الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)

ناصر بن رجب

2019 / 3 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


سوف ننشر تباعا وعلى حلقات ترجمة لثلاثة نصوص مهمّة جدّا تتعلّق بالمصادر الإسلاميّة الأولى التي شكّلت أولى اللّبنات لتدوين السّيرة النبويّة. وهذه المقالات نُشرت بالإنجليزية في أوقات مختلفة وتمثّل أحد أهمّ النّقاشات التي تدور في الوقت الرّاهن في أوساط البحث الأكاديمي في الجامعات الغربيّة.
ونحن نقدّم هذه الدّراسات بقطع النّظر على اتّفاقنا معها أم لا. ولكن المقصود أوّلا وقبل كلّ شيء من خلال هذا العمل هو تقديم نماذج منهجيّة مختلفة تتناول السّيرة النبويّة وتتحاور فيما بينها دون سبّ ولا شتم ولا تكفير، بل هو الرأي والرأي المخالف إن وُجِد، ومقارعة الحجّة بالحجّة إن توفَّرت، ويبقى الحكم الفصل قراءة النّصوص والمصادر المتنوّعة قراءة علميّة نسبيّة مُنفتحة.
سنقدّم هذه النّصوص على التّوالي:
• إعادة بناء أولى نصوص السّيرة: الهجرة في مدوّنة عروة بن الزّبير
• Andreas Görke and Gregor Schoeler, Reconstructing the Earliest Sira Texts: the Hijra in the Corpus of Urwa b. al-Zubayr. In Der Islam, 82, S. 209–220, 2005.
• في البحث عن "سيرة" عروة: بعض المسائل المنهجيّة في البحث عمّا هو "صَحيح" في سيرة محمّد.
• Stephen J. Shoemaker, In Search of Urwa’s Sira: Some Methodological Issues in the Quest for “Authenticity” in the Life of Muhammad. In Der Islam, 85, S. 257–344, 2011.
• مصادر القرن الأوّل لسيرة محمّد؟ نقاش
• Andreas Görke, Harald Motzki, Gregor Schoeler, First Century Sources for the Life of Muhammad? A Debate. In ISLAM 2012 89(2): 2–59.

⁂ ⁂ ⁂

إعادة بناء أولى نصوص السّيرة: "الهجرة" في مُدوّنة عروة بن الزّبير

في دراسته الشّهيرة التي عنوانها "في تطوّر الحديث" (Ueber die Entwickelung des Hadith) كان غولدسيهر قد أكّد على أنّ الحديث لا يمكن اعتماده كمصدر تاريخي للفترة التي عاش فيها محمّد وصحابته، ولكن يجب اعتباره كنتيجة للتوجّهات الثيولوجيّة والإجتماعية والسّياسيّة لفترات لاحقة التي مثّلت، كما يقول غولدسيهر، الأرضيّة التي نمت فيها هذه الموادّ. لقد أرسى هذا الموقف أُسُس وجهة نظر تشكيكيّة تطوّرت أكثر فأكثر في الدّراسات الإسلاميّة والشّرقيّة بعد غولدسيهر ولا تزال حيّة تُرزَق. ومن أشهر مُمَثِّليها جوزيف شاخت، جون وينسبرو، مايكل كوك، باتريشيا كرونه وأتباعهم، وتعتمد حُججُهم على عناصر ثلاثة:
1- أنّ تدوين الحديث لم يظهر إلاّ في القرن الثّاني الهجري أو فيما بعد،
2- أنّه لا يمكن أن نتحصّل من هذه الأحاديث على أيّ معلومة صحيحة بخصوص أفعال النبيّ وأقواله، وكذلك بخصوص أفعال وأقوال صحابته وخلفائه،
3- أنّ سلاسل الإسناد ليست موثوقة تماما ولا تشير أيضا إلى مصادر حقيقيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هؤلاء المتخصِّصين المذكورين أعلاه يعتبرون هذه النّظرة التشكيكيّة بشكل راديكالي تنسحب ليس فقط على الأحاديث الفقهيّة بل أيضا على الأحاديث التّاريخيّة وبالخصوص منها تلك التي تتعلّق بالسّيرة. لقد نحا شاخت هذا المنحى بكلّ وضوح في مقال عنوانه "كتاب المغازي لموسى بن عقبة". هناك مبدأ جوهري في علم التّاريخ يؤكِّد على ما يبدو هذه المقاربة التشكيكيّة والقائل بأنّه يجب علينا قدر المستطاع أن نبني بحوثنا على أخبار مباشرة أي على مصادر معاصِرة. غير أنّ الأخبار حول أصول الإسلام وحول تاريخ القرن الأوّل لا يمكن الحصول عليها إلاّ في كتابات دوّنتها الأجيال اللاّحقة على أساس الأحاديث. والفارق الزّمني بين أولى المصادر التي وصلتنا وبين الوقائع التي تتحدّث عنها يتراوح بين 150 و200 سنة أو أكثر. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أيضا انّ طبيعة الأحاديث نفسها تدعَم فرضيّات الباحثين التشكيكيّين، إذ هي تحتوي على العديد من التّناقضات، والأخبار الأسطوريّة. فإذا كان هؤلاء على حقّ، فإنّ كلّ عصر محمّد تقريبا ومعظم العقود الزمنيّة اللاّحقة تكون عصيّة على كلّ بحث تاريخي وتشكِّل تحدٍّ كبير للباحثين بشتّى أصنافهم.
