الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صدام الحضارات و حرّاس الثقافات

مريم الحسن

2019 / 4 / 29
العولمة وتطورات العالم المعاصر


I المقدمة
من شبه المؤكد بل من البديهي ربما أن أية محاولة لبحث أو تقديم موضوع الوساطة الثقافية لا بد أن يستوجب في الوقت عينه استحضار منظومة القيم و المفاهيم البانية له, لما يُمثله هذا المصطلح من مركبٍ لغوي يُراد به التدليل على مفهوم وساطي ذي بعدين واحدهما إجتماعي و الآخر فكري. خاصة أنه يشمل في ذاته مفاهيم كثيرة أساسية كالثقافة و المجتمع و الهوية و الانتماء و الفرد و بالتالي علاقة هذا الفرد بهذه المفاهيم كلها و مدى استيعابه لقيمِها و لتأثيرها عليه و على علاقته بهويته الشخصية و الوطنية و سلوكه الإجتماعي ككائنٍ اجتماعي مُنتمي إلى جماعة معينة أو إلى مجتمع بعينه أو إلى أمةٍ بذاتها.

و لكي نفهم أهمية الوساطة الثقافية و دورها في المجتمع لا بد لنا أولاً من أن ندرس و نفهم المفاهيم التي تشملها هذه العملية الوساطية حتى نستطيع بعدها استيعاب أهدافها و تقييم أدائها لتطوير حضورها أو الترويج لمهمتها بين الأفراد المعنيين بها أولاً و أخيراً أي جمهور و المجتمع الذي تستهدفه خطتها فهو المعني الأول في دعم استراتيجية عملها بشكل صحيح و سليم عبر تفاعله معها و استجابته لأهدافها.

و على ما يبدو فإن الوساطة الثقافية باتت تُعتبر حاجة ضرورية لاستمرار و بقاء الهوية الثقافية في المجتمعات , فهي المؤمنة لعميلة التواصل القائمة و المستمرة بين الفرد و المجتمع, و من خلالها يتم رسم الهوية الإجتماعية و الوطنية و تعزيزها, و بواسطتها تتمأسس ثقافة الإنتماء لتترسخ جذورها بشكل أعمق في نفوس أفراد المجتمع الواحد, و بها تتوثق أواصر الارتباطات فيما بينهم , لا كأفراد تربطهم قرابة دم أو عِرق بل كأفراد تجمع فيما بينهم قرابة الوحدة الثقافية , و التشابك أو التداخل الثقافي اللذان لا يتحصل لهما النمو و التطور ككيان فكري أو مؤسساتي هادف يسعى لتمتين حضور الثقافة بين أفراد المجتمع الحاضن لقيمها إلا عبر الوسائط الثقافية المتنوعة تلك التي يساهم الأفراد أنفسهم في صناعتها و إنتاجها و قولبتها لتتناغم و تتماهى في تشكلها و رمزيتها مع ترابطهم الإجتماعي الذي أنشأته و نمّته ثقافة الإنتماء المشترك إلى الحيز الثقافي نفسه.

و كما رأينا في تعريفنا الموجز و تقديمنا المختصر لمفهوم الوساطة الثقافية, فإن عِماد عملها و محور تركيبها يدور حول مفاهيم تتعلق بالفرد و المجتمع و علاقة هذا الثنائي بالثقافة و بدورها كوسيط يضمن استمرارية استقرار و وجود كلٍ منهما. و بما أن ليس هناك مجتمع من دون أفراد و من دون هوية مشتركة أو ثقافة مشتركة تربط هؤلاء الأفراد بمصير المجتمع الواحد و الإنتماء الواحد, كان من البديهي أن يجتذب مفهوم الثقافة اهتمام علماء الإجتماع و الأنثروبولوجيا لدراسته في سياق دراستهم لسيرة الإنسان و المجتمعات, و ذلك لفهمه و لفهم دوره, و لفهم علاقة هذا الدور بتطور المجتمعات و الجماعات, و بتطور الإنسان و تقدّمه , و بتأثير الثقافة و الهوية و الإنتماء الجماعي على سلوكيات الفرد في المجتمع و على تفاعله التواصلي, و مدى علاقة نوع و شكل مستوى الثقافة بتقدم الحضارات الإنسانية و بتأخرها أو حتى بانتهائها وصولاً إلى اندثارها.

و بما أن مفهوم الثقافة بما يحتويه من قيم و أبعاد متعددة هو المحور الرئيس الذي تدور حوله عملية الوساطة الثقافية, و بما أن الحضارة تُعتبر أول المتأثرين نهوضاً أو انحطاطاً بمستوى التقدم أو التخلف الثقافي الذي يُعتبر المُشكّل الأول لوَعي الإنسان الفردي و أيضاً للا وعيه الجمعي, رأينا أنه من المفيد تناول هذين المفهومين عبر تقديمهما و تعريفهما في القسم الأول والثاني من هذا البحث, لنتمكن من ثُم بالتالي من مقابلتهما في القسم الثالث منه, لنصل في ختامه أي في القسم الرابع منه إلى تعريف فكرة الوساطة الثقافية و الأسباب التي أدّت إلى نشوئها و الأهداف المرجوة منها, و التي برأينا لم تكن لترى النور أو هذا الحض الحثيث على تفعيلها و تطويرها من قِبل بعض الجهات المحلية المسؤولة و الواعية و المنظمات العالمية المعنية بها, و ذلك عبر محاولات مأسستها و دعمها حكومياً في البلدان التي أدركت أهمية دورها و ضرورة وجودها فيها, لولا هذه القراءة التاريخية المتمعنة لتاريخية الصراع المستمر بين مفهومي الثقافة و الحضارة و تقابلهما ضدياً و تلازمها مسارياً, باعتبار أن الحضارة تُعتبر توأم الثقافة من حيث النشأة و التطور, لكنها أيضاً تُعتبر منافستها و غريمتها في رحلة تطور المجتمعات الإنسانية و في معركة الصراع الدائرة بينهما على عرش الهيمنة و بسط النفوذ على المنظومات الأخلاقيات في المجتمعات الإنسانية و ذلك من خلال جبهتين واحدتها تدعم الثقافات المحلية و تدعو إلى حمايتها من محاولات هيمنة قوى الحضارة المادية عليها عبر تشبثها بنُظم قيَمِها الروحية مهما نافت أفكار هذه القيم المنطق و ظهر فيها من سلبيات و أخرى تناصر مبادئ القيم الحضارية و منهج الحضارة الكونية و تُروّج لأهمية دورها في رحلة الترقي الإنساني حتى لو أتى هذا الهدف على حساب الثقافات المحلية و ما تختزنه في منظوماتها من قِيَم وجدانية و روحية تُعدُّ أسُّ و غاية الهدف من الحياة لمن يؤمن بها و يعتنق أيديولوجياتها.

II الحضارة

II.1 تقديم

بما أن استحضار مفهوم الثقافة في أي تناولٍ بحثي أو نقاشي غالباً ما يستجلب معه أيضاً مفهوم الحضارة الذي ما انفك مرتبطاً بمفهوم الثقافة و لصيقاً به منذ نشأتهما معاً كمفهومين متداوَلَين بين العامة و النخبة و الدارسين و المنظّرين ذلك لأن غالباً ما يتم استخدامهما معاً للإشارة إلى مدى تقدم و تأخر أو تأثير و تأثر أي أمةٍ من الأمم بهما , أو لتقدير و تقييم نسبة البدائية أو الرُقي عند أي شعب من الشعوب , وجدنا أنه من الأفضل أن نبتدئ أولاً بتقديم تعريفاً موجزاً لمفهوم الحضارة قبل أن نتناول مسألة تقديم الثقافة و تعريفها, و ذلك بهدف التمييز بين هذين المفهومين و إظهار الفوارق الفعلية بينهما.

خاصة و أن الحضارة كانت تُعتبر تاريخياً من قبل المفكرين الرمانطيقيين المثاليين, لا سيما في القرنين الثامن العشر و التاسع عشر, النقيض المقابل لفكرة الثقافة و الخطر الأول المُهَدِّد لها. حيث أنهم رأوا في ديناميتها السريعة ,المتمثلة في التقدم السريع لثالوث أركانها : العلوم و التقنية و الاقتصاد, احتمالاً ذي حظوظٍ كبيرة لهيمنة القوى المادية فيها على الطبيعة الروحية التي تتميز بها الثقافة عادةً, و التي من الممكن في حال توسعها و انتشارها أو عولمتها أن تقضي تدريجياً على الهويات الثقافية المحلية ذات الطبيعة التجريدية الرمزية الهشّة القابلة للذوبان سريعاً في جسد الحضارة المادي الذي غالباً ما يُروّج لنفسه مشرعناً تغلغله و انتشاره في المجتمعات على حساب الثقافات من خلال استخدامه لجاذبية التنوير المعرفي و منتوجات التقدم العلمي و التكنولوجي , و الوعود بإمكانية تحسين مستوى المنفعة الإقتصادية في المجتمعات المنجذبة إليه, و من خلال الأفكار الحاثة على ضرورة التغيير و السعي الدؤوب نحو التطوّر و الحداثة.

II.2 جذور اللفظ اللغوية

في أوروبا قبل القرن الثامن عشر كان لفظ civilisé (متحضّر) مرادف للفظ policé (مهذب) المشتق من لفظ police الذي يعني (إطاعة القانون). و كان يستخدم بالتضاد مع ألفاظ مثل sauvage (متوحش) و barbarian (بربري) اللذان كانا يُستخدمان للإشارة إلى من يفتقدون التحضر و الكياسة و الحكمة الإدارية.1

أما في الثقافة العربية فإن كلمة "الحضارة" من المنظور الإجتماعي تعني نقيض كلمة "البداوة". و الحضري هو الإنسان الذي يسكن المدن و يعمرّها عكس الإنسان البدوي الدائم الترحال و الانتقال من مكان إلى آخر من دون سكنٍ ثابت و ارتباطٍ دائمٍ بموطنٍ واحد يستقر فيه و ذلك لعدة أسباب متعلقة بأسلوب حياة البدوي المرتبط ارتباطاً وثيقاُ بميله إلى الحرية و تعلّقه القوي بالطبيعة و بتفاعله معها في إطار علاقة خاصة خاضعة لتقلبات الظروف البيئية و تتحكم بها عوامل أخرى جذورها إجماعية أو إقتصادية. لذا نرى أن البدوي عبر تاريخه سيرته كان دائم التنقل إما طلباً للأمان هرباً من اضطهاد أو من ثأر ما يُلاحقه, أما سعياً وراء مناخاً أفضل, و ماءً أوفر, و كلأ جيد له و لما يملكه من ماشية و دواب أو أنعام , إما رغبةً بالتجارة مع القبائل الأخرى المتنقلة مثله أو مع تلك التي اختارت الاستقرار في المدن وعمارتها.

أما لغوياً فقد جاء تعريف " الحضارة" في معجم مختار الصحيح لواضعه محمد بن أبي بكر الرازي المتوفي سنة 1268 ميلادية على الشكل التالي :

(حَضْرَةُ) الرَّجُلِ قُرْبُهُ وَفِنَاؤُهُ.
وَكَلَّمَهُ بِحَضْرَةِ فُلَانٍ وَ(بِمَحْضَرِ) فُلَانٍ أَيْ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ.
وَ(الْحَضَرُ) بِفَتْحَتَيْنِ خِلَافُ الْبَدْوِ.
وَ(الْمَحْضَرُ) السِّجِلُّ.
وَ(الْحَاضِرُ) ضِدُّ الْبَادِي وَ(الْحَاضِرَةُ) ضِدُّ الْبَادِيَةِ وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ، وَالْبَادِيَةُ ضِدُّهَا.
يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ وَفُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَفُلَانٌ (حَضَرِيٌّ) وَفُلَانٌ بَدَوِيٌّ وَفُلَانٌ (حَاضِرٌ) بِمَوْضِعِ كَذَا أَيْ مُقِيمٌ بِهِ.
وَ(الْحِضَارَةُ) بِالْكَسْرِ الْإِقَامَةُ فِي الْحَضَرِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ بِالْفَتْحِ.
وَ(الْحُضُورُ) ضِدُّ الْغَيْبَةِ وَبَابُهُ دَخَلَ.
وَحَكَى الْفَرَّاءُ: (حَضِرَ) بِالْكَسْرِ لُغَةٌ فِيهِ يُقَالُ: حَضِرَ الْقَاضِيَ امْرَأَةٌ.
قَالَ: وَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ يَحْضُرُ بِالضَّمِّ.
قُلْتُ: وَفِي الدِّيوَانِ جَعَلَ هَذِهِ اللُّغَةَ مِنْ بَابِ فَعَلَ يَفْعُلُ.
وَيُقَالُ: اللَّبَنُ (مُحْتَضَرٌ) وَ(مَحْضُورٌ) فَغَطِّ إِنَاءَكَ، أَيْ كَثِيرُ الْآفَةِ، وَإِنَّ الْجِنَّ تَحْضُرُهُ.
وَالْكُنُفُ مَحْضُورَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] أَيْ أَنْ تُصِيبَنِي الشَّيَاطِينُ بِسُوءٍ.
وَقَوْمٌ (حُضُورٌ) أَيْ حَاضِرُونَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ.

II.3 التعريف الإجتماعي لمفهوم لحضارة

إذاً و كما تبيّن لنا من تعريفات كلمة حضارة نفهم أن "الحضري" هو توصيف لفرد يعيش مع أفراد آخرين في مجتمع عمراني و مستقر. و انطلاقاً من هذا الواقع الإجتماعي المرتبط بأرضٍ ثابتة, و أسلوب الحياة المستقر الذي يعتمد أساساً له مبدأ تقبل الفرد الساكن فيه لجميع تقلبات ظروف المكان الواحد (المناخية و الأمنية و البيئية), و هذا التأقلم شبه المستقر و الدائم مع إمكانياته الإنتاجية و الاقتصادية الخاضعة لحكم أمر الواقع,الجغرافي و البيئي, و الحاجة إلى التفاعل الفكري و الإنساني مع تطلعات و رغبات جميع أفراده الساعين لأفضل شكل ممكن من العلاقات الإجتماعية الممكنة و المستقرة و المنتظمة بأعراف و تقاليد و معتقدات مشتركة رابطة فيما بينهم عبر بوتقة من أواصر اللحمة الإجتماعية و الثقافية التي تشدهم جميعاً إلى واقع انتمائهم إلى الحيز الجغرافي ذاته و الواقع الاجتماعي المشترك نفسه , تقع على عاتق الفرد المتحضر المسؤوليات أو المهمات التالية:
أولاً : مسؤولية إيجاد القوانين و التشريعات التي بها تنتظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد بما يخدم تلاحمهم و ترابطهم.
ثانياً : عمارة مجتمعه و تحسينه و إدارة موارده بما يخدم صالح الجماعة ككل.
ثالثاً :أيجاد الوسائل و خلق التقنيات التي تسهّل الحياة داخل المجتمع و تطويرها لتتناسب مع حاجات أفراده
رابعاً: المحافظة على دوام المجتمع و تماسكه و ازدهاره عبر تمكينه إقتصادياً بدوام استمرار حركة الزراعة و الصناعة و التبادل التجاري فيه و تمكينه نظامياً بدوام حركة تطوير و إصلاح قوانينه و تشريعاته.
خامساً: حمايته من الاعتداءات الخارجية و تحصينه معرفياُ و اقتصادياً و تشريعياً لمنع انهياره أو انحلاله.

بالمحصلة على الفرد المتحضر فعل كل ما يحقق لمجتمعه فرص استمرار بقاء الحياة نابضة فيه, و تنميته و تطويره بما يخدم دوام ازدهاره و تحصين منعته و تهيئته بكل أسباب نشوء الدولة و تأسيسها. أي بمعنى آخر, على المتحضر أن يجعل من مجتمعه مجتمعاً محكوماً بقانونٍ مقبولٍ من قِبل جميع أفراده يُديرُهم و يرعاهم و يُنظّم علاقاتهم الإجتماعية بقواعد الحقوق و الواجبات الصريحة و العادلة. و على المتحضر أيضاً تقوية موطنه اجتماعياً عبر إيجاد المؤسسات الناظمة لنشاطات أفراده الثقافية و الإجتماعية و التشريعية, و تحصينه أمنياً و إقتصادياً بالابتكارات و التقنيات و تطويرها بالتوازي مع تطوير العلوم و المعارف و التشريعات و القوانين بما يخدم بقاءه و ازدهاره و استمرار دوامه وتحقيق رخاء أفراده و بالتالي تمسكهم به و المحافظة عليه.أي أن على الفرد المتحضر تأمين الشروط اللازمة لنشوء دولة القانون التي تُعبر النواة الأولى في جسد الحضارة و التي منها ستتوالد و عبرها ستطور القيم الحضارية المتعارف عليها في عصرنا الحديث.

و هنا لربما يقول قائل منا أن تأسيس الدول و تنصيب القانون حاكماً فيها لا يعني بالضرورة تحقيقها لشروط الحضارة و تمتعها بأسباب الرقي الحضاري و هذا صحيح, فلكي تتحقق شروط الحضارة في أي مجتمع كان على القانون الحاكم فيها أن يترافق مع التقدم العلمي و المعرفي و يتطور بشكل دائم ليتلاءم مع تطور إنسانه المعرفي و العلمي بما يخدم ازدهار مجتمعه و رخاءه و تحقيق الأمان الإجتماعي فيه. و لعل أفضل من بيّن كيفية تقييم المستوى الحضاري في المجتمعات و إمكانية تحققه فيها و تطويرها حضارياً, ما قدمه و بيّنه العالم و الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بايكون في قوله أن " الحضارة أو ( التنظيم المتمدن للجنس البشري ) يتقدم فقط حين يتلاءم نظامه الاجتماعي مع النظام الكوني" و أضاف عن كيفية تقييم مستوى الحضارة في المجتمعات " يمكننا تقييم و معرفة مستوى التقدم في أي حضارة ما, من خلال قياس حركة تأثير الإكتشافات العلمية على تشريعاتها" و بيّن أن السبيل إلى التحضر لا يتحقق إلا عن طريق فهم عمل الطبيعة و الكون و عبر التقدم في العلوم الطبيعية و الفيزياء تحديداً, فقال" لإيجاد مواطنين متحضرين في العالم ( و هذا هو المعنى الأصلي و الهدف من مفهوم الحضارة ) يجب على قانون المدينة أن يتشابه مع قانون الطبيعة كصورة طبق الأصل, لأن الطبيعة بما هي أكثر ثباتاً في تأكيداتها من الإنسان في أوهامه, سترد إلى العدم كل أوهام الهمج الناكرين لقوانين الفيزياء " 2

III الثقافة

لعلّ أقدم تعريف للفظة و جذر كلمة "ثقافة" في اللغة العربية ما قدّمه أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي, المولود في عُمان سنة 718 م و المتوفي في البصرة سنة 790 م, في معجمه اللغوي كتاب "العين" , حيثُ فيه عرّف فعل ثقف و كلمة ثقافة متسلسلاً في تقديمهما كالتالي :
ثقف: قال أعرابي: إني لَثَقْفٌ لَقْفٌ راوٍ رامٍ شاعرٌ.
وثَفِقْتُ فلانًا في موضع كذا أي أخذناه ثَقفًاً.
وثقيفٌ: حي من قيس.
وخلٌّ ثقيفٌ قد ثقف ثَقافةً.
ويقال: خل ثِقِّيفٌ على قوله: خردل حريف، وليس بحسن.
والثِّقافُ: حديدة تسوى بها الرماح ونحوها، والعدد أَثقِفةٌ، وجمعه ثقف.
والثَّقْفُ مصدر الثَّقافة، وفعله ثَقِفَ إذا لزم، وثَقِفْتُ الشيء وهو سرعة تعلمه.
وقلب ثَقْفٌ أي سريع التعلم والتفهم.3

أما التعريف الحديث للفظ ثقافة فلربما أفضل من قام بتعريفه في قالبٍ لغويٍ عربيٍ حديث و وصفّفه توصيفاً دقيقاً مفصلاً شمل في تقديمه كل أبعاد مفاهيمه العصرية التي ضمّنتها فيه و ألحقتها به مختلف الدراسات التي انتجتها حقول العلوم الإنسانية تلك التي عنيت بتتبع أصول ولادته عبر التاريخ لفهم دوره و وظيفته اجتماعياً, فكان ما قدمه معجم اللغة العربية المعاصرة لواضعه الدكتور أحمد مختار عمر, حيث جاء في تعريف هذا المُعجم للفظ و مفهوم كلمة ثقافة و مشتقاتها من أفعال و مصطلحات مركبة منها ما هو منقولٌ منه كالتالي :

ثقُفَ يَثقُف، ثَقافةً، فهو ثَقِف.
* ثقُف الشَّخصُ: صار حاذقًا فطنًا (انكبَّ على المطالعة حتى ثقُف).
ثقِفَ يَثقَف، ثَقَفًا، فهو ثَقِف، والمفعول مَثْقوف (للمتعدِّي).
* ثقِف الشَّخصُ: صار حاذقًا فَطِنًا (ثَقِف العامل).
* ثقِف الشَّيءَ: ظفِر به أو وجده وتمكّن منه {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}[قرآن].
* ثقِف الحديثَ: حذَقه وفطِنه، فهِمه بسرعة (ثقِف العلمَ/الصِّناعةَ).
تثاقفَ يتثاقف، تثاقُفًا، فهو مُتثاقِف.
* تثاقف الشَّخصُ: ادّعى الثَّقافة (إنَّه يتعالى ويتثاقف على الجماهير).
* تثاقف الشَّخصان: تبادلا الثَّقافة (أمر يدلّ على تثاقُف حضاريّ- بينهما تثاقف متكافئ بعيد عن التبعيَّة).
تثقَّفَ/تثقَّفَ على يتثقَّف، تثقُّفًا، فهو مُتثقِّف، والمفعول مُتثقَّف عليه.
* تثقَّف الطَّالبُ:
1 - مُطاوع ثقَّفَ: تعلّم، تزوَّد بفروع من المعرفة (تثقَّف العقادُ ثقافةً موسوعيَّة).
2 - تهذّب.
* تثقَّف على يد أستاذه: تعلَّم وتدرَّب، تلقَّى العلم والمعرفة منه.
ثقَّفَ يثقِّف، تثقيفًا، فهو مُثقِّف، والمفعول مُثقَّف.
* ثقَّف المعوجَّ: سوّاه وقوَّمه (ثقّف العود).
* ثقَّف التِّلميذَ: أدَّبه وربّاه، علّمه ودرَّبه، وهذَّبه (ثقَّف الشبيبةَ/ابنَه- مطالعة الإنسان تُثقِّف عقله- ثقَّف الأخلاق: أصلح السلوك والآداب).
تَثْقيف [مفرد]: مصدر ثقَّفَ.
* التَّثْقيف الذَّاتيّ: اعتماد المرء على نفسه في اكتساب ثقافته خلاف من يتثقّف على أساتذة أو في مدرسة.
* تثقيف البلد: إصلاح أمره أو تقوية وسائل دفاعه.
ثقافة [مفرد]: جمعه ثَقافات (لغير المصدر):
1 - مصدر ثقُفَ.
2 - علوم ومعارف وفنون يدركها الفرد (لابد للشاعر أن يمتلك ثقافة أدبية وعلمية غزيرة) (*) ثقافة أساسيَّة: هي مجموع السِّمات الثَّقافية التي توجد في زمان ومكان معيَّنَين وغالبًا ما تشير إلى تلك الثَّقافة التي تمهِّد أو تيسِّر انبثاق المخترعات- ثقافة عامَّة: ثقافة في المجالات العامَّة الضروريَّة.
3 - مجموع ما توصَّلت إليه أمَّة أو بلد في الحقول المختلفة من أدب وفكر وصناعة وعلم وفن، ونحوها؛ بهدف استنارة الذِّهن وتهذيب الذَّوق وتنمية ملكة النَّقد والحكم لدى الفرد أو في المجتمع (للثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة تاريخ طويل) (*) الثَّقافة الشَّعبيّة: هي الثَّقافة التي تميِّز الشَّعب والمجتمع الشّعبيّ وتتّصف بامتثالها للتقاليد والأشكال التنظيميَّة الأساسيَّة- الثَّقافة المضادّة: اتجاه ثقافيّ يحاول أن يحلّ محلّ الثقافة التقليديّة بمعناها المألوف- الثَّقافة المهنيّة: هي الثقافة التي يلمّ بها الذين هم على درجة عالية من التعليم أو التمدُّن في المجتمع- ثُنائيّ الثَّقافة: خاص بثقافتين مميَّزتين في دولة واحدة أو منطقة جغرافيَّة واحدة.
4 - بيئة خلَّفها الإنسان بما فيها من منتجات ماديَّة وغير ماديَّة تنتقل من جيل إلى آخر.
5 - تراث أدبيّ وفنيّ ومسرحيّ بصفة عامَّة، أسلوب حياة معين أو أعمال وممارسات النَّشاط الفكريّ ولاسيّما النَّشاط الفنيّ.
* ديناميات الثقافة: مذهب ثقافيّ يطبق مفاهيم التحليل النفسيّ على دراسة السلوك أو السمات الثقافيّة، بمعنى تأثير التكوينات النفسيّة اللاواعية على تنظيم الظواهر الثقافيّة.
* عالميَّة الثَّقافة: تعميم الثقافة بمنطق إنسانيّ، والانتقال بالتراث المحلِّيّ إلى آفاق إنسانيّة عالميّة بهدف إيجاد تقارب الثقافات في إطار التعدُّد والتنوُّع الثقافيّ.4

III.1 نشأة و تطور مفهوم الثقافة عبر التاريخ

III.1.1 مفهوم الثقافة قبل القرن العشرين

نشأ لفظ "الثقافة" (culture ) و تطور في أوروبا , لا سيما في فرنسا , كمصطلحٍ تنويري. و كان يقصد منه حينها عملية إصلاح المرء ثقافياً و ترقيته اجتماعياً و تهذيبه أخلاقياً عبر تعليمه وتلقينه ما أمكن من معارف و علوم, بحيث كانت عملية التثقيف هذه تُعتبر مرادفاً لفعل (cultiver ) المُراد منه استصلاح الأرض و العناية بها و زراعتها لتحسين إنتاجها و مردودها, أي أن تثقيف الفرد عبر تعديل مهاراته و تغدية روحه فكرياً و أخلاقياً من خلال التعليم و التربية كان يُشبه مجازاً لحد ما عملية استصلاح الأرض الزراعية.

كما أن مفهوم الثقافة في تلك الفترة, أي في منتصف القرن الثامن عشر, كان يُعتبر مرادفاً و ملازماً لمفهوم الحضارة. فالحركة التنويرية التي سادت في أوروبا بين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كانت تعتمد عملية التثقيف نهجاً لها في معركتها الهادفة إلى تحرير الإنسان و ارتقاء تحضّره لا سيما أنها اعتمدت التنوير العقلي و العقلانية و التفلسف الحر أدوات لها في معركتها ضد قوى التفكير السطحي المتوالدة من رحم سطوة القدرية الغيبية و المعتقدات اللا عقلانية. و كما هو معروف, فإن تغليب روح العقل و إعماله عبر التفكر الحر و دفعه نحو الانفتاح على دراسة العلوم الطبيعية و الفيزياء و حضّه على الابتكار و الاختراع و التحديث و التجديد و التطور هو من صميم العمل التحضري وو الغاية من التوجه نحوه. أي أن عملياً حركة و التنوير و عمليات التثقيف الملازمة لها كانت تُعتبر منظومة من ممارسات فكرية و سلوكية ذات طابع تحضّري تناهض أفكار الثقافة السائدة حينها و التي تقوقعت في سجنٍ حصينٍ من المعتقدات الموروثة و في معتقلِ الفعلِ الإيماني المُسلّم به نقلياً من دون أدنى تفكّر نقدي عقلي يطلقه من أسر سطوة السلطة الدينية عليه و التي كانت تتحكم بأسلوب حياة الفرد الأوروبي و بسلوكه و بنظرته إلى الحياة و بطريقة تفكيره و تحاصره عقائدياً بأفكارها المفروضة, فتحارب بها و به أي ميل ممكن يدفع باتجاه العلم و المنطق و النقد للموروث اللا عقلاني بتهمٍ تنوعت بين الهرطقة و الإلحاد و التجديف و السحر.

فعل التوأمة هذا بين مفهوم الثقافة التنويرية التي احتضنتها الفلسفة و اللغة الفرنسية و مفهوم الحضارة العلمية التطورية ذات التوجه الكوني و التي احتضنتها و دعت إليها الحركة التنويرية, أي ترادف مفهومَي التثقف التحرري و التحضر الإنساني النهضوي بالمعنى الشامل, أدى إلى نشوء حركاتٍ مناهضة لتوجّهها غلب عليها طابع التمحور حول الثقافات المحلية في البلدان المجاورة لمركز النهضة التنويرية و التي وجدت في انتشار حركة التثقف أو التحضّر على الطريقة الفرنسية تهديداً لوجودها و لثقافاتها و أيضاً لمعتقداتها التي نالها نصيبها فعلاً من غزو النهج التنويري الفرنسي و التفكير الحر ذي الميول العلمية و المادية, فنجم عن ذالك تصادم بين مدرستين فلسفيتين واحدتهما تمركزت في فرنسا دعت إلى العقلانية و التنوّر و الإيمان بالحقائق المادية و العلوم الطبيعية و بحرية الإنسان و قدرته على تطويع الطبيعة و تغليب قيمه التحضرية كجزء من ثقافة عامة كونية تشمل جميع المجتمعات بغض النظر عن الاختلاف العرقي أو الثقافي , و أخرى عُرفت بالمدرسة اللا عقلانية انطلقت و تمركزت في ألمانيا دعت إلى التشبث بالقيم الوجدانية و الثقافات المحلية و الهوية العرقية و روّجت لها كضرورة ملحّة لحماية خصوصيات المجتمعات المختلفة و ذلك لمنع غرقها و ذوبانها في طوفان المد الحضاري ذي الطبيعة المادية ( و أيضاً ذي الهوية الفرنسية) .

و لربما أبرز من عبر عن تلك المرحلة من معركة التنوير و عن مفهوم التثقف الملازم لمفهوم التحضر الساعي خلف الرقي الإنساني الكوني الذي لا يمكن بلوغه و تحصيله إلا عبر فعل التحرر الفكري و الجرأة على اتخاذه كقرار حاسم و شجاع يدفعُ بمن اختاره نحو النضوج و التحضر, و إلى تحرّره من استبداد الثقافات الموروثة , و إطلاقه من أسر ذاته لعقلها في سجن تفكير الآخرين عنها و سيطرتهم عليه, ما قاله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقالته المعنونة  " ما هو التنوير؟" و التي فيها عرّف التنوير, أي التثقف و التحضر على أنه " خروج الإنسان من حالة القصور و عدم النضج الذي تسبب به لنفسه بنفسه" و أضاف موضحاً أسباب عدم النضج الذي اعتبره إعاقة جذورها الخضوع و غياب إرادة التحرر و ليس القصور العقلي أو التميّز العرقي أو عدم القدرة على التعلّم و تلقي المعارف و إنتاجها "إنّ حالة عدم النضج هذه هي إعاقة ناجمة عن عدم استعمال المرء لعقله باستقلال من دون قيادة شخص آخر. كما أن غياب النضج لا يكون بسبب ضعف ما في العقل بل بسبب غياب القرار الشجاع باستعمال العقل الذاتي من دون قيادة شخص آخر".5

III.1.2 المفهوم الحديث للثقافة

« إن الثقافة بشكل حصري هي بحق موضوع الإثنولوجيا الوحيد مثلما الوعي هو موضوع علم النفس , و الحياة موضوع علم الإحياء , و الكهرباء فرع من علم الفيزياء. » روبرت لوي, باحث أنثروبولوجي أميركي.6

يربط العلماء في حقلَي الإجتماع و الأنثروبولوجيا بين مصطلح الثقافة و مصطلحات أخرى مركبة منه للتدليل على مفاهيم و قيم لها علاقة مباشرة ببناء و تكوّن المجتمعات الإنسانية و التجمعات البشرية المتفرعة عنها كمفاهيم الهوية و القومية و الوطنية و مفاهيم العقيدة و الفكر و اللغة, و يربطون أيضاً بينه و بين القيم التي توجّه أو تتحكم بمنظومة سلوكيات أفراد هذه المجتمعات و التجمعات مثل العادات و التقاليد و الميول و الأذواق العامة و الطقوس المشتركة و الإحتفالات و الأعياد , و بأي منتج إنساني فكرياُ كان أم أدبياً أو فنياً يستبطن في الهدف من صناعته و في النتيجة النهائية لتشكّله رمزيةً ما خاصة تدلل على انتمائه لمجتمعٍ معين أو لمجموعة بشرية معينة أو لمعتقد بعينه أو لتيار فكري أو فلسفي محدّد وجّه أو تحكم في لحظة وجودية ما بالأداء التعبيري الخاص بصانعه أو مُنتِجه.

و هذا ما عبّر عنه العالم الأنثروبولوجي إدوارد تايلور7 في تعريفه لمفهوم الثقافة حين وصّفها بأنها " الثقافة و الحضارة في شكلها الإثني الأوسع هي كل مُرَكَب معقد يحتوي في ذاته المعرفة و المعتقد و القيم و الأخلاق و الحق و العادات و باقي القدرات الأخرى و المكتسبات التي تلقنها المرء بما هو عضو في مجتمع ».8 إذاً الثقافة بحسب تايلور هي كل موروث اجتماعي و فكري مشترك تتناقله الأجيال فيما بينها و تتعلمه عبر الممارسة و الأداء و التطبيق, أي أنه كل سلوك أو معتقد يكتسبه المرء بالتعلم و التفاعل مع محيطه و ليس عبر الدم أو الجينات و الغريزة أو الفطرة.
لهذا نجد أن مصطلح الثقافة غالباً ما يتم استخدامه لغوياً للتعبير عن مفاهيم و قيم تشمل في مضامينها ما تم ذكره أعلاه في مصطلحات مثل الهوية الثقافية و الإرث الثقافي و أيضاً في مصطلحات تستخدم للتمييز بين مختلف شرائح المجتمع الإنساني من حيث ترقيها و تأخرها أو انحدارها و تقدمها, فنراه حاضراً في مصطلحات مثل الثقافة النخبوية و الثقافة الشعبية , و الثقافة المتقدمة و الثقافة الرجعية , و الثقافة العصرية و الثقافة البدائية ,و في مصطلحات أخرى تُعبّر عن التفاوت أو التباين ما بين ثقافات المجتمع الواحد من حيث الأنماط السلوكية و التوجهات الفكرية و الخصوصيات العمرية لا سيما حين يُراد الإشارة إلى مسألة الاختلاف الثقافي بين أجيال سابقة و أخرى لاحقة. و نراه أيضاً في مشتقات لفظية أخرى لها علاقة بالإنتماء القومي أو العرقي أو اللغوي أو الفكري أو العقائدي لاسيما حين يحضر عنصر المقارنة بين مجتمعات انبنى تمايزها على اختلافها اللغوي أو الديني.

III.2 نشوء الثقافة و تطورها و دورها في المجتمعات

مما لا شك فيه أن الدراسات في علم الأنثروبولوجيا ساهمت في شكل كبير في عملية إعادة تعريف مفهوم الثقافة وفق أسس علمية سمحت بفهمه بشكل أوسع و أعمق, و أمدّت المخزون المعرفي بمعلومات قيمة عن ما هية الثقافة , و كيفية نشأتها, و مراحل تطورّها ,و تأثيرها و تأثرها بالفرد الإجتماعي و بالمجتمع الإنساني. كما أن هذه الدراسات في حقل الأنثروبولوجيا استطاعت أن تستخلص من تطور السلوك الإنساني الثقافي عبر التاريخ ,و بالدليل العلمي , خاصيات تميّز بها الإنسان وحده دون سواه من كائنات أخرى كانت تُعتبر لفترة من الزمن, بحسب النظرية الداروينية , شبيهة و قريبة منه بيولوجياً و سلوكياً غير أن الدراسات الأنثروبولوجية أظهرت قصورها عن بلوغ ما تميّز به العقل الإنساني من قدرةٍ على الترميز و التجريد و الابتكار و التطوّر السلوكي و المعرفي المتجدد و المتواصل عبر الزمن.

فالترميز و التجريد يُعتبران سمتان رئيسيتان مميزتان لسلوك الإنسان الثقافي, و بواسطتهما و بقدرته على التخيل و الإبداع استطاع الإنسان أن يتميز عن باقي المخلوقات الإجتماعية و أن ينسج حوله شبكة من التصورات و الأفكار و المعتقدات و العادات و اللغات سيّج بها مجتمعاته و حماها و حفظ بها حياته و استمرار بقائه و هيمنته و سلطته على باقي المخلوقات و الموجودات, و ذلك حين توارثها جيلاً بعد جيل و صنع منها تاريخا له ربط بين أزمنته بنظامٍ من الترميز التواصلي كان له جلّ الإسهام في تطوره معرفياً و سلوكياً عبر شِقّين فيه واحدهما شفهي و الآخر مادي اعتُبرا بحق العنصر الحاسم في معركة بقاء الإنسان على قيد حياة و استمرار وجوده حتى يومنا هذا. و في هذا المجال و عن الطبيعة الرمزية التي تميّزت بها الثقافات يقول الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز " إن الثقافة هي نظام من التصورات الموروثة التي يُعبّر عنها بأشكال رمزية و التي بواسطتها يتواصل البشر و يطوّرون معرفتهم عن الحياة و مواقفهم منها. هذه الرموز تضفي معنى و نظاماً على حياة الناس"9.

أما عن ميزة الابتكار عند الإنسان و علاقتها بنشوء الأنظمة الثقافية و بتطورها و استمراره و تجذرها عبر التاريخ كهوية اجتماعية أو جماعية خاصة فقط بالمجتمعات الإنسانية, فقد أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية أن أي نظام ثقافي في رحلة تجذره اجتماعياً و استقراره زمنياً عبر التاريخ لا بد له من أن يمر بمراحل تطورية محددة تبيّن أنها ثابتة في أي سيرة ثقافية كانت. فبحسب الباحث الأمريكي ويليام س. ماك غرو10 المتخصص في الأنثروبولوجيا التطويرية فإن النظم الثقافية و جماعاتها البشرية تتشكل و تنمو و تستقر عبر الزمن في شكلها الإجتماعي النهائي كهوية ثقافية خاصة بمكتسبيها بعد مرورها بمراحل ست لا بد منها و هي كما الآتي :

1-وجود سلوك جديد أو تعديل لسلوك قديم.
2-نقل هذا السلوك الجديد أو المُعدل إلى الغير.
3-ترابط اجتماعي مميز بين الأفراد الذين اكتسبوا و طبقوا السلوك الجديد.
4-ضرورة بقاء و استمرارية هذا السلوك الجديد.
5-تمدده ليشمل أفراداً أكثر و لإنتاج مجموعة بشرية اجتماعية جديدة.
6-أستمرار السلوك لعدة أجيال.

كما نلاحظ فإن هذه المراحل التطورية ,التي بها و منها تنشأ الثقافة و المجموعات الثقافية, تعتمد كل الاعتماد على هذه القدرة عند الإنسان على ابتكار الأنماط السلوكية الجديدة, و على طبيعة عقله القادرة على التجريد و ربط الأمور بعضها ببعض و استخلاص الأفكار من نتائج العلاقات بين الأسباب و المسببات, و على خاصية الترميز الحاكمة لأنماط نظمه التواصلية الضرورية في عملية النقل المعرفي و السلوكي. و بفضل هذه القدرة غلى الابتكار و ابتداع سلوكيات جديدة و الحفاظ عليها و تطويرها و تعليمها و نقلها عبر الأجيال استطاع الإنسان أن يتطور اجتماعياً بعد بقائه حياً في معركة تأقلمه مع الطبيعة و رحلة الاصطفاء الطبيعي التي خاضها مع غيره من كائنات تميزت أيضاً مثله بالذكاء و القدرة على التواصل فيما بينها و العيش في تجمعات أسرية و اجتماعية لكنها عجزت عن تطويع بيئتها و ربطها بمنظومات فكرية رمزية تجريدية و سلوكيات جديدة كتلك التي صنع الإنسان منها أشكال نظمه الثقافية, و طوّر بإبداعاته فيها حدود و أطر هوياته الإجتماعية و مختلف قيمه و نظمه الأخلاقية, و منها عبر إلى مرحلة تأسيس و تشييد حضاراته مستعيناً بقدراته الابتكارية التي تطوّرت نقلياً و توارثياً عبر الزمن في مختلف مجالات البناء الحضاري من تشريعٍ و تنظيمٍ و تقنياتٍ و اقتصادٍ و عمران.

من هنا نفهم أهمية الثقافة و وظيفتها في عملية تطور الوجود الإنساني و استمرار بقائه , و دورها في لحم علاقات أفراده داخل مجتمعاتهم و الحفاظ عليها مستقرة متماسكة, و آمنة من التفكك و الانهيار, و ثباتها في وجه ما قد يهدد دوام استمرارها لا سيما ذلك المجهول و تلك الأخطار الغيبية التي تفلتت من قدرة الإنسان على استشرافها و التحكم بها فلم يجد له مناص ضدها أو كرد فعلٍ عليها سوى تطويعها رمزياً عبر منظومات من أنماط ثقافية احتضنت هواجسه و أشبعت خيالاته و آمنت خوفه من الآخر و من المجهول و من الغيب و أمدّته بمشاعر الاستقرار العاطفي و الاطمئنان النفسي و الأمان الروحي التي أمّنتها له : أولاً ميزاته العقلية القادرة على التجريد, و ثانياً سِعة خياله القادرة على الترميز, و ثالثاً ميله الفطري للربط بين الظواهر الطبيعية و مشاعره و أحاسيسه وأفكاره و بين رموزٍ مادية أو معنوية خلقها هو و ابتكرها هو لأسباب يعرفها لها علاقة بلا وعيه الجمعي و بسيرته الخاصة و بمجتمعه الخاص و بهويته الفكرية و بمعتقداته تلك التي وُلدت في لحظة ظرفية خاصة بزمان و مكان وجوده أو توارثها نقلياً عبر الأجيال كميراثٍ تقليدي خاص بمجمل سيَر مجتمعاته التاريخية.

فمن هذه القدرة على الترميز و التجريد و الحاجة الحيوية الإنسانية الملحة لخلق الرموز الثقافية ماديةً كانت أم معنوية و التي وجدت جذور الحاجة إليها و أنجبتها خصائص الظروف المكانية و الزمانية في كل تجمع بشري عرفته السيرة الإنسانية عبر التاريخ, استطاع الإنسان أن يمنح مجتمعاته أستقرارها الوجودي و أمانها الروحي و عرف كيف يشدّ لحمة أفراد مجتمعه بأنماط سلوكية و فكرية مشتركة, و كيف يعزز روح الانتماء فيهم إلى نفس الجماعة التي ربطتهم و شدتهم إليها بواقع تقاسمهم العادات نفسها و الأفكار نفسها و المعتقدات نفسها و أيضاً الهواجس و الآمال و الطموحات نفسها. و قد نجد دليلنا على ما بيّناه و شرحناه فيما أشار أليه الأنثربولوجي البولندي برونيسلاف مالينوفسكي11 حين عرّف الثقافة قائلاً فيها " إن وظيفة الثقافة هي جعل حياة الإنسان أكثر أماناً و أكثر قابلية للإستمرار" ثم أضاف عن هذه الطبيعة الوظيفية في الثقافة بأنها " في أي نوع من الحضارات يكون لكل عادة أو شي مادي, أو فكرة أو أيمان وظيفةٌ حيويةٌ ما و مُهِمّةٌ ما و هي تُمثل جزءاً لا يُستغنى عنه من ضمن جسم كلي فاعل"

أما عن التأثير الإجتماعي للثقافة ودورها في عملية تشكيل الوعي و السلوك الفردي و أيضاً الجمعي داخل المجتمعات, فإن الباحثة الأميركية روث بنيديكت المتخصصة في علم الأنثروبولوجيا قد تناولت هذا الموضوع في كتابها الموسوم بعنوان أنماط ثقافية و فيه شرحت أهمية دور الإجتماعي الذي تلعبه الثقافة في خلق الأنماط السلوكية في مجتمعاتها, و فسرت كيفية عمل هذه الأنماط و تأثيرها على توجهات الفرد الفكرية و العقائدية و على نظرة هذا الفرد لقيم و مفاهيم الحياة و تقييمه لها و للآخر المُقيم معه فيها, و ذلك من خلال منظور و مقياس ما تربى و نشأ عليه الفرد منذ نعومة أظافره و تلقاه من محيطه البيئي و من عائلته . تقول بنيديكت في شرحها لهذا الدور الإجتماعي و الفكري الحساس جداً للثقافة « بإن تاريخ الفرد ,أولاً و قبل كل شيء, لهو تكيّفٌ مع الأنماط و المعايير المتوارثة تقليدياً في مجتمعه. و مند لحظة ميلاده تُشكّلُ الأعراف, التي يُولد في ظلّها, خبرته و سلوكه. و بحلول الوقت الذي يستطيع فيه التكلّم, فإنه يكون قد غذا المخلوق الصغير لثقافته. و بحلول الوقت الذي يصير فيه كبيراً و قادراً على المشاركة في أنشطتها, فإن عاداتها تصبح عاداته, و معتقداتها معتقداته, و مستحيلاته مستحيلاته. »12

بهذا التوصيف الدقيق اللافت و المهم جداً في تسلسله عرّفت بنيديكت مفهوم الثقافة كحاضن بيئي فكري مُؤسس لأنماط تفكير الأفراد في المجتمعات, و كعامل بيئي اجتماعي فاعل و مهم أن لم نقل أنه الرئيسي ربما في عملية نشوء و تطور أنماط السلوك الإنساني و تفرعها و تمايزها و اختلافها و تعارضها و ترقيها و انحطاطها, و أيضاً توجهها على خط استمرار وجودها أن كان في اتجاهه السلبي أو في اتجاهه الإيجابي.و هذا الكلام إن دلّ على شيء فإنما يدل على أهمية دور البيئة الثقافية في تشكيل وعي الأفراد, و في نظرتهم للوجود, و لذواتهم, وعلى ما لثقافة من قدرةٍ على التأثير فكرياً بهم, و على تقييمهم إن كان سلباً أو إيجاباً لمنظومة القيم الاجتماعية و الأخلاقية تلك الحسّاسة جداً و التي يُسيّر معظمها حيواتهم, و يؤثر في ميولهم و أذواقهم و أخلاقهم و ردود أفعالهم و سلوكياتهم, وهي قيم تدور في معظمها حول مفاهيم لها علاقة بما هو خطأ و صواب, و جيد و سيئ, و مسموح و غير مسموح, و مقبول و مرفوض و أيضاً... بما , أو بمَن يستحق الحياة و الوجود و البقاء, و بما, و بمَن لا يستحق لا الحياة و لا الوجود و لا أية قيمة حيوية أخرى متعلقة بهما.

IV الحضارة مقابل الثقافة

إنا في عصرِ لا حياة بأرضه إلا لمن هو في الحياة نشيطُ
و إذا تقدمت الشعوب حضارةً تزدادُ فيها للحياة شروطً (الشاعر جميل صدقي الزهاوي)13

الحديث عن التأثير الإجتماعي للثقافة و علاقتها بسلوكيات الأفراد المنتمين إلى منظومات قيمهما و مفاهيمها, و عن قدرة الثقافة على تشكيل فضاء وعي أبنائها بما يسمح بترقّيهم أو بانحدارهم, أو بتقبلهم أو برفضهم للأخر غير المنتمي إلى نفس منظومتهم الثقافية, ينقلنا مباشرة للحديث عن الحيّز الثقافي, و حدوده , و عن مدى تأثر هذا الحيّز بما يجاوره أو يخاطبه من ثقافات أخرى مشابهة أو مختلفة عنه, و عن دور الثقافة في تغذية التطرف أو نشوء العصبيات و القوميات, و علاقاتها بما يُعرف بالعنصرية, و دورها في كيفية تقييم الهويات الثقافية المغايرة, و نظرة الأفراد فيها إلى مَن ناقضهم في تصوراتهم و توجهاتهم الثقافية. و هذا ما سيقودنا ربما إلى فهم ما قد وصلنا إليه في عصرنا الراهن لواقع ما بات يُعرف بصراع الحضارات, و الذي يرى بعض المنظرين فيه أن أسبابه المباشرة لها علاقة حتمية بطبيعة الهويات الثقافية الحاكم الفعلي في كل حضارة, فهي المؤثر الأقوى فيها, و لو بصورة غير مرئية لعامة الناس من غير المتخصصين, و هي المؤشر الفعلي و العامل الحاسم في قياس مدى قوة أو ضعف التقدم الحضاري في أي مجتمع ثقافي كان..

عن هذا المعطى المتعلق بواقع تأثير الثقافة في أحوال الحضارات, أن كان من الناحية التقدم أو التأخر أو من ناحية الرقي أو الانحطاطٍ , و عن القيمٍ الموجِهة في مختلف بُنى منظوماتها و مساراتها المحدَّدة فيها سلفاً و التي من ممكن أن تقود حضاراتها , في رحلة صراعاتها و تنافسها و معارك الهميمة, إما إلى الاستقرار و البقاء و بالتالي إلى الاستقلال و السيادة و ربما إلى الريادة و القيادة , و إما إلى الانحدار و التقهقر و بالتالي إلى خفوت التوهج و ما يعقبه من أفول يليه خضوع و ربما لاحقاً إلى اندثار, نشر الباحث و السياسي الأميركي صاموئيل فيليبس هانتنغتون , المتخصص في شؤون الحكومات العسكرية و المدنية و الانقلابات, مقالاً له عام 1993 وسمه بعنوان "صدام الحضارات"14اعتُبر في حينها نبوءة عما وصل إليه حال عالمنا اليوم ( أو ربما كان مجرد مقال واقعي و نتيجة منطقية لدراسةٍ علمية في مجتمع متقدم علمياً في مجال الدراسات الإنسانية على عكس حال مجتمعاتنا المتأخرة في هذا المجال). في هذا المقال تحدث هانتنغتون عن الصراع الدائر اليوم بين الحضارات و عن طبيعة هذا الصراع المتأثر حكماً بصراع الثقافات الحاكمة فيها, و هو عبّر عن هذا الموضوع بالتالي : " إن مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت, و في هذه المرحلة, لن تكون المصادر الرئيسية للصراع اقتصادية أو أيديولوجية في المقام الأول, لكن الانقسامات العميقة بين أبناء الجنس البشري و المصدر المهيمن على الصراع ستكون ذات طابع ثقافي" و أضاف " يمكننا أن نتوقع صدامَ حضاراتٍ هائلاً , كلٌ من هذه الحضارات تُمثل هوية ثقافية بدائية, من الواضح أن الإختلافات الرئيسية في التطور السياسي و الإقتصادي بين الحضارات تكمن جذورها في ثقافاتهم المختلفة. أن الثقافة و الهويات الثقافية تُشكل نماذج الإندماج و الاضمحلال و الصراع, و التنافسُ بين القوى العظمى حلّ محله صدام الحضارات".

و نحن اليوم حين نعيد قراءة ما جاء به مقال هانتنغتون لا نجد لنا مناصاً من تأييده, على الأقل في الجزء المستقطع منه و الذي أوردناه في هذا البحث و ذلك انطلاقاً من نظرة واقعية و نقدية لمجمل مشاهداتنا لأحوال ما وصلت إليه اليوم المجتمعات المتأخرة حضارياً , و التي حسب الظاهر مردّها إلى أسبابٍ واقعية لها علاقة بما تحدث عنه هانتنغتون في مقاله و هي برأينا : إما التأخر الثقافي البعيد عن المنطق الواقعي و المنجر وراء الأوهام و الخرافات , و إما التمسك الرجعي بثقافات أثبت الزمان انحلالها و فسادها و عدم قدرة منظوماتها على مواكبة التقدم العلمي و التطور الحضاري., و إما عوامل اجتماعية متأثرة سلباً بالطبيعة البنيوية القائمة عليها المنظومة الثقافية , خاصة الوجه السلبي منها, و التي منها انبثقت و تأسست أفكار المنظومة الثقافية التي إليها ينتمي هانتنغتون نفسه و التي دفعته شجعته للحديث عن مسألة الصدام الحضاري في هذا التوقيت بالذات ..
يقول الأنثروبولوجي الأميركي ميلفيل هيرسكوفيتس15 " إن الأفراد في أي مجتمع كان قريبون جداً من عاداتهم لدرجة تفاجئهم كثيراً بالإختلاف الظاهر بينهم و بين جيرانهم أكثر منه بالتشابه العام الذي يجمعهم ببعض". هذا الكلام يأخذنا مباشرة إلى بحث الوجه الآخر للثقافة, لفهم و تبيّن مدى قدرة الثقافة على خلق الحواجز النفسية بين الجماعات و المجموعات البشرية, و دورها في رسم الحدود الوهمية بين الناس و الأمم و الشعوب. و هي حدودٌ أُسست في بداياتها على مبدأ حق الاختلاف و التنوع و المحافظة على خصوصيات الثقافات المتنوعة, غير أن التطرف و المغالاة فيها, و غلبة النزعة العصبية عليها, أوصلت مجتمعاتهما إلى الخلافات و النزاعات و الصراعات و الحروب المدمرة و المميتة. و هذا الواقع المحزن في نتائجه أتى على يبدو على عكس المتوقع منه بحسب الدوافع الوظيفية الأولى و الأساسية التي قادت الإنسان في بدايات مجتمعاته إلى ابتكار الفكرة الثقافية و الغاية منها, و التي كانت أهدافها تتلاقى في مصب واحد هو مساعدة الإنسان على تأسيس هذه المجتمعات و تطويرها و المحافظة على استمرارها و وجودها, و تمكينه من البقاء فيها حياً في رحلة الاصطفاء الطبيعي و معارك صراعه مع الطبيعة و تطويعها.

الإقرار بواقعية هذا الوجه السلبي للثقافة يوصلنا مباشرة إلى أحد أسباب الإعلان الذي خلص إليه هانتنغتون في مقاله و يقودنا بالتالي كرد فعلٍ عليه إلى ضرورة وعي مضامينه و أخذها بجدية و قراءتها بموضوعية و بالتالي إلى الإقرار بالحاجة الملحة لإعادة قراءة خصائص منظوماتنا الثقافية المتضررة من توقعات هكذا إعلان ,الذي أثبتت الوقائع فعلياً صحته و توقعاته, و ذلك لتقييمها بعقلٍ منطقي تُحتمه ظروف الواقع المعاصر علينا و التي لا نراها إلا دافعة بنا نحو ضرورة إعادة دراسة المنظومات الثقافية و مراجعتها, لتفكيكها و إعادة بنائها من جديد وفق منظور حداثي يُقوّمها و يُصلح ما فيها من تفرعات و مفاهيم لا سيما تلك التي تشوهت بواقع تراكم الأحداث التاريخية عليها, و التي تزعزع تماسك استقرارها و بنيانها بهجران المنطق العقلاني و الدليل العلمي لحجج مسوغات بقائها و جودها.

كما أننا أيضاً نرى, و ذلك بحسب مشاهداتنا, إن هذه الحاجة إلى التقويم و الإصلاح باتت اليوم ملحّة أكثر مما مضى لسبب وجيه هو أن الغرائز البدائية الكامنة في الثقافات قد استيقظت فعلاً , تماماً كما ورد في مقال هانتنغتون, و ذلك نتيجة تأثرها بعوامل اجتماعية تصادمية نبتت جذورها و نمت فروعها و تضخمت في تربةٍ وفّرتها سرعة التطور العلمي و التقدم التكنولوجي, و ساهمت في تخصيبها صدمةُ التواجه الثقافي و التقابل الحضاري التي أوصلها إلى ذروتها تزايد التطرف الناجم عن الصراعات و الحروب و تفاقم التكاثر السكاني و توسع انتشاره الديموغرافي و ما فرضه من تداخل بين الحدود الثقافية و الذي أدّى بالنتيجة إلى هشاشة هذه الحدود و سرّع تأثرها بعضها ببعض و فعّل فيها التفاعل الذي غلب عليه الوجه السلبي فتجاوزت بسببه الثقافات حدود تداخلها و تشابكها و إمكانيات التقائها و تفاهمها و وصلت به حد التنافر الحاد و التعارض التام و مرحلة التصادم الفعلي .

و أيضاً من الأسباب التي تحتم علينا المسارعة إلى القيام بعملية مراجعة للمنظومات الثقافية و إعادة تقييمها, خاصة في المجتمعات المتأخرة, هو فضيحة ما كشفه التقدم العلمي من عورات كثيرة في مختلف هذه المنظومات, و التي خرجت فجأة إلى العلن و تمظهرت عيوبها بفعل تقلص المسافات الجغرافية و الثقافية و تزعزع هامش التباعد المفترض بين حدودها , خاصة بعد ما وفّرته التكنولوجيا الحديث للشعوب المتأخرة حضارياً من قدرةٍ على المقارنة بين نُظمها الثقافية و نُظم ثقافات الشعوب الأخرى الأكثر تحضراً و نضجاً معرفياً منها, فتهيأت الظروف و أتيحت لتمدد ظاهرة الغزو الثقافي, و التي بدا أنها لا تصب على ما يبدو إلا في صالح ثقافات معينة على حساب غيرها , تلك التي عزّز فُرصَ هيمنتها و فرض حضورها واقعُ تفوقها النوعي في مختلف مجالات العلوم الطبيعية و الإنسانية و فروعها, و قدرتُها على التحكم بمختلف تقنيات العولمة الواقعية منها أو الافتراضية.

من الواضح أيضاً الذي لا لبس فيه, أن أية عملية تقويم لأي ثقافة كانت لا يمكن أن يُكتب لها النجاح إلا عبر عملية مراجعة و غربلة لمفاهيمها على ضوء التجارب التي خاضها الإنسان بها تاريخياً, و عايش فيها أزماتها و هفواتها و نتائجها بصالحها و طالحها. و هذه العملية من الأهمية بمكان بحيث أننا عبرها نخدم الثقافة و نحميها و نحصنها من الذوبان في جسد الحضارة المادي المتسارع في تمدده إن كان عبر التغلغل الإقتصادي أو عبر التقدم التكنولوجي. و هي من الضرورة بمكان بحيث أن من دونها لن نتمكن من إعادة رسم أشكال بنى الثقافات و تنظيمها بما يخدم الصالح الإنساني منها , لا سيما في المجتمعات الثقافية المتأخرة علمياً و حضارياً , و ذلك منعاً لتلاشيها و بلعها من قبل باقي الثقافات الأكثر تقدماً و تحضّراً, تلك الساعية بكل جهودها إلى بسط نفوذها على مقدرات و ثروات المجتمعات الأكثر فقراً علمياً و الأكثر هشاشةً ثقافياً , و التحكم بها إن كان عبر الاستعمار المباشر من خلال الحروب العسكرية و الاقتصادية أو غير المباشر عبر الغزو الثقافي المتسلح بجاذبية التقدم العلمي و تقنياته الحديثة.

و أيضاً, فإن هذه العملية من الواقعية بمكان بحيث أنها تجسد حالة نقدية صحية تحصن المجتمعات و تجنبها مرارة تكرار تذوّق أضرار الوجه السلبي للثقافة الذي على ما يبدو هو الطاغي في حضوره على حساب وجهه الآخر, و الذي غالباً ما ظهر هادماً و دموياً في أقصى مظاهره تطرفاً و إقصائية, فمنه انبثقت مشاعر التفوق العرقي و الأيديولوجي , و منه توالدت الأفكار العنصرية و الغطرسة و التمايز النوعي التي أدت إلى نشوب أكثر الحروب دمويةً عبر التاريخ و أكثرها هتكاً لحقوق الإنسان و إجراماً في حقه و إبادةً للثقافات. تلك الحروب التي تغذى القسم الأكبر من أسبابها,عند بعض الأمم و في مرحلة تاريخية ما, على شعور طاغٍ بالقوة الثقافية, ولّدهُ إحساسٌ بالغرور مردّه التفوق العلمي النوعي, و عزّزهُ في لحظة مفصلية ما من مسار التطوّر الحضاري, إحساسٌ مفرط بالغطرسة و بالقدرة على الهيمنة و السيطرة على باقي الثقافات و إخضاعها لنفوذ منظومة وحيدة من القيم الخاصة بثقافة واحدة بعينها.

و بالرغم من رفضنا و استنكارنا لهذا الواقع المأساوي الذي آل إليه حال الثقافة اليوم من تغليبٍ طاغٍ لوجهها السيئ في علاقات تفاعلاتها الإنسانية بين الشعوب و في المجتمعات , إلا أن علينا أن نكون واقعيين لنقرّ بأن هذا المآل يُعتبر أمراً طبيعياً في معارك التصارع و التنافس الأممي. فبالرغم من تسليمنا بالحقيقة القائلة بأن تقدم التطور الحضاري ما فتى منتمياً إلى التاريخ الإنساني بمجمله بجميع أطيافه وثقافاته و ملله, و ما فتئ نتيجة تراكمية لما أنتجه و أسهم فيه التعاقب الحضاري و التبادل الثقافي بين الأمم , إلا أن علينا الإعتراف أيضاً بواقع مفاده أن القيادة الحضارية و التي ما فتئت أيضاً متنقلة بين مختلف الثقافات في المجتمع الإنساني و متَداوَلة بينها عبر التاريخ, لا تخضع إلا لمعيار واحد أوحد في دينامية اختيار من يتولاها من بين الثقافات, و هذا المعيار هو : مستوى التفوق العلمي في الثقافات المتنافسة و مقدار ما تتيحه منظوماتها من قدرةٍ على بلوغ الذروة فيه . و من هذه الحقيقة المرّة لكن الواقعية بحجتها, تنبع الحاجة الماسة إلى إعادة مراجعة المنظومات الثقافية في مجتمعات الدول المتأخرة حضارياً, و ضرورة تقييمها و تفكيكها و إعادة بنائها بهدف تقويتها من جديد منعاً لتلاشيها و اندثارها كما جرى الحال عليه مع غيرها من باقي الثقافات السابقة لأممٍ مُندثرة.

V الوساطة الثقافية
V.1 تقديم
"كل ثقافة هي تعبير فريد عما هية الإنسان و لها الحق بأن تقدّر و تحترم إذا ما كانت مهدّدة"16فرانز بُوَاس
"مع تقدم الحضارة يتراجع الشعر بالضرورة"17 توماس ماكاولي

لربما هاتان المقولتان كافيتان لشرح القاعدة التي انطلقت منها الأسباب و الأهداف التي أدت إلى ابتكار فكرة الوساطة الثقافية. فكما توضّح مما حاولنا تبيانها عبر هذا البحث, فأن الصراع الذي نشأ بين الثقافة و الحضارة منذ بدايات استخدام مصطلحيهما ما زال مستمراً حتى يومنا هذا , لا بل قد بدأ يظهر أيضاً أنه هو المحور الرئيسي الذي ستدور حوله الصراعات في العقود القادمة, و هذا ما استدعى دق ناقوس خطر حماية الثقافات الفرعية, أولاً من خطر تصادمها اجتماعياً في الدول التي تعددت ثقافتها بفعل الهجرة و الانتشار الديموغرافي, و ثانياً منعاً لتلاشيها أو ذوبانها في بلدانها الأصلية نتيجة للصراعات و النزاعات أو بسبب الغزو الثقافي الزاحف جنباً إلى جنب مع الغزو الحضاري.

بالإضافة إلى ما تقدم, فقد لوحظ في العقود الأخيرة إن الطابع المادي المتمثل في القيم الحضارية قد تمدد كثيراً وتوسع حضوره بشكل طاغٍ على حساب القيم الثقافية الوجدانية, خاصة تلك التي شكلت في مضمونها النبع الأعرق و المنهل الأصيل لحرفة الأدب الراقي و الفن المتميز و التي منها استلهم كبار الأدباء و الفنانين مواد أعمالهم الخالدة و أغنوا بها الذاكرة الإنسانية في التراث الوجداني. كما أنه لوحظ أيضاً أن ما زاد من أمر هذا التوسع المادي هو التطورُ النوعي لتقنيات الاتصالات الحديثة و التي أدى انتشارها الواسع و استخدامها الكثيف جماهيرياً ,من دون أي ضوابط ثقافية رقيبة عليها, إلى أدخال التراث الثقافي الراقي ,بشقَيه الأدبي و الفني, إلى حلبة التنافس و الصراع على إثبات الوجود مع ما بات يُعرف اليوم بالثقافة الجماهيرية أو الثقافة الشعبية المتأثرة بروح العصر المادية و ميولها الساعية أبداً خلف الربح السريع حتى لو أتى هذا الربح على حساب العمل الثقافي المتميز و الإبداع الرفيع.

و نتيجةً لهذا الواقع لاحظ المعنيين و المهتمين بالشأن الثقافي , في المؤسسات الحكومية و المنظمات الدولية المعنية بأمور الثقافة, خللاً ظاهراً في ميزان التوازن المعرفي بين الثقافات التي جاورت بين حدودها الهجرة الديموغرافية و العولمة الفضائية, كما استشرفوا أيضاً بداياتِ اختلالٍ في معايير التثقف و التنوير المتعارف عليها في المجال التثاقف و الذي بدا أنه ناجم عن هوّة معرفية محتملة التوسع بين الميراث الثقافي الإنساني بكافة أنواعه و بين الأجيال الجديدة, إن كانت تلك المنبهرة بدراسة العلوم الطبيعية و بالحظوظ التي توفرها في سوق العمل, أو تلك المنساقة خلف المعلومة السريعة التي روّجت لها ثقافة استخدام تقنيات الاتصال الحديثة. و في ردٍ منها على هذا الواقع الثقافي القابل للتردي, و في محاولة منها لخلق توازن بين التطوّر التكنولوجي السريع و بين المحافظة على مستوى عادل من التثقيف المعرفي بين مختلف الثقافات و مختلف الأجيال, ما كان من منظمة اليونيسكو إلا المسارعة لنشر بيانها بشأن المكتبات العامة عام 1994 و معه ظهرت فكرة الوساطة الثقافية و ما صاحبها من أهداف و خطة وصول و التي سنذكر جزءاً منها في الفقرة التالية لا سيما ذلك المتعلق بموضوع هذا البحث.

V.2 بيان اليونيسكو بشأن المكتبات العامة

جاء في مقدمة بيان اليونيسكو بشأن المكتبات العامة : إنّ حرية المجتمع و الأفراد و ازدهارهم و نموّهم قيم إنسانية أساسية. و لن يمكن تحقيقها إلا عن طريق قدرة المواطنين المستنيرين على ممارسة حقوقهم الديمقراطية و أداء دور فعّال في المجتمع. و المشاركة البناءة و تنمية الديمقراطية مرهونتان بتوافر تربية سليمة و بالانتفاع الحر و اللا محدود بالمعرفة و الفكر و الثقافة و المعلومات و المكتبة العامة باعتبارها المدخل العلمي إلى المعرفة, و هي شرط أساسي لاكتساب العلم مدى الحياة, و الاستقلال في اتخاذ القرار, و التنمية الثقافية للأفراد و الجماعات. و في هذا البيان تعلن اليونيسكو إيمانها بالمكتبة العامة كقوة حية للتربية و الثقافة و الإعلام, و عامل أساسي في تعزيز السلام و الرفاه الروحي من خلال عقول البشر رجالاً و نساءً. و لذا فإن اليونيسكو تشجع الحكومات الوطنية و المحلية على دعم المكتبات العامة و الالتزام بتنميتها تنمية فعّالة. 18
حزء من المهام الموضوعة لتحقيق أهداف البيان :
غرس عادات القراءة و ترسيخها لدى الأطفال منذ نعومة أظافرهم.
دعم التعليم الفردي و الذاتي و التعليم النظامي على كافة المستويات.
توفير فرص للتطور الشخصي المبدع.
حفز الخيال و الإبداع عند الأطفال و الشباب.
تشجيع الوعي بالتراث الثقافي و تذوّق الفنون و تقدير الإنجازات و التجديدات العلمية و الفنية.
إتاحة الانتفاع بأشكال التعبير الثقافي لجميع فنون الأداء.
تعزيز الحوار بين الثقافات و تشجيع التنوع الثقافي.
دعم التراث الشفهي.
أمين المكتبة وسيط نشيط بين المنتفعين و الموارد. فلا بد من إعداده مهنياً و تدريبه باستمرار لتأمين خدمات كافية

V.3 تعريف الوساطة الثقافية

"الوساطة الثقافية هي مجموعة من النشاطات تهدف من خلال الوسيط الثقافي (الذي من الممكن أن يكون محترفاً أو فناناً أو ناشطاً قريباً من الشأن الثقافي) إلى وضع الفرد أو مجموعة من الأفراد في علاقة مع معروض ثقافي أو فني و ذلك لدعم و تحفيز حساسيته و معرفته و ذائقته"19. و في سبيل هذه الغاية, و تلبية لمضمون بيان اليونيسكو الذي سبق لنا ذكر جزء منه في الفقرة السابقة, تقوم اليوم المؤسسات الحكومية المعنية بالشأن الثقافي في الدول المهتمة بتنوير أبناءها و تحفيز حواسهم المعرفية و الإبداعية عبر الأعمال الثقافية الهادفة و المميزة و التي تحمل في محتواها و موادها القيم الإنسانية المجسدة لثقافات مجتمعاتهم و تاريخ تطورها الحضاري الوجداني, بتدريب محترفين و نشطاء متخصصين في تاريخ مختلف مجالات الأدب و الفنون ليقوموا بدور الوسيط الثقافي بين العمل الفني و جمهور متذوقيه أو بينه و بين المنصرفين عنه أو الجاهلين بوجوده و بالتالي غير المدركين لأهميته.

V.4 أهداف الوساطة الثقافية

إذاً, يتبين لنا من التعريف الذي قدمنا به الوساطة الثقافية أن أول أهدافها يتمحور حول حماية الثقافة و قيمها و حفظها من التلاشي و الذوبان في بحر المد الحضاري الزاحف بتقنياته و قيمه المادية و أساليب حياته العصرية السريعة التي باتت بأنماطها السلوكية تهيمن على طُرق تشكّل أنماط تفكير الأفراد في المجتمعات الحديثة و تُؤثر فيهم سلباً إن كان من الناحية الوجدانية أو من الناحية المعرفية لا سيما في عصر ما بعد العولمة و انتشار قيم و سلوكيات ثقافة الأنترنت. و عن هذا الشأن تقول إليزابيث كاييه مع زملائها في كتابهم الموسوم بعنوان "الوساطة الثقافية : هل هي العجلة الخامسة للعربة؟" : "الأمر أكثر منه صراع, السبب تأتى من هذا العزل التدريجي للثقافة المصنفة مشروعة أو رفيعة و التي باتت أكثر و أكثر غير مرغوبة من قبل فئة من الشعب لم تعد تعتر نفسها منتمية إلى قيمها و باتت تفضّل عليها ثقافة جماهيرية تتوافق مع العولمة و مروّج لها عبر أقنية بديلة بدأت بالتلفزيون و من ثم بالأنترنت"

و أيضاً من الأسباب التي استوجب معها إيجاد مهنة الوسيط الثقافي هو هذا الصراع القائم و المستمر بين الطبيعة الروحية المُتمثلة في الثقافة و الطبيعة المادية التي تُجسدها الحضارة و الذي سبق و فصلنا تاريخه و أسبابه و دينامية حركته عبر محتوى هذا البحث و بيّنا أثاره السلبية على التنوع الثقافي, و على علاقات الثقافات المختلفة ببعضها, و دوره في خلق الحواجز المانعة لتلاقي الأفراد ضمن حيز ثقافي مشترك يقرّبهم و يجمعهم حول مشتركات إنسانية متداخلة موجودة تقريباً في كل الثقافات. و انطلاقاً من هذا المعطى الواقعي وُلد هدف الوساطة الثقافية الثاني المتمثل بالحاجة الإجتماعية إلى وساطةٍ ثقافية تقوّي علاقات القربى بين المواطنين المختلفين ثقافياُ لا سيما في المجتمعات المتأثرة بالهجرة و في المجتمعات المتعددة ثقافياً, و ذلك لتأسيس و تمتين علاقة وجدانية بين مواطني هذه الدول وميراثها الثقافي ,وأيضاً لتسهيل عملية الإندماج و المواطنة اعتماداً على دور الثقافة الفعّال في تنمية و تنشيط العلاقات الإجتماعية و تقريب الروابط الإنسانية و الوطنية لا سيما في البيئات الإجتماعية الحساسة المختلطة و المتواجهة ثقافياً. و عن هذا الدور الإجتماعي الذي تلعبه الوساطة الثقافية تقول إليزابيث كاييه "على الوسيط الثقافي مد الجسور بين الثقافة و بين جماهير الشعب و تسهيل التبادل و التواصل الثقافي. بشكل عام عليه تخفيف التوتر القائم بين مجموعات اجتماعية أو إثنية كتلك التي تُعبّر عن نفسها أحياناً من خلال العنف في أحياء المدن أو في الضواحي"20

VI خاتمة

كما رأينا فإن الوساطة الثقافية تلعب اليوم دوراً اجتماعياً و فكرياً مهماً في عملية التنوير المعرفي و الترابط الإجتماعي في دول المجتمعات الحديثة التي بات أفرادها يبتعدون شيئاً فشيئاً عن مجال موادها الثقافية و ما تحتويه من قيم وجدانية إنسانية قادرة ,في مكان ما ,على تقريب الحدود بين البيئات الثقافية المختلفة, وأيضاً على ترطيب أجوائها التي , بسبب النزاعات و الحروب و الانتشار الديموغرافي و نمط الحياة العصرية المادية السريعة و المتوترة , باتت مشحونة بكم هائل من الطاقة السلبية المُولدة لثقافة الانكماش على الذات و التطرف الأيديولوجي و التعصب القومي أو العرقي. و هي تُعتبر أيضاً حاجة ماسة في الدول المتأخرة معرفياً أو تلك المتوترة اجتماعياً ,و ربما أيضاً أمنياً, بفعل التواجه الثقافي الحاد الذي تعانيه و الذي غذته النزاعات الدائمة و الحروب المتكررة و ما سوّقته و تسوّقه تقنيات الاتصالات الحديثة من أفكار تحض على التطرف و الكراهية و رفض الآخر و ما يُنشر فيها من مواد يغلب عليها الطابع الشعبي أو الجماهيري و التي لا تزيد الوعي الجمعي الوطني و الإجتماعي إلا تسطحاً معرفياً و تقهقراً ثقافياً و تشرّع الأبوات علي مصاريعها لعمليات الغز الثقافي و بالتالي إلى التخلي التدريجي عن الذات الثقافية وهويتها الوطنية.
و هنا لا يسعنا إلا طرح سؤال نعتقد أن جوابه هو الجوهر في فهم أسباب إشكالية صراع التواجه الثقافي الحاد, و التأخر المعرفي المذري, و التقهقر المخجل للإنتاج العلمي في مجتمعات الدول المتأخرة حضارياً, و ذلك بعد مقارنة جهود الحكومات فيها مع جهود حكومات الدول المتقدمة حضارياً. فنسأل : هل سمعت حكومات الدول المتأخرة حضارياً و علمياً ببيان اليونيسكو حول المكتبات العامة, و بما جاء فيه من أهداف و خطة وصول؟ و إذا كانت قد سمعت به فعلاً , فهل لبت هذه الحكومات فعلياً ما جاء فيه و سعت إلى تأسيس المكتبات العامة المجانية و تكثيرها و نشرها في مختلف مناطق دولها دون استثناء لا سيما في المناطق الفقيرة و المحرومة منها؟ وهل أمنت الوسطاء الثقافيين فيها و أهلتهم بما يجب, و بما يُتيح, و بما يمكّن أبناء دولهم من الإطلاع على مختلف المعارف و العلوم و على التثقف المعرفي المجاني و الذي به فقط تنهض الدول الحديثة و به حكماً تتقدم حضارياً و به فقط تحمي حدودها الوطنية إن كانت الثقافية أو الجغرافية ؟ …. هو مجرد سؤال بريء لا أكثر, يُخرجنا من نمطية الدوران حول الذات و الالتفاف على الأسباب الجوهرية لإشكالية عدم النهوض و نسب كل المشاكل في المجتمعات المتأخرة إلى فرضية المؤامرة الشهيرة التي اعتاد خطباء المنابر الحكومية على إتحاف مسامعنا بها.

VII المراجع
آدم كوبر, الثقافة : التفسير الأنثروبولوجي , ترجمة تراجي فتحي و مراجعة ليلى الموسوي, الكويت, عالم المعرفة , طبعة 2008
تأويل الثقافات : مقالات مختارة / كليفورد غيرتز, ترجمة محمد بدوي و مراجعة بولس وهبة , المنظمة العربية للترجمة , طبعة 2009
مفهوم الثقافة في العلوم الإجتماعية / دنيس كوش , ترجمة منير السعيداني و مراجعة الطاهر لبيب, المنظمة العربية للترجمة , طبعة 2007
الحضارة : دراسة ف يأصول و عوامل قيامها و تطورها, حسين مؤنس, الكويت,عالم المعرفة , طبعة 1978
Qu est-ce que la civilisation ?: lecture faite en séance du 13 octobre 1923 / Albert Counson
Edward Burnette Taylor, Primitive Culture, London, John Murray, 1871.
La Médiation Culturelle : cinquième roue du carrosse ? Elisabeth Caillet, Patrice Chazotte, Fanny Serain, François Vaysse (-dir-.), Paris, L’Harmattan, 2016
بيان اليونيسكو بشأن المكتبات العامة : https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000112122_ara
مقالة صدام الحضارات, صاموئيل هانتعنتون : https://www.cpjustice.org/public/page/content/clash_of_civilizations
ما ھي الأنوار؟ - إیمانویل كانط / ترجمة : حمید لشھب – حكمة (موقع إلكتروني)
معجم اللغة العربية المعاصرة, أحمد مختار عمر, ط 1, القاهرة : عالم الكتاب, 2008
الخليل بن أحمد الفراهيدي (718 ـ 790), كتاب العين, تحقيق الدكتور مهدي المخزومي و الدكتور ابراهيم السامرائي,دار و مكتبة الهلال, الجزء الخامس, باب القاف و الثاء و الفاء معهما, صفحة 138








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي