الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما تأثير التصوير البياني على أخيلة وتشبيهات واستعارات الكاتب في رسائل المراثي؟ الحلقة الرابعة – الجزء الأول من -الكتابة قطب الأدب وفدامة العقول

فاطمة الفلاحي
(Fatima Alfalahi)

2019 / 4 / 17
مقابلات و حوارات


حوارنا مع الأديب هاشم مطر في "بؤرة ضوء" .

تحتل رسائل الرثاء والتعازي منزلة رفيعة في الرسائل الإخوانية، فهي تنمُ عن إحساس صادق بالمصاب ، وتصور لواعج النفس المتصدعة بوقع الفجيعة تصويرًا دقيقًا ..
المعروف أن أغلب رسائل الرثاء والتعازي تأتي في ثلاث فواصل هي: الندب والرثاء والتعزية، وقد لايخلو بعضها من المقدمة الوعظية والتي تصور تفاهة الدنيا ، أما في "شيء يشبه الحكايا" ، فمرثية هاشم مطر ، كانت غير، فمقدمتها بدأت بتفاصيل محنته، ومتنها كان حكاية تضمنت الاستعارات والتشبيهات ، وخاتمتها كانت الفواصل الثلاث: الندب والرثاء والتعزية؛ كلها مضافًا إليها خصائص القصة من البداية، الشخوص، العقدة، النهاية التي عزى فيها نفسه بموت رفيقه المخلص قائلًا من متن النص:
"استمرت علاقتي بـ "عادل مراد" كصديق رائع حتى عندما أصبح سفيرًا للعراق في رومانيا، ولابد من استذكار المرحوم "فرهاد فيلي" الذي أوصلني به بعد فترة انقطاع، لكنني لم التقه بعد لقائي به في دمشق. ولكننا كنا نتواصل ولنا مشتركات أخرى ربما آتي عليها مستقبلًا، لا أعرف، لكنني أقول إنه كان إنسانًا كبيرًا، سياسيًا بارعًا ومناضلًا ميدانيًا، وشعبيًا يحبه الناس، ومربيًا كبيرًا بقلب كبير نابض بالمحبة، ولن أنسى أن أُحيي أنا ورفيقتي منيرة عائلته الكريمة، زوجته أم جين التي استقبلتنا في بيتها في طهران ودمشق، وابنته الصغيرة الحبيبة جين.
لا أعرف إن كنت كتبت شهادة عن "عادل" ، أم إنني رثيته، لكنني أعلم جيدًا، إنّه غادر وأمام ناظريه صورة عراق واحد، جميلٍ بقومياته وسعيدٍ بواقعه ومسقبل أجياله. فلا نقول له وداعًا لأن أمثال عادل مراد لا يغادرون."

سؤالي الرابع لهاشم مطر:
1. "ما تأثير التصوير البياني على أخيلة وتشبيهات واستعارات الكاتب في رسائل المراثي" في "شيء يشبه الحكايا"؟

هاشم مطر يقول :
الكلمة تفتح الكنز! تمامًا كما في «افتح يا سمسم» ومن دونها لا فائدة من الكنز ولا عين ستنظره لترى جمال وروعة محتوياته، يقول جبران «أعطني عينًا ترى الجمال وخذ كنوزي»، هكذا هو الأمر ببساطة. فلا بد إذن أن ننتبه أولًا إلى خزائن وفرائد المصادر المختلفة التي أنتجت، وما زالت تتلاقح وتنتج مستويات بلاغية وبيانية هامة وبنفس الوقت مترابطة ومشغولة كما ظفائر وقلائد حية تتجدد فيها العلوم والفنون الكلامية على حد سواء. أما لماذا الفنون وليس الفن، فذلك لأنه يقع في حقول معرفية مختلفة، فالرياضيات والفيزياء مثلًا لهما بنية كلامية رمزية، ومع الزمن أصبح الناتج الكلامي يذهب إلى التوالدية المبهرة في صياغة البيان الشاعري الملهم، مع التصرف من حيث والإسهاب في الشرح أو قلته وندرته. إذن لو لا تلك الكنوز وتلك العيون العاشقة المكتشفة لسر صياغة قلائد الكنز لما وصلت فنون التعبير في اللغة إلى حد لا تكتفي الكتابة به ذاتها والتي «ينبغي النظر إليها في علاقتها بالروح التي ابتدعتها...» حسب د. صلاح فضل في كتابه علم الأسلوب.

في كتاب "دلالة الألفاظ" لمؤلفه إبراهيم أنيس نرى هذا التعبير المثير «..في السنين الأخيرة بدأ الدارسون يتجهون إلى العوامل الخارجية ذات الأثر في الألفاظ من إنسانية واجتماعية، وأخذوا يتساءلون عن الأسباب التي جعلت بعض الكلمات تنكمش في دلالتها، وأخرى تنحدر بعد سموها، وأرجعوا كل هذا إلى عوامل ودوافع مرّت في تاريخ الأمم، وأدت إلى مثل هذا التطور والتأثير».

أقول في هذا السياق أن الباحثين والعلماء عكفوا منذ القدم بدارسة اللفظ الخاص بذاته لوحده، وفي وقت متأخر جعل ينحو منحىً تجريبيًا ضمن معايير السيميائية من حيث تداخل الألفاظ ودرجة تأثرها بالمحيط لإنتاج دافع أكثر قوة، والقوة هنا هو التعبير الحامل للصورة المتخيلة أو المنجزة ذهنيًا. فنكون قد عقدنا رابط شفاف بين الكلام والخيال والمنتج، وبنفس السياق الذي أشرتِ إليه عن الطبيعة الإخوانية والرثائية التي وصلتنا من بواطن التراث واستمرت على نمطها فنُسج على منوالها الكثير اللاحق. وعندما نتحدث، وتحدثنا فعلًا، في الحلقات السابقة عن مفهوم اُعلّم عليه الآن كاصطلاح هو (تحرير اللغة) فهذا يعني أننا في واقع المغامرة التي ستنقل استخدامات اللغة الشرطية إلى نوع أشرتي إليه كذلك في تقديمك كأن يقع في تشابه مع البناء القصصي، وحتى غيره. هذا النوع من الكتابة ليس صناعة مزعومة أو لياً آليا أو ذهنيًا كما وأن توضع النظرية ويتوجب على الواقع مسايرتها، وبجرأة أخرى أقول: إن الكثير من (التعاليم) الدينية والنظم الاجتماعية جاءت في هذا السياق، ولعلنا نجد في المقدس منها ضالتنا. لكنه مع تطور الكتابة وفنونها هو محكم التأثر والثأثير بما انتهت إليه الحال، بل لم تنته، من صياغات متجددة لكل العلوم الوضعية منها والإنسانية على حد سواء بعد جفافها لزمن طويل جدًا.

نورد مثالًا نبتعد فيه قليلًا عن الأدب ثم نعود؛ ما فائدة فيزياء (الكمّ) مع حضور النظرية النسبية مثلًا؟ إنها استجابة منطقية لمآل وانتباهات واحتياجات بحثية عملية صرفة، تستدعي حيازتنا الآنية على سحرها، لذلك نحيا الآن معها بكل منتجات العصر الهائلة والتي لا نستطيع التخلي عنها بأي حال من الأحوال. وهكذا الحال مع الأدب، وخصوصًا التجربة الغربية منه التي توزعت في سياقات وأنماط مختلفة واستولدت رؤى ذات ملامح ظلت غريبة فترة من الزمن نظرًا لحداثتها، حتى أصبحت واحدة من اللبنات الأساسية للأدب، وإذا ما دعت الضرورة لذكر شهادة سأتركها لأي مطلع فيورد الكثير من الأمثلة.

دعيني هنا استطرد بعض الشيء، ما علاقة مفكر مثل ميشيل فوكو بأساليب التسويق والقيادة في النظريات الحديثة التي تُدرّس في الجامعات الغربية؟ أليس هذا مثير.. ولماذا تأسست مدرسة فرانكفورت الفلسفية في وقت كانت الماركسية في عنفوانها، وكيف طفرت إلى الوجود بقوة تجارب السوريالية والوجودية بعد الحرب العالمية الثانية؟. بالطبع هناك مسببات كثيرة، تقع في خانة القنوط والرغبة بالمواصلة وتجاوز الواقع، أهمها استنهاض التداعي الحر لدى فرويد. وهنا بالذات تكمن معظم المساهمات التي غيرت وجه العالم وساعدته على ولادة توأمه طبيعيًا وليس قسريًا او قيصريًا. فمن الطبيعي إذن أن نستولد من الطاقة البيانية مكنونات وموديل جديد، وهذا يقع في مجال الدلائل والصور، ومن ثم تغيير الأنماط، أو في أقل تأثير أحداث شرخ فيها. ذلك لقيمة وقوة الأسئلة في الزمن الصعب، ومن دون زمن صعب منتج للأسئلة لا تكون هناك فترة استرخاء لاستخراج رؤى جديدة، ولا حتى حوار للشائع والمتزمت منها، وليس في ذلك آية عقوق، فلسنا هنا في حرب مع القديم بقدر ما نستنهضه على وفق رؤى جديدة تتلائم وطبيعة الوجود الذي لا يتأخر بفرض نفسه.
أما على صعيد التجربة الشخصية فلا أزعم أنني أقوم بعمل كبير، وليس في هذا تواضع، إنما تأخذ الدراية الأكاديمية دورها وفعلها لتحقيق المنتج الذهني. بالمناسبة، لا يفترض بهذا القول أن يكون المبدع خريجًا أو حاملًا شهادة، إنما هو مرتبط إلى أبعد حد بقيم التراكم المعرفي، وهذا لا يكفي من دون مغامرة حسية تتخذ من المعارف قاعدة لها وتطلق بالمتأمل من الصور متعة الانبهار والتركيب المنضبط بمعنى الحفاظ على بكورة دائمة منتظرة.
لأسأل سؤالًا: ما قيمة ترميم الصورة بعد العبث بها؟ تلك هي بكورة المنظر الجميل سواء أن كان طبيعيًا أو حسيًا تأمليًا منتظرًا ، يجري وضعه بسلاسة على شكل رسم أو موسيقى أو كتابة أو آية حرفية أخرى، كالجمناستك والباليه إلى ما إلى ذلك. فالتصوير ليس بمقدوره أن يكون بيانيًا، إن لم يمتلك صفة العطاء والكرم، وهي قوة أخاذة في لوحة أو مشهد فيلمي أو مقطع كتابي محدد، وعليه تكون فكرة التأثير شرطًا أساسيًا متبادلًا يقع بين حس الإصابة والشيء المنتخب. أما منتج النص فما عليه إلا أن يكون مستعدًا لذلك الانبهار الذي سيتدفق عنه نصه، ليس عارضًا بالقطع، إنما ذا طبيعة انسيابية متواصلة. كثير من الأشعار المغناة تظهر روعتها بمقطع محدد، ولكن الحال لا يستمر مع المقاطع الأخرى! ذلك هو أن الكاتب لا يستمتع بلحظة الانبهار الملهمة فيقطعها على نفسه كما وأنه عثر على كنزه في جملة بيانية واحدة. كذلك نجده في جودة المقدمات الموسيقية للأغنية التي لا نرى تواصلها مع متنها الأساس، وهكذا الأمر في شتى مجالات الإبداع. إذن قوة التأثير تقع في استدامة اللحظة حتى تصبح يقضتها، كما عالجناه في الحلقة السابقة، باقية في المركز الإرادي المتأهب دائمًا لكل ما سيحدث تلقائيًا. فنحن لا نحتاج إلى مراقبة ذهنية للعمل الذي يحصل في مشغلنا الإبداعي، كما مضغنا الطعام فلا يحتاج منا مراقبة المعدة، أو التنفس في مراقبة الشهيق والزفير، إنها تحدث فنترك لها حرية العمل حسب.

أما حلى التزيين من البدائع ما هو مخبوء وما هو ضامر المعنى وظاهره، وما يقع تحت جناح الكناية والألفاظ، فهو على المستوى الحداثي إنظمَّ إلى وسائل التعبير كعناصر استدامة حتى يبدو النص منظومة حسية متكاملة، بمعنى غير مقتطع هائم بجمالية المقطع بذاته حسب، أو علوّه لسبب من الأسباب، وعلى ذلك تتدفق الصور البيانية التي بدأتِ بها حدثيك وانطوت على شكل سؤال يكشف الفضول بتعريف المصطلح وتأثير الحالة الحسية والجمالية ويزيد من تأثيرها على الكاتب أولًا لتنتقل بأقل من هدوء إلى القارئ. وهنا نتوقف عند فكرة تشذيب النص من فروع الفروع كما شجرة ومن دون ذلك الفعل يفقد النص جماليته أو بعض منها، إضافة إلى الضخ الموزع لنابتٍ جديد فقط. ويمكننا إضافة الجزالة بالنطق وهي قوة المفردة وحال وقوعها بزمن غير مترتبك، فأورد مثالًا قرآنيًا ورد في "سورة مريم" وهي سورة زاخرة بفن التصوير: "قالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا "(20) فجاءت الإجابة بكلمة واحده لا غير: (قَالَ كَذَٰلِك )، فأظهرت جانب آخر من القول وهو القوة إضافة للجمالية، وبجانبه الحديث ألفت النظر لمقطع (إبريل) من قصيدة أليوت الشهيرة الأرض اليباب فحملت الصورة قوة وجمالية لا يمكن مقاومة تأثيرها مهما كان المستوى الثقافي للمتلقي.

وطالما استعنتِ بنصي «شيء يشبه الحكايا» الذي استخدمتُ التشبيه الظاهر في عنوانه كأبرز استخدامات البيان، فهو نص جاور هذا المبنى في تعميق الإدراك الحسي، أقول ذلك بتواضع أيضًا، فجاء الرثاء كصياغة منتهية غير عابثة بالتفصيل والأسباب، جاء من بيئة الحياة بشقيها العذوبة والعذاب، الوصل والفراق، التأني والمغامرة، السلاسة والقوة. ومع جمع النقائض بطريقة ذاهبة لكشفٍ آخر بمعنى عدم الإكتفاء، يكون التصوير البياني بأنواعه قد أحدث فعلته وخرج من سياق النص لإصابة المعنى الآخر وهو خارج فكرة الرثاء بحد ذاتها. فنحن نشتكي في الحياة لكي لا نشعر بالضجر والاغتراب، أما في الأدب فالشكوى هي وحدة بناء، وتأمل، وصراع ينتج من لحظة الكآبة إلى ما هو رحب وفسيح، وأفضل ما استشهد به ما قالته "أناسيس نن" في يومياتها وهي تقارن الأدب المُنتج بغيره فتقول عن الذين «...لم يتحوّلوا إلى غاضبين أو أناساً عدوانيين... إذ يمكن تحويل الغيظ والغضب إلى أعمال أدبية، وإلى حنو إنساني». وبهذا تنفتح النصوص وتصبح المغاليق والارتاج عوامل مساهمة لإنجاز النص، فأي نوع من الكتابة يحمل في ثناياه حزنًا شفيفًا حتى في حال السعادة لكنه محمّل بطاقة شديدة الحسية تهدف إلى تحرير النص ذاته من رتابة حزنه التي يتقنها الجميع، إنما كآبة النص بتصويره وبناءه ومحسناته الآخرى يخرج إلى عالم آخر كما وهو يلهو بألعاب طفولية محببة، فتبدو الرسالة مطرزة كأيقونة أو (منمنمة فارسية) أو كالكرافية من خط النسخ. وفي هكذا نصوص يتوجب الإنتباه إلى واحد من أهم الشروط التي تفوت غالبًا على الكاتب، فعليه تقدير المساحة التي يعمل فيها، فلا يتأخر بتطويع اليومي والدارج لأنه مبهج وصريح وسهل الإصابة، ويحتوي على دلائل وصور عميقة، وهذا ما نحن بصدده، مع عدم الإيغال باستخدامه، فالإعتناء بحلقة الوصل بين لغتين أو بين لهجة ولغة هو من أصعب أنواع السرد ذلك لتميزه بصفة زئبقية لو فلتت فأنها ذهبت بالنص كله. فهنا الصناعة كما يقول ماركيز (صب اسمنتي) لا تقبل الاستبدال، فما عليك إلا ترك النص بمجمله، وأرجو أن تفعل ذلك من دون تردد وعناء ومن دون ندم لأنك ستستعيد العافية بعد وقت قصير بنص جديد متقن ورائع، يجعلك تبتسم عند مقارنته بنصك القديم، وهذا ما يواجهه أي مبدع جريء.


انتظرونا عند "ما تأثير التصوير البياني على أخيلة وتشبيهات واستعارات الكاتب في رسائل المراثي" سنان ينظر من خرم الإبرة!؟" الجزء الثاني من الحلقة الرابعة من "الكتابة قطب الأدب وفدامة العقول ، ومن صناعة الترسَّل– أدب الرسائل-" حوارنا مع الأديب هاشم مطر في"بؤرة ضوء"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء