصوَّرُ أصحابُهُ أنهم يستطيعون به تحقيق متطلبات الدين والدنيا في نفس الوقت، بينما قد يراه آخرون (وأنا منهم) متعارضًا مع السلوك القويم في الدنيا، ومتعارضًا أيضًا مع التفسير القويم للدين. لهذا مع قيام ثورة 25يناير 2011، ثم انتخاب رئيس جديد للبلاد، رأى د.جلال أمين الفرصة مواتية لفتح "ملف التراث والتحديث"من جديد، وإعادة النظر فيه بجدية علمية واجبة ، نُجيبُ من خلالِها عن السؤال الرئيس الآتي الذي تتفرَّعُ منه أسئلة عديدة أخرى تُسهمُ في التواصل مع العصر، والتصدي لتحدياته، واطِّراح العناصر الميتة في التراث والمعرقلة للتطوُّرِ العامِّ ، وتنمية ما يملك في داخله أسبابَ القوةِ والاستمرار والقدرة على التحاور مع الحداثة : كيف يكون موقفُنا من التراث والتقاليد موقفًا إيجابيًّا؟ كيف نجعلُ احترامَنا للتراث منسجمًا مع مبدأ المواطنة، ولا يُخلُّ بحقِّ الأقليات الدينية في ممارسة حرياتهم كاملة؟ وكيف نجمعُ بين احترام التراث والتقاليد ، وبين التقدُّمِ الاقتصاديِّ في عصر العولمة ؛ حيث تزيدُ الحاجة إلى تقديم الائتمان وقبوله، وإلى الاستثمار الأجنبي فيما يَسدُّ نقص الادخار المحلي، وتشجيع السياح على المجيء إلى مِصرَ دونَ خوفٍ؟ الأمرُ الذي يفرضُ الاجتهادَ ويتطلّبُه ، "بمعنى تفسير النصوص الدينية بما يتلاءم مع الظروف والأحوال التي يُراد تطبيقُها فيها". وقد وجد د.جلال أمين في كتاب والده الأستاذ أحمد أمين أحدِ أئمةِ التجديدِ والتنويرِ في شرقِنا الحديثِ،"يوم الإسلام"، ضالته المنشودة في دفاعه المجيد عن العقل وعن الاجتهاد المطلق والبعد عن النماذج الجاهزة ، قائلًا بوضوحٍ :"لو كانت تعيشُ المدنية الغربية في بلادٍ غيرِ بلادِنا لاحتملنا ذلك ، أما وهي تعيشُ في بلادِنا بمادياتِها ومعنوياتِها فلا يصحُّ أن نُغمضَ النظرَ عنها"، وراحَ يستشهدُ بعمر بن الخطاب "الذي استطاع أن يشرِّعَ للفرس والروم وهو البدوي وهم الممدَّنون : وقف حدّ الشرب على أبي محجن الثقفي لأنه أبلى في الحروب بلاءً حسنًا، ووقف حدّ القطع على من سرق ناقة لأنه كان جائعًا، ووقف الحدود في الحروب لمَّا رأى أن بعض المحاربين إذا وقع عليهم الحدّ فروا إلى الأعداء، وهكذا. وأباح أبو حنيفة قراءة الفاتحة بالفارسية لمَّا رأى أن بعض من أسلم من الفرس لا يُحسنُ العربية. وقال مالك بالمصالح المرسلة ، وقال أبو حنيفة بالاستحسان. فلماذا لا نسيرُ سيرَهم، ولا نعملُ عملهم؟".ولعل في ذلك ردًّا بليغًا على المشكِّكين في قدرة الإنسانِ على تنظيمِ حياتِهِ، ومعرفة أفضل السبل الصالحة لدنياه، مثلما فعل سيد قطب في كتابه"الإسلام ومشكلات الحضارة"، متهمًا إياه (الإنسان) بالعجز، ومجتمعه بالجاهلية العمياء. ومن البدهي أنْ يكونَ الأستاذُ أحمد أمين عرضة لسوءِ فهمٍ يأتيه دومًا من قِبل المحافظين وأهل الجمود التاريخي؛ نتيجة نفوره وتنفيره من التقليد وإيمانه بحرية الرأي والعقيدة ورفضه انعزال الثقافة الدينية عن المعارف الدنيوية كما فعل الإمام الشافعي ، على نحو ما حدث له مع الكاتب الهندي المسلم"أبي الحسن الندوي" الذي ذكر في إحدى فقرات كتابه "مذكرات سائح في الشرق العربي"عدم ارتياحه من آراء أبداها له الأستاذ أحمد أمين، سيتضمَّنها كتابٌ له لم يكن قد طُبع بعدُ باسم"يوم الإسلام"، وقلقه من نقط " قد تثقل على كثير من الناس منها: إني قلتُ إن الإسلام لم ينفذ تمامًا إلا في عصر الرسالة ، ومنها إن الستة الذين وكَّل إليهم عمرُ اختيار الخليفة اختاروا أخاهم عثمان؛ وذلك لأنهم أرادوا أنْ يستريحوا من شدَّةِ عمرَ إلى لينِ عثمانَ، ومنها إنه لابُدَّ من فتح باب الاجتهاد فقد جَدَّ من الأحوال والحوادث المشاكل ما ألزم الاجتهاد وإبداء الرأي في كثيرٍ من المسائل الدينية ، مثلًا أصبحتِ الحياةُ مشغولةً جدًّا؛ فينبغي أنْ نسمحَ بالجمع بين الصلاتيْن في الحضر..". وبذلك ضربَ لنا الأستاذُ أحمد أمين مثلًا ناصعًا على حيوية الجمع بين سعة أفق المشتغلين بالعلوم الدينية، وتمرسهم بشئون الحياة وبيئاتها المختلفة، وانعكاس ذلك على شجاعتهم التجديدية، على نحو ما لمسناه من فهم الخليفة العادل"عمر بن عبد العزيز" للدين على أنه إصلاحٌ للحياة من دونِ طقوسٍ وأشكال، حين طلبوا إليه أنْ يأمرَ للبيت بكسوة، كما كان يفعل مَنْ قبله فكتب : إني رأيتُ أنْ أجعلَ ذلك في أكبادٍ جائعةٍ، فإنها أوْلى بذلك من البيت. وذكرَأستاذُنا العظيمُ أمين الخولي أن عمرَ بن عبد العزيز كان يضطربُ اضطرابًا بيِّنًا عند سماع صوت مغنية مجيدة ، ويبكي من ذلك حتى تبلَّ دموعُه لحيتَه، ويكفّ عن لوم قاضيه على إسرافه المنفعل بالموسيقى والغناء، مضيفًا : ألم يدخلِ الشافعيُّ الإمامُ الفقيهُ رأسُ المذهبِ، الحياةَ بالرمايةَ والروايةَ معًا، ويأخذ في الرماية عشرة من عشرة ، ويدفع للمتفوق فيها ما معه يومها من مال؟ لهذا يؤكدُ د.جلال أمين على "ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد في الدين؛ إذ إن الامتناع عن الاجتهاد لابُدَّ من أنْ يؤديَ ليس فقط إلى الركود الحضاري، بل أيضًا إلى النفاق والزيف في الأخلاق".
وبذلك يأتي كتاب"محنة الدنيا والدين في مصر" للدكتور جلال أمين ؛ ليقدِّمَ قراءة علمية تاريخية لهمومِ مِصرِنا، ومعضلات ثورة يناير في اختلال النظرة إلى العلاقة بين الدين والدنيا، من خلال ازدواجية الطبقة الوسطى التي كانَ يقولُ عنها مؤرخُ الشام الكبير"محمد كرد علي": النهضة هي الطبقة الوسطى"، لكنها عجزت عن إرساء مشروعها الحداثي والتمكين له؛ والوفاء- من ثم- بوعوده في الديمقراطية والحريات الدينية وحقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات ، فجاءت الحركات السياسية الدينية المحافظة ردًّا مباشرًا على فشلِها؛ محاولة إرجاعَنا إلى عصورِ التقليدِ والتَّكرارِ والاجترارِ، رافضة التسامحَ والعقلَ الحواريَّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران