الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُذنَّب كرولز يومض في سماء السودان من جديد

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2019 / 4 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لعلها مصادفة عجيبة من عجائب المهدي الكثيرة أن تُتحفنا صحيفة لوموند الفرنسية قبل فترة قصيرة من قيام شعب السودان بثورته الأخيرة والمستمرة في الشوارع والساحات ضدَّ طبائع الاستبدال في حُكم العسكر, بقراءة مستفيضة لرواية تاريخية جريئة صادرة مؤخراً عن دار نشر “فيبوس” الفرنسية, رواية فخمة في حدود خمسمائة صفحة للكاتب الفرنسي إتيان بارلييه حملت عنواناً لافتاً "في حصار الخرطوم" يحكي فيها الكاتب الفرنسي حكاية الحصار المنسي للعاصمة السودانية الخرطوم عام1885 مُنوهاً إلى ذلك الصراع الذي مهد الطريق لإنهاء الاستعمار وبداية الثورات التحررية من نير الاستعباد والقهر في القارة الأفريقية.
1
تنطلق رواية الأحداث من عبور مذنب "كرولز" عام 1882 لسماء السودان، والذي كان قد عبر سماء الصين قبل قرون, حيث يجعل المؤلف من هذا العبور حدثا محورياً في سرد قوي و مؤثر, يدعم فكرة ظهور هذا المذنب في سماء السودان ليكون المسؤول عن انطلاق الثورة التي قادها ذلك الإمام محمد أحمد المهدي, الزاهد الذي يتصور أنه سيُطهر العالم بنار الإيمان وحديد القانون الحق وينقذ الخرطوم من فسوق حُكَّامها.
2
تُعالج الرواية أحداثاً مهمةً ومثيرةً وسمت تاريخ السودان في القرن التاسع عشر، بعد غزو السودان من قبل محمد علي الكبير حاكم مصر, لتتولى شؤونها بعد ذلك إدارة تركية فاسدة وظالمة، جوَّعت الناس بفرض ضرائب ثقيلة على الشعب الفقير أصلاً, وبسبب هذه السياسة الظالمة بحق العباد "طفش" المزارعون الصغار من قراهم على ضفاف النيل ليستقروا في مناطق بعيدة مثل كردفان ودارفور. ورغم ذلك ظل العسكر التركي يطاردهم، ويخضعهم للمزيد من المظالم.
3
بسبب ذلك الظلم والعسف الذي أحاق بالشعب السوداني، ظهرت في مناطق مختلفة من البلاد حركات تمرد، وقد تمكن الإمام المهدي الذي اشتهر بورعه ووفائه من توحيد تلك الحركات ليصبح زعيما وقائداً لها، ولما اتسعت رقعة التمرد أرسلت الإدارة التركية عساكر للقضاء عليها، وفي نهاية المعركة التي حدثت في صيف عام 1881، كان النصر لأنصار المهدي. وقد حرض ذلك الانتصار الهائل الإمام المهدي على توسيع ساحة المعركة، وكسبه أنصاراً في كلِّ أنحاء البلاد، وحوله شاعت كرامات كثيرة تشيد ببطولاته، وحكمته، وزهده, و وطنيته, وإخلاصه للتعاليم التي كان يبشر بها. وعندما شعر بخطر تلك الحركة التمردية التي كانت تزداد اتساعاً يوما بعد آخر، قرر الخديوي إسماعيل حاكم مصر آنذاك، إرسال الجنرال البريطاني الشهير تشارلز غوردون إلى السودان لإخماد التمرد.
4
بهذه الرواية يعود بنا إتيان بارلييه إلى الماضي ويستنتج العبر من الأحداث، لأنه لا ينظر إلى التاريخ كما ينظر الغربيون على أنه نهر لا يمكن أن نستحم فيه مرتين، بل التاريخ بالنسبة له يكرر نفسه مثل مذنب كرولز الذي يفتتح به روايته والذي ظهر في الصين من قرون وها هو يعبر سماء السودان اليوم. التاريخ ليس نهراً لا نسبح في مياهه المتدفقة سوى مرة واحدة. وفي عرضها للرواية ترى صحيفة لوموند أنه ليس من الصعب في كل مرة تمييز الحقيقة من الخيال في الرواية لأن الكاتب يدقق في التفاصيل ولا يحب أن يخدع القارئ.
5
في سرده التاريخي، يستعرض الصراع الذي حدث وجهاً لوجه بين بطليه، محمد أحمد المهدي والجنرال غوردون (1833-1885)، صاحب الصولات والجولات و الذي أرسلته بريطانيا العظمى التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها لإنقاذ حلفائهم المصريين والعديد من المواطنين الأوروبيين الذين يعيشون هناك في حصار الخرطوم. ولكن دخول هذا الجنرال الذي بنى شهرته في حروب المستعمرات، يبدو عبثياً في حد ذاته، لأن الخرطوم في هذه اللحظة قد حوصرت تماماً.
6
الكاتب الفرنسي إتيان بارلييه أباح لنفسه اللجوء في بعض فصول روايته "في حصار الخرطوم" إلى الخيال ليبتكر شخصيات فرنسية، ونمساوية، وبريطانية عاشت أشهر الحصار الطويلة، وتابعت أحداثه لحظة بلحظة. الرواية تثبت أن الجيوش الصغيرة التي تحركها "العصبية الدينية" يمكن أن تتغلب على الجيوش المدججة بأحدث الأسلحة.
7
كان الجنرال غوردون المولود عام 1843 قد أصبح بطلاً في بلاده بعد أن شارك في حروب عديدة مثل حرب القرم بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية، كما أنه شارك في حرب الأفيون الصينية التي اندلعت في عام 1860. لذا كان الخديوي إسماعيل على يقين بأن الجنرال كان قادراً على القضاء السريع على ثورة الإمام المهدي، لكن الأحداث سرعان ما أثبتت خطأ توقعاته، كما أثبتت أن الجيوش الصغيرة التي تحركها العصبيات القبلية والدينية بحسب تعبير ابن خلدون يمكن أن تتغلب على الجيوش النظامية المدججة بأحدث الأسلحة، والتي يقودها عسكريون خاضوا أشد المعارك دموية وضراوة.
8
بدأت المواجهة بين الجنرال وبين الإمام الزاهد عند ظهور النجم المذنب في سماء السودان في صيف عام 1882. كتب إتيان بارلييه واصفاً الجنرال بقوله:
في الصمت المهدّئ للمشاعر، لكنه مثير للمخاوف أيضا للنجمة الجديدة المذنبة، قرأ الجنرال غوردون التحذير، هو يعرف المهابة التي يتمتع بها المهدي، وهو يعير لذلك اهتماماً كبيراً، وقد قرر أن يحصّن المدينة، وهو عمل يبدو له غريبا وغير واقعي، إذ كيف يمكن تحصين مدينة ماتت حال مولدها.
ويواصل الروائي على لسان الجنرال :
نعم، مدينة من الطين، خارجة رخوة وخشنة من الصحراء، مدينة تشوه ملامحها العواصف الرملية في بضع ساعات، وفيها تُسقط الأمطار الغزيرة المنازل، وتحول الشوارع إلى قنوات نتنة الرائحة؟ وبالأحرى، ما هو الشيء الذي يخشى منه؟ ثمة حصون تدافع عنا، وهناك مجريا النيل، وصحيح أن المدينة تضيع في الرمال الرخوة في الجنوب، ويمكن أن يخترق بطنها، لكن ليس علينا أن نفكر في ذلك، نحن هنا لكي نعيش ولكي نستمتع، يقول الأقوياء، التجار، والبيض، وأنا، الجنرال العظيم.
9
استمر الحصار الذي فرضه الإمام المهدي على الخرطوم عام 1884 سنة كاملة، وفي النهاية قُتل الجنرال العظيم ودخل الإمام الزاهد المدينة منتصراً وكان ذلك في السادس والعشرين من شهر يناير 1885، وبعد مقتل غوردون ببضعة أشهر توفي الإمام المهدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