بالطّبع، لم يحظ هذا التيّار التشكيكي بإجماع الباحثين الغربيّين في الدّراسات الإسلاميّة؛ وغنيّ عن القول أنّ العلماء المسلمين رفضوا ذلك بشدّة وحاولوا دحض أطروحاته بكلّ ما أوتوا من قوّة. وإذا كان الباحثون الذين لا يتّفقون مع وجهة النّظر التشكيكيّة هذه لا يُنكِرون بطبيعة الحال احتواء التّقليد الإسلامي على الكثير من الموادّ الزّائفة والموضوعة، وهو ما اعتَرف به العلماء المسلمون أنفسهم في العصور الكلاسيكيّة، فإنّهم يعترضون على تجاهل هذا التّقليد كليّا والتخلّي عنه نهائيًّا.
ومع ذلك، فإنّ مجرّد رفض أطروحات الباحثين التشكيكيّين لا يكفي بأي حال من الأحوال. يجب إيجاد معايير تسمح لنا بالفرز بين الموادّ الصّحيحة من جهة والمواد الطفيليّة أو المُفبْرَكة من جهة أخرى. وبما أنّ المعارضين لوجهة النّظر التشكيكيّة يرفضون القبول بوجود أحاديث صحيحة وأخرى موضوعة، فإنّه من غير المُدهِش أن نراهم يبدؤون كلّهم بدراسة الأحاديث الآحاد.
هناك منهج كان قد سبق واعتمده مبدئيّا الباحثون Johannes H. Kramers و J. van Ess ثمّ طوّره كلّ من H. Motzki و G. Schoeler و A. Görke خلال العشريّة الماضية. وهذا المنهج يتمثّل في تفحُّص ما إذا كان التّلازم بين الأحاديث، كما تشير إلى ذلك سلسلة أسانيدها، يتمّ تأكيده بنصوص متونها أم لا (وهو ما يُعرف بتحليل الإسناد مع المتْن). ومع ذلك، فإنّ هذه الطريقة لا توفِّر سوى معلومات حول ما إذا كانت بعض الأحاديث قديمة أم لا، أي ما إذا كانت مُتداولَة في القرن الهجري الأوّل أم لا. أمّا إذا كان هذا الصّنف من الحديث يعود بالفعل إلى النبيّ أو إلى صحابيّ فهذه مسألة مختلفة.
طبّق هذا المنهج G. Schoeler و A. Görke في أربع دراسات حول أحاديث جاءت في السيرة النبويّة التي تعود إلى عروة بن الزّبير (23 هـ/634 م – 93 هـ/711 م). وهذه الدّراسات تناولت أوّلَ ما نزل من الوحي، حديث الإفك، نزول محمّد بالمدينة بعد الهجرة وصلح الحديبية. وقد أظهرت هذه البحوث، كما ادّعاه أدب السّيَر الإسلامي، أنّ عروة كان قد جمع بالفعل هذه الأخبار وأخبار أخرى حول حياة النبيّ خلال القرن الهجري الأوّل وروى هذه الموادّ للعديد من تلامذته. وقد أصبح من الممكن إثبات ذلك لأنّ الأحاديث المعنيّة بالأمر لم يقع نقلها فقط من طرف تلميذ واحد من تلامذة عروة بل من قِبَل إثنَيْن أو أكثر، أي أنّ هذه الأحاديث وردت في روايات متعدّدة. كما أنّ مقارنة الرّوايات المختلفة والنّسخ المتعدّدة لأخبار عروة كانت قد أُنْجِزت بنفس الطّريقة التي تمّت بها دراسة التّوافق بين المخطوطات. وهذا يؤدّي في أكثر الأحيان إلى النّتائج التّالية:
1- أنّ مختلف الرّوايات والنّسخ كانت قد نُقِلت الواحدة بمعزل عن الأخرى. وهذا يصبح بديهيّا من خلال إختلافات كلّ واحدة من هذه الرّوايات والنّسخ وكذلك "الطّابع الخاصّ" لكلّ واحدة منها؛
2- أنّ كلّ هذه الرّوايات والنّسخ تعود إلى مصدر مشترك. ويصبح هذا أكثر وضوحا بفضل تطابق المحتوى، بالرّغم من كلّ الفوارق، بين مختلف الرّوايات. في بعض الحالات، خاصّة في حالة الخطاب المباشر، نرى أحيانا وجود تطابق طفيف في الصّياغة؛
3- أنّ محتوى ما كان عروة قد درَّسه لتلاميذه يمكن إعادة بنائه.
لقد بدت النّتائج الإيجابيّة لهذه الدّراسات واعدة بإمكانيّة جمع أحاديث عروة الأخرى بخصوص السّيرة النبويّة ودراستها بالطّريقة ذاتها. كان الهدف يتمثّل في جمع مدوّنة عروة من هذه الأحاديث على أكمل وجه ما أمكن إلى ذلك سبيلا ثمّ إعادة بناء محتويات أخبار عروة المتعلّقة بالسّيرة على هذا الأساس. وقد تبنَّت مؤسّسة Swiss National Science Foundation مشروعا لهذا الغرض عام 2002 يُشرف على إنجازه حاليّا كلّ من تانيا دونكير (Tanja Duncker) وأندرياس غوركه (Andreas Görke).
ومنذ ذلك الحين تمّ الإنتهاء من جمع المدوّنة. وقد اتّضح أنّ مدوّنة عروة تشكِّل الإطار الأساسي لمجمل السّيرة، أي أنّها تحتوي على مختلف الأخبار الطويلة والمفصَّلة حول أهمّ الأحداث التي طرأت في حياة محمّد وحول أفعاله، ومن أهمّها:
1- بداية نزول الوحي
2- ردّة فعل أهل مكّة – هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة – بَيْعة العَقَبة ثمّ الهجرة إلى المدينة
3- معركة بدر
4- معركة أحُد
5- معركة الخندق
6- صلح الحديبية
7- حديث الإفك
8- فتح مكّة
إنّ معظم هذه الأخبار موثَّقَة بشكل جيّد، أي أنّها جاءت عن طريق راوِيَيْن على الأقل نقلا عن عروة مباشرة، وأهمّ مَن روى عنه هو ابنه هشام (تـ 146 هـ/763 م) وأشهر تلاميذه ابن شهاب الزّهري (تـ 124 هـ/742 م).
الأحاديث التي نقلها هشام، والزّهري، وبعض المُحدّْثين، عن عروة تختلف عامّة من حيث الصّياغة وفي بعضٍ من موادِّها. ومع ذلك، فهي تنتهج نفس الهيكليّة الأساسيّة، بمعنى آخر أنّ هذه الأخبار تقصّ نفس الحكاية. وبناء على ذلك، يمكننا أن نخرج بنتيجة مفادها أنّ هذه الأحاديث تعود بالفعل إلى نفس المصدر، أي إلى عروة.
وعلى العكس من ذلك، نرى أنّ أقدم الأحاديث التي رواها أبو الأسود "يَتيم عروة" (تـ 131 هـ/748 م أو بعد ذلك بقليل) عن عروة، تختلف على العموم اختلافا كبيرا عن الأحاديث التي رواها هشام والزّهري.
في أغلب الأحيان، نجد أنّ أحاديث أبو الأسود متطابقة مع أحاديث موسى بن عقبة (تـ 141 هـ/758 م)، أو على الأقل قريبة جدّا منها؛ وفي حالات متعدِّدة ترد هذه الأحاديث بإسناد مركَّب: أبو الأسود عن عروة، موسى بن عقبة عن الزّهري.
بالإضافة إلى الأحداث التي ذكرناها آنفا، هناك أحداث أخرى في السّيرة من المفروض أن يكون عروة قد ألمّ بها أيضا، وذلك بالرّغم من عدم وجود أيّ حديث تاريخي بخصوصها وقع نقله عن طريقه إذ نراه يشير إلى هذه الأحداث في بعض أحاديثه الفقهيّة (مثلا حديثه عن غزوة خيبر في سياق تعرّضه لاقتسام إرث محمّد بعد وفاته).
