الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التمرغ في تراب التكريم!

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2019 / 4 / 1
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


كنت أزوره بين الفينة والأخرى. أذهب إليه في داره بحي النخيل. حي هادئ. لا عمارات هنا شاهقة تسد عين الشمس. كل المنازل لا تتعدى طبقة واحدة. لكن لعاب ذئاب المضاربات العقارية سال وهدد اليوم وجه الشمس.
أمر على الحديقة العمومية المجاورة لدار الزعيم الكبير. كان زعيما من قبل أن أولد. وزعيما كبيرا سيظل. أنا أتحدث عنه الآن وقد مرت سنوات على رحيله. كنت أتباهى باستقباله لي ولطفه معي. هو لا يستقبل الجميع..

لما مات شمت الأعداء.
قال خبثاء:
- مات منذ يوم رفض مباركة اللعبة.
لقد فضح التواطؤ على الجماهير.
وقالوا:
- دفن جثة سياسية بعد موتها بعقود.
ونسوا أن عفونتهم تسد الأنوف وتخنق الجو. ما أرذلهم. نقول نحن من أحببنا، متأخرين، زعيمنا بنقائه الروحي والفكري ونظافة يده.

يردون:
ـ هذا مخلوق تأخرت ولادته. هو ينتمي لعصور سابقة.

اعتزل السياسة لما رأى السماسرة و"الشناقة" يسيطرون على دواليبها. عاد إلى واحته الهادئة. داره البسيطة بحي النخيل. ولا أشجار هنا ولا نخيل. وحدها الحديقة المجاورة تنقذ ماء وجه الاسم.
آه.. تنتظرون أن أذكر لكم اسمه. أعرف أن الجميع يعرفه. أو على الأقل الأجيال التي رأت النور قبل الاستقلال. هو الزعيم. أطلب العفو من روحه. كان لا يستسيغ اصطلاح "الاستقلال". هو الحريص على إيلاء الكلمات مواضعها التي تستحق. كان لا يحب فوضى الكلمات. أو الكلام المتروك لعواهنه. همس لي وهم يعدون في العاصمة للاحتفال بذكرى مرور نصف قرن على استقلال البلد. قال الزعيم:
ـ نصف قرن لا يوازي نصف دقيقة.
إن المستعمر لم يغادر. وإنه لم يخرج من الباب ليلج من النافذة كما يحلو لبعض المتحدثين. هو لا يزال قابعا بعقر دارنا. وقد تضخم وانتفخ. صار جسمه أكبر من كل باب ونافذة. لنخرجه وجب علينا هدم الجدار.

وعن الجدران كان يجمع يديه المعروقتين. يتحدث عن ضرورة هدم جدران والتحصين ببناء أخرى. ينظر إلى جدار الغرفة التي نجلس على أريكتها الوحيدة. وكأنه يقرأ في لوحة إلكترونية. يرسم خرائطا وجبالا وأنهارا. يلونها بالأخضر والأزرق والبني. يدس فيها نقطا حمراء. يقف ويمشي أمامي. تحضرني قامته المهيبة وهو يحاضر في مدرج كلية الحقوق. لا أتابع شروحاته. يصافح زعماء العالم. يوقع الاتفاقيات الدولية. يدلي بتصريحات ويخطب في الحاضرين. يعلن مواقف تغير موازين القوى. ينظم العمال. يتهيأ للاجتماع بالحزب. والآن لا قوة له ولا حول. أمثاله لم يعودوا مقبولين في المشهد. يعكرون اللعبة ويعطلون انسيابها.

يتصل صحفي يطلب حديثا من الزعيم. يسأل عنه. وعن المنبر الذي يشتغل فيه. وأسئلة أخرى قبل أن يحدد موافقته من عدمها. يأتون لمحاورته كمن يذهب لزيارة متحف أثري. هو يرفض ذلك. كان لا يكف عن الذهاب إلى حدود المستقبل الآتي. يحب محاورة المثقفين والمفكرين. وكان مثقفا وأديبا ومفكرا كبيرا من طينة الكبار. هو مات من سنين. لكني أرى كلامه يتجسد أمامي اليوم وقائع حية. هو رأى. ولم يسمع أحد ما رأى. لو بقي معنا ما كان يقف ويردد:
ـ ألم أقل لكم....؟
ليست هذه لغته. وكان مثقفا وأديبا كبيرا. لم يقبله تجار مواقف باطلة وكراسي زائلة. رفض لعبتهم الواطئة. فقال كلمته ومشى.
يوم تذكروه أوصوا بتكريمه. كان طريح الفراش. أتوا إليه في واحته. تسبقهم الأبواق والكاميرات. قالوا له:
ـ جئناك لنعترف بك واحدا من كبار الوطن. لقد أديت الواجب وأجزلت. وكنت نبراسا لنا. وهذا الوسام تشريف لك.
تبسم ضاحكا لما تكلموا عن الشرف. أمر ولده الأكبر من كان يجلس قرب رأسه:
ـ قم يا ولدي وشيع هؤلاء الناس. أرهم طريق الخروج. وانتبه للكلب هل هو مربوط. ونام.

ظل الموظف السامي مرتبكا لا يلوي على شيء. في نشرة المساء رأى المشاهدون الموظف السامي يوشح ابن الفقيد نيابة عن والده الوطني الكبير الذي قضى نحبه.
أعطيت أوامر عليا بتسريع الدفن.
ـ "يخافونه ميتا" قالت امرأة.
رد فقيه: ـ من تكريم الميت التعجيل بدفنه.
أخيرا تم تكريم الزعيم تحت التراب.
التراب للتكريم.
التراب للتمرغ. التراب للبيع. التراب للتراب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي