الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة- و-المعارضة- في المجتمع العربي

حازم نهار

2003 / 3 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


"السلطة" و"المعارضة" في المجتمع العربي
الخميس 27 مارس 2003 06:50
الدكتور حازم نهار

 

 

الدراسة هذه كتبت في أيلول 1999  لكنها لم تنشر سابقاً


إن الأوضاع العالمية اليوم وتقلباتها وتغيراتها الصعبة، والأوضاع العربية بخاصة، والمتفجرّة في بعض البلدان العربية ـ كالجزائر والسودان والعراق ـ والتي تصل إلى حدود الانفجار في بلدان أخرى، أو على الأقل وصلت إلى أوضاع مأزومة ومسدودة في معظم البلدان العربية، وعلى جميع المستويات، خاصة فيما يتعلّق بالعلاقات السياسية والاقتصادية بين قوى المجتمع في كل دولة عربية.. إن هذه الأوضاع تدفع بنا إلى الاقتناع بضرورة فتح حوار حقيقي وفاعل، واسع وشامل، حول الأسس التي قامت عليها الدولة العربية، وذلك لأجل إعادة ترتيب وبناء بيت الوطن الداخلي، وصولاً لوطن معافى، يعبّر عن ويحتضن الكل الاجتماعي والسياسي، ويعمل فيه جميع أبناء الوطن الفاعلين والقادرين.
من سمات هذا الحوار الضروري استناده إلى إيمان صادق بالوطن، بكل فصائله ومؤسساته وأحزابه وفعالياته المختلفة، وبالتالي فهو حوار غير موجّه ضد أحد، أو لحشر" فصيل "معين في زاوية النقد، أو لرفع النقد عن طرف ومهاجمة بقية الأطراف. إنه حوار من أجل الكل الاجتماعي والسياسي، نعترف فيه بضرورة النقد، نقد جميع الأطراف والقوى والفصائل والفعاليات المؤثّرة في مسيرة الوطن، فليس ثمة أحد بمنأى عن النقد، ولكن بدون أن ننسى أهمية وضرورة السّمة الموضوعية لعملية النقد، التي تجعله يبرز الإيجابيات جميعها، مثلما يشير إلى السلبيات، يثمّن نقاط القوة ويؤكدها ويعزُزها، مثلما يتفحص نقاط الضعف ويشير إلى آليات تجاوزها.
إن ضرورة هذا النقد تتأتى من طبيعة الظروف المأزومة التي نعيشها جميعاً، ومن النتائج المزرية والمأساوية التي وصلت إليها مجتمعاتنا ودولنا العربية. فالنتائج والوقائع خير شاهد على تاريخية الفعل، لأنها تجيبنا على سؤال أساسي لدى تعرّضنا لنقد وتقييم الفترة الماضية، هذا السؤال هو:ماذا حصدنا؟
في مسيرتنا الماضية ثمة نقاط قوة، هذا صحيح، بل يجب إيضاحها والبناء عليها، لكن لدى معاينة النتائج والوقائع النهائية فإن الأمور تبدو مأساوية حقاً.
ماذا حصدنا؟ هذا السؤال فيه من التعرية والكشف مالا يطيقه إلا كل مؤمن بهذا الوطن وأبنائه وطاقاته وقدراته على تجاوز المحن والهزائم المتراكمة، شرط تحويل الماضي إلى دروس وعبر، والتحلّي بإرادة حازمة لتجاوز وتخطي الحاضر البائس.
قد يقود هذا السؤال لحالة استفزاز حقيقي لمشاعرنا وأعصابنا، بل إلى شعور بطعم المرارة في الحلق، خاصة عندما يتوافر صدق الانتماء الوطني، وهذا طبيعي، لكنه قد يقود عند البعض إلى حالة من الهمود وخوار القوى، وهذا أيضاً طبيعي إذا لم تقترن عملية النقد والمراجعة والتقييم للماضي بالإرادة الحازمة والمؤمنة بالقدرة على التجاوز من جهة، وإذا لم تجد هذه العملية الوعي الكافي، الملائم والمقارب لِـفَهْم المرحلة ولرسم خطوط المستقبل. ماذا حصدنا؟... في هذا السؤال تتكثف كل الأسئلة التي تختصر توصيف الهزيمة والأزمة:
ماذا حصدنا سواء أكنا في السلطة أم في المعارضة أم في قوى أخرى بين هذه وتلك، أم مثقفين أم عاملين في الشأن العام على اختلاف مستوى العمل وشكله؟
هل حرّرنا الأرض التي حشدنا لعملية تحريرها كل قوى المجتمع؟
هل ازدهر الاقتصاد بما يضمن حقاً قدرتنا على الوقوف بدون خلخلة اقتصادية أو ارتجاجات اجتماعية في القرن الجديد؟
هل تعمق التوجه القومي وتعمق دور المؤسسات القومية؟
هل وصلنا إلى علاقة سوية بين السلطة والمواطن، بين السلطة وقوى المجتمع المختلفة؟
هل الأخلاق العامة في المجتمع تسير إلى النضج أم إلى تدهور متزايد؟
من السهل علينا جداً التشدّق بأننا كنا في الطريق الصحيح ولازلنا، لكن الوقائع والنتائج اليوم تفقأ العين، والتاريخ لن يكون رحيماً معنا ومع ادعاءاتنا الواهمة أو المضلِّلة.
إن عملية النقد والمراجعة لا يمكن أن تتم بدون الحوار الذي ندعو إليه، هذا الحوار الذي ينبغي أن يتم لأجل صالح كافة القوى والتيارات، سواء منها في السلطة أم في المعارضة أم قوى أخرى بين هذه وتلك، أم قوى هامشية، أم قوى نقابية واقتصادية، أم مثقفين ومهتمين بالشأن العام السياسي. إنه حوار بالضرورة وفي المحصلة لصالح الوطن، لأجل إخراجه من عنق الزجاجة الذي يضيّق عليه الخناق.
من غايات هذا الحوار الأساسية بناء استراتيجية داخلية، وطنية / قومية، لمواجهة تحديات المرحلة القاسية وتمريرها بأقل خسائر ممكنة، كي لا تكون مواجهتنا لما يحدث على صعيد خارجي وعالمي وداخلي ومحلي، مواجهة عشوائية ومنفعلة بما يحدث، بل من أجل مواجهة مدروسة ورزينة، فاعلة ومؤثِّرة.
إن بناء هذه الاستراتيجية القومية، أو على أقل تقدير الاستراتيجية الوطنية في كل قطر عربي، ولكن ذات المنحى القومي، لابد وأن تستند كخطوة أولى على فتح أوراقنا جميعاً واعترافنا جميعاً بالأوضاع المأزومة التي وصلت إليها أقطارنا، واعترافنا أيضاً بمسؤوليتنا جميعاً عمّا وصلنا إليه، وبالتالي اعترافنا جميعاً بالدور المطلوب من الجميع لمواجهة الأزمة والتحديات المختلفة في كافة مستوياتها.
من سمات هذا الحوار أيضاً استناده إلى الشق السياسي من الأزمة أولاً، وذلك على اعتبار أن المسألة السياسية هي المحدّد الرئيسي، والنقطة الفاصلة في تطور ونمو مجتمعاتنا ودولنا العربية، فالسياسة هي التي تصوغ كافة الفعاليات المجتمعية الأخرى.
ويجب ألّا نتوهم أن أية فعالية أخرى في أي مجال كان (سواء أكان اقتصادياً أم ثقافياً أم تعليمياً... ) يمكن أن تثمر بشكل إيجابي ومؤثّر مالم تتم إعادة صياغة القضية المحورية في الدولة والمجتمع، أي القضية السياسية. وبكلمة أخرى فإن الإصلاح السياسي في أقطارنا العربية يستتبعه بشكل تلقائي الإصلاح على كافة المستويات الأخرى.
مما لاشك فيه أن المسألة السياسية في بلداننا كافة، بحاجة لإعادة نظر، عبر مقاربة بعض المفاهيم السياسية الأساسية، على ضوء التغيرات الحاصلة في الدولة والمجتمع أولاً، وعلى ضوء ازدياد الوعي الاجتماعي والخبرة المتراكمة من التجارب السابقة ثانياً، وثالثاً على ضوء الضرورة الراهنة لبناء استراتيجية شاملة لمجابهة الأزمات التي تعصف بمجتمعاتنا سواء ما يتعلق منها بالتطورات العالمية في ميادين العلم والإنتاج والاتصالات والتكنولوجيا أو ما يتعلّق بتغيرات موازين القوى العالمية والسياسات الدولية أو ما يتعلّق بالتحديات الراهنة للصراع العربي ـ الإسرائيلي ومسألة التسوية، والمشاريع التي يُراد فرضها على المنطقة العربية.
من تلك المفاهيم التي ينبغي إعادة تأسيسها وصياغتها في الفكر والممارسة نذكر(( الممارسة السياسية والشارع السياسي )) و((السلطة السياسية)) و((المعارضة السياسية)) و((الحوار الوطني وأسس بناء الدولة)).. إلخ. وإن الرؤية التي أطرحها في هذه الدراسة تحاول مقاربة هذه المواضيع من جانب عملي، أكثر منها دراسة نظرية للمفاهيم، وذلك حسب ما تسنى لي من قراءتي لأوضاعنا العربية المأزومة كافة. ولا شك أن هذه الرؤية بحاجة لتتفاعل مع رؤى أخرى، كي تنضج وتتبلور في الفكر والممارسة لدى كافة القوى والتيارات بما يعود عليها جميعاً بالفائدة، وبالمحصلة على مستقبل الوطن بأكمله.
إن بلداننا العربية افتقدت على ما يبدو لي، إلى تاريخ سياسي، أو تاريخ للممارسة السياسية، وما يتوافر هو تاريخ للقائمين على الحكم، أي تاريخ للسلطة الحاكمة وما يجري من توازنات وخلافات و تناحرات واتفاقات داخل السلطة الحاكمة، وما يندر وجوده هو تاريخ للعلائق السياسية بين الدولة والمواطن، أو بين السلطة والمعارضة، أو بين قوى المجتمع المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية، وغير ذلك. وإن وجود بعض التيارات أو المذاهب الدينية التي تمتلك جذراً سياسياً، أو شكّلت كتلة سياسية في المجتمع لا يغير من الرؤية العامة لهذا التاريخ.
وهذه المسألة جعلت تجذُّر الممارسة السياسية الحديثة اليوم، كما نراها في مجتمعات أخرى، ضعيفاً في نسيج مجتمعاتنا العربية كافة. وهذا أحد الأسباب الرئيسة لوصول المسألة السياسية في مستوياتها المتعدّدة، الحزبية والمجتمعية والوطنية، إلى طرق مسدودة في معظم بلداننا العربية.
لكن غياب هذا التاريخ لممارسة السياسة يجب ألا يشكّل مبرّراً لدى القوى صاحبة القرار في البلدان العربية، لاستمرار الوضع السياسي المتأزّم، وتبرير تغييب الشارع السياسي عن دائرة الفعل والمشاركة السياسية.
لقد أصبح واضحاً اليوم بعد سلسلة التجارب المريرة، أنه لا دفاع صادق أو فعّال أو منتج عن ((القومية)) ما لم يقترن بالممارسة الديمقراطية وتعزيزها وتأكيدها والدفاع عنها، كما أنه لا عمل وطني، حقيقي وفاعل ـ مهما كانت النوايا مخلصة ـ ما لم يتم على أرضية ديمقراطية.
أي لا بد من وعي وتثبيت المحتوى الديمقراطي للقومية، وللعمل الوطني ذي البعد القومي في كل قطر عربي. وإن كل خطوة نتقدم بها تجاه الديمقراطية السياسية في كل بلد عربي هي خطوة في الاتجاه القومي، وفي اتجاه تعزيز الوحدة الوطنية.
إن وعي هذه النقطة وتجسيدها في الخطاب السياسي للسلطة السياسية والمعارضة على حد سواء، وإيجاد البنى والآليات اللازمة لذلك، قد أصبح اليوم في الذهن العام معياراً أساسياً لمصداقية الخطاب السياسي ولمدى جدية التوجه القومي.
لقد تشكّلت رؤى متعدّدة حول ((الديمقراطية السياسية)) وآليات ممارستها في المجتمع العربي، سواء من قبل السلطات السياسية أو المعارضات السياسية أومن قبل المثقفين، وفي اعتقادي إن هذه الرؤى على تبايناتها لم تكن متكاملة أو شاملة في نظرتها للمجتمع العربي، مما يجعلها غير مقاربة للواقع العربي وأقرب إلى الرؤية الذاتية أو المصلحية منها إلى الرؤية الموضوعية.
فالديمقراطيات التي تأسست في العديد من الأقطار العربية باسم ((الديمقراطية الشعبية))لم تكن تعبّر كما خيّل للبعض عن خصوصية من خصوصياتنا، أو مستمدة من حاجات شعبنا، فضلاً عن أنها ليست عملاً إبداعياً من قبلنا، بل هي صيغة مقتبسة عن تلك الصيغ التي أخذت بها في حقبة تاريخية سابقة الكثير من الأنظمة السياسية في أوربا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، تلك الأنظمة التي نادت بالتحرر والتقدم والاشتراكية. أي أن((الديمقراطيات الشعبية))في المنطقة العربية لا تزيد عن أن تكون نسخة مشوّهة عن تلك النسخ بكل معوقاتها وعيوبها. من جانب آخر فإن السلطات العربية قد لجأت لهذا الشكل من الديمقراطية السياسية، لأنه يوفّر لها القدرة على التحشيد، وضبط هذا التحشيد ومراقبته، وبالتالي توجيهه باتجاه إعلامي لإعلان الولاء الدائم للسلطة السياسية وتلقف خطابها الأيديولوجي باستمرار بما يضمن شرعية بقاء السلطة السياسية.
نجد كذلك أن السلطة السياسية في المجتمع العربي تخاف من الديمقراطية السياسية الحقيقية، حتى لو كانت هذه السلطة وطنية بامتياز وتهدف إلى تماسك الوطن ونمائه وتطوره، وذلك بسبب التخوّف الشائع من أن الديمقراطية السياسية سوف تؤدي إلى تعميم وانتشار الفوضى في المجتمع، خاصة في ظل وجود عوامل التكسّر الطائفي والقومي.
وبالتالي فإن السلطة إن لم تكن رافضة للعملية الديمقراطية، فإنها في أحسن الحالات تلجأ إلى تفصيل الديمقراطية السياسية بما ينسجم مع مصالحها الذاتية وبقائها، عبر تكوين أو فسح المجال لتكوين ((ديكورات ديمقراطية))، أي تقوم بقطع الطريق أمام قيام تعددية حقيقية في المجتمع من خلال قيام تعددية سياسية شكلية. هذه الديكورات الديمقراطية فاقدة للفاعلية والتأثير، لكنها شكل من أشكال الإيهام الإعلامي ـ وخاصة للخارج الذي تحاول تحسين صورتها أمامه باستمرار ـ بوجود حالة ديمقراطية، وتقرن السلطة هذا السلوك بخطاب سياسي يرتكز إلى المبالغة في خصوصية المجتمع العربي وخصوصية التجربة الديمقراطية الملائمة لهذا المجتمع.
على العكس من ذلك فإن المعارضة السياسية ـ إن وجدت- فإنها تبني رؤيتها للديمقراطية السياسية في أطر نظرية سياسية، حالمة، نتيجة ابتعاد هذه المعارضة عن الشارع السياسي، أو بسبب حظر الممارسة السياسية عليها من قبل السلطة، أو بسبب الرؤى الذاتية الواهمة للمعارضة حول اعتقادها بأنها ممثّلة للشارع السياسي وأنها طليعة متقدّمة في المجتمع أو أنها نائبة عن الناس، إلى حد إلغاء البشر واحتقارهم واعتبارهم قطيعاً بحاجة إلى قيادة ورعاة.
إن الديمقراطية هي النقطة المفصلية في تطوير الخطاب السياسي للسلطة والمعارضة على حد سواء، وفي تنمية الوعي السياسي للناس في المجتمع. فالديمقراطية التي ينجم عنها وجود شارع سياسي فاعل وحراك اجتماعي، هي التي ستجعل المعارضة السياسية تنظر لنفسها نظرة واقعية، وتعرف حجمها وقدرتها على التأثير، وتدرك أنها إحدى قوى الواقع، هذا الواقع المعقد والمركب الذي يحتوي العديد من القوى المؤثرة والفاعلة فيه والتي تحدّد ماهيته ووضعيته من قوى اقتصادية أم نقابية وحتى القوى العشائرية والطائفية، وبمقدار ما تقترب هذه المعارضة من هذا الواقع المعقد والمركب وتدرك قواه وتغرس نفسها ضمنه، وتعزُز قدرتها على الاستقطاب السياسي، بمقدار ما ينضج خطابها السياسي وتصبح إحدى القوى الأساسية المؤثرة في هذا الواقع… إن البعد عن الشارع السياسي(المتكوّن أو القابل للتكوّن)بالنسبة لكل العاملين في الحقل الفكري السياسي (السلطة، المعارضة، المثقفون.. وغيرهم)سبب رئيسي في توليد التصوّرات الخاطئة عن الديمقراطية والممارسة السياسية، إذ إن هذا البعد يساهم بشكل دائم في تعزيز رؤى ذاتية تستند إلى المصلحة الآنية الضيّقة أو إلى الرغبة والحلم أو ترتكز إلى النظرية والأيديولوجية أكثر مما تتفاعل مع الواقع الحي المتحرك.
إن فكرة "الديمقراطية السياسية"لن تتطور ولن تتجاوز هذه الرؤى، ما لم تغتني بالتجربة والممارسة التي تضيف خصوصية التجربة مثلما تضيف واقعيتها والمقدرة على التطبيق.
إن "الديمقراطية السياسية"هي نتاج تراث إنساني ساهمت فيه أمم مختلفة، وهذا لا نستطيع إنكاره، وصحيح أيضا أن لكل مجتمع من المجتمعات طريقة الديمقراطي الخاص بما ينسجم مع المرحلة الزمنية وضروراتها، ولكن أيضاً بما لا يلغي أو يتنكّر للأسس العامة للديمقراطية التي توصّل إليها تراث الإنسانية. أي يجب الجمع ما بين((التطوريّة))و((الخصوصيّة))في مسألة الديمقراطية السياسية…التطوريّة التي ترى الجانب العالمي أو الإنساني في مسألة الديمقراطية السياسية، والخصوصية التي تنتبه إلى خصوصية كل مجتمع من المجتمعات وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمرّ بها هذا المجتمع. أي ليس هناك خصوصية تشذّ عما هو عام وإنساني، فالديمقراطية تجربة إنسانية لها أسسها العامة، لكن كيفية ممارستها وتجسيدها خاصة بكل دولة من الدول أو بكل مجتمع من المجتمعات، وبالتالي ليس علينا أن نغرق في نشيد الخصوصية، كما لا يفيدنا لهاثنا غير الواعي وراء كل ما هو غربي، فنسعى لاستنساخ تجارب ديمقراطية في بلدان أخرى استنساخاً كاملاً لا يميّز ولا يفرّق ما بين المجتمعات البشرية والمراحل التي تمر بها، أي لابد لنا من قراءة تجارب الآخرين والبحث عن نقاط التشابه ونقاط الافتراق، والاستفادة مما نعتقد أنه مناسب لوطننا، لكن الغريب هو أننا نستورد من العالم كل شيء إلا الديمقراطية، ولا نعاني إزاء ظاهرة الاستيراد على كافة المستويات أية مشكلة إلا فيما يتعلق بشكل النظام السياسي الملائم لوطننا، وبالتالي يأتي الادعاء من قبل البعض بخصوصية التجربة الديمقراطية ادعاءّ فارغاً، غايته الأساسية تفصيل الديمقراطية السياسية بما يتناسب مع المصالح الضيقة وليس مع المصلحة الوطنية العامة.
أما التخوّف من تحوّل ((الديمقراطية السياسية))إلى فوضى سياسية واجتماعية فهو في الغالب الأعم تخوّف سلطة انتقل ليصبح تخوفاً عاماً نتيجة الترويج الدائم عند أغلب القوى السياسية(كنتيجة للقصور والعجز عن الفعل والتأثير)وصولاً للذهن الشعبي العام.
صحيح أن للسلطة مصلحة واضحة في تصدير هذه الرؤية، لكن ذلك ليس كافياً في تفسير انتشار هذا التخوّف لو لم يكن هناك مبررات واقعية لهذا التخوّف. إذ بسبب وجود التكسّرات الطائفية والاجتماعية في مجتمعنا العربي فإن ذلك سوف يخلق تخوفاً من انفلاش هذه التكسّرات إلى السطح في صيغ مؤسسية طائفية ذات أبعاد سياسية بدلاً من وجود صيغ مؤسسية سياسية وطنية.
هذه القضية في مجتمعنا العربي تتغذى بسبب عدم إعطاء القانون دوره الفاعل، أي تأكيد سيادة وسلطة القانون، عبر وجود مؤسسات قضائية، قويّة ومستقلة كشرط أساسي، أي عبر توطيد الصيغة ((المواطنيّة)) قانونياً ومؤسساتياً. ثم يأتي الدور المهم لتحسين الأحوال المعاشية والإصلاح الاقتصادي، حيث لعبت حالة الفقر والبطالة وسوء الأحوال المعاشية دوراً رئيساً في الماضي في توجه كتل بشرية كبيرة نحو التطرف الديني وانتعاش الانتماءات الطائفية، في مقابل ضمور الوعي الوطني والوعي القومي. أي أن تحسين الأحوال المعاشية ومحاربة ظواهر الفساد والرشوة خاصة في البطانة المحيطة بالسلطة السياسية، وإصلاح الخلل الاقتصادي، كل ذلك من شأنه أن يدفع الديمقراطية السياسية إلى الأمام، كي تشكّل صمام أمان للمجتمع، يقيه من الانفجارات الطائفية وظواهر التطرف الديني وغيرها.
من الضروري أيضاً وقوف السلطة السياسية بشكل واقعي وملموس خارج هذه التكسّرات الطائفية والاجتماعية، فلا تكون معبّرة عن طائفة بعينها أو فئة اجتماعية بعينها، بل معبّرة عن الكل الاجتماعي، عبر سلوكها الوطني وعبر حمايتها وتوكيدها لسيادة القانون والدستور الوطني، وليس عبر تمثيل التكسرات الاجتماعية والطائفية في المؤسسات الإدارية والمجالس المحلية والبرلمان الوطني وصولاً لمؤسسة السلطة نفسها. فكلما اقتربنا من كون السلطة السياسية معبّرة عن الكل الاجتماعي وتوكيد سلطة القانون وسيادته، كلما ابتعدنا عن احتمال حدوث الانفجارات الطائفية والاجتماعية التي تعيق المسار الديمقراطي وتهضم إيجابيات الديمقراطية السياسية.
أما التخوّف من أن أي توجه ديمقراطي سوف يأتي بالقوى الدينية المتطرفة للسلطة، فهو تخوّف مشروع، بل واحتمال ذلك وارد، إذا لم تُدَر عملية الانتقال الديمقراطي بشكل سليم ومدروس. فالتوجه الديمقراطي كي يسير في الاتجاه الصحيح لا يمكنه ذلك بدون تثقيف وطني وسياسي ودون" إعلام" صحيح للمواطنين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية على السلطة السياسية الوطنية أن تفسح المجال للتيارات الثقافية والمراكز الثقافية التنويرية كي تقوم بدورها المنوط بها في رفع سوية الوعي الاجتماعي للناس من خلال الإعلام والصحافة والتليفزيون والسينما والمسرح، فضلاً عن الندوات الثقافية والمراكز الثقافية، فالتلفزيون الذي يتوجه للناس كل يوم في بيوتهم، يمكنه أن يلعب دوراً مهماً في تعزيز الانتماء الوطني والقومي في مقابل الانتماءات الأخرى، أو توظيف هذه الانتماءات بما يخدم الانتماء الوطني ـ القومي الرئيسي. كما أنه يلعب دوراً هاماً في إشاعة قيم التسامح والإخاء وقبول الرأي الآخر وتقبل الاختلافات بين البشر على أرضية القاسم العام المشترك:الوطن.
من جانب ثالث فإن هذا الانتقال التدريجي والمدروس إلى وضع ديمقراطي متناسب مع المرحلة، لا بد أن يترافق مع عملية إطلاق الحريات السياسية وتفكيك ((الدولة الأمنية))التي بدأت تتأسس منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في الكثير من الدول العربية، والتي أخذت مجدها واتسعت إلى حدود اللامعقول منذ مطلع السبعينات بعد انكسار المشروع القومي ـ الناصري، وبداية تشكل ملامح الدولة القطرية ذات التوجه القطري المغلق وغير المفتوح على المشروع القومي النهضوي.
إن إعادة الاعتبار لمفهوم المواطن، بغض النظر عن دينه ومذهبه وانتمائه الأيديولوجي، وتأكيد حقوقه وواجباته النابعة من القانون والمستندة للدستور الوطني، لا يمكن أن تتم بدون التفكيك التدريجي للمؤسسة الأمنية التي شكّلت ولا زالت حداً فاصلاً ما بين السلطة السياسية من جهة والقوى السياسية والمجتمع بأكمله من جهة أخرى. في المقابل يجب تعزيز دور هذه المؤسسة الأمنية في الدفاع ضد الانتهاكات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، التي تحاول إيجاد قدم لها في الداخل، إذ أننا نعي تماماً أن ظواهر الخيانة والعمالة والارتباط بالخارج تنتعش أكثر في ظل مجتمع مفكك داخلياً وغير ملتحم بالسلطة السياسية ومنضبط أمنياً بالداخل، وليس بالعكس.
إن كل خطوة تتم في مجال تعزيز الديمقراطية السياسية سوف تؤدي لتبلور وإنضاج الوعي السياسي للمواطن العربي، وتمتّن اللحمة الوطنية، وهذا سيخفف من حدّة الانتماءات الثانوية، أو على أقل تقدير سوف يتم توظيفها في الاتجاه السليم الذي يخدم استقرار البنية الداخلية ومتانتها على أسس سليمة، مثلما يؤدي لنمو هذه البنية ونضجها وتطورها.
وهناتأتي الوظيفة السياسية المزدوجة للسلطة السياسية، أي المحافظة على النظام والاستقرار من جهة، ودفع المجتمع إلى أقصى ما يمكن من التقدم من جهة ثانية.
إن النظام والاستقرار ضروريان كي تتأسس الديمقراطية بشكلها الصحيح الذي يخدم تقدم المجتمع وتطوّره. لكن هناك استقرار واستقرار، هناك استقرار هش وهناك استقرار متين، هناك استقرار يتعزّز دائماً، وهناك استقرار مؤقت مؤسس على الإجبار والإرغام المقترنين بالخوف، هناك استقرار مبني على التوافق والتشارك، وهناك استقرار يستبعد الغالبية عن المشاركة والفعل، وهناك استقرار محمي بقوة الاستقرار الوطني وسيادة القانون، وهناك استقرار محمي بسيادة سلطة ما وبقائها وبعد زوالها تتحول الأمور إلى التأزم الداخلي والانفجار في البنية الاجتماعية.
هناك استقرار سلطة ما، وهناك استقرار وطن ومجتمع.
صحيح أن استقرار مؤسسة السلطة في المجتمع، واستقرار هذه السلطة في داخلها، من العوامل الأساسية في استقرار الوطن والمجتمع، لكن يجب ألا يكون استقرار السلطة العامل الوحيد في استقرار الوطن، لأنه آنذاك سيكون استقرار الوطن والمجتمع رهينين باستقرار سلطة ما وبقائها، وهذا يدل على هشاشة الوطن وتفكك البنية الداخلية له.
المحوري والجوهري إذاً هو استقرار الوطن والمجتمع على أسس ثابتة، إنه الاستقرار الذي يمنح السلطة شرعيتها واستقرارها وقوتها. أما تلك الأسس فهي بشكل رئيسي متانة الانتماء الوطني والشعور بالمواطنية، وفعالية الدستور الوطني المتناسب مع المرحلة وحاجاتها، وسيادة القانون وأولويته على سيادة أي سلطة، والحفاظ على التعدد في إطار الوحدة أو في إطار القاسم المشترك ((الوطن))ومتانة الدولة وقوة مؤسسات المجتمع المدني.
أما ما نجده اليوم فهو توجه السلطات العربية نحو إعادة ترتيب أوضاعها الخاصة وتعزيز وتطوير مرتكزات القوة لديها، بمعزل عن هموم الوطن والمواطن، وبدون وضع عملية استقرار الوطن وحمايته من الخلخلة التي قد تصيبه في ظل هذه الفترة الانتقالية على جدول أعمالها، إن السلطات السياسية تتجه نحو التكيف البطيء والمدروس بعناية فائقة كي تستطيع المرور والبقاء في ظل الأوضاع الجديدة. وذلك من خلال إعادة ترتيب البنية الداخلية بما ينسجم مع بقاء السلطة وعدم تأثّرها بالتغييرات الداخلية والخارجية، مستخدمة في ذلك قدراتها وخبراتها المتراكمة في دراسة توازنات القوى الجديدة في الخارج والداخل. نعود لنقول إن صدق التوجه الوطني للسلطة السياسية يجب أن يدفعها ـ خاصة في مثل هذه الفترات الحرجة ـ لوضع المسألة الوطنية في جدول أولوياتها، فمن جهة عليها الحفاظ على النظام والاستقرار في الوطن ومن جهة ثانية عليها أن تدفع الوطن باتجاه التقدّم، لا أن تميل كما هي العادة ,إلى تغليب وظيفة الحفاظ على النظام والاستقرار ,بما يأخذه من أبعاد مصلحية ضيقة لا وطنية شاملة على حساب وظيفتها في دفع التقدّم.
إذ هي تستميت في الدفاع عن النظام القائم رغم تبدّل العلاقات الداخلية وموازين القوى ومستوى تطور المجتمع ونضج الوعي السياسي فيه، متشبثّة برؤيتها الذاتية أنها كانت ولا زالت في الطريق الصحيح الذي يخدم الوطن وأنه ما عليها إلا القيام ببعض التغييرات البسيطة الضرورية، دون محاولة العودة لقراءة التجربة الماضية واكتشاف ثغراتها ونواقصها وأخطائها على أقل تقدير.
إن التوفيق بين هاتين المهمتين ( النظام، التقدّم )ليس بالأمر السهل، لكن هذا التعارض الظاهري لن يُحل عملياً إلا بوجود المجتمع المدني، وفاتحة ذلك التوجه الديمقراطي.
إن الاستقرار لا يتأسس ولا يتجذّر ما لم يقترن بالحركة أي بالتقدم، ويصبح الاستقرار بدون معنى ما لم يتوافر على تقدم الحركة، أو أنه يصبح مساوياً للثبات والموت والعدم.
لكن عندما يتوافر في الاستقرار خط التقدّم إلى الأمام، يصبح عندها الاستقرار عاملاً أساسياً ومحورياً من عوامل التقدم والحركة الصحيحة نحو الأمام.
إن التقدم في المحصلة والمآل ما هو إلا التطوّر الذي يطرأ على النظام، "والنظام " ليس معطى نهائي بل هو عمل يتم صنعه باستمرار.
إن المجتمع المدني ينطوي على توفيق ما بين صفة الاستقرار والصفة الحركية، أي ما بين الحاجة إلى النظام ودواعي التقدم، وبالتالي فإن السيادة والحرية لا تتعارضان إلا بقدر ما يكون المجتمع المدني بأكمله بعيداً عن المشاركة في السلطة السياسية.
في هذه المرحلة مطلوب من القوى السياسية في المجتمع على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها وموقف كل منها من السلطة السياسية في المجتمع، أن تقدّر دواعي السلطة السياسية وحساباتها المعقدة التي يتطلبها مثل هذا الموقع السياسي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات والتوازنات الدولية من جهة، وما يتعلق بالحفاظ على قوة الدولة والاستقرار الداخلي والحفاظ على النظام، كما أنه على السلطة السياسية أن تقدّر حاجة المجتمع بكافة قواه السياسية والاجتماعية إلى الحرية وتعبيرها السياسي ((الديمقراطية)) التي تتيح المشاركة والفعل للجميع.
إن السلطة المبادرة والقادرة على العمل في هذا الاتجاه تستطيع أن تحافظ بذلك على الاستقرار الداخلي المتين وتحقق للمجتمعات خطوات في طريق التقدم في آن معاً. أما المحافظة على المؤسسات القائمة اليوم وغير الفعالة كما هي، فإن ذلك سيوصل السلطة السياسية والمجتمع برمته إلى الاصطدام بمصاعب متزايدة في المستقبل قد تأخذ طابع الأزمة الشاملة والعميقة التي تضع الوطن على حافة الانهيار، إذ ليست مهمة مؤسسات المجتمع المدني إعلان التأييد و الولاء بل لا بد من مشاركتها في الشأن العام والقرار السياسي وهذه المشاركة المحمية في الدستور الوطني والخاضعة لسلطة القانون هي الضمانة الوحيدة للتقدم ولاستمرار الانطلاق نحو الأمام وللتطوير الدائم للنظام العام في الوطن.
إن السير في طريق التوجه الديمقراطي، يتطلب إعادة النظر في بعض المفاهيم والرؤى التي حكمت ووجهت العمل السياسي الوطني في الفترات السابقة، ولازال قسم كبير منها حياً إلى اليوم، وهذا يشكل عقبة أساسية في التطور الديمقراطي، وعلى رأس هذه المفاهيم مفهوم
"السلطة"ومفهوم "المعارضة" وذلك من أجل فتح صفحة جديدة داخل الوطن في كل قطر عربي، يكون هدفها ترتيب الوطن الداخلي وتمتينه وتقويته بعلائم الصحة والقوة السياسية.
يتم ذلك عبر تصحيح العلاقة" المَرَضِيّة" بين السلطة والمعارضة في كل قطر عربي من علاقة "توجس وشك"أو علاقة"تصفية ونسف"إلى علاقة ثقة واحترام متبادلين، من علاقة" اتهاميةإلى علاقة"تحاورية"، من علاقة"نفي متبادل"إلى علاقة"تشارك" وتفعيل للقواسم الوطنية والقومية المشتركة.
إن هذا التصحيح للعلاقة يتطلب مبادرة من السلطات والمعارضات في آن معاُ تستند إلى رؤية وطنية وقومية شاملة. تأتي مبادرة السلطة في التخلي عن النظرة القائلة: "من ليس معي فهو ضدي" والتزام الرؤية القائلة: "قد أكون معك وضدك في الوقت نفسه، معك في أشياء وضدك في أشياء أخرى" وهذا سيساهم عمليأُ وليس فقط نظرياُ في تحديد تخوم الاختلاف بين المعارضة والسلطة في" التفاصيل" وليس في" الكليّات"، أي الاختلاف في التفاصيل على أرضية الالتزام بالقواسم المشتركة و الاستراتيجية الشاملة في الوطن.
إن وجود تباين بين السلطة وبعض قوى المجتمع شيء طبيعي، ووجود قواسم مشتركة شيء طبيعي أيضا ولا نظن أن التطابق بين السلطة وقوى المجتمع كافة هو شيء صحي، التباين والاختلاف يؤديان للتقدم والتطور والتفكير السليم والتغيير المستمر، لكن من الضروري الاعتراف بالطرفين وتأكيد الاحترام المتبادل بينهما.
وتأتي مبادرة المعارضة في كل قطر عربي في التخلي عن أسلوبها في إثبات ذاتها ووجودها وشرعيتها عن طريق "سب الآخر وشتمه".
إن تطوير مفاهيم "السلطة" و "المعارضة" لا يمكن أن يحصل إلا في ميدان الممارسة السياسية أي في ميدان فتح العلاقة مع الآخر، فالمفاهيم لا يتطور كل منها لوحده، كما لا تتطور بالغرق في التفاصيل النظرية التي لا تجد جسورها إلى الواقع الحي المتحرك.
وهنا تنبع ضرورة الحوار بين كل فعاليات المجتمع وقواه السياسية، هذا الحوار غير المشروط إلا بشروط صلاحية وسلامة الحوار، وبقيامه على أرضية وطنية جامعة.
إن الحوار بين السلطة و المعارضة على امتداد الوطن العربي، هو حوار ضروري، كي لا تسيء المعارضات فهم السلطة وتسخِّف كل ما تقوم به، وتحدِّد نفسها في الطريق المعاكس لتوجهات السلطة، ومعروف أن هذا الأسلوب في العمل غير صحي من قبل تلك المعارضات تجاه الوطن، كما أنه يشير إلى ضيق الأفق وإلى خلل في الرؤية السياسية.
هذا الحوار ضروري أيضا، كي لا تنظر السلطة إلى المعارضة السياسية لها، على أنها مجموعة من الخارجين على القانون والطاعة، وتصبح بالتالي مطاردة وتصفية هذه المعارضة هدفا من أهداف السلطة غير المنتجة على صعيد بناء الوطن وتقدمه.
إن اعتراف السلطة بشرعية المعارضة السياسية(بل وبضرورتها) أساسي في بناء علاقة تحاورية، أي اعتبارها قوى معارضة وطنية، ليست عميلة ولا مرتبطة، ولكنها مختلفة معها في الرأي حول بعض القضايا وأساليب الممارسة السياسية، بوجود قاسم مشترك هو "الوطن".
إن تعامل السلطة فيما مضى بآلية" تصفويَّة" مع التيارات التي تخالفها الرأي، قد خلق توجهات تستند إلى رد الفعل السلبي عند تلك القوى والتيارات، فمشاعر الأذى والحقد قد أثرت بشكل سلبي على توجهات تلك التيارات، وكما هو معروف فإن الحقد موجه سيء في العمل السياسي وفي فهم الذات والآخر، أي فهم المعارضة لنفسها وللسلطة.
لقد آن الآوان للسلطة السياسية في كل قطر عربي أن تقتنع أن بناء الشرعية والوجود على القوة والضبط الأمني، لم يعد كافيا في تثبيت تلك الشرعية وتعزيزها، هذا الأسلوب الذي أوصل المجتمع في بعض الأقطار العربية إلى حافة الانهيار والتشرذم، إذ لابد لها من الانفتاح على البنية الاجتماعية (قبل الانفتاح على العالم الخارجي) وتغيير علاقتها بمؤسسات المجتمع المدني من علاقة ضبط وحصر إلى علاقة فصل نسبي بين مؤسسة السلطة ومؤسسات المجتمع الأخرى.
إن ثقة السلطة السياسية في دولة من الدول بنفسها وبخطابها وبشرعيتها يجب أن تدفعها إلى الاعتراف بالآخر الذي لا يختلف عنها كليا وبشكل نهائي.
حيث يمكن التقاط قواسم مشتركة كثيرة بين السلطة السياسية وقوى المجتمع الأخرى بما فيها المعارضة السياسية، بالإمكان تفعيلها وتعزيزها(الوحدة الوطنية، توظيف الانتماءات الثانوية في طريق وطني، محاربة إسرائيل، الطريق الوحدوي في مقابل وضعية التجزئة…. )بما يعود على الوطن بالخير والمنفعة.
عبر ذلك فقط تتثبَّت السلطة في المجتمع، وهو عمل ضروري إذا أرادت السلطة أن يكون لها دور و تأثير تاريخي فاعل غير بقائها في قمة الهرم السياسي، هذا الدور التاريخي يتجذر عندما تبني السلطة وتؤسِّس مالا يموت بموتها وانتهائها. لقد شهدنا كيف تعرّضت إنجازات السلطة في عدد من الأقطار العربية للسحق ومحو تراثها الوطني بإجراءات بسيطة أو بجرّة قلم، وبعدها تعرّضت الأمور للانفجار الاجتماعي ووصول المجتمع لحدود الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة والعصية على الحل. ففي مصر مثلاًَ استطاع السادات ببساطة محو وتذرير التراث الوطني للتجربة الناصرية، لأن الناصرية على الرغم من توجهها القومي والوطني السليم وإنجازاتها التي تشهد عليها أصالة التجربة ومصداقيتها وعلى الرغم من ارتباطها الوثيق بالشارع السياسي، و مقدراتها الهائلة والعظيمة على تسييسه وتحريكه، إلا أنها لم تؤسس كل ذلك في مؤسسات فاعلة وقادرة، ولم تعتمد على البنية الاجتماعية في صيغة قوى ومؤسسات سياسية، وبالتالي لم تبنِ ما هو قادر على الدفاع عن تجربتها الأصيلة، أي لم تبنِ ما هو قادر على الاستمرار والفعل والتطوير بعد وفاة أوتحييد العناصر الفاعلة في هذه التجربة.
إننا لا نشك في عظمة هذه التجربة، كما لا نشكك في حب الجماهير العربية لعبد الناصر وثقتها بتوجهاته القومية والوطنية، وتقييمها الإيجابي للتجربة الناصرية وإنجازاتها، لكننا جميعاً لمسنا ما آلت إليه التجربة لأنها لم تعتمد ولم تثق بطاقات الشعب وبقدرته على فرز قوى سياسية ناضجة ومتبلورة، فقد اكتفت بالقدرة على تحريكه بدون مؤسسات وبدون مشاركة فاعلة من قبل الشعب من خلال هذه المؤسسات ومن خلال أحزاب سياسية تتفق في العام مع التوجهات الناصرية، لكنها تختلف معها في الجزئيات والتفاصيل، من هنا كان من السهل إنهاء الخط العام للتجربة وتراثها القومي والوطني على الأقل سياسياً داخل مصر وما تبعه ذلك على مستوى الوطن العربي بأكمله.
إن العلاقة" المَرَضيَّة" بين السلطة والمعارضة، ذات الطابع الاتهامي وليس التحاوري، والتي تصل إلى حدود النفي المتبادل، حيث كل طرف ينفي صفة ((الوطنية)) عن الطرف الآخر ويدعيها لنفسه، كان من نتائجها تشكّل صفات السلطة والمعارضة بما أثّر سلبياً على فعالية المجتمع العربي وتطويره.
لقد تشكّلت سلطات منتفخة لا تثق إلا بنفسها، فاقدة للثقة بفعاليات وقوى المجتمع الأخرى، غير معتمدة على الشعب والشارع السياسي، تبني علاقتها بالمواطن كعلاقة الراعي برعيته وليست علاقة حاكم أو حكومة بمواطن، أي تستند إلى القانون والدستور الوطني. هذا ساهم إلى حد كبير في افتقاد السلطة إلى أرضية ثقافية فكرية تعطي توجهاتها السياسية المختلفة بُعداً استراتيجياً شاملاًُ، يستند إلى المبدأ والمنفعة الوطنية في آن معاً.
يقابل انتفاخ السلطة غرور المعارضة السياسية بنفسها وتضخيمها لذاتها عندما اعتبرت نفسها طليعة التغيير، وضمير المجتمع الحي، ونائبة وممثلة للشارع السياسي، في حين أنها لم تبنِ علاقة سليمة ومتينة مع هذا الشارع، بل باتت تنظر نظرة متعالية للبشر على أنهم ضالون وأن دورها هدايتهم، بدلاً من قيام علاقة تفاعلية مع الشارع السياسي تتطوّر به وتطوّر فيه.
إن المعارضات السياسية غالباً ما تتصرف بمعزل عن مستوى تطوّر الشارع السياسي، وبتجاهل لمستوى الوعي الاجتماعي العام الذي تنظر إليه على أنَّه متخلف، وتتعامل معه على صعيد الممارسة الحقيقية والضمنية باحتقار وازدراء لا ينتجان إلا التعالي والأوهام عن الذات والآخر، فتنتج في خطابها السياسي وفي ممارستها السياسية صيغاً إدعائية عن الذات لا تجد لها رصيداً في الشارع السياسي أو مؤيدين لها، مثل صيغ ((طليعة التغيير))((ضمير المجتمع))، ((قوى المجتمع الحية))، ((القوى الثورية))، ((نخبة المجتمع)).. إلخ.
إن هذه الصيغ من فهم المعارضة لنفسها وتقييمها لذاتها لا تأخذ مصداقيتها الحقيقية إذا لم يكن هناك شارع سياسي وحراك اجتماعي ـ سياسي يحدّدان القوى والجماعات التي تستحق أن تكون طليعة أو ضميراً أو نخبة، وإلا فإن هذه الصيغ لا تعدو إلا أن تكون محاولة للنفخ المجاني للذات العاجزة والفاقدة لكل فعالية. كالمثل العربي((أسمعُ جعجعة و لا أرى طحناً)).
من جهة ثانية فإن هذه الصيغ من فهم الذات والآخر سوف تسبغ نفسها على أسلوب العمل المعارض برمته، وبشكل أساسي سوف تفقده صِفَته الأساسية، أي الصفة ((السياسية))، ليأخذ شكل العمل الأيديولوجي المغلق الذي مهمته" تصنيف" البشر وليس التقاط القواسم المشتركة بين البشر وتفعيلها.
لقد بنت الأيديولوجيا في المجتمع" تحاجزات" وفواصل بين القوى السياسية على اختلاف مشاربها، أما السياسية فإن وظيفتها الأساسية هي بناء التوافقات والقواسم المشتركة وتفعيلها بين القوى المختلفة أو المتخالفة.
لسنا هنا بصدد التنظير لنهاية الأيديولوجيا كما فعل الكثير من هواة رد الفعل السلبي تجاه ما يحدث في الواقع، كما أننا لسنا بصدد خلق تعارض مطلق ونهائي ما بين الأيديولوجيا والسياسة. بل إننا نرى ـ على الأقل نظرياً ـأن فهم الأيديولوجيا وتمثلها السليم، سوف يتيح لأصحاب تلك الأيديولوجيا إدارك وظيفتها بشكل سليم أيضاً، بحيث تقترب هذه الأيديولوجيا من الواقعي والسياسي كي تغتني به وتتطور من خلاله وبالتالي تنفتح على الآخرين. أي هناك أيديولوجيا مغلقة تتكوّر على نفسها وعلى أصحابها وتجعلهم ينظرون للآخرين من زوايا ضيقة، وهناك أيديولوجيا منفتحة على الواقع مما يجعلها متطوّرة باستمرار بحكم الغنى الذي يقدمه لها الواقع الحي المتحرك. إن ما يحدِّد انغلاق الأيديولوجيا و انفتاحها هو طبيعة الحاملين لها ووعيهم لها وإدراكهم السليم لوظيفتها وتمثلهم لها من جهة و انغراسهم في المجتمع والواقع والممارسة السياسية اليومية من جهة ثانية. إن وعي هذه النقطة سوف يدفع القوى السياسية كافة ـ بما فيها السلطة وحزبها السياسي ـ إلى وضع مهمتها الأساسية في نشر وتنفيذ برنامجها السياسي، وعند ذلك يصبح من الممكن التقاط قواسم مشتركة واسعة بين تلك البرامج السياسية، ونظن أن هذا أفضل لتقدّم الوطن وتطوّره من التقاتل الأيديولوجي. فالانتماء الوطني والهوية القومية هي أفكار سياسية بامتياز ومهمة كل أيديولوجية أن تنير لأصحابها فهمهم لشكل الانتماء وطبيعة الهوية، بحيث لا يضيع ما هو جوهري أي الانتماء والهوية.
عندما يصبح الحوار السائد حواراً بين البرامج والمشاريع السياسية سوف تقترب تلك القوى من بعضها بما يخدم المصلحة العامة، وفي المحصلة سوف تنظر كل قوة سياسية من تلك القوى أنها إحدى قوى الواقع المعقد والمركب، وتعرف حجم دورها ومدى قدرتها على التأثير في هذا الواقع، أي باختصار سوف تتحلى تلك القوى بالتواضع تجاه بعضها البعض وتجاه المجتمع الذي تتحرك ضمنه وتجاه الواقع المعقد والمركب الذي اعتقدت في الماضي أنه يتحرك ويتغير بإشارة منها، مثلما ستتقلص أحلامها" بليلة الثورة" التي يجري فيها نسف كل ما هو قائم والبداية من الصفر، لصالح رؤية أكثر واقعية وأكثر ثباتاً وإنتاجاً على المدى البعيد عبر تغير أساليب عملها. إن مفهوم" الثورة" قائم في كل زمان ومكان، لكن تتغير أشكالها وأساليبها وحدودها، واليوم الثورة الحقيقية هي تلك التي يجري فيها البناء على ما تم بناؤه في الماضي سواء من قبل السلطات السياسية أم من قبل قوى المجتمع الأخرى. الثورة المطلوبة اليوم هي ((الديمقراطية))، أي تحقيق الاعتراف بوطنية الكل و دور الجميع في عملية إعادة ترتيب بيت الوطن الداخلي، وليس ثمة تعارض ما بين الثورة والديمقراطية، إذ بالإمكان تحقيق محتوى ديمقراطي للثورة مثلما يمكن إعطاء الديمقراطية بعدها الثوري بحيث لا تكون الديمقراطية كاريكاتورية أو عملية مستنسخة.
وإن إطلاق سيرورة الثورة الديمقراطية يعني أوَّل ما يعني تعزيز التوجهات الديمقراطية لمختلف القوى السياسية بما فيها السلطة، والذي يتعزز وينضج ويتبلور مع الزمن، ولا يعني تحقيق الحالة الديمقراطية النقية أو الصافية أو تلك التي لا تشوبها شائبة أو التي لا تحمل في ثناياها احتمال الخطأ أو الفشل المؤقت.
أما التصوّرات الواهمة للثورة والتي ارتبطت بكثير من المفاهيم والأساليب التي أفقدت الثورة محتواها الديمقراطي، كارتباط الثورة بالعنف دائماً و في كل المراحل، أو ارتباط الثورة بأسلوب " القَلْب "والبداية من الصفر أو بعمليات التطهير تجاه الماضي وارتباطها بأحادية العمل السياسي ووحدانية قيادة المجتمع، وارتباطها بطرح الكليات والأهداف الواسعة دون تقدير للتدرج و التمرحل المتناسب مع الواقع ودرجة النضج الاجتماعي فيه، فإنها قد جلبت للوطن الكثير من المآسي والإحباطات.
لقد تعوّدت المعارضة السياسية على طرح الحدود القصوى وتجسيدها من خلال استراتيجيات" بليدة" تفتقد للتمرحل والتدرّج باتجاه نقل الواقع المأزوم إلى الهدف أو الحلم، لذلك بقيت تغنِّي في" الطاحون" وتحوّلت المعارضات نتيجة افتقاد البنية السياسية والاجتماعية التي تتحرك ضمنها إلى معارضات أيديولوجية وليست سياسية، أي تعارض بالعام والمطلق، مما أدى إلى حسر النظر السياسي لديها وافتقاد القدرة على التكتيك والممارسة السياسية، خاصة عندما تسفِّه المعارضة كل ما تفعله السلطة في المجتمع وتنظر إليه نظرة شك وريبة، حتى لو صبّت جهودها في اتجاه تمتين المجتمع وتقويته وتحسين أدائه على أي صعيد.
إن طرح الاستراتيجيات والأهداف العريضة دون الاهتمام بتفاصيل الواقع والتكتيك اللازم للوصول بشكل متدرِّج للهدف، قد كلف المعارضات السياسية الكثير من المآسي والمعضلات، فتصدير الاستراتيجية والهدف والأحلام العريضة في الخطاب السياسي للمعارضة دون التقدم ولو خطوات بسيطة على أرض الواقع لم يُنتِج في المآل إلا الإحباط وعدم الثقة أو حتى الكفر بتلك المبادىء والأهداف، وهنا نستطيع أن نفسر كثرة المهتمين بالشأن العام والمصلحة الوطنية الذين تركوا أحزابهم بعد تجارب مريرة وتوجهوا للاهتمام بمصالحهم الشخصية أو حافظوا على أخلاقياتهم واهتمامهم بالشأن الوطني لكنهم لم يعودوا يجدون لهم مكانا في الأحزاب القائمة في المجتمع.
من نتائج الخطاب السياسي للمعارضة المفعم بالشعارات والآمال العريضة و الفاقد للتكتيك و التمرحل والعمل الواقعي، أن توجهت مختلف القوى السياسية في عدة أقطار عربية للانسحاب من الدولة ومؤسسات المجتمع، أو أنها غذت هذا الانسحاب ورسخته عندما أجبرتها السلطات على ذلك مُدَّعيةً النزاهة والطهرانية والترفع عن الدخول في اللعبة السياسية، ورَوَّجت لذلك بفهم غير صحي للأخلاق وعلاقتها بالسياسة، غير مدركة أن السياسة هي العمل في وحل الواقع وأن الأخلاق تتضح وتنضج وتتبلور في سياق العمل الواقعي المباشر، أي عندما لا نصاب بالتلوث على الرغم من اندماجنا في إشكاليات الواقع وأوحاله، و لا نستطيع أن نسمي عدم التلوث إذا ترافق بالانعزال والانسحاب من السياسة والمجتمع والواقع عملاً أخلاقياً.
أما السلطات فعلى العكس من ذلك فقد توجهت للغرق في التفاصيل لكن بدون توافر الرؤية الشمولية التي تأخذ بالحسبان مجمل المصالح الوطنية على المدى البعيد.
لقد غرقت السلطات في تكتيكات العمل السياسي اليومية، وتسيير الأمور بالحلول البسيطة والمؤقتة التي تتجه نحو تأجيل الانفجار الاجتماعي ودفع الأزمة السياسية والاقتصادية في المجتمع نحو الأمام، ولم تتجه نحو الحلول الجذرية الفاعلة والشمولية.
عند هذه التوجهات الحدّية والمتعاكسة للسلطة والمعارضة وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف أمام معارضات سياسية لاوزن لها وفاقدة للخبرة في قيادة العمل السياسي وفي تقدير الأمور السياسية، وأمام سلطات تفتقد للرؤية العامة والشمولية في حل أزمات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهنا يصبح الوطن في وضع مأزوم بين ميكيافيللية السلطات الفاقعة والتطهرية المريضة للمعارضات.
نعود لنقول إن عدم إتاحة المجال للمعارضة السياسية من قبل السلطة كي تعمل وتتفاعل مع الشارع السياسي والتعزيز المباشر أ وغير مباشر لهذا الانسحاب والانعزال من قبل المعارضة، قد وَلَّد في مجتمعاتنا معارضة سلبية تحدد نفسها بعكس اتجاه السلطة بدلا من أن يكون لديها رؤيتها المستقلة النابعة من قراءتها للواقع والظرف. كما أنها تطرَّفت في توجهاتها وانغلقت على نفسها وغرقت في الأفكار والأحلام وابتعدت عن التفاصيل وطرحت الشعارات الواسعة والعريضة دون مراعاة للتدرج والتمرحل وافتقدت بالتالي الحس السياسي والخبرة السياسية على الرغم من احتواء المعارضات على طاقات غير هينة والتي فيما لو أتيح لها مجالات الممارسة السياسية فإنها ستتحول إلى خبرات سياسية وقيادية كبيرة. إن افتقاد المعارضات لتجربة الممارسة السياسية الواسعة حتى تلك التي خرجت إلى العلن منذ مطلع التسعينات في بعض الأقطار العربية جعلها غير قادرة عمليا على إتقان الحسابات السياسية المعقدة ومنها عدم تقديرها مثلا للدواعي السياسية والحسابات المركبة التي تحكم علاقة السلطة السياسية بما هو خارجي أي بما هو دولي وعالمي.
نذكر هنا مثالا على ذلك من التاريخ وهو موقف عبد الناصر والقوى السياسية العربية من مبادرة روجرز 1970 فعندما قبل ناصر تلك المبادرة جرى تخوينه من قبل بعض المعارضات والقوى السياسية في الوطن العربي، ولم تدرك تلك القوى طبيعة التكتيك الناصري المحكوم من جهة بالظروف السياسية الخارجية في ذلك الوقت والمحكوم من جهة ثانية بالتكتيكات الناصرية في المجال العسكري ضمن عملية الإعداد للمعركة مع العدو.
كأنما كانت تلك القوى تبحث عن وجودها وشرعيتها عن طريق نفي شرعية الآخر، لنجد أن التاريخ كان قاسيا مع هذا الشكل من العمل السياسي.
وصلت المعارضة السياسية في بعض الأقطار العربية نتيجة علاقتها المريرة بالسلطة ونتيجة فقر الوعي السياسي لديها إلى خيارات تكتيكية انتهازية، أو حتى السير في توجه غير وطني يضعها خارج اعتراف الشارع السياسي بها واحترامه لها كالمعارضة العراقية التي تستنجد بكل ما هو خارجي ـ حتى لو كان العدو المباشر للوطن ـ لإزاحة السلطة العراقية، غير عابئة بأن هذا الخيار التكتيكي لا يندرج ضمن استراتيجية وطنية، وهو على المدى البعيد عامل أساسي وجوهري في سقوط هذا الشكل الانتهازي من العمل المعارض.
إن المعارضة الوطنية هي تلك التي لا تسعى لأن تكون" مطيّة" لأي تدخل خارجي في شؤون الوطن، ولا تتوجه نحو وضع السلطة الوطنية في موقف حرج أو ضعيف أمام الأعداء التاريخيين للوطن. هذا يجعلنا نقول إن هناك معارضة ومعارضة أخرى مختلفة، وهذا ما يجب أن تتنبَّه إليه السلطات الوطنية، فلا تضع كل المعارضات في سلة واحدة. هناك معارضة وطنية، تضع المصلحة الوطنية في الاعتبار الأول والأخير، وهناك معارضة تربط إيقاع حركتها بالخارج و تصبح تطلّعاتها مرتكزة إلى ما تمليه عليها مصالح الطرف الخارجي وليس مصالح الداخل الوطني. هناك أيضاً معارضة سلمية، ديمقراطية ومعارضة عنفية واجتثاثية تفتح أزمة في داخل الوطن بقصد إحراج السلطة في الداخل والخارج معاً.
إن المعارضة الوطنية، ذات التوجهات السلمية الديمقراطية هي سند حقيقي للسلطة الوطنية ضد التيارات العنيفة المعيقة لتقدم الوطن وضد أية محاولة ابتزاز ممّن هم خارج الوطن أو من قبل أعداء الوطن.
تخطىء المعارضة الوطنية السياسية، فيما لو أرادت أن تكون وطنية وديمقراطية حقاً، عندما تنتابها نشوة الفرح لوصول السلطة إلى وضع مأزوم في داخلها ـ أي داخل بنية السلطة ـ أو في علاقتها بالمجتمع، وتخطىء أيضاً عندما تقف موقف المتفرِّج على السلطة الوطنية في وضعها الحرج.
إن وطنية المعارضة وإدراكها السياسي الصحيح يجب أن يدفعاها للعمل قدر استطاعتها للخروج من الوضع المأزوم للسلطة السياسية، لأن أية سلطة مأزومة بالضرورة لابدّ أن ينعكس ذلك على المجتمع ككل، حيث إن أزمة السلطة السياسية أساسية ومحورية في أزمة المجتمع.
إن ذلك يجب أن يبنى على معيار أساسي هو وطنية السلطة وعدم ارتباطها بالخارج، أي هناك أيضاً سلطة وطنية وأخرى ليست كذلك ,ولا يجوز وضع كافة السلطات في سلّة واحدة، وبالتالي على المعارضة السياسية أن تبني رؤيتها للسلطة على رؤى واقعية وحقيقة ليست رغبوية أو وهمية، وعليها عدم تحويل انعدام أو ضعف الممارسة الديمقراطية في المجتمع إلى تشكيك بوطنية سلطة وطنية ما. صحيح أن كل خطوة تتم على صعيد الديمقراطية هي خطوة في تقدم الوطن , وإن كل خطوة يتم فيها استبعاد المشاركة الشعبية وفتح المجال للقوى السياسية كي تعبّر عن نفسها، هي عمل لا يخدم الوطن وتقدمه، لكن لا نستطيع أن ندعو السلطة الفاقدة للممارسة الديمقراطية في المجتمع بأنها سلطة غير وطنية.
المقصود من ذلك أن يبقى النقد في حدود الواقع، لا أن نداري عليه، ولا أن نوسِّعه بغية اكتساب شرعية أكبر، إن كلا الاتجاهين مضلّل ولا يعود بالفائدة لا على المعارضة أو السلطة ولا بالمحصلة على الوطن.
إذاً ثمة سلطات وطنية لكن فاقدة للممارسة الديمقراطية، أو لها تقديراتها الذاتية في شكل العمل الوطني الديمقراطي وشكل الانتقال الديمقراطي، هذه التقديرات مساوئها أنها لم تأتِ نتيجة تحاور وتشارك ما بين السلطةو المجتمع بقواه كافة. الوطن هو القاسم المشترك الأول والأخير، وعليه يجب أن تبنى الاعتبارات والخيارات الأساسية لكل من السلطة والمعارضة على حد سواء، و تخطىء السلطة والمعارضة معاً عندما تعتقدان أن نفي صفة الوطنية عن الآخر هو طريقها لإثبات شرعيتها وأهليتها، لأن نفي الصفة الوطنية عن الآخر هو في المآل الأخير نفي لها أيضاً عن الذات، كما أثبتت الممارسات السياسية في الوطن العربي في الفترات السابقة.
صحيح أنه في المحصلة والمآل أن أي موقف أو سلوك أو تصرف أو توجه ما يمكن أن نسبغ عليه صفة الوطنية أو اللاوطنية، لكن هذا عمل تاريخي ولا تتضح معالمه إلا بعد مرور فترة زمنية، وإلا فإننا سنقع في مستنقع واسع من الاتهامات المتبادلة بين مختلف القوى والأطراف عند كل حدث سياسي. لكن يمكننا القول إن صفة الوطنية تتحدّد اليوم بالموقف من أعداء الوطن التاريخيين، أي بالموقف من قضية الصراع العربي الإسرائيلي مثلاً أو شكل الأداء السياسي في عملية التسوية ؟هل هو لصالح الوطن وعدم التفريط بحقوقه أم غير ذلك. تلك هي المسألة التي يجب أن تتم اليوم عملية الفرز عليها ما بين الأصدقاء والأعداء، ما بين من هم لمصالح الوطن ومن هم ليسوا كذلك.
إن السلطة السياسية في بلدان عربية عدّة، قد وقعت أيضاً في خيارات غير سياسية، ولا تخدم تقدم المجتمع ونموّه وتطوّره، وذلك عندما ناصبت العداء لكل شكل سياسي معارض، معتقدة اعتقاداً خاطئاً أن أي شكل معارض سوف يفقدها في المآل شرعيتها وقدرتها في المجتمع.
فقد أتاحت السلطات فيما مضى مثلاً للتيارات الدينية المتطرِّفة التعبير عن نفسها في الإعلام والصحافة وفي صيغ مؤسسات دينية وجمعيات خيرية، كي تنافس التيارات الوطنية الديمقراطية في المجتمع، قاصدة بذلك هدفين، أولهما احتواء وضبط التيارات الدينية ووضعها تحت عين المراقبة، وثانيهما حصر امتداد التيارات السياسية ذات التوجه الوطني الديمقراطي المنافس للسلطة السياسية على الشرعية وضبط دور تأثير المثقف المتنوّر الذي حُرم من العمل في البنية الاجتماعية.
لقد عاد هذا التوجه بالسوء على السلطة والمجتمع معاً، خاصة عندا اضطرّت السلطة في لحظات معينة لمجابهة تيارات انفجارية رافضة ومسلحة وضعت المجتمع والدولة على حافة السكين وشفا الانهيار.
لقد أخطأت السلطات السياسية عندما ظنت أن باستطاعتها ضبط هذه التيارات المتطرِّفة عبر التحكم بنشاطاتها في المجتمع، أي عندما تسمح لها بالحركة تحت أعينها، لأن التنشئة الثقافية الدينية المتطرِّفة غير مضمونة العواقب، ولها وسائلها في اللعب والتمويه، وقادرة على الانتظار لتنفجر من جديد في وجه السلطة والمجتمع عندما تسنح لها الفرصة وتغدو الظروف أكثر مواءمة.
واليوم إن الجزء الصامت من المجتمع(وهو الجزء الأكبر)مخيف بقدر كبير، حيث لا يمكن التكهن باللحظات الانفجارية التي قد يصل إليها أو قد وصل إليها في بعض البلدان. إذ ثمة معارضة ضمنية سلبية واسعة غير مؤطرّة في شكل قوى سياسية، تبحث عن غطاء أيديولوجي لمعارضتها، تجده غالباً في الدين، قد تنفجر داخل الوطن وتوصل المجتمع إلى حدود الكارثة.
من هنا فإن تعامل السلطة السياسية مع معارضات سياسية مكوّنة في صيغة أحزاب سياسية لها تاريخها وتراثها الوطني وتوجهاتها السلمية الديمقراطية، متمرّسة ومتدرّبة على العمل السياسي، متقاطعة مع السلطة في أشياء جوهرية ومختلفة معها في التفاصيل، أكثر ضمانة من تشكّل معارضات حادة أيديولوجية، غير منظمة وغير واضحة التصوّر والخيارات، وذات طابع اجتثاثي واستئصالي كالمعارضات الدينية العنفيّة المتكوّنة أو القابلة للتكوّن في كل قطر عربي، خاصة في ظل حصار التيارات الوطنية والديمقراطية وفي ظل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الخانقة. ثمة تخوّف له ما يبرّره ويفسّره في ظل استمرار الأوضاع كما هي من انفجار الوضع الداخلي في بلدان عربية عدة، بما لا تتوقعه أية سلطة ولا أية معارضة.
إن الخروج من الأوضاع المتأزّمة في كل مجتمع من المجتمعات العربية اليوم لن يكون إلا عبر فتح البوابة السياسية، من خلال استفادة السلطة السياسية من الإمكانيات التي يتيحها وجود معارضة سياسية فاعلة في المجتمع، ومن خلال استفادة المعارضة من الإمكانيات التي يخلقها وجود سلطة وطنية قوية في مواجهة التحديات الخارجية.
إن تقدّم المعارضة السياسية وتطوّر مفاهيمها لن يكون إلا بانغراسها في المجتمع والشارع السياسي، وهذه إحدى أهم مسؤوليات السلطة السياسية الوطنية في المجتمع العربي، أي مساعدة المعارضة السياسية في عملية الانغراس ضمن المجتمع، وذلك عبر الاعتراف بوجود المعارضة السياسية والإقرار بشرعية وقانونية هذا الوجود والتأكيد على أهمية هذا الوجود، وتجسيد ذلك بإتاحة إمكانيات العمل السياسي في المجتمع للمعارضة طالما أنها ضمن الخط الوطني/القومي الديمقراطي. لاشيء غير الواقع والتجربة الحية يمكنهما صقل الخطاب السياسي للمعارضة وإعطائه بعدا عمليا بدلا من بقاء المعارضة غارقة في الكليات وبعيدة عن تفاصيل الحياة الاجتماعية ودواعي العمل السياسي الذي يحكم عمل السلطة الوطنية وخياراتها وتوجهاتها. وهذا في المآل سيؤدي إلى تواضع المعارضة ومعرفتها لإمكانياتها السياسية وقدرتها على الفعل والتأثير ورصيدها في الشارع السياسي معرفة حقيقية وواقعية، فلا تبقى حاملة ادعاء التمثيل للشارع السياسي، وتتخلص من صيغ النفخ الذاتية في خطابها السياسي. كما سيساهم ذلك أيضا في عودة الحياة السياسية في المجتمع إلى حيويتها وطبيعتها بعودة المعارضة إلى الحياة الطبيعية التي تؤثر فيها وتفعل في مجريات الأحداث والأمور.
إن تطوير السلطة للمعارضة عبر فتح إمكانات العمل لها سوف يؤدي أيضا وبالضرورة إلى تطوير فهم السلطة لذاتها ولدورها ولتطوير علاقتها بالمجتمع والشارع السياسي، وتقوية شرعية السلطة في تعاملها مع الخارج خاصة في مجال العلاقات الدولية والتفاوض السياسي، إذ إن السلطة المحكومة بمعارضة داخلية فاعلة ومؤثرة، سوف يكون لديها خطوط حمر في مجال التفاوض السياسي يكون الخصم أو العدو مضطرا لاحترامها والاعتراف بها.
وقد لاحظنا كيف ذهبت بعض السلطات العربية للتفاوض في شؤون الصراع العربي _ الاسرائيلي بأسمائها الشخصية لا بأسمائها الوطنية- أي المدعومة من الشارع السياسي والمحددة بخيارات الشارع والقوى السياسية الوطنية- وقد كان بإمكانها أن تذهب للتفاوض بغير تلك الطريقة وعندها كان يمكن للنتائج أن تكون أفضل بكثير مما حصل على أرض الواقع، أي خفض مستوى التنازلات أمام العدو في هذه المرحلة من الصراع.
من نتائج التوجه الديمقراطي للسلطة السياسية أيضا تطور الحزب السياسي للسلطة- إذا كان لديها حزب _ وانتقاله من (حزب سلطة) إلى(حزب في السلطة).
فالصيغة الأولى(حزب سلطة) تنتج مع مرور الزمن كماً بشرياً غير فاعل، وحزباً مستقراً استقراراً سلبياً، لأنه لا وجود لعوامل حافزة على التطوير والتغيير ضمنه، أما الصيغة الثانية (حزب في السلطة) فإنها تنتج حزباً فاعلاً لأنه بعلاقته التنافسية السلمية والطبيعية مع الأحزاب والقوى الأخرى في المجتمع سوف يكون مضطراً لتطوير ذاته باستمرار وابتداع آليات جديدة وخطاب سياسي متجدد ومقارب لتغيرات البنية الاجتماعية لأجل تحقيق استقطاب سياسي وجماهيري في المجتمع.
إن السلطة السياسية عندما يتوافر لها حزبها السياسي، يجب أن تكون مدركة لما قد يسوقه وجود حزب ما في السلطة من مساوىء إن كان على صعيد الوطن بأكمله أو على صعيد ترهل الحزب السياسي للسلطة. حيث غالبا ما يحدث في مجتمعاتنا أن يهيمن حزب السلطة على الدولة والمجتمع، ويتم اختزال الميدان السياسي إلى داخل حزب السلطة، واختزال الوطن بأكمله إلى داخل هذا الحزب، وتتابع عملية الاختزال هذه ضمن مستويات الحزب نفسه، ليصبح الوطن كله والسياسة بجميع أشكالها مختزلين في حفنة من الأفراد، ويتحول حزب السلطة بالتالي إلى جيش بدون وزن أو فاعلية أو تأثير محسوس في القضايا السياسية كما يصبح الحزب مأوى لكل منتفع وانتهازي ومتزلف.
مطلوب اليوم من أحزاب السلطة أكثر من أي وقت مضى أن تحافظ أولاً على التوجه العام الأساسي لديها، أي التوجه الوطني _ القومي، لكن مطلوب ثانياً إحداث نقلة نوعية داخل أحزاب السلطة من خلال مؤتمرات هذه الأحزاب، من خلال مراجعةالتجربة السابقة بإيجابياتها وسلبياتها وتطوير وتعزيز ممارسة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب.
لابد أيضا من التدقيق في عملية الانتساب لحزب السلطة وتحويلها إلى عمل حقيقي فلا تبقى عملاً تعبوياً وتجييشياً، أي لاتظل عملية التنسيب عملا روتينيا تحاول فيه قيادات الحزب تجييش وتجميع أكبر عدد ممكن، أي بعبارة أخرى يجب ألا يصبح أي فرد عضواً في هذا الحزب ما لم تتوافر حقا شروط العضوية، كما لا بد من القيام بعمليات فصل وإعادة تنسيب واسعة، على أساس المسيرة الأخلاقية للفرد خلال الفترات الماضية، وهذا يعني رفع شعار محاربة الفساد داخل حزب السلطة نفسه ومراقبة عمليات استثمار الموقع الحزبي لمصالح شخصية. وثالثا إن النقلة النوعية على صعيد حزب السلطة لابد لها من أن تترافق بنقلة نوعية، مدروسة ومتأنية على صعيد الوطن بأكمله، والمحور الأساسي في هذه النقلة التوجه نحو إعادة النظر في رؤية حزب السلطة لنفسه ولدوره ولعلاقته بالقوى الأخرى.
فالتغيرات داخل حزب السلطة متلازمة بالضرورة مع التغيرات الضرورية على صعيد علاقة حزب السلطة بالدولة ووظيفته فيها. فالحزب السياسي_أي حزب سواء أكان في السلطة أم لا_ليس نائبا عن الوطن أو الأمة، الأمة والوطن أوسع من أي حزب سياسي، وبالتالي لابد من تصحيح علاقة أحزاب السلطة بالوطن والدولة والقوى الأخرى، بحيث لا تصبح الدولة على شاكلة أي حزب سياسي وبحيث يتقبل هذا الحزب وجود شركاء آخرين في العمل السياسي الوطني.
ورابعاً لابد أن تدرج الأفكار السابقة في الدستور الوطني وتحويلها إلى شكل قانوني. إذ إن مهمة الدستور الوطني هي التقاط الثوابت الوطنية والسياسية في كل مرحلة والشكل العام للدولة وأطر العمل السياسي الوطني، وبالتالي ليست فكرة صائبة تلك التي تدعو إلى بناء الدستور الوطني بناءا على عوامل متغيرة أي على حزب سياسي عرضة عبر الزمن لأن يتراجع دوره أو يتقلص دوره أو يفقد استقطاب الشارع السياسي أو تفسد فروع في إدارته أو يصبح بدون فاعلية أو يتأزم داخليا.
باختصار فإن مؤتمرات أحزاب السلطة يجب أن تشكل منعطفاً حقيقياً في داخل الحزب وفي علاقة الحزب بالدولة من خلال تعميق الديمقراطية الحزبية داخل الحزب وتطوير الديمقراطية السياسية على صعيد شكل الأداء السياسي في الوطن، لكن بدون محيد عن الثوابت والتوجهات الوطنية والقومية العامة.

 

كلمة أخيرة :
عند هذا الوضع المتأزم في المجتمع العربي لن تجد السلطات السياسية أمامها من مخرج يعيد بناء الوطن وبناء علاقة سليمة بين السلطة والوطن إلا من خلال تعزيز التوجه الديمقراطي وفتح إمكانيات تبلور طاقات المجتمع. لكن نقول هنا على السلطة الوطنية أن تحرص على ألا يكون التوجه الديمقراطي توجها اضطراريا بعد استنفاذ حلولها كافة أو عند وصول الأزمة الداخلية إلى حالة من الانفجار غير المضبوط، لأن ذلك إن حدث فإنه قد يكون توجها غير مدروس بما فيه الكفاية للانتقال نقلة نوعية هادئة ورزينة بالمجتمع، ومن جهة ثانية فإن التوجه الديمقراطي الاضطراري سوف يكرس حالة من انعدام الثقة بالسلطة السياسية من قبل القوى السياسية الأخرى والشارع السياسي، حيث سيرون أن الخيار الديمقراطي للسلطة ليس خيارا مبدئيا، إنما هو خيار اضطراري قد تتخلى عنه في أي لحظة بالمستقبل. ومن جهة ثالثة فإن ربط الديمقراطية بالتوجهات و الإلزامات الخارجية(مثل التسوية ومقتضيات الصراع العربي الإسرائيلي)سيولد ديمقراطية مشوهة ومفصلة على قدِّ الخارج أي بما يتناسب مع مصالح الخارج وليست متناسبة مع الحاجات الداخلية للمجتمع ومستوى تطوره ونضجه. لكن ذلك لا يعني أنه ليس ثمة ارتباط بين متانة البنية الداخلية الديمقراطية للمجتمع وتعزيز الموقف التفاوضي في العلاقة مع الخارج، بل على العكس، لكن مع مراعاة أن تقوية البنية الداخلية للمجتمع بالديمقراطية يجب أن تتم وفقا لمقتضيات الداخل وليس الخارج، أي وفقا لحاجات المجتمع وتطوره وليس بما يتناسب مع مصالح الخارج أو بشكل دعائي للحصول على رضى الطرف الخارجي وكسب وده، خاصة بعد أن وجدنا أن المراهنة على أسلوب اللعب السياسي في الظروف الدولية لأجل تعزيز قدرات السلطات السياسية التفاوضية_على الرغم من أهمية هذا التكتيك_هو أسلوب له حدوده وسقفه الذي لا يمكن تَخَطِّيه ما لم يترافق بالأساس مع تمتين البنية الداخلية بالديمقراطية وتطوير مؤسسات المجتمع المدني. يجب أن ننظر لعملية التغيير في المجتمع كحاجة طبيعية ومنطقية على كافة الصعد و أولها في الجانب السياسي، لكن التغيير على الرغم من الحاجة الملحة والاضطرارية له_لابد أن يكون مضبوطا ومدروسا بما فيه الكفاية، وأن يتوافر على إدارة صحيحة تنقل المجتمع نقلة نوعية هادئة كي لاتصل مجتمعاتنا إلى حالة من الفوضى و التوهان وضياع البوصلة كالتي أصابت مجتمعات كثيرة.
إن الضمانات الأساسية كي لا تسير عملية التغيير الديمقراطي في غير الطريق الذي نريده لمجتمعنا هي من جانب أول توافر الإدارة السياسية الصحيحة على صعيد السلطة السياسية في المجتمع التي تمتلك المبادرة والقدرة في آن معا، بحيث لا يضيع الخط الوطني والقومي العام وبحيث لا يتم نسف الإنجازات الإيجابية السابقة في مختلف الصعد. ومن جانب ثان مشاركة أوسع الكوادر السياسية الممكنة في الوطن(كالأحزاب والمثقفين على اختلافهم و تنوعهم)عبر حوار وطني ديمقراطي ينبثق عنه برنامج للعمل الوطني، بحيث يمكن تجميع الطاقات وتوظيفها في الاتجاه الصحيح.
من واجبات السلطة السياسية ومهامها خلال هذه الفترة الانتقالية قيامها بمبادرة مدروسة وبعمل خبير ورفيع لأجل تعزيز الانتماء الوطني والقومي قبل وأثناء عملية التغيير الديمقراطي، من خلال مؤسسات الدولة المختلفة كالسينما والمسرح والتلفزيون والإعلام والصحافة والتربية والمراكز والندوات الثقافية، وهذا يتطلب فسح المجال لطاقات خبيرة دفينة في مجتمعنا العربي كي ترى طريقها إلى النور، ولاشك أن هذه المبادرات ستساهم في تكوين أرضية متينة ومناسبة للتوجه الديمقراطي، كما ستجنبنا هذه الخطوات التدريجية آلام وهزات الإصلاح عن طريق الصدمة.
أما الاعتقاد أنه من خلال بعض التغييرات والإصلاحات الاقتصادية الجزئية بإمكاننا تجاوز أزمة المجتمع والإجابة على التحديات الخارجية المحدقة به، فإنه_على أهميته_ابتعاد عن جوهر المشكل الرئيسي، أي المشكلة السياسية في المجتمع.
صحيح أن السياسة والاقتصاد في تفاعل دائم، معقد ومركب، لكن عند كل عمل معقد ومركب يجابهنا السؤال المعتاد:من أين نبدأ؟وهذا السؤال المفصلي تكون الإجابة عليه من خلال طرق البوابة السياسية وليس سواها، لأن التوجهات السياسية عندما تتوافر على ذهنية صحيحة ومدركة للأبعاد كافة سوف تصل تأثيراتها إلى جميع مجالات الحياة، وما التغيرات الاقتصادية إلا قرارات سياسية في الجوهر والأساس. فالسياسة هي المفصل الحقيقي، المحوري، الجوهري، الأساسي، الأول في التغيير ولابد أن يستتبعه تغيير في كافة المستويات، أي في طبيعة الوعي السائد، وفي الاقتصاد، والتعليم وغيره، فالنجاح على صعيد سياسي ضمانة للنجاح في بقية المستويات، والفشل في السياسة سوف ينتج عنه بالضرورة فوضى اقتصادية وخراب اجتماعي.
إن الأوضاع السياسية و الاقتصادية اليوم في كل قطر عربي تمر بمرحلة انتقالية تشكل السمة الأساسية لهذه الأوضاع، وتتميز هذه المرحلة الانتقالية بانفتاحها على احتمالات عديدة في عملية إعادة ترتيب وصياغة البيت الداخلي، أما السمة الثانية لهذه المرحلة فهي استشعار مجمل الشرائح السياسية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها بما فيها السلطة بضرورة عملية التغيير، لكن ينجم الخلاف في شكل التغيير وماهية جوهره الأساسي ودرجته ومستواه.
يجب أن تأخذ عملية التغيير بعين الاعتبار أيضا أن التقدم أصبحت له اليوم معايير عالمية متفق عليها، وهذه المعايير عبارة عن مؤشرات كمية و كيفية تعكس مدى التقدم في ميدان محدد أو عدة ميادين، ففي المجال المحوري أي الإطار السياسي هناك اليوم معايير تتعلق بمدى توفر الديمقراطية و التعددية واحترام حقوق الإنسان، ولا يمكن الادعاء بنجاح عملية التغيير والتقدم ما لم يتم الإنجاز على هذا الصعيد.
بكلمة أخرى لابد للتغيير الاجتماعي أن يضع في اعتباره المعايير الدولية في مختلف المجالات حتى يحاول الوصول إليها وفقا لخطط مدروسة قصيرة المدى ومتوسطة المدى وطويلة المدى في كافة الميادين.
إن هذه المعايير الدولية للتقدم تشكل مؤشرات موجهة لعملية التغيير تقتضي إبداعا ذاتيا من المجتمع للوصول إليها، أي أن هذه المؤشرات تشكل عناوين أساسية لعملية التغيير، أما التفاصيل والمشكلات والعقبات الداخلية فتقتضي عملا إبداعيا ينبع من داخل الوطن.
هذه الظروف الانتقالية التي تمر بها أقطارنا العربية اليوم تبدو مواتية أكثر لتعيد السلطات السياسية ترتيب أوضاعها من جديد وتطوير علاقتها بالمجتمع وبمؤسساته المدنية وبالتيارات السياسية المعارضة على نحو ديمقراطي. الظروف ملائمة اليوم أيضا كي تعيد القوى السياسية ومن ضمنها المعارضات السياسية هي الأخرى ترتيب أوضاعها من جديد فتنعقد إرادتها على تعزيز الديمقراطية داخل كل حزب سياسي حقا، لأن هذه الأحزاب لم تكن بعيدة تماما عن الآليات التي حكمت السلطات السياسية في الماضي على صعيد افتقادها للممارسة الديمقراطية في طرق اتخاذ القرارات وآليات التعامل مع الآراء المخالفة.
وإلا كيف نفسر وجود أحزاب سياسية إلى اليوم يسيطر على مقاليدها عائلة ما، أو مجموعة من سياسيي الحرس القديم لفترات طويلة من الزمن على الرغم من تكلس ذهنياتهم وتحجرها إزاء ما يجري في الواقع من تغيرات وتطورات. وكيف نفسر أيضا اعوجاج الخطاب السياسي لبعض الأحزاب ونزوعها إلى الغوغائية.
عندما تقدم الأحزاب السياسية على اختلاف ألوانها ومواقفها من السلطة السياسية على تعزيز التوجه الديمقراطي بداخلها وإضفاء صفات عقلانية وموضوعية على خطابها السياسي فإنها بذلك تؤكد مصداقية خطابها النقدي للممارسات السياسية للسلطات القائمة أما المعارضات السياسية التي تهشمت وتشرذمت وتكلست بعض أصنافها فقد آن لها أن تقتنع أيضا بأن تعزيزها الذاتي لمسألة عزلها عن المجتمع من قبل السلطات القائمة و انسحابها من مؤسسات المجتمع قد أودى بها إلى طرق مسدودة وغير فاعلة أو مؤثرة، حيث لا عمل حقيقي فاعل و منتج خارج مؤسسات الدولة و المجتمع، وبالتالي فإنها مدعوة أيضا لتقييم ذاتها من جديد و تجديد أساليب عملها والعمل على انغراسها في المجتمع و الدولة كي لا تتحول إلى معارضات معزولة و خارجة و مريضة ومزاجية إلى حد ما وكي تصل إلى ما يمكنها ويمكن السلطة في المجتمع من بناء علاقة سليمة على قاعدة أساسية وهي الاعتراف بوطنية الكل وبأن العمل السياسي الوطني حق وواجب لكافة القوى الموجودة في المجتمع.
لقد أصبح ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى الدعوة إلى نشوء تحالف وطني عريض في كل قطر عربي، بين كل قوى المجتمع الفاعلة والمؤثرة، السياسية والنقابية والمؤسسات الأهلية والمنتديات الثقافية والشخصيات الوطنية وجموع المثقفين في الوطن.
هذا التحالف سمته الأساسية وهدفه المحوري : الديمقراطية، أي " تحالف من أجل الديمقراطية ".
لكن هذا التحالف سيكون قاصرا ما لم تدفعه السلطة السياسية نحو الأمام، وتتشارك معه عبر التحاور على أساس من برنامج عمل وطني شامل. وهنا يجب أن ترى السلطة الوطنية أن مثل هذا التحالف من أجل الديمقراطية وإن كان سينال من بعض حظوظها في المجتمع، إلا أنه على المدى القريب والمتوسط والبعيد سوف يعزز من شرعيتها في البنية الاجتماعية، مثلما سيشكل هذا التحالف حليفا موضوعيا لها_ لكن ليس حليفاً تابعاً وهزيلاً_ في مجابهة القوى الظلامية والعناصر الفاسدة في الداخل من جهة وفي مواجهة القوى التي تريد انتهاك الوطن في الخارج من جهة ثانية.
هذا الحوار الوطني الواسع يأتي استجابة حقيقية لضرورة إطلاق عملية تغيير واسعة ومدروسة ومتأنية نشعر جميعا بأهميتها وأحقيتها في ظل هذه الظروف الانتقالية المفتوحة على جميع الاحتمالات. ولابد لنا جميعا كمواطنين ومؤسسات سياسية وثقافية أن نشارك بإيجابية فيها، بعقل منفتح على الآخر أولاً وفي ضوء حرص شديد على المصلحة العامة ثانياً وثالثاً التوجه نحو توظيف قدراتنا جميعا لصياغة وترتيب بيت الوطن الداخلي، كي نكون قادرين على الدخول بثقة ويقين إلى عالم الألفية الثالثة.
في سعينا لاستشعار أهمية هذا الحوار الوطني الواسع، لابد لنا جميعا من التخلص من عبء المرحلة الماضية وهذا لا يعني إلغاءها، بل يعني من جهة الاستفادة من أخطاء التجارب السابقة ومن جهة ثانية التخلص من المشاعر السلبية والاحتقان تجاه بعضنا بعضاً.
أي يجب ألا يتحول التاريخ إلى عبء يمنع قيام حالة حوارية بين السلطة وكافة القوى السياسية. بل على العكس يجب أن يشكل حافزاً مهما يستفيد منه الجميع لصياغة المستقبل، أما عندما يتحول التاريخ إلى عبء ثقيل يمنع التقدم والتطور فلا مناص من القول أن قراءتنا له قراءة صحيحة هي أمر مشكوك فيه.
إن التوجه نحو هذا الحوار الوطني الشامل للسلطة يجب ألا يتم فقط في لحظات الأزمات الانفجارية في الداخل تحت ظروف تغير واضح في ميزان القوى لغير صالحها أو استجابة للضغوط الخارجية أو كما يربط البعض ما بين مقتضيات التسوية والديمقراطية بل يجب أن يتحول الحوار الوطني إلى خيار أولي ومبدئي.
وهو في هذه المرحلة الحرجة يجب ألا يستند إلى توازن القوى المؤقت في داخل الوطن فيتحول الحوار الوطني عند ذلك إلى لقاء ما بين أقوياء وضعفاء، بل يجب أن يستند إلى إيمان استراتيجي صادق بالوطن وبوطنية الجميع وبأهمية دور الكل بحيث لا يكون هذا الحوار عملاً تكتيكياً ومؤقتاً، تحاول فيه الأطراف المختلفة الخروج من أزمتها الذاتية وتناسي الأزمة العامة أي أزمة الوطن والمجتمع.. بهذه القناعة الاستراتيجية الراسخة يصبح هذا الحوار الواسع تأسيساً حقيقياً لمجتمع سياسي وديمقراطي قادر على الدخول باطمئنان إلى المستقبل.
تلك هي الشروط العامة لنجاح هذا الملتقى الوطني الواسع ويبقى العنصر الأساسي فيها ضرورة وجود السلطة السياسية الوطنية ذات القدرة وذات المبادرة في آن معاً، لأجل نقل الوطن نقلاً هادئاً ومدروساً نتجنب فيه الفوضى الداخلية والتدخلات الخارجية، مثلما نتجنب ألا يكون هذا الانتقال مجرد تكرار للأزمات أو مجرد قفزات في الهواء لا تغير من طبائع الأمور شيئاً.

 

 

إيلاف خاص








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمجد فريد :-الحرب في السودان تجري بين طرفين يتفاوتان في السو


.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي




.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض


.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا




.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24