سنقوم فيما يلي بدراسة أحد أطول خبر، الخبر رقم 2 (الخبر الذي يروي الأحداث التي أدّت إلى الهجرة وكذلك الهجرة نفسها)، وذلك بمزيد من التفصيل. يتعلّق الأمر في الواقع بجَمهَرة من الأخبار تسلسلت فيها أحداث مختلفة في قصّة واحدة. على ما يبدو، كانت هذه القصّة قد صِيغَت في مجموعها من طرف عروة. بالإضافة إلى هذا الخبر الأطول، هناك عدد من الأحاديث الأقصَر حول الهجرة جاءت من طريق عروة. إنّ معظم هذه الأحاديث القصيرة لا تتناول إلاّ جانبا واحدا يرتبط بالسّيرة (مثلا، الحديث على أنّ عبد الله بن الزّبير هو أوّل طفل وُلِد بعد الهجرة). سوف نركّز اهتمامنا هنا على هذا الخبر الطويل.
هناك روايات مختلفة لهذا الخبر، إحداها تعود إلى هشام بن عروة، والأخرى إلى الزّهري، وأطول نصّ لرواية هشام أوردها الطّبري (تـ 310 هـ/923 م) في تفسيره (ج 6) وفي تاريخه (ج 2). وبالرّغم من أنّ هذا الخبر جاء مقسّما إلى عدّة أجزاء، إلاّ أنّ هذه الأجزاء تشكّل في الحقيقة كلاّ واحدا، أي حديثا واحدا في هيئة رسالة بعث بها عروة إلى الخليفة عبد الملك (حَكَم من 65 هـ/685 م إلى 86 هـ/705 م). أن تكون الأجزاء التي أخرجها الطّبري متناسبة في الواقع فيما بينها، فإنّ ذلك يعود بكلّ تأكيد إلى عدّة أسباب: فإذا كانت بعض الأجزاء جاءت مقسّمة في تاريخه إلاّ أنّها تشكِّل في تفسيره قصّة واحدة. وكلّ الأجزاء لها نفس سلسلة الإسناد: الطّبري → عبد الوارث → عن أبيه، عبد الصّمد → أبّان العطّار → هشام بن عروة → عروة. وهذا الإسناد لا يستعمله إلاّ الطّبري فقط عندما يذكر الرّسائل التي بعث بها عروة إلى الخليفة. وهذا لا يحدث في أي حالة أخرى، ولكن تقريبا في كلّ الحالات يستعمل الطّبري نفس الإسناد عندما يتعرّض لرسائل عروة. كما نلاحظ أنّ جزءًا من الحديث يبدأ بالضّبط من النّقطة التي انتهى إليها الجزء الذي قبله. وفي كلّ أجزاء الخبر، عدا واحد منها، نجد إشارة واضحة إلى كون هذه الأجزاء تعود إلى رسالة من رسائل عروة إلى عبد الملك.
يمكن لنا إذن أن نستنتج أنّ هذه القطع من الأحاديث كانت في الأصل حديثا واحدا. فالطّبري يؤكِّد أيضا أنّه سمع نفس الحديث مع بعض الإختلافات الطّفيفة من طريق يونس (بن عبد الأعلى) → (عبد الله) بن وهب → ابن أبي الزّناد → أبو الزّناد → عروة.
دعونا الآن ننتقل إلى محتوى هذه الرّواية. تحتوي رواية هشام لخَبَر أو رسالة عروة بعضا من المواضيع. إنّ الهيكل العام للأحداث هو كالتّالي: في البداية يستمع المكّيون لمحمّد وهو يدعوهم إلى الإيمان بما بعثه الله من الهدى والنّور الذي أنزله عليه "ولم يبعدوا منه أوَّل ما دعاهم، وكادوا يسمعون له"، غير أنّ الوضعيّة تسوء عندما يبدأ في شتْم آلهتهم "حتّى ذكر طواغيتَهم (...) فانْصَفق عنه عامّة النّاس، فتركوه...". فأحكمت قُريشُ الخناق على المسلمين واشتَدّوا عليهم "فكانت فتنة شديدة الزّلزال على مَن اتَّبع رسول الله من أهل الإسلام"؛ فخرج بعض من المسلمين مهاجرين إلى الحبشة ومكثوا فيها بضع سنين. وفي الأثناء أسلم كثير من المكّيّين ممّا ساهم في تحسُّن وضعيّة المسلمين فيها. فرجع عدد كبير ممّن هاجروا إلى الحبشة. ولكن عندما أسلَم كثير من الأنصار في المدينة ساءت من جديد حالة المسلمين في مكّة [بعد حادثة الآيات الشيطانيّة] وبدأوا من جديد يتعرّضون لاضطهاد المكّيّين لهم. ثمّ التقى ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من الأنصار النبيّ في موسم الحجّ في العقبة وبايعوه على نُصرَته ونُصرَة كلّ من يَمَّم المدينة من المسلمين. فشجّع محمّد المسلمين على الهجرة إلى المدينة. ففعل كثير منهم ذلك ولكنّ محمّد طلب من أبي بكر أن ينتظر معه في مكّة.
وفي يوم من الأيام أتى محمّد بيت ابي بكر في ساعة كان لا يأتي فيها، أي في "الهاجرة" (وقت الظّهيرة) وهو الذي كان يأتي بيت أبي بكر "إمّا بُكرَة، وإمّا عشيّة". فعرف أبو بكّر أنّ النبيّ لم يأت في تلك السّاعة "إلاّ لأمْرٍ حَدَث". فقال له النبيّ "إنّ الله عزّ وجلّ قد أَذِنَ لي بالخروج والهجرة". فخرج محمّد وأبو بكر واختبآ بضعة ايّام في غارٍ بجبَل ثَوْر، بأسفل مكّة، وكان عمر بن فُهَيْرة، مولى أبي بكر، [أسماء بنت ابي بكر في روايات أخرى] يأتيهما بالطّعام؛ في حين كان عبد الله بن ابي بكر "يَسْمَع لهما ما يقول النّاس فيهما نهارَه، ثمّ يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبَر". وبعد أن مكثا بالغار ثلاثة أيام، وهدأت لهما الأوضاع وسكن عنهما النّاس، خرجا على راحِلَتيْن، كانت قد هيَّأتهما لهما أسماء بنت ابي بكر، ذات النّطاقَيْن، وانطلقا يقصدان المدينة وكان عامر بن فُهيْرة يَخْدمهما بالطّريق، وكان دليلهما على الطّريق عبد الله بن أُرَيْقِط من بَني عبد بن عديّ. وقد وقع وصف الطّريق الذي سلكاه مع بعض التّفاصيل.
وعندما وصلا المدينة نزلا بقُباء على بني عمرو بن عوف مدّة أربعة ايّام أو يزيد (حسب الرّوايات). ثمّ انتقلا من هناك وانْتَخبَ محمّد مكانا في منطقة يسكنها بنو النجّار (ومن المرجَّح أن يكون قد قصد بناء مسجد هناك).
الخبر الطويل الآخر يعود إلى الزّهري (تـ 124 هـ/742 م)، ويمكن العثور عليه في مصادر مختلفة. وعلى النّقيض من رواية هشام، فإنّ النّسخ المختلفة لرواية الزّهري لا تتّخذ أيّ واحدة منها شكل الرّسالة. وأطول رواية من روايات الزّهري أوردها عبد الرّزّاق (تـ 211 هـ/827 م) →مَعْمر → الزّهري → عروة؛ وكذلك البخاري (تـ 256 هـ/870 م) → يحيى بن بُكَيْر → اللّيث → عُقَيل → الزّهري → عروة. أمّا النّسخة الأقصر فقد رواها، من بين أخرين، البخاري → أبو صالح → عبد الله → يونس → الزّهري → عروة (يروي كذلك البيهقي، في دلائل النبوّة، نفس الحديث بإسناد آخر من طريق ابن صالح → اللّيث → عُقَيْل → الزّهري → عروة)، وأيضا ابن إسحاق → الزّهري → عروة. لقد تمّ نقل هذه الرّوايات مع اختلافات بسيطة في عدّة مواضِع من كُتب الحديث.
على غرار ما فعله هشام، يبدأ الزّهري روايته عن الوضع في مكّة. فكلّما ازداد سوءًا، ازداد عدد المهاجرين إلى الحبشة ارتفاعا. وكان أبو بكر من بين هؤلاء المهاجرين. فلمّا بلغ بَرْك الغِماد (أو الغُماد) لَقِيَه ابن الدَغِنَة أو الدغينة (أو الدُغُنَّة، عند أهل اللّغة) الذي أقنعه بالرّجوع إلى مكّة وعبادة ربِّه ببلده "فارتَحَل ابن الدغنة وعاد مع ابي بكر، فطاف ابن الدُغنة في كفّار قريش، فقال: إنّ أبا بكر خرج، ولا يُخرَج مثله، أَتُخرجون رجُلا يكسب المعدوم، ويصل الرّحم (...) فأَنْفَذت قريش جِوار ابن الدغنة، وأَمَّنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مُرْ أبا بكر فليعبد ربَّه في داره، وليُصلِّ فيها ما شاء، ولا يؤذِنا، ولا يستعلن بالصّلاة والقراءة في غير داره...".
ولكنّ أبا بكر لا يفي بوعده. فقد قام ببناء مسجد في فناء منزله وكان يُصلّي فيه ويقرأ القرآن علنا فيزدحم عليه نساء المشركين وابناؤهم وكلُّهم إعجاب به وآذان صاغية له لأنّ أبا بكر كان "رَجُلا بَكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن"، الشّيء الذي أزعج أشراف قريش وأثار خشيتهم من أن يَفتِن أبو بكر نساءهم وأطفالهم. فأرسلوا إلى ابن الدغنة وأمروه أن يُخيِّر أبا بكر بين أن "يقتَصر على ان يعبد الله في داره" دون أن يُعلِن ذلك، أو، إن أبى ذلك، أن يسأله "أن يَردَّ عليه ذِمَّته". ولكنّ أبا بكر رفض ذلك قائلا له: "إنّي أردّ إليك جوارَك، وأرضى بجوار الله ورسوله". وكان محمّد في تلك الفترة بمكّة، وقد رأى في المنام "دار هجرة المسلمين": "إنّي رأيت دارا سبْخةً ذات نخْل، بَيْن لابَتَيْنِ، هُما الحَرَّتان، فهاجَر مَن هاجَر قِبَلَ المدينة حين ذكر ذلك رسول الله، ورجع إلى المدينة بَعْضُ مَن كان هاجَر إلى أرض الحبشة". وقد استعدّ أبو بكر هو أيضا للهجرة على المدينة. ولكن، وهو على أهبة الإستعداد للقيام بذلك، يأمُرُه محمّد بالمكوث في مكّة والبقاء معه: "فحَبس أبو بكر نفْسَه على رسول الله لصُحْبَته".
وفي يوم من الأيام يأتي محمّد إلى منزل أبي بكر في وقت غير معتاد (في نحر الظّهيرة)؛ وعلى الفور يُدرِك أبو بكر أنّ شيئا خطيرا مّا قد دفع بمحمّد إلى المجيء في هذه السّاعة غير المألوفة. وبالفعل يُعلِن محمّد أنّ الله أَذِنَ له بالخروج، فطلب أبو بكر أن يصاحبه في سفره، فأجابه محمّد إلى ذلك.
يختبئ محمّد وأبو بكر في غارٍ بجبل ثور لمدّة ثلاثة أيّام وقد جهّزَتْهما عائشة وأسماء "أَحثَّ جهاز"، وصَنَعتا لهما "سُفرة في جراب، فقطَّعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقَها فأوْكَت به الجراب، فلذلك كانت تُسمّى ذات النّطاقَيْن".
وكان عبد الله بن أبي بكر وعامر بن فُهيْرة، مولى أبي بكر، يزوِّدان الفارَّيْن بالطّعام وبمستجدّات الأخبار عند قريش بمكّة. وبعد ثلاثة أيّام قرّر محمّد وأبو بكر الرّحيل إلى المدينة بعد أن استأجَر هذا الأخير رجلا من بني الدِيل من بني عبد بن عُدي ليكون دليلَهما على الطّرق، وقد كان: "هاديًا خِرِّيتًا- والخِرِّيت (هو) الماهر بالهداية"، وقد وَثِقا بهذا الرّجل على الرّغم من أنّه كان كافرا. وانطلق أربعتُهم (محمّد وأبو بكر وعامر بن فهيرة والدّليل الدِيليّ: "فأخَذ بهم طريق أَذاحر، وهو طريق السّاحل".
نرى هنا أنّ الرّوايات عن الزّهري تختلف في بعض التّفاصيل. ففي حين أنّ النّسخ الطّويلة التي يرويها مَعمر عن الزّهري وعُقيْل عن الزّهري قريبة جدّا من بعضها البعض من حيث الصّياغة والتّحرير (كما هو الحال بالنّسبة للنّسخة الأقصر ليونس عن الزّهري)، فإنّ النّسخة التي احتفظ بها اين إسحاق (تـ 150 هـ/767 م) تحكي نفس القصّة ولكن في صياغة مختلفة تمام الإختلاف. كما يوجد فيها أيضا بعض التبايُنات في المحتوى.
إنّ ابن إسحاق لا يقدِّم إلاّ الجزء الأول من القصّة (تلك التي تتحدّث عن ابن الدُّغمة)، من طريق الزّهري عن عروة، في حين أنّه يقدِّم الجزء الثّاني (قصّة الهجرة في حدّ ذاتها) من طريق شخص لا يُريد ذكر إسمه "فحدَّثني مَن لا أَتَّهم"، عن عروة بن الزّبير (في سيرة ابن هشام)، أو عن محمّد بن عبد الرّحمن بن عبد الله التميمي عن عروة (في تاريخ الطّبري). فابن إسحاق يدمِج إذن في عرضه للقصّة بين النّسخة المرويّة عن الزهري مع نسخة ثالثة سَنُطْلِق عليها رواية محمّد بن عبد الرّحمن.
كما سبق وأشرنا إليه آنفا، تكتسي روايات ابن إسحاق عن الزّهري خصائص متميِّزة. على سبيل المثال، نرى في روايات معمَر، عُقَيل ويونس عن الزّهري أنّ الميثاق بين ابن الدُّغمة وأبي بكر ينُصّ صراحة على أنّ هذا الأخير لا يمكنه من الآن فصاعدا أن يُعْلِن صَلاته على الملأ. ولهذا فإنّ تصرّف أبي بكر يمثّل إذن انتهاكا فاضحا لهذا الإتّفاق. وبناء على ذلك، فإنّ ابن الدُّغمة يطلب من أبي بكر إمّا أن يلتزم بما تعاهدا عليه وإمّا أن يردَّ عليه ذِمَّته (أو جِوارَه عند ابن إسحاق).
غير أنّنا لا نجد في نُسخ ابن إسحاق أيَّ تلميح إلى اتّفاقيّة تكون قد تضمّنت شرطا لا يجوز بموجبه لأبي بكر أن يُقيم الصّلاة علانيّة. كلّ ما نجده فيها أنّ ابن الدغنة، لمّا جاءته قريش تشتكي من أبي بكر وصنيعه في صلاته، يقول له: "يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك، إنّهم قد كرهوا مكانك الذي أنت فيه، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك، فاصْنَعْ فيه ما أحْبَبْتَ"؛ حينها فقط يطلب أبو بكر من ابن الدغنة ما إذا كان يريد أن يَرُدَّ عليه جواره ويرضى بجوار الله؟ (لا ذكر هنا لجوار "رسوله" كما في الرّوايات الأخرى). وعندما يُبدي ابن الدغنة قَبولَه بذلك، يردُّ حينها أبو بكر إليه جواره. بالرّغم من أنّ مختلف الرّوايات تُعطي للقصّة لَمْسَة طفيفة مغايرة فإنّها تظلّ هي نفسها. يبدو كذلك أنّ النّسخ التي تعود إلى مَعمر، عُقيل ويونس ترتكز على نفس النّسخة (مكتوبة) بحكم أنّ نصوصها تكاد تكون متطابقة تطابقا كليّا. فلا يمكن أن نستبعد أن تكون واحدة أو إثنتين من هذه النّسخ كانت قد نُقِلت مباشرة عن الثّالثة.
بمقارنة نُسخ هشام بن عروة، والزّهري، ومحمّد بن عبد الرّحمن، يكون بمقدورنا أن نلاحظ وجود أشياء مشتركة كثيرة بينها، بالرّغم من إختلافها في تفاصيل عدّة. فالنّسخة المرويّة عن هشام تركّز على نقاط تختلف عن تلك التي تركّز عليها النّسخة المنسوبة للزّهري: ففي حين تتعرّض رواية هشام للهجرة نحو الحبشة وتحكيها بصورة عامّة، نرى رواية الزّهري تركّز كثيرا على حكاية أبي بكر مع ابن الدغنة، وبالتّالي تبدو وكأنّها تشخِّص بشكل من الأشكال هذه الهجرة الأولى.
من ناحية أخرى، نرى رواية هشام تذكر معاهدات العقبة، وتصف طريق الهجرة بأدقّ الجزئيّات، فإنّ هذه التّفاصيل لا يمكن العثور عليها في الرّوايات المرفوعة إلى الزّهري ومحمّد بن عبد الرحمن.
نستطيع أن نفترض، عن صواب، أنّ مختلف النّسخ تعود بالفعل إلى مصدر مشترك، أي إلى عروة، كما بيّنّا ذلك منذ البداية (بمعنى أنّنا أمام روايات مختلفة ترقى إلى نفس المصدر، ولكنّها منقولة بعضها بمعزل عن البعض الآخر).
إنّه من الصّعب القول ما إذا كانت العناصر الموجودة في نسخة من النّسخ تعود إلى عروة أو أضافها فيما بعد راوية آخر؛ على سبيل المثال، ما إذا كانت قصّة ابن الدغنة تشكّل جزءًا من خبر عروة أو أنّها من تقديم الزّهري. قد يكون من المحتمل أنّ عروة كان قد روى الخبر تارة في إطار عام (كما جاء في رواية هشام)، وتارة بصورة تفصيليّة مُشَخصَنة (كما أوردها الزّهري). ومن المفهوم أن ترد الرّواية في شكل عام داخل الرّسالة التي بعث بها عروة إلى الخليفة.
وبالرّغم من أنّنا لا يمكننا البتّ في القضيّة في هذه المرحلة من البحث، إلاّ أنّه بإمكاننا أن نفترض بأنّ العناصر المشتركة بين مختلف النّسخ تعود بالفعل إلى عروة. إذن، نستطيع أن نفترض أنّ أخبار عروة كانت تحتوي على الأقل على العناصر التّالية:
1- تعرّض المسلمين إلى الأذى في مكّة،
2- ما انجرّ عن ذلك بهجرة بعض المسلمين لاحقا إلى الحبشة،
3- تواصل تعرّض المسلمين إلى الأذى في مكّة وهجرة الكثير منهم إلى المدينة،
4- هجرة النبيّ إلى المدينة صُحبَة أبي بكر وعامر بن فهيرة.
تمثّل هذه العناصر ما يمكن أن نسمّيه المخطَّط العام للأحداث. وبالإضافة إلى هذا المخطّط العام، هناك بعض التّفاصيل التي يمكن أيضا إثبات أنّها تعود إلى عروة، مثلا قصّة أبي بكر ومحمّد وهما مختفيان في غار بجبل ثور، وإمدادهما بالطّعام والأخبار عن قريش في مكّة... إلخ.
في الختام، يمكن ابراز أنّ الأحاديث الطويلة المحفوظة في روايات مختلفة (أي رواية هشام بن عروة كما أوردها الطّبري، ورواية الزّهري كما ذكرها عبد الرّزّاق، إلخ) تعود إلى عروة، وأنّه بمقدورنا إعادة تركيب محتويات ما كان عروة قد درّسه لتلامذته بخصوص هذا الموضوع.
الأحاديث القصيرة والتي أهملناها حتّى الآن، هي من صِنْفَيْن. الصّنف الأوّل يمثِّل قِطَعًا من الأحاديث الطّويلة التي نُقِلت بأسانيد مختلفة والتّي تدعم النّتائج المذكورة أعلاه. الصِّنف الآخر يتمثّل في أحاديث تتناول الهجرة من بعض النّواحي، ولكنّ لا تجد ما يماثلها في النّسخ الطويلة (مثلا الخبر بخصوص عبد الله بن الزّبير، أخي عروة، على أنّه أوّل طفل وُلِد بعد الهجرة)، على الرّغم من أنّه خبر منسوب إلى عروة، إلاّ أنّه من المرجّح لم يكن جزءًا ممّا يشكّل دروسه في السّيرة بالمعنى الحصري للكلمة.
بالنّسبة لتاريخيّة هذا الخبر، يجب علينا بطبيعة الحال ألاّ نأخذ هذه الأحاديث كمسلَّمات. ولكنّ عروة كان إبْنًا لواحد من أوائل المسلمين، الزّبير، وكان أيضا ابن أخت عائشة زوج النبيّ؛ فقد كان إذن واحدا من الّذين عاشوا هذه الأحداث عن قرب وشارك فيها. فحتّى وإن لم تكن هذه الأخبار بأيّ شكل من الأشكال شهادات عينيّة، وحتّى وإن كانت هذه الوثائق مرتكزة على شهادات مباشرة فيما يتعلّق فقط بآخر سنوات حياة محمّد، فليس هناك أيّ داع للشّك في أنّها تعكس بشكل جيّد المخطّط العام للأحداث.
إنّ هذه النّتائج التي توصّلنا لها هنا في هذه الدّراسة تتناقض جذريًّا مع وجهة النّظر التشكيكيّة التي قدّمناه في البداية: فعلى الرّغم من إحتمال وقوع بعض التّلاعب في الاسانيد فإنّه لا يمكن اعتبارها بصورة عامّة غير موثوقة. يبدو أنّ جزءًا من الأحاديث قد نشأ في القرن الأوّل، ومن خلال الأحاديث التي تمّت دراستها، أصبح من الممكن الحصول على معلومات عن حياة محمّد، رغم نُدرتِها.
إنّ دراسة مدوّنة أحاديث عروة ابن الزّبير حول السّيرة تُوفِّر لنا رؤى جديدة بخصوص تطوّر الحديث في القرنين الأوّلين للهجرة وكذلك عن حياة النبيّ محمّد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53