الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رئيسة وزراء نيوزيلندا .. قيادة تغييرية تدافع عن التنوع الثقافي والعيش المشترك

همام طه

2019 / 4 / 3
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


أظهرت رئيسة الوزارء النيوزيلندية، جاسيندا أردرن، كفاءة سياسية وخطابية لافتة في إدارة الأزمة التي واجهتها بلادها عقب الاعتداء الدموي الذي استهدف مصلين مسلمين في مسجدين في مدينة كرايست تشيرتش الجمعة الفائتة على يد شخص ينتمي إلى اليمين المتطرف ويؤمن بتفوّق العرق الأبيض. فقد اعتدنا على استخدام لقب "المرأة الحديدية" في وصف النساء القويات في مواقع صنع القرار وكأننا باستدعاء صلابة الحديد لوصف إرادتهن السياسية نقرّ ضمنياً بأن المرأة ضعيفة وليّنة ودخيلة على السلطة التي تتطلب القوة والشدّة وأن "النعومة الأنثوية" هي بمثابة "سبّة" في الشخصية السياسية النسوية مفترضين أن المرأة في السلطة عليها استعارة صفات المعادن الصلبة كي تتفوق بذلك على حزم وعزم الرجال.
ولكننا هذه المرة إزاء حالة مغايرة للمفهوم السائد فرئيسة حكومة نيوزيلندا تدير الأزمة الأمنية والاجتماعية التي تواجهها بلادها بلمسات "امرأة" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ عاطفية وأمومية لتبعث بسلوكها رسالة مفادها أن قيادة السلطة ربما هي التي تحتاج إلى صفات المرأة النفسية والسلوكية كي تكون أكثر تعاطفاً وشفقة وقرباً من المجتمع وحُنوّاً عليه في اللحظات العصيبة أكثر من حاجة المرأة القيادية إلى استعارة صفات الطابع الذكوري "الخشن" الذي هيمن على مفهوم السلطة عبر تاريخ البشرية.
وفي مقابل تجارب الحكم "الأبوي" الشائعة في العالم والتي تُتهم باتصافها بالمحافظة والتسلّط تقدم أردرن اليوم تجربة حكم "أمومي" تريد لها أن تتسم بقدر واضح من الاحتواء والاحتضان والتحرّر والانفتاح.
ثم هي تقول أيضاً بتصرفاتها وردود أفعالها على الحادث إن النزعة العاطفية في السياسة لا تعني بالضرورة الضعف ولا الشعبوية؛ ولكنها قد تعني الشعور بمعاناة الناس والالتحام بهم والإحساس العالي بالمسؤولية تجاههم، وهي القدرة على توظيف المشاعر الإنسانية والبلاغة الخطابية والتطبيق الحاسم لسيادة القانون في احتواء أزمات التعايش وإطفاء نار الكراهية وحماية المجتمع من الانقسام والتشظي.
ولذلك رأينا أردرن تتصرّف كزعيمة/أم قادرة على احتضان شعبها في المحنة وتهدئة مخاوفه، وليس اللعب عليها أو توظيفها سياسياً، وذلك باعتمادها سياسة ناضجة تتمتع بالكثير من روح المبادرة والتلقائية التي تكشف عن وضوح ورسوخ فكرة العيش المشترك في وعيها وإيمانها بالتنوّع، بحيث استطاعت أن تبلور استجابة سريعة لامتصاص الصدمة ومقاربة إنسانية وسياسية لتطويق ارتداداتها وتحويلها إلى فرصة لحماية التعايش إدراكاً منها أن لا حل للمشاكل التي تواجه العيش المشترك إلا الالتزام بالعيش المشترك، وأن لا سبيل لمواجهة تحديات التنوّع الثقافي إلا المضي في صيانة واحترام وتطوير هذا التنوع انطلاقاً من القاعدة الذهبية التي باتت راسخة في المجتمعات الديمقراطية وهي أن "لا علاج لمشاكل الديمقراطية إلا بالمزيد من الديمقراطية".
إن سياسات الحكمة والتعاطف هي الوسيلة الأكثر كفاءة لتقليص المساحة التي تتحوّل فيها الاختلافات الدينية والإثنية إلى خلافات أيديولوجية وسياسية، والسياسي الناجح هو الذي يحمل مشروعاً أخلاقياً يهدف لترويض التناقضات الداخلية في مجتمعه وليس استثمارها لخدمة مصالحه السياسية الحزبية أو الشخصية. ولذلك لاحظنا جرعة أخلاقية عالية في خطاب جاسيندا أردرن وبدت وكأنها تستثمر الحدث لإعادة نسج العلاقات بين المكونات الاجتماعية في بلدها بدقة وإحكام وحرص وإخلاص على أساس من التكاتف والتكافل والاندماج بما يجعله مؤهلاً للصمود أمام أي شروخ أو هزات قد تنتج عن هذه الجريمة أو غيرها.
وكان ارتداء أردرن الحجاب وهي تواسي ذوي الضحايا من أبناء الجالية المسلمة خطوة بالغة الذكاء للتعبير عن التضامن وترجمة رمزية للعبارة البليغة التي حرصت على ترديدها بعد الهجوم في خطابها إلى مسلمي نيوزيلندا: "أنتم نحن" وهي عبارة عميقة ومكثّفة الدلالة في تعبيرها عن مفاهيم العيش المشترك والتماسك الاجتماعي والاندماج الحقيقي الذي يذيب الفوارق والحواجز بين الذات والآخر لصالح الانصهار في بوتقة إنسانية واحدة لا تصادر الخصوصيات ولا تنتهكها ولكنها تعلي من شأن المشترك الإنساني الجوهري الذي لا يمكن للهويات الفرعية أن تلغيه.
ويلاحظ أيضاً أنها استطاعت بخطابها أن تفرض قيمة التعاطف على كل الإجراءات الأمنية والقانونية والإدارية التي يتم بموجبها التعامل مع الأزمة الراهنة وتجلى ذلك في احترام السلطات للطقوس الإسلامية في دفن الموتى وكذلك استصدار سمات الدخول لذوي الضحايا للحضور إلى نيوزيلندا للمشاركة في دفنهم.
ويبدو واضحاً أنها تسعى بأدائها السياسي إلى طمأنة المجتمع النيوزيلندي والتهدئة من روع الجالية المسلمة ووضع حاملي الأفكار اليمينية المتطرفة في عزلة شعورية وسياسية ومجتمعية بما يشكّل ردعاً رمزياً ومعنوياً لهم عن المضي في اعتناق هذه الأفكار المهددة للسلم الاجتماعي.
وهي عندما ترفض أن تتلفظ باسم مرتكب الجريمة وتطلق عليه أوصافاً مثل الإرهابي والمجرم والمتطرف فإنها لا تريد التعدّي على اختصاص القضاء أو استباق قراراته ولا انتهاك حقوق المعتقل أو معاداته بصفة شخصية؛ ولكنها كمسؤولة سياسية تستشعر المسؤولية في هذه اللحظات الحرجة وتريد أن تشكّل حالة من الرفض المجتمعي للتطرف خشيةً من تجرؤ متطرفين آخرين على ارتكاب جرائم مماثلة أو تأثّر أي شخص بأفكار اليمين المتطرف الهدامة. كما أنها بإعلانها مراجعة وتعديل قوانين حيازة السلاح في البلاد تريد أن تقول إن الأفكار المتطرفة لن تجد الفرصة أو الوسيلة لتتحوّل إلى أفعال دموية على الأرض.
وتعلم أردرن أنها هي وغالبية شعبها ينتمون إلى ذات الإثنية التي ينتمي منفّذ الهجوم وهي العرق الأبيض الذي تنادي مجموعات يمينية متطرفة بأفضليّته وأحقيّته بالسيادة والهيمنة، ولذلك أدركت أن إبداء أي شكل من أشكال التهاون في إدانة ورفض ما أقدم عليه المنفّذ سيكون بمثابة تواطؤ مع فعلته أو محاولة للتهوين من فظاعتها بما يشكّل نوعاً من التسامح الضمني مع أفكار اليمين المتطرف وتقليلاً من مأساوية ما حلّ بالمسلمين، ولذلك ذهبت إلى المدى الأوسع والأكثر وضوحاً وحسماً وصراحة في شجب الجريمة وسارعت إلى عدة مبادرات لخلق شعور عام بالأمان لدى المسلمين خاصةً وشعور بالثقة والارتياح واحترام الذات لدى عموم الشعب النيوزيلندي.
إن قدرة القائد السياسي على تعزيز احترام الذات والثقة لدى الأغلبية هو عامل أساسي في تشجيعها على احتضان الأقليات ولعب دور "الأخ الأكبر" الراعي والحاني والمتفّهم في التعامل معها.
لقد سعت أردرن من خلال الزخم السياسي الذي صنعته في مواجهة التطرف إلى صنع بيئة نفسية واجتماعية رافضة للتجرؤ على أرواح الناس أو التماسك الاجتماعي أو استخدام العنف للتعبير عن المعتقدات الأيديولوجية وتصفية الحسابات السياسية، وهي بذلك تحقن الدماء وتحمي المجتمع من الكراهية وتحمي المتطرفين من أنفسهم، وتقدّم تجربة ملهمة في القيادة السياسية على مستوى عالمنا المضطرم بالصراعات وحروب الهويات.
ولذلك لم تتردد عن وصف الجريمة بأنها "إرهابية" فوضعت بذلك اليمين المتطرف في خانة واحدة مع التطرف الإسلامي وهي خطوة لها دلالة مهمة كونها تصدر من سياسية غربية تنتمي إلى العالم المسيحي بدون مكابرة ولا عناد ولا التفاف قد يشي بقبول ضمني بأفكار أو أفعال اليمين المتطرف، وهو درس مهم في القيادة في اللحظات الحساسة التي تواجه المجتمعات التعددية، فالشجاعة الحقيقية هي في قدرتك على إدانة الجرائم التي تصدر من أبناء الهوية التي تنتمي إليها وقدرتك أيضاً على تضميد جراح أبناء الهوية المقابلة وبذلك أنت تحمي أبناء الهويتين معاً وتحمي الهوية الوطنية المشتركة التي تجمعهما.
كما أن المناخ السياسي والنفسي الذي خلقته بردود أفعالها يجعل وصفها لهذه الجريمة بالإرهابية مؤشراً على مصداقية سياسية وليس مجرد استعراض إعلامي.
وبدا واضحاً أن سياسة الاحتضان والتضامن التي اعتمدتها مع الجاليات المسلمة تهدف أيضاً إلى محاصرة أي أفكار متطرفة قد تنشأ داخل هذه الجاليات امتثالاً لتأويلات متطرفة للإسلام أو كردّ فعل انتقامي على جريمة المسجدين التي اقترفها اليمين المتطرف.
فهي بمسارعتها إلى تقمّص الشخصية الإسلامية عبر ارتداء الحجاب وتحية المسلمين بعبارة "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" في البرلمان وإعلانها بثّ الأذان في التلفزيون الجمعة المقبلة وتنويهها بالمسلم الذي استقبل القاتل عند دخوله المسجد بعبارة "مرحباً أخي" واعتبارها ذلك دليلاً على انفتاح المسلمين، ودعوة الشعب النيوزيلندي إلى مزيد من التضامن والتعاطف مع الجالية المسلمة إنما تريد أن تخلق حالة من التمازج العاطفي والمشاركة الوجدانية بين الأغلبية والأقلية بحيث يرى كل من الطرفين نفسه في أفضل صورها من خلال الآخر.
وحسناً فعل أحد المصلين الناجين من المجزرة وزوج إحدى ضحاياها عندما ردّ على تعاطف المجتمع النيوزيلندي مع المسلمين بخطاب مقابل مفعم بالغفران والتحرّر من الحقد تجاه المنفّذ فقال إنه "يسامح القاتل ويصلي من أجله"، فتغلّبت بذلك لغة التسامح والتآخي على لغة التعصب والعنف وباتت طريقة إدارة "أزمة التعايش" هذه في نيوزيلندا درساً بليغاً لكل الشعوب التي تمر بمثل هذه التحديات الوجودية.
واللافت أيضاً أن جاسيندا أردرن كانت قد تعهّدت عند انتخابها بمنع زيادة مستوى الهجرة أكثر من 30 ألف شخص سنوياً ولكنها مع ذلك دافعت عن المهاجرين المسلمين بعد الجريمة وقالت إن نيوزيلندا هي موطنهم؛ بمعنى أن موقفها الرافض لزيادة الهجرة يرجع فعلاً لأسباب تنموية موضوعية تتعلق بالمحافظة على التوازن بين عدد السكان والرفاه المعيشي الشامل ولا يتعلّق بأيديولوجيا كراهية الأجانب التي يروّج لها اليمين المتطرف، والعامل الاقتصادي - الاجتماعي كان قد دفعها أيضاً إلى التعهّد بحظر بيع المنازل في نيوزيلندا للأجانب بهدف الحدّ من ارتفاع أسعارها، إدراكاً منها أن إيجابيات الانفتاح على الخارج لا ينبغي أن تجعل صانع القرار يغفل عن حماية نوعية الحياة والعدالة الاجتماعية والرفاهية في الداخل، ما يجعلنا إزاء عقلية سياسية مركبة تستطيع أن تنظر للظواهر من زواياها المتعددة بحياد ومنطقية وأن تبني مواقف معتدلة ووسطية في التعاطي معها فهي تؤمن بالتنوّع الثقافي وتدرك أهميته للمجتمع ولكنها في الوقت نفسه تستشعر سلبيات المبالغة في استقطاب المهاجرين على الرخاء الاجتماعي للسكان الأصليين وللمهاجرين على حد سواء.

وقدرة أردرن على "التفكير المزدوج" تجسدت أيضاً في إقرارها بأنها تعلّمت قيمة خدمة الناس من انتمائها للكنيسة ولكنها مع ذلك أعلنت انسحابها من الكنيسة عندما وجدت أن بعض تعاليمها تتناقض مع مبادئها الشخصية. بمعنى أن تحوّلها إلى اللادينية لم يمنعها من الاعتراف بما تعلّمته في حياتها الدينية.
ولم تكن النزعة الليبرالية التي أبدتها في التعامل مع أزمة الهجوم على المسجدين وجسّدها تحررها من الانحيازات الهوياتية والعنصرية وانفتاحها التام على المسلمين إلا انعكاساً لمنظومة من القيم التحررية والتقدمية التي تؤمن بها فهي تؤمن بالتسامح الديني والثقافي والجنسي والمساواة بين الرجل والمرأة وتدعم حقوق المثليين كما أبدت اهتماماً ملحوظاً بالقضايا الإنسانية والبيئية خلال مسيرتها السياسية.
ولا يفسّر سلوكها المنحاز لتماسك مجتمعها إلا أنها كزعيمة طموحة تجد نجاحها السياسي والوظيفي في تجاوز الأزمة والعبور بالمجتمع إلى بر الأمان عبر إظهار كل التعاطف مع الجالية المسلمة وبدون قيد أو شرط أو محاباة للمتطرفين وتشجيع المجتمع النيوزيلندي على المبادرة الإيجابية وتحويل أزمة التعايش إلى فرص لإنعاش التعايش.
وهذا الوعي السياسي ليس وليد الصدفة فقد استطاعت أن تبني خبرة جيدة من خلال تجربة سياسية ومهنية ثرية أتاحها لها انخراطها المبكر في العمل العام عبر نشاطها الحزبي الذي توّج بتوليها زعامة حزب العمال النيوزيلندي، وكذلك العمل بعد تخرجها من الجامعة عام 2001 كمساعدة مع رئيسي وزراء هما رئيسة الوزراء السابقة في بلدها هيلين كلارك ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، ثم عضوة في البرلمان النيوزيلندي بمعنى أنها طوّرت مفهومها للسياسة من خلال الاحتكاك المباشر بمراكز صنع القرار ومن خلال مراقبة نجاحات وإخفاقات زعماء آخرين عن كثب.
كما عززت تجربتها السياسية بقرابة عشر سنوات قضتها رئيسة للاتحاد الدولي الإشتراكي للشباب والذي جعلها في تماس مباشر مع شباب العالم من مختلف الشعوب والثقافات لا سيّما الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وهذا يجعلها قادرة على فهم العقل المسلم وبالتالي يفسّر نجاحها في نيل ثقة مسلمي بلادها.
ولذلك لم يكن مستغرباً ما أبدته من براعة في محاصرة تداعيات وآثار هجوم المسجدين على تماسك المجتمع النيوزيلندي فجعلت من تلك اللحظة منطلقاً لتكريس التضامن الاجتماعي وإلهام المجتمع النيوزيلندي ليتكاتف ويتكافل ليس لمواجهة الأزمة الراهنة فحسب وإنما لتطوير قدرته على الصمود في مواجهة أية أزمات مستقبلية على مختلف الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبذلك استطاعت أن تخلق من التحدي الذي واجه نيوزيلندا بعد الأزمة أفقاً لتعزيز السلم الأهلي والتناغم الثقافي.
ولا نقول إن جاسيندا أردرن ليست لديها أجندتها الخاصة من وراء تعاملها مع هذه الأزمة فهي أيضاً تريد استثمار الأزمة لصالح مستقبلها السياسي ولكن الفرق بينها وبين الزعماء الشعبويين أنها اختارت أن تكون مصالحها هي مصالح شعبها وأن تكون أجندتها السياسية هي أجندة مجتمعها الاجتماعية بأن تتبنى هي مشاكل المجتمع الحقيقية لا أن تفرض أجندتها عليها أو تجعله يخوض معاركها المفتعلة وينشغل بصراعاتها الوهمية كما يفعل الزعماء الشعبويون.
إن أداء أردرن السياسي هو نموذج لمفهوم "القيادة التغييرية"، والقائد التغييري أو التحويلي هو القائد القادر على تغيير الواقع وليس الاستسلام له وتحويل الأزمات إلى فرص والكراهية إلى تسامح والتخلف إلى تنمية وذلك عبر خلق أفق معنوي ورؤيوي وأخلاقي يشترك فيه الجميع ويعمل من أجله الجميع.
ويُعرّف توني روبنسون القادة التحويليين بأنهم "القادة الذين يلهمون المرؤوسين للرقي بمصالحهم الذاتية من أجل الصالح العام والذين لهم القدرة على إحداث تأثير خارق على أتباعهم"، وهذا ما نجحت أردرن في تحقيقه عبر إلهام النيوزيلنديين للارتقاء بمصالحهم الذاتية كسكان أصليين للبلاد وإعادة تعريفها لتستوعب المهاجرين المسلمين وتحتضنهم فظهور رئيسة الوزراء وهي تحتضن ذوي الضحايا لم يكن مجرد تصرّف عاطفي أو دعائي عابر ولكنه جزء من سياسة التلاحم والتآزر التي تعتمدها في أسلوبها القيادي القائم على الممازجة بين العاطفية والعقلانية، ولذلك حرصت على توجيه الكلام إلى شعبها من خلال منبر البرلمان لتطالبهم بأن يتذكروا أسماء ضحايا الهجوم بدلاً من اسم منفّذه وهي بذلك تقود البوصلة المجتمعية باتجاه مزيد من التعاطف والتكاتف.
كما تعمل أردرن من خلال سياساتها وخطابها الأخلاقي والعالمي على تحويل تحدي "العزلة الجغرافية" التي تعاني منها نيوزيلندا إلى أفق جيوسياسي واسع عبر توظيف القوة الناعمة للقيم الكونية التي تنادي بها في توسيع المجال الحيوي لهذا البلد، فنيوزيلندا تحت قيادة جاسيندا أردرن هي اليوم في قلب العالم وأكثر إلهاماً وتأثيراً من كثير من الدول الكبرى، وهي لا تعتمد على موارد طبيعية أو قوة عسكرية أو آلة إعلامية ولكنها تعتمد على القيم التي تتبناها رئيسة الوزراء وتنادي بها وعلى رأسها قيمة التعاطف مع الآخر والتحرر من الانتماءات الضيقة والإيمان بالتنوع وهذه القيم اليوم هي بمثابة رأس مال اجتماعي وسياسي تفتقر إليه الكثير من الدول في العالم ولكنه حين توفره قادر على تحقيق ما تعجز عن تحقيقه كل الموارد والإمكانات المادية.
ويبدو الحرص على رأب الصدع وبناء الجسور وترميم العلاقات وبناء التوافقات نهجاً في سياسات أردرن سواء على المستوى المحلي أو الدولي إذا تعكس خطاباتها إدراكها للوظيفة الأساسية للقيادة السياسية وهي تفكيك الأزمات وإطفاء الحرائق.
كما يظهر إيمانها بسياسات التوافق والتناغم على مستوى العلاقات الدولية لنيوزيلندا والعلاقات السياسية الداخلية بين الأحزاب وكذلك على صعيد العلاقات بين المكونات الدينية والإثنية في المجتمع بما يجعل التنمية المستدامة على رأس الأولويات التي ينبغي تجاوز كل الخلافات من أجلها وتذليل كل العقبات التي تحول دون الوصول إليها لأن حل المشاكل البينية في ظل وضع تنموي متقدم هو أسهل بكثير من محاولة حلها في ظروف يسودها القلق المعيشي والفقر والحرمان.
ومما يدلّ على أن خطاب التعاطف والوئام الاجتماعي الذي اعتمدته أردرن ليس شعبوياً أو دعائياً هو مجيئه في سياق سلوكي دأبت عليه من الانحياز للقضايا الاجتماعية والإنسانية كالطفولة والمعالجة النوعية لمشاكل الإسكان والرفاه الأسري، ما يشير إلى أن التضامن الإنساني الذي أبدته مع ضحايا مجزرة المسجدين كان امتداداً لمنطق أنسنة السياسة والاقتصاد الذي تبنّته منذ وصولها للسلطة.
ومن معالم النهج الاجتماعي في سياساتها الاهتمام بتطوير البيئة وحماية التنوع الأحيائي ومكافحة التغير المناخي والحدّ من الاحتباس الحراري. وكذلك سعيها لتذويب الفوارق الفئوية والطبقية بين مواطني نيوزيلندا، والحدّ من التمييز الاقتصادي والاجتماعي بحيث تصل الخدمات العامة لـ"جميع" المواطنين بحسب تصريحها بعد تشكيل حكومتها، وكذلك إشارتها إلى التنمية المناطقية كي يشمل الرفاه الاجتماعي كل أقاليم البلاد، وكما هو معروف فإن الشمول الإنساني والمكاني ونبذ التمييز والطبقية هي شروط جوهرية لنجاح أي تنمية اجتماعية ولتحقيق الرخاء الاقتصادي، ما يعني إننا إزاء مسؤولة قريبة من الهموم الاجتماعية وامتلاكها لمثل هذا الوعي يفسّر رفضها التعصب والعنف وانحيازها للتماسك الاجتماعي لأنه المظلة التي لا يمكن للتنمية أن تتحقق من دونها فالتمييز العنصري والكراهية يضربان الرفاه ويصيبان عملية التنمية في مقتل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